الأستاذ سعيد العذاري
تبنى رسول الله صلی الله علیه وآله أمن وحماية غير المسلمين وخصوصاً أهل الذمة; فهم آمنون على أرواحهم وأعراضهم وممتلكاتهم وتجلى هذا التبني منذ الأيام الأولى لقيام نواة الدولة الإسلامية في المدينة المنورة، وحرّم صلی الله علیه وآله وسلم جميع ألوان الاعتداء عليهم، وأوجب على المسلمين الوفاء لهم بالعهد، فقال: «حسن العهد من الإيمان»(1).
فلهم ما للمسلمين من حقّ في إشاعة الأمن والتمتع بالحماية فحرّم رسول الله صلی الله علیه وآله جميع ألوان الأذى، وجعل نفسه خصماً لمن آذاهم، فقال: «من آذى ذمياً فأنا خصمه، ومن كنت خصمه خصمته يوم القيامة»(2).
وقال صلی الله علیه وآله: «من آذى ذميّاً فقد آذاني»(3).
وحرّم الاعتداء عليهم بظلم او اضطهاد أو غلول أو غصب، فقال: «إلا من ظلم معاهداً وانتقصه وكلّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس منه; فأنا حجيجه يوم القيامة»(4).
وقال صلی الله علیه وآله: «منعني ربّي أن أظلم معاهداً ولاغيره»(5).
وفي رواية قال صلی الله علیه وآله: «من قتل رجلاً من أهل الذمّة حرّم الله عليه الجنة»(6).
ولم يكتف رسول الله صلی الله علیه وآله بهذه الإرشادات والتوجيهات، وإنّما قام بخطوات عملية في إقرار ذلك، ومنها كتابة المعاهدات وتثبيتها بختمه الشريف، ومن هذه الكتب كتابه الى يحنة بن رؤية صاحب ايلة حيث جاء فيه: «هذه أمنة من الله ومحمّد النبي رسول الله ليحنة بن رؤية، وأهل إيلة سفنهم وسياراتهم في البرّ والبحر، لهم ذمّة الله، وذمّة محمد النبي، ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر»(7).
وكتب لأهل اليمن، وأهل أذرح، وجربا، ومقنا، كل كتب على حدة «انهم آمنون بأمان الله وأمان محمد»(8).
وكتب لكل قبيلة من اليهود كتاباً خاصاً به(9).
فكانوا آمنين على عقائدهم وحرياتهم وعلى أنفسهم وأعراضهم وممتلكاتهم.
الرجوع الى رسول الله صلی الله علیه وآله في القضاء
أقرّ رسول الله صلی الله علیه وآله حق التقاضي والتحاكم الى غير المسلمين بالرجوع الى حاكمهم، أو الرجوع الى حاكم المسلمين، وهو رسول الله صلی الله علیه وآله في عهده، وكان صلی الله علیه وآله وسلم يتدخل في القضاء بينهم إن أرادوا ذلك.
قدّم أحد اليهود شكوى على أحد الصحابة ; لأنّه ضربه على وجهه، وقال: «يا محمّد انظر ما صنع بي صاحبك، فحاسب الصحابي على فعله»(10).
وكان أهل الكتاب يرجعون اليه للحكم في قضايا الحدود والتعزيرات، حيث رجعوا اليه في الحكم على اثنين منهم متلبسين بجريمة الزنا، فحكم فيهم بحكم الإسلام»(11).
وقد أجاز صلی الله علیه وآله شهادة أهل الكتاب بعضهم على بعض(12).
وبعث أحد الصحابة كتاباً الى رسول الله صلی الله علیه وآله: «انّي أصبت دماء قوم من اليهود والنصارى فوديتهم، وأصبت دماء من المجوس، ولم تكن عهدت اليّ فيهم».
فكتب اليه رسول الله صلی الله علیه وآله: «انّ ديّتهم مثل ديّة اليهود والنصارى»(13).
ووجد الأنصار أحدهم مقتولاً في ساقية من سواقي اليهود، فقالوا: «اليهود قتلوا صاحبنا»، فتحاكموا الى رسول الله صلی الله علیه وآله ، فقال لهم: «ألكم بيّنة؟» فقالوا: لا، فقال: «أتقسمون؟» فقالوا: «كيف نقسم على مالم نره؟»، فقال صلی الله علیه وآله: «فاليهود يقسمون»، فرفض الأنصار تحليف اليهود، فودّاه رسول الله صلی الله علیه وآله من بيت المال(14).
وقد استشعر أهل الكتاب هذه العدالة النبوية في القضاء، ولذا جاء وفد نجران الى رسول الله صلی الله علیه وآله يلتمسونه في أن يبعث معهم قاضياً من المسلمين حيث قالوا له: «ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا; يحكم بيننا في أشياء اختلفنا فيها في أموالنا، فانّكم عندنا رضاً»(15).
المصادر :
(1) كنز العمّال 4: 365، علي المتقي الهندي .
(2) الجامع الكبير 1: 85، عبدالرحمن السيوطي.
(3) من لا يحضره الفقيه 4: 124.
(4) السنن الكبرى 9: 205.
(5) كنز العمّال 3: 363.
(6) مستدرك الوسائل 11: 131.
(7) السيرة النبوية لابن كثير 4: 29.
(8) الطبقات الكبرى 1: 290.
(9) إعلام الورى بأعلام الهدى: 79 ، الفضل بن الحسن الطبرسي.
(10) السيرة النبوية لابن هشام 2: 207.
(11) صحيح مسلم 3: 1326، الروض الأنف 4: 369.
(12) سنن ابن ماجة 2: 94، نصب الراية 4: 85 ، الزيعلي.
(13) الاستبصار 4: 269.
(14) من لا يحضره الفقيه 4: 99.
(15) الروض الأنف 5: 21.