إذا أردنا معرفة الوجوديّة الملحدة على وجهها وفي صورتها الكاملة، فلا بدّ أن نعرف أوّلاً ماذا أراد الوجوديون بكلمة الوجود التي هي المصدر لكلمة الوجودية.
معنى الوجوديّة
ومن الواضح أنّ الوجود في اللّغة خلاف العدم، والوجودي خلاف العدمي، ولكن هذا المعنى، على عمومه، غير مراد لهذه الطائفة الوجودية، وإنما أرادوا بالوجود خصوص الوجود الإنساني و(الأنا). وأيضاً ليس المراد بالوجود الإنساني عندهم وجود هذا الجسم كما نراه وكفى، بل المراد وجود ما يفعله الإنسان عن وعيٍ منه وحريّةٍ وإرادة، وغير مفروض عليه من الخارج تكويناً ولا تشريعاً، بحيث يكون الإنسان بنفسه فاعل الفعل والواضع والمشرّع لحكمه في آن واحد.
وبأسلوب آخر، إن الإنسان لا يكون ولن يكون موجوداً بحقّ، إلا أن يعرف ويفكّر، وتفيض أفعاله من ذاته، من وعيه وحريته وإرادته وحده لا شريك له، منسلخاً عن كل عرف ودين وعقل ـ غير عقله ـ وبهذا دون سواه، يحقق وجوده وماهيته وصفاته كإنسان، وإلا فهو بالحشرة أشبه، حتى ولو ملأ الدنيا بناءً وأفعالاً، طالما كان ذلك بدافع من خارجه لا من أعماقه...
فلسفة الوجوديّة
والآن، وبعد أن مهّدنا بطائفة من أقوال الوجوديين، واستضأنا بها على ما يدينون، نعرض ما ترتكز وتقوم عليه فلسفتهم فيما يلي:
1 ـ إنَّ كلَّ فردٍ من الإنسان هو أمَّة في نفسه وعالم برأسه. ولماذا؟ لأنَّ الصدف قذفت به في هذا الوجود، وتركته في خضم من الطوفان أو كريشة في مهب الريح، لا شيء ينجده ويهديه إلا نفسه وحدها.. وكلّ ما حوله ويحيط به من أديان ومذاهب وأنظمة وشرائع وآداب وفلسفات، إن هي إلا وهم وخيال وعدم وفراغ. وعليه ـ وهذي هي الحال ـ أن يصنع نفسه من خلال فعله كمشرّع ومنفّذ غني عن كلّ نصح وهداية، متحرر من كلّ تبعة ومسؤولية.. أبداً لا يُسأل عما يفعل، لأنه هو المالك لذاته والرقيب عليها وحده لا شريك له.
وبكلمة، إن الفرد لا يكون إنساناً بالمعنى الحقيقيّ لهذه الكلمة، إلا إذا انطلق في أفعاله من أصل وجوده وأنانيّته، لا يستوحي ولا يستعين بشيء من خارجه على الإطلاق، فإذا عمل بدافع من الخارج، فقد انتقل من وجوده الواقعيّ إلى عالم الوهم والخيال.
2 ـ يرفض الوجوديون فكرة الماهية والطبيعة القبلية للإنسان، وهي التي أشار إليها ابن سينا بقوله: "هبطت اليك من المحلّ الأرفع"، وديكارت بكلمته الشهيرة: "أنا أفكر إذاً أنا موجود"، حيث اعتبر التفكير ممكناً من غير أداة، وجعله أصلاً والجسم فرعاً. والكثير من مؤمني الفلاسفة يشاركون الوجوديين في هذا الرفض، ولكن يختلفون معهم في تحديد ماهية الإنسان، فغير الوجوديين من الفلاسفة، يرون الحرية صفة للنفس ومظهراً من مظاهرها، أما الوجوديون ـ كما يبدو من ظاهر كلامهم ـ فيحصرون الماهية بالحرية المطلقة من كلّ قيد، إلا الحرص على حرية الآخرين، لأن اطلاق الحرية واستبداد الإرادة، يؤدّي حتماً في النهاية إلى تحطيم حرية الجميع من الأساس، اللّهمّ إلا حرية الأقوياء وإرادتهم، وعندئذٍ تسود شريعة نيتشه والغاب...
ولسارتر كلمة هتف لها وهنّأه عليها العديد من الكتّاب، وهي "لسنا أحراراً في أن لا نكون أحراراً"، وعلى أساسها، بنى سارتر حكمه بأنّ الوجودية فلسفة إنسانية.
الوجودية فلسفة إباحية
ونحن لا نشكّ في أن لا إنسانية بلا حرية، ولكن نتساءل: هل الهدف من الحرية أن يكون للإنسان القدرة على تنفيذ ما يراه أحسن وأصلح له ولغيره، ويتحمّل المسؤولية كإنسان مستقلّ وعاقل، أو أن الهدف من الحرية أن يسترسل المرء مع سفهه وأهوائه، يُفسد ويفجر، ويخون ويمكر، ثم يبرّر مفاسده وآثامه بقوله: (أنا حر)، ويكون قوله هذا حجة كافية ومعذرة وافية؟ ثم هل وجد الإنسان ليعيش ويحيا فوضوياً بلا تنظيم ونظام ولا إلزام والتزام؟ وإذاً ما الفرق بينه وبين وحش الغاب؟ وهل في الكون مجتمع بغير قانون؟ وإذا كان الشيوعيون قد أمموا وسائل الإنتاج جبراً لفقر البائسين كما يزعمون، فهل أمّم الوجوديون الأديان والشرائع والآداب والأخلاق ليبرّروا فوضى (الخنافس والهيبيين) وشذوذهم، وفساد الأشقياء وإجرامهم؟
وليس هذا التساؤل تحاملاً أو تهكّماً أو خيالاً، بل تفسيراً لقول سارتر: "إن خير الإنسانية هو ما يراه الإنسان أنّه خيرها، فإذا رأى أنّ الخير الإنساني يكمن في الانضمام إلى الكاثوليكية، فهو صحيح من الناحية الوجودية المنطقية، وإذا رأى العكس، فهو صحيح كذلك". إن كل ما تطلبه منا الأخلاق الوجودية عند سارتر، هو أن نقرر فحسب ـ أنظر كتاب "سارتر مفكراً وإنساناً"، ص 225 وما بعدها.
والذي نفهمه من هذا الكلام، أنه لا حقّ ولا عدل ولا خير على الإطلاق، إلا ما يراه الإنسان الفرد ويريده، فإن أراد هذا الشيء بالذات فهو صحيح، وإن كرهه فهو فاسد، لا لشيء إلا لأنه أحبّ أو كره، فإن عدل عمّا كان قد أحبّ بالأمس وكرهه الآن، يصبح الصحيح فاسداً، أو ما كره يصير الطالح صالحاً! فالمقياس هو المشيئة والإرادة، ولا شيء سواها،حتى ولو كانت بلا عقل وعلم!. هذا هو الابتكار والإبداع!.
ولا كلام بعد هذا الكلام، إلا أن يقال: إن الوجودية فلسفة إباحية شيطانية، لأن الشيطان قد تعهّد بتزيينها وترويجها، فتقتحم قلوب الشباب المتفسّخ المتمزّق بلا استئذان، ومن غير عسر وحرج، حيث الجاذبية في الشّهوات والملذّات أقوى منها في أيّ شيء آخر، قال الإمام أمير المؤمين(عليه السلام): "الحقّ ثقيل مريء، والباطل خفيف وبيء".
وأيضاً قال سارتر في كتاب "الوجود والعدم"، ما معناه أن الإنسان يبرر كلّ فعل يقدم عليه أو يحجم عنه، فإذا أراد الانتحار، صاغ كلاماً منمَّقاً يحتّمه ويوجبه، ونفس الشيء إذا حرص على حياته.. وقد يدمن على الخمر والقمار، فيخلق لنفسه الأعذار، فإذا أقلع عنهما، جمع عشرات الأدلة على خير ما صنع، وإذا عاد إليهما كما كان وزيادة، ألبس الأدلة ثوباً جديداً يبرّر العودة والأوبة!.
ونحن نقول لسارتر: فمن فمك ندينك، فإذا كانت أفعال الناس وأقوالهم مجرّد تصورات ذهنية وإيحاءات ذاتية لا تمتّ بسبب إلى الواقع، فكذا فلسفة الوجودية ضلال وخيال لا أصل لها في الواقع ولا أساس.. والحقّ أن الوجودية ليست فلسفة أو علماً أو مجموعة من المبادئ تهدف إلى معقول، وانما هي شطحة أو غلطة أو نزعة أو حيرة وما أشبه، والوصف الأخير بها أجدر وأليق، لأنها ترى الكون بما فيه ومن فيه غربة وغثياناً ولغواً وعبثاً لا معقولاً!...
"فلسفة الأخلاق" للشيخ محمد جواد مغنية