كانت الظروف في عهد خلافة أمير المؤمنين عليه السلام عصيبة جداً، فالمشكلة الكبيرة كانت آنذاك في تداخل الصفوف والخنادق؛ وهذا هو السبب الذي جعل للفئة الثانية - أي الناكثين - وضعًا مقبولًا ومبررًا، وكان أي مسلم يتردّد كثيرًا في محاربة شخصيات أمثال طلحة أو الزبير؛ فالزبير هو ابن عمّ الرسول وكان من الشخصيات البارزة والقريبة منه، حتى أنه بعد عهد الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ممّن اعترضوا على السقيفة دفاعًا عن أمير المؤمنين، ولكن الأمور بخواتيهما. نسأل الله أن يجعل عاقبتنا إلى خير.
قد يؤثر حبّ الدنيا ومظاهر الحياة في بعض الناس إلى درجة تجعل المرء يشكّ حتى في الخواص، فما بالك بالعوام.
ولا بدّ أن الناس الذين صمدوا مع أمير المؤمنين وحاربوا إلى جانبه كانوا على قدر كبير من البصيرة. وقد استشهدت عدّة مرات بقول أمير المؤمنين عليه السلام: "فلا يحمل هذا العلم إلا أهل البصر والصبر". فلا بدّ من توفر البصيرة بالدرجة الأولى. ومن هذه التداخلات والاعتراضات نعرف طبيعة المشاكل التي واجهت أمير المؤمنين، والأساليب الملتوية التي اتبعها الذين حاربوه.
طُرحت في صدر الإسلام أفكار كثيرة خاطئة، ولكن كانت تنزل آية قرآنية تفنّدها بصراحة؛ سواء عندما كان النبي في مكّة أو في المدينة؛ فسورة البقرة - على سبيل المثال - وهي سورة مدنية، حاشدة بصور من التحديات والجدال بين الرسول صلى الله عليه وآله والمنافقين واليهود؛ حتى أنها تناولت التفاصيل الجزئية واستعرضت الأساليب التي كان يتبعها يهود المدينة في إيذاء الرسول نفسيًا، ومنها ﴿لا تقولوا راعنا﴾(البقرة:104) وما شابه ذلك. وجاءت أيضًا سورة الأعراف وهي سورة مكيّة زاخرة بمحاربة الخرافات وكُرّس فصلٌ منها للحديث عن تحريم وتحليل أنواع اللحوم، في مقابل التحليل والتحريم الزائف الذي اصطنعه الناس لأنفسهم يومذاك: ﴿قل إنّما حرّم ربّي الفواحش ما ظهر منها وما بطن﴾(الأعراف:33). هذه هي المحرمات الحقيقية وليست تلك التي اصطنعتموها أنتم لأنفسكم من أمثال البَحيرة والسائبة وما شاكل ذلك. وكان القرآن يحارب مثل هذه الأفكار صراحة.
أما في عهد أمير المؤمنين، فقد كان أعداؤه يستفيدون من القرآن ويستغلون تلك الآيات القرآنية لصالحهم. ولذلك كانت مهمة أمير المؤمنين عليه السلام أكثر صعوبة من هذه الجهة. لقد قضى أمير المؤمنين مدّة خلافته القصيرة في مثل هكذا معضلات.(18/10/1377)
وفي مقابل هؤلاء كانت جبهة عليّ، وهي جبهة قوية حقًا، وكان فيها رجال كعمّار ومالك الأشتر وعبدالله بن عباس ومحمد بن أبي بكر وميثم التمار وحجر بن عدي، فقد كانوا حقا رجالًا مؤمنين ذوي بصيرة ووعي، وكان لهم دورٌ مؤثر في توعية الناس الآخرين.
ومن المواقف الجميلة في عهد أمير المؤمنين - ويُعزى جمالها طبعًا إلى الجهود الطيبة لهؤلاء الأكابر، إلا أنها في الوقت ذاته كانت مريرة بسبب ما لحقهم من جرائها من عناء وعذاب - هو مسيرهم نحو الكوفة والبصرة من بعد ما هبَّ طلحة والزبير وغيرهما واستولوا على البصرة وأرادوا المسير منها نحو الكوفة، حيث أرسل أمير المؤمنين الإمام الحسن عليهما السلام وبعض هؤلاء الأصحاب، وكان لهم مع الناس في المسجد مداولات وأحاديث ومحاجّات تعتبر من المواقف المثيرة وذات المغزى العميق في تاريخ الإسلام. ولهذا السبب يُلاحظ أن الهجمات الأساسية لأعداء أمير المؤمنين وجّهت صوب هذه الشخصيات؛ ضد مالك الأشتر، وضد عمار بن ياسر، وضد محمد بن أبي بكر، وضد كل من وقف إلى جانب أمير المؤمنين منذ البداية وأثبت صلابة إيمانه وسلامة بصيرته. ولم يتورع الأعداء عن كيل أنواع التهم إليهم والسعي لاغتيالهم. ولهذا قضى أكثرهم شهداء؛ فاستشهد عمار في الحرب، واستشهد محمد بن أبي بكر بتحايل أهل الشام، وكذا استشهد مالك الأشتر بحيلة من أهل الشام. وبقي البعض الآخر منهم إلى أن استشهدوا على نحو قاس وفجيع.
كان أمير المؤمنين (عليه السلام) في مواجهة فئات ثلاثة: القاسطين، والناكثين، والمارقين؛ أي أولئك الذين ظلموا؛ والذين نكثوا البيعة؛ والذين ارتدّوا عن الدين. وكانت مجموعة وصنف هي أهل الشام؛ أي أصحاب معاوية وعمرو بن العاص حيث كان لبعضهم تجربة طويلة نسبيًا في الإسلام، وبعضهم كان جديد العهد بالإسلام، ولم يمض على إسلامهم في حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا سنتين أو ثلاث ولم يدركوا شيئًا من ذلك الزمان؛ وكانت عمدة فترة إسلامهم ما بعد حياة النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. بعض الذين كانوا من جناح أهل الشام كانوا من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلّم. هؤلاء كانوا قوة مقتدرة، باللحاظ السياسي، وكذلك من جهة الإمكانات المالية والمناورات الحكومية أيضًا، وكان بيدها إمكانات كثيرة، كانت في مواجهة أمير المؤمنين عليه السلام؛ وما اعترضها أمير المؤمنين.
بالطبع لم تكن المسألة أن يَعتبرَ الإمام عليه السلام حاكمَ (والي) الشام فاسقًا ويواجهه وفقط؛ لأنَّ الولاة لم يكونوا جميعهم عادلين. عندما وصل أمير المؤمنين عليه السلام إلى الحكم كانوا جميعهم، موجودين]كولاة[؛ ولم يكونوا عادلين. لم تكن العدالة شرط القيادة والإدارة[1] عند أمير المؤمنين عليه السلام؛ كان من بين هؤلاء أشخاص ضعاف الإيمان؛ فزياد بن أبيه الذي كان على ما يبدو قبل حكومة أمير المؤمنين حاكمًا في فارس وكرمان وهذه المناطق؛ وكان كذلك في زمن أمير المؤمنين عليه السلام؛ وعندما وصلت الخلافة والحكومة إلى الإمام الحسن عليه السلام كان حاكمًا أيضًا؛ بالطبع ألحق فيما بعد بمعاوية. لذلك كانت المسألة مسألة ظلم، كانت القضية قضية تغيير منهج الخط الإسلامي وتغيير اتّجاه (الوجهة) حياة المسلمين. فكان الإمام أمير المؤمنين أن صمد وثبت ولم يقع تحت تأثير أي ضغط أو اعتراض.
والمعضلة الأشد كانت مع أصحاب الجمل حيث كانت عائشة أم المؤمنين من ضمن هؤلاء، مع كل ذلك الاحترام الذي يكنّه المسلمون لها، كما أنّ طلحة والزبير كانا من أقدم المسلمين إسلامًا من الصحابة الكبار، ومن أتباع أمير المؤمنين نفسه (عليه السلام) وبعضهم من أقربائه – حيث كان الزبير ابن عم أمير المؤمنين والنبي صلى الله عليه وآله وسلّم- هؤلاء جميعًا اجتمعوا في جهة ووقف علي في جهة أخرى. وقد حدد (عليه السلام) تكليفه بدقة وتحرّك وعمل بحسم.
إنَّ أكبر مشكلة كانت في زمن أمير المؤمنين هي وجود تيار يدعي الإسلام في الظاهر ويرفع الشعارات الإسلامية؛ إلا أنّه كان منحرفًا في قضية أساسية جدًا في الدين ألا وهي قضية الولاية؛ لأنَّ الولاية هي علامة التوحيد وظله. الولاية تعني الحكومة؛ ذلك الشيء المتعلّق بالله تعالى في المجتمع الإسلامي، وجاء منه تعالى إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلّم، ووصل من النبي صلى الله عليه وآله وسلّم إلى أمير المؤمنين عليه السلام. كان لدى هؤلاء الاشخاص شكّ في هذه النقطة ووقعوا في الانحراف ولم يفهموا الحقيقة؛ مع أنه ربما كانت لديهم سجدات طويلة! هؤلاء الأشخاص الذين انكفأوا عن أمير المؤمنين في معركة صفين وذهبوا لحراسة الحدود في خراسان وبقية المناطق وسكنوا هناك. كانت لديهم عبادات وسجدات ليل لساعات طويلة، لكن ما هي فائدة ذلك من شخص لا يعرف أمير المؤمنين، ولا يعرف الخط الصحيح، الذي هو خط التوحيد وخط الولاية، ويذهب وينشغل بالسجود؟؟
ما هي فائدة هذه السجدة؟ تشير بعض روايات الولاية إلى مثل هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يقضون أعمارهم في العبادة ولكنهم لم يعرفوا ولي الله "ولم يعرف ولاية ولي الله فيواليه ويكون جميع أعماله بدلالته"[2]. أي عبادة هذه؟ لقد واجه أمير المؤمنين مثل هؤلاء. (26/1/1370).
لا يخلو أي موقف نتخذه في الحياة من أحد طريقين ولونين. فأينما اتجهتم وذهبتم، إما في هذا الطريق أو ذاك الطريق؛ ولا طريق وسط؛ ولا ثالث لهما. فما هما هذان الطريقان؟ هما "الحق والباطل" طريق الحق وطريق الباطل "حقٌّ وباطلٌ ولكلّ أهل"[3]، ولكل واحد منهما أتباع وسالكون. لا يظنن أحدٌ أنّ طريق الوسط موجود هنا أيضًا! أبدًا ولا يتصورنّ أحدٌ أنه توجد منطقة وسطية غير منحازة، عسكرية أو غير عسكرية بين منطقة وصف ومعسكر أمير المؤمنين عليه السلام وبين منطقة وصف ومعسكر طلحة والزبير أو معاوية بن أبي سفيان. أبدًا؛ لا يوجد البتة.
إذا لم تكنْ – أنت- ضمن دائرة ومحيط صف علي (عليه السلام) فأنت خارج صفه. الولاية هي أهم أصل إسلامي. فالولاية هي الالتحاق والالتصاق بصف الإسلام بشكل واضح وجلي وكذلك الانفصال عن صف الباطل بنحو بارز وجلي أيضًا. لا مكان وسط بين هذين الصفين ليكون له صفة اللامعارضة لأي طرف حتى تقول أنا لست هنا ولست هناك "لا لي ولا علي" لا ثوابًا أريد ولا ذنبًا أقترف؛ وأجلس جانبًا في زاوية؛ فهذا الشيء غير متصور. (22/9/1353)
إنها لمثيرة للدهشة تلك الجملة التي ذكرها أمير المؤمنين عليه السلام "أيها الناس إنَّ أحقَّ الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه فإن شَغَبَ شاغبٌ استعتب فإن أبى قوتل"[4] فإذا ما وقف شخص مقابل هذا المسير الصحيح الذي أخططّه فتنةً واضطرابًا؛ نصحته ليؤوب ويرجع وإن أبى أسل السيف". فالشخص الذي يتخطى هذا الطريق، يواجه بالسيف العلوي. (26/1/1370).
المصدر: الاستقامة والبصيرة – بتصرّف يسير
[1]المقصود هنا: لم تكن العدالة شرطا في الولاة والحكام على الاقاليم والولايات.
[2]بحار الأنوار، ج65، ص333.
[3] (نهج البلاغة، خطبة16)
[4] (نهج البلاغة؛ خطبة: 173)