لقد حرص النبي صلى الله عليه وآله، منذ بداية دعوته الشريفة، على بيان وتأكيد ولاية علي عليه السلام وخلافته له من بعده، فلم يترك مناسبة أو فرصة سانحة، إلا وذكر فيها عليا وحقه على المسلمين، ووجوب اتباعه واقتفاء أثره، ومن المفارقات الهامة أن الأحاديث الشريفة التي روت هذه التنويهات بلغت كلها حد التواتر عند جميع المسلمين، ودعوى أن المسلمين لم يتفقوا في شيء كما اتفقوا في رواية فضائل علي عليه السلام، واستحقاقه الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليست جزافية. وإن اختلفوا في ما بعد في كيفية تفسيرها وتوجيهها, تماشيا مع السياسات القائمة، بعدما لم يقدروا على إنكارها.
كما أن القرآن الكريم، قد تعرض لولاية علي عليه السلام في عدد غير قليل من الآيات المباركة، التي لا تدع مجالا للشك في أن الإمامة له بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، من خلال ملاحظة ملابساتها، من الظروف المحيطة بها، وأسباب نزولها، ودلالاتها اللفظية وغير ذلك.
ولكن يبقى السؤال انه لماذا لم يرد اسمه عليه السلام في القرآن الكريم صريحا، ما دام شأن الإمامة إلهيا كما هو شأن النبوة، وليقطع الحجة على المخالفين والذين في قلوبهم مرض من ناحية أخرى.
والجواب، والله أعلم، أنه بعد ذكر المواصفات، التي لا بد وأن يتمتع بها ولي الأمر لم تبق حاجة إلى ذكر اسمه عليه السلام، وذلك لأن الرسالة الإسلامية ليست ظرفية ومؤقتة، تنتهي مفاعيلها بانتهاء ظروفها، بل هي عامة وشاملة، دائمة وثابتة، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. فليست الإمامة منحصرة في شخصه الشريف عليه السلام، بل ثابتة لأبنائه الأحد عشر من بعده. فلو ورد اسمه عليه السلام لاقتضى ذلك ذكر الأئمة أبنائه عليهم السلام، وقد سبق في علم الله تعالى أن الظروف ستضطر الإمام الثاني عشر عجل الله تعالى فرجه الشريف أن يغيب عن الناس غيبة طويلة، وأن المؤمنين سيضطرون إلى إدارة شؤونهم بأنفسهم، الأمر الذي يستلزم أن يتعرفوا على المواصفات التي لا بد وأن يحرزها من ينوب مناب الإمام عليه السلام، ويعملوا على تنفيذها أثناء غيابه بالإضافة إلى أن عليا وأبناءه عليهم السلام يشكلون أكمل المصاديق لهذه المواصفات والشرائط، حتى يثبت لكل من اطلع على هذه المواصفات ونظر في أحوال الناس، أنها تنطبق عليهم دون سواهم حال حضورهم، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، لقد كان لعلي عليه السلام خصوم كثيرون من قريش وسائر العرب، وهم الذين أسلموا خوفا من سيفه, الذي قتل صناديدهم، وجندل أبطالهم، والذين يطمحون إلى الاستئثار بتراث النبي صلى الله عليه وآله وسلم من بعده، تحصيلا للسلطان أو الجاه أو غير ذلك، وهو ما جعلهم يقفون موقف الحاقد عليه والحاسد له على ما آتاه الله من فضله، فلو ذكر اسمه الشريف صريحا في القرآن الكريم لصدهم ذلك عن قبول الإسلام والهداية إليه، خصوصا أولئك الذين قتل علي عليه السلام رجالهم وأذل كبرياءهم.
ولما كان الدين الإسلامي الحنيف دين الهداية والرحمة، يريد لجميع الناس أن يتمسكوا به، ويعملوا من خلال تعاليمه على تنقية أرواحهم، وتهذيب نفوسهم، أراد أن يسد جميع الأبواب والعقبات التي تعترض هدايتهم، حتى إذا حققوا هذا المستوى من الصلاح، أمكنهم اتباع علي وأبنائه عليهم السلام، غير عابئين بأحقادهم وكراهيتهم.
وبعبارة أخرى أراد الإسلام أن يضعهم في أول طريق الحق، ليسلكوه بأنفسهم، ويستخدموا عقولهم في سلوك الجادة الوسطى، ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾[1].
ومن جهة ثالثة، لا يوجد فرق في الدلالة بين الآيات القرآنية وبين أحاديث الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، فإنه ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى﴾[2]، فقول النبي هو قول القرآن، وكذلك العكس، مع فارق في هذه القضية وهي أنه لو ورد في القرآن الكريم صراحة، لكان ذلك مدعاة للكثيرين، أن يصدوا عن سبيل الله، بل ربما دفع ذلك بعضهم للتلاعب بآيات القرآن حذفا وتحريفا، ليتخلصوا من هذه المعضلة، والله تعالى يريد صونه عن مثل ذلك، بينما وروده على لسان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يبقي لهم حيزا ما في أنفسهم يدفعهم إلى قبول الدعوة من جهة ومحاولة رد ولاية علي من جهة أخرى، حتى تلقى الحجة عليهم ويؤمنوا به وبولايته، وتبقى أهمية اهتداء الأجيال اللاحقة إلى الحق عبر الرجوع إليه، والتأمل في مضامينه، بعد الفراغ عن كونه قطعي الصدور، وأنه لم يحصل بداعي تلاعب أو تحريف.
هذا بالإضافة إلى أن نقلهم هم أحاديث فضل علي عليه السلام وموقعه من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يجعل الحجة عليهم أقوى، والدلالة عليه آكد، بعدما أقروا بذلك بألسنتهم.
سماحة الشيخ حاتم إسماعيل، العقيدة في القرآن
[1] سورة الأنعام، آية: 153.
[2] سورة النجم, آية 3, 4.