الإِيمان بالمبدأ والتوجه إلى ما وراء الطبيعة من الأمور الفطرية التي عجنت خلقة الإِنسان بها، كما عجنت بكثير من الميول والغرائز.
أقول بشكل عام إِنَّ إِدراكات الإِنسان تنقسم إلى نوعين:
1- الإِدراكات التي هي وليدة العوامل الخارجة عن وجود الإِنسان بحيث لولاها لما وقف الإِنسان عليها بتاتاً، مثل ما وقف عليه من قوانين الفيزياء والكيمياء والهندسة.
2- الإِدراكات النابعة من داخل الإِنسان وفطرته من دون أن يتدخل في الإِيحاء عامل خارجي، كمعرفة الإِنسان بنفسه وإِحساسه بالجوع والعطش، ورغبته في الزواج في سن معينة، والاشتياق إلى المال والمنصب في فترات من حياته. تلك المعارف - وإِنْ شئت سميتها بالأَحاسيس - تنبع من ذات الإِنسان وأَعماق وجوده. وعلماء النفس يدّعون أنَّ التوجه إلى المبدأ داخل تحت هذا النوع من العرفان.
إِنَّ علماء النفس يعتقدون بأَنَّ للنفس الإِنسانية أَبعاداً أَربعة يكون كلُّ بعد منها مبدأً لآثار خاصة:
أ- روح الإِستطلاع واستكشاف الحقائق، وهذا البعد من الروح الإِنسانية خلاق للعلوم والمعارف، ولولاه لما تقدم الإِنسان منذ أن وجد في هذا الكوكب، شبراً في العلوم واستكشاف الحقائق.
ب- حبّ الخير، والنزوع إلى البرِّ والمعروف، ولأَجل ذلك يجد الإِنسان في نفسه ميلا إلى الخير والصلاح، وانزجاراً عن الشر والفساد.
فالعدل والقسط مطلوب لكل إنسان في عامة الأَجواء والظروف، والظلم والجور منفور له كذلك، إلى غير ذلك من الأَفعال التي يصفها كل إِنسان بالخير أو الشر، ويجد في أَعماق ذاته ميلا إلى الأَول وابتعاداً عن الثاني، وهذا النوع من الإحساس مبدأٌ للقيم والأَخلاق الإِنسانية.
جـ- عشق الإِنسان وعلاقته بالجمال في مجالات الطبيعة والصناعة فالمصنوعات الدقيقة والجميلة، واللوحات الفنية والتماثيل الرائعة تستمد روعتها وجمالها من هذا البعد.
إِنَّ كل إِنسان يجد في نفسه حبّاً أَكيداً للحدائق الغناء المكتظة بالأَزهار العطرة والأَشجار الباسقة، كما يجد في نفسه ميلا إلى الصناعات اليدوية المستظرفة وحباً للإِنسان الجميل المظهر، وكلها تنبع من هذه الروح التي عجن بها الإِنسان، وهي في الوقت نفسه خلاّقة للفنون في مجالات مختلفة.
د- الشعور الدينى الذي يتأجج لدى الشباب في سن البلوغ، فيدعو الإِنسان إلى الإِعتقاد بأَنَّ وراء هذا العالم عالماً آخر يستمد هذا العالم وجوده منه، وأنَّ الإِنسان بكل خصوصياته متعلق بذلك العالم ويستمد منه.
وهذا البعد الرابع الذي اكتشفه علماء النفس في العصر الأَخير وأَيدوه بالإِختبارات المتنوعة مما ركز عليه الذكر الحكيم قبل قرون وأَشار إليه في آياته المباركات، نعرض بعضها:
أ- (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا)(1)
إِنَّ عبارة «فِطْرَةَ الله» تفسير للفظة الدّين الواردة قبلها، وهي تدل بوضوح على أنَّ الدّين - بمعنى الإِعتقاد بخالق العالم والإِنسان، وأَنَّ مصير الإِنسان بيده - شيء خلق الإِنسان عليه، وفُطر به كما خلق وفُطِر على كثير من الميول والغرائز.
ب - (وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ)(2)
أيْ عرَّفْنا الإِنسان طريقَ الخير وطريقَ الشر. وليس المراد التعرف عليهما عن طريق الأنبياء بل تعريفهما من جانب ذاته سبحانه، وإن لم يقع في إِطار تعليم الأَنبياء، وذلك لأَنه سبحانه يقول قبله (لَقَدْ خَلَقْنَا الاْنسَـانَ فِي كَبَد *...* أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ * ولِسَانًا وشَفَتَيْنِ * وهَدَيْنَـهُ النَّجْدَيْنِ) فالكل من معطياته سبحانه عند خلق الإِنسان وإبداعه.
وهذا إنْ دلّ على شيء فإنما يدل على أنَّ النظرية التي اكتشفها علماء معرفة النفس مما ركّز عليها الوحي بشكل واضح، وحاصلها إِنَّ الدين بصورته الكليَّة أَمر فطري ينمو حسب نمو الإِنسان ورشده، ويخضع للتربية والتنمية كما يخضع لسائر الميول والغرائز.
آية الله الشيخ جعفر سبحاني
1- سورة الروم: الآية 30.
2- سورة البلد: الآية 10.