تسأل: إذا كان الخبيث مغضوباً عليه عند الله، والطيب مرضياً لديه تعالى، فلماذا ينجح الخبيث في هذه الحياة، وينعم بالجاه والثّراء، ويرسب الطيّب، ولا يكاد يتحقّق له مطلب، حتى قال من قال: «هذا الذي ترك الأوهام حائرة»؟
الجواب: إن للحياة سنناً وقوانين نجري عليها، ولا تتخطّاها بحال، لأن تصور الفوضى في الكون يرفضه الحس والمشاهدة.. وهذه السنن والقوانين من صنع الله تعالى، لأنه هو خالق الطبيعة وما فيها. وبديهة أن قوانين الطبيعة تأبى أن تمطر السماء مالاً وصحة وعلماً، وإنما تأتي هذه وأمثالها من طرقها وأسبابها الطبيعية.. فالعلم من التعلم، والصحة من الغذاء والوقاية، والمال من العمل، فمن تعلم علم، ومن اتقى أسباب الداء سلم، ومن انتحر مات، ومن زرع حصد، سواء أكان طيباً أم خبيثاً، مؤمناً أم كافراً، فالطيبة أو الإيمان لا ينبت قمحاً، ولا يشفي داءً، ولا يجعل الجاهل عالماً.. كل هذه وما أشبه تجري على سنن الطبيعة، وسنن الطبيعة تجري على مشيئة الله، ما في ذلك ريب، لأنه هو الذي جعل التعلم سبباً للعلم، والوقاية سبباً من أسباب الصحة، والزراعة سبباً للحصاد. إنه خالق كل شيء، وإليه ينتهي كل شيء .
أجل، إن لكسب المال سبلاً وأبواباً كثيرة، وقد أحل الله بعضاً، وحرَّم بعضاً، أحلّ الله سبحانه التجارة والزراعة والصناعة، وحرّم الربا والغشّ والرّشوة والسّلب والنهب والاحتكار والاتجار بالمبادئ، فمن يكسب المال من حلِّه ينسب كسبه إليه، لأنه قد جدّ واجتهد في طلبه، وأيضاً ينسب إلى الله، لأنه هو الذي أوجد هذه الأسباب، وأباحها لكلّ راغب طيباً كان أو خبيثاً، أما من يكسب المال من غير حله، كالربا والسلب، فإن كسبه ينسب إلى كاسبه، وإلى الأوضاع التي مهَّدت له، ولا ينسب إلى الله، لأنّه تعالى قد حرّم هذه السبل على الطيب والخبيث.
وتقول: هذا صحيح، ولكنه لا يجيب عن السؤال، ولا يحل المشكلة .
فلقد رأينا كلاّ من الطيب والخبيث يسلك الطريق المشروع للرّزق، ويطلبه من السبيل الذي أحلّه الله، وأمر به، ومع ذلك، يتسع الرزق على الخبيث، ويضيق على الطيب، وربما بذل هذا من الجهد أضعاف ما بذله ذاك، بل قد يأتي الرزق للخبيث من حيث لا يتوقّعه، ولا يؤهّله له استعداده وجهاده.. ويمتنع عن الطيب من حيث يتوقّعه، ويؤهّله له جهاده واستعداده.
الجواب: إنّ بعض الناس يلجأون في تفسير ذلك إلى الصدفة أو الحظّ، وإن دلّ هذا على شيء، فإنما يدلّ على عجزهم عن التفسير الصحيح، وإلا لم يلجأوا إلى ما يخبط خبط عشواء، ويرمي عن غير قصد وتصميم .
لذلك، نعفي نحن الحظّ والصّدفة من كلّ المسؤوليات والتبعات.. ونؤمن إيماناً قاطعاً بأن هناك إرادة عليا قد تدخلت لأسباب نجهلها، لأن العلم فيها وفي أمثالها لايزال في مراحل طفولته، وجهل العلم بها لا يعني أنها غير موجودة.. والذي يؤكد إيماننا هذا قوله تعالى: ﴿وَالله فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ﴾[النحل: 71]. وقوله: ﴿الله يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ﴾ [الرعد: 26]. وجاءت هذه الآية بنصها الحرفي أحياناً في سورة الإسراء رقم 30، وفي القصص 82، وفي العنكبوت 62، وفي الروم 37، وفي سبأ 36 و 39، وفي الزمر 52، وفي الشّورى 12 .
ولكن ليس معنى يبسط الرزق، ويفضل في الرزق، أنه تعالى يمطر من السماء مالاً على من يشاء.. كلّا، بل يبسط الرزق من طريقه المعروف المألوف، ويقدر أيضاً عن هذا الطريق، فيمهّده ويوسعه على بعض، ويجعله عسيراً ضيقاً على البعض الآخر.. ولكن لا علاقة بين الضيق في الرزق، وبين الخبث ومعصية الله، فلقد كان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يربط على بطنه حجر المجاعة، وقال موسى (عليه السلام): ﴿فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: 24]. وأيضاً لا علاقة بين السعة في الرّزق، وبين الطيبة وطاعة الله، فقد نادى فرعون في قومه: ﴿أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ* أَمْ - أي بل - أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ - يشير إلى موسى - مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ* فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ...﴾[الزخرف: 51- 53].
وعلى هذا، فمن قال أو يقول: إن الله أغنى فلاناً لأنه طيب، فإنه يتكلم بمنطق فرعون، ويزن بميزان الشيطان.. لقد شاءت حكمته، جلّ ثناؤه، أن يثيب على الحسنة، ويعاقب على السيّئة في الدار الباقية، لا في هذه الدار الفانية، إنّ هذه دار أعمال، وتلك لنقاش الحساب عليها.. هذا، إلى أن كثرة الخبيث قد تكون وبالاً عليه، وسبباً لشدة عذابه وعقابه: ﴿ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ﴾[الحجر: 3] . ﴿يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ﴾[محمد: 12).
والخلاصة، أن الرزق يستند إلى أمرين: السعي وإرادة الله معاً، فمن ترك السعي عاش كلّاً على الناس، ومن سعى، رزقه الله من سعيه إن شاء كثيراً، وإن شاء قليلاً، وتكمن هذه الحقيقة في فطرة الإنسان، ويمارسها تلقائياً، ودون أن يلتفت إليها.. فالتاجر يسأل الله سبحانه أن يرزقه برواج بضاعته وإقبال الناس عليها، والفلّاح يسأله أن ينزل الغيث على زرعه، ولا يسأله أن ينبت له الزرع بلا غيث، وها أنا أدعو الله لولدي بالتّوفيق في دراسته والنجاح في امتحانه، ولا أدعوه أن يلهم الجامعة لتقدّم له الشهادة بلا دراسة وامتحان .
وفي الأمثال: «من سعى رعى»، وربما خاب المسعى وطاش السهم.. ومع ذلك، ينبغي إحكام التخطيط، ومضاعفة الجهد، لأنّ مضاعفة الجهد، وإتقان العمل، والصّبر على المشاقّ، سبب لمشيئة النجاح منه جلّ وعلا.
تفسير الكاشف - الشيخ محمد جواد مغنية