الدور المزدوج للقلوب في الأخذ والعطاء
إن القلب (الجانحة) جهاز ارتباط يأخذ ويتلقي من الله تعالى من جانب، ويعطى من جانب آخر. كالقلب (الجارحة) الذي يقوم بدور مزدوج في ضخ الدم واستعادته وتجميعه من خلال الشرايين والاوردة.
فإذا فقد القلب (الجانحة) هذه الخاصة في وصل الإنسان وربطه بالله تعالى فقد كلَّ قيمته، ولم يعد له نفع ولا جدوى، وأصبح ميتاً، كالقلب الجارحة تماماً.
والقلوب في هذا الأخذ والعطاء، تأخذ من الله تعالى الهدى والنور والبصيرة من جانب، وتمنح الانسان في حركته وكلامه ومواقفه وأعماله وعلاقاته هذا الهدي والنور من جانب آخر.
ولنتأمل في كتاب الله، لنعرف هذا الدور المزدوج للقلوب من خلال القران.
في الجانب الأول (التلقي والأخذ من عند الله) يقول الله تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلً﴾([1]).
فالقرآن إذن يتنزل على القلوب جملة واحدة ونجوماً، ويثبت الأفئدة، وتأخذ القلوب منه النور والهدى.
ويقول تعالى: ﴿اللهُ نَزّلَ أحسنَ الحديثِ كِتاباً مُتشابهاً مَثانيَ تَقشَعِرُّ مِنهُ جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جُلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله﴾([2]).
إن القلوب تأخذ من القرآن فتخشع وتلين، وتتفاعل مع هدي الله ونوره الذي أرسل الى عباده، فإن القرآن هدى الله ونوره الذي أرسله إلى عباده، وبرهانه وحجته الى خلقه.
﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينً﴾([3]).
وقلوب المؤمنين والمتقين دون غيرهم تختص بهذا النور والهدى، وتأخذ منه، وتتفاعل معه.
﴿هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ﴾([4]).
﴿هَٰذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾([5]).
وهذا هو الدور الأول للقلوب، تتلقى الهدي والنور والبصيرة والبرهان من عند الله، وتختص بماأانزل الله تعالى إلى عباده من النور والهدى، وتتفاعل معه وتلين له.
الدور الثانى للقلوب البث والعطاء:
تبث فيه القلوب النور والهدى الذي تلقته من عند الله، وتمنح النور لحركة الانسان ومنطقه وموقفه، وعلاقاته، واهتماماته. وعند ذاك يتحرك الانسان بنور الله وهداه، ويتكلم بنور الله وهداه، ويحدد مواقفه بنور الله وهداه، ويمشي في الناس بنور الله وهداه.
﴿أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ﴾([6]).
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾([7]).
وهذا النور الذي يقيم به المؤمنون علاقاتهم مع الناس ويتحركون به في صفوف الناس، في السياسة، أو في التجارة، أو في سائر شؤون الحياة هو من نور الله تعالى الذي أرسله لعباده.
﴿وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ﴾([8]).
وهذا النور يتلقاه القلب من عند الله ثم يوجه القلب به بصر الإنسان وسمعه وأعضاءه وجوارحه.
ودور القلب في هذا الأخذ والعطاء دور الوسيط، يتلقى النور من عند الله ويوجه به سلوك الانسان وتحركه وكلامه ومواقفه.
إن أمارة سلامة القلب وصحته بأن يتلقى القرآن، ويعطي القرآن، كالتربة الخصبة تتلق النور والهواء والماء وتعطي الثمار الطيبة.
يقول أمير المؤمنين عليه السلام في صفة القرآن: «كتاب الله تبصرون به وتنطقون به وتسمعون به».
فإذا فقد القلب سلامته فقد خاصية الاستقبال والتوجيه، فلا يتمكن من استقبال القرآن (النازل) من عند الله.
وإذا فقد القلب القدرة على استقبال القرآن (النازل) فقد القدرة على توجيه صاحبه وعلى رفع القرآن (الصاعد) الى الله بالصلاة والدعاء.
وتلك الحالة هي حالة (انغلاق القلب). يقول تعالى: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ﴾([9]).
والأصم الأعمى لا يستطيع أن يستقبل نداءً ولا نوراً، ومن ثم لا يستطيع أن ينطق أيضاً، فيكون أبكماً بطبيعة الحال.
ويقول تعالى عن بني اسرائيل: ﴿ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً﴾([10]).
إن الحجارة لا تتمكن من أن تستقبل نوراً ولا هواء ولا ماء، وترد كل ما يتوجه اليها من النور والهواء والماء، وبطبيعة الحال لا تستطيع أن تعطي ثمرة، فإن الثمرة التي تعطيها التربة الخصبة هي مما تستقبل من النور والهواء والماء.
والقلب إذا فقد سلامته يكون كذلك لا يستقبل النور ولا يمنح النور، وهي حالة الانغلاق الكامل، وحالة (موت القلب) يفقد فيها القلب كل حيويته، فإن حياة القلب بما يأخذ، ويعطي، فإذا فقد هذه الخاصية فقد الحياة.
يقول تعالى في موت القلب: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ﴾([11]).
ويقول تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَىٰ وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ﴾([12]) .
ويقول تعالي: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾([13]).
وليس العجز في قوة النداء والأداء، ولكن العجز في قابلية الميت على السمع.
تلك هى حالة موت القلب وانغلاقه وانقطاعه عن الله تعالى.
فما هو سبب هذا الانقطاع والانغلاق؟
الدعاء عند أهل البيت (عليهم السلام)، سماحة الشيخ محمد مهدي الآصفي (رحمه الله)
([1]) الفرقان: 32.
([2]) الزمر: 23.
([3]) النساء: 172.
([4]) آل عمران: 138.
([5]) الاعراف: 203.
([6]) الانعام: 122.
([7]) الحديد: 28.
([8]) النور: 40.
([9]) البقرة 18.
([10]) البقرة: 74.
([11]) فاطر: 22.
([12]) النمل: 80.
([13]) يس: 10.