قال تعالى: ﴿لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ﴾([1]).
إشارات:
- "البِرّ" هو الخير والبرکة الواسعة، کما يطلق علی الأرض المعدّة للزراعة أو السکن. ويقال للقمح - وهو طعام عموم الناس والحيوانات- "البُرّ" بضمّ الباء..
في ضوء الاشتقاقات اللغوية لکلمة "برّ" والتي تعني التوسّع في الخير، فإنّنا نقرأ في القرآن معاني عديدة لهذه الکلمة من قبيل الإيمان والعمل الصالح والجهاد والصلاة والوفاء بالعهد، «لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَٰكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ»([2]) .
- يوصي القرآن الکريم الجميع بالتعاضد في أمور البرّ، «تَعَاوَنُوا عَلَی الْبِرِّ»([3]) ، وفي هذه الآية الکريمة فإنّ الله تعالی يقول للمؤمنين بأنّکم لن تحصلوا علی هذا الشيء الثمين ما لم تنفقوا من طيّب ما تحبّون.
أمثلة علی إنفاق المؤمنين
١. کان "أبو طلحة" أکثر أنصاريي المدينة نخلاً، وکان أحبّ أمواله إليه بيرحاء، وکانت مستقبلة المسجد، وکان رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيب. وکانت هذه الحديقة الغنّاء تدرّ عليه مالاً وفيراً وأصبحت مدار حديث الناس. فلما نزلت الآية «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» قام أبو طلحة فقال: يا رسول الله إنّ الله يقول: «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»، وأنّ أحبّ أموالي إليّ بيرحاء، وأنّها صدقة لله أرجو برّها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراک الله، قال رسول الله صلّی الله عليه وآله وسلّم: بخ بخ ذلک مال رابح لک وقد سمعت ما قلت وإني أری أن تجعلها في الأقربين. قال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه([4]).
٢. استضاف أبو ذر الغفاري ضيفاً فقال للضيف: إنّي مشغول، وإنّ لي إبلاً فاخرج وآتني بخيرها فذهب فجاء بناقة مهزولة، فقال أبو ذر: خنتني بهذه، فقال: وجدت خير الإبل فحلها، فذکرت يوم حاجتکم إليه، فقال أبو ذر: إنّ يوم حاجتي إليه ليوم أوضع في حفرتي، مع أنّ الله يقول: «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ»([5]).
٣. عندما زُفّت السيدة فاطمة الزهراء عليها السلام، في ليلة عرسها إلی بيت زوجها، جاء إليها فقير وطلب منها ثوباً قديماً فتلت الآية الکريمة «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ...» ثمّ أعطته ثوب عرسها.
٤. مرّ عبد الله بن جعفر علی بستان يعمل فيه غلام أسود، عندما جلس الغلام ليتناول طعامه دخل البستان کلب وجلس أمامه، فأعطاه الغلام لقمة، فعاود الکلب بنظراته يطلب المزيد، فناوله الغلام لقمة أخری وهکذا استمرّ في ذلک حتی آخر لقمة من طعامه، حينذاک سأله عبد الله بن جعفر: وماذا عنک؟ أجابه الغلام: لا نصيب لي اليوم، فسأله: ولم فعلت ذلک؟ قال: لقد جاء الکلب من مکان بعيد، وکان جائعاً. فأعجب عبد الله بن جعفر بفتوّة الغلام، فاشتری البستان والغلام، وأعتق الغلام ثمّ أهداه البستان([6]).
- ورد في الأحاديث حول تفسير هذه الآية: أنّ طريق بلوغ البرّ هو مساعدة الوالدين قبل أن يطلبوا ذلک حتی لو کانا غير محتاجين([7]).
وعن الإمام أبي عبد الله جعفر الصادق عليه السلام وهو يوصي تلميذه المفضل بن عمر قائلاً: "سمعت أبي يقول: من مضت له سنة لم يصلنا من ماله قلّ أو کثر لم ينظر الله إليه يوم القيامة إلَّا أن يعفو الله عنه، ثم قال: يا مفضل إنّها فريضة فرضها الله علی شيعتنا في کتابه إذ يقول: «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ» فنحن البرّ والتقوی وسبيل الهدی وباب التقوی، ولا يحجب دعاؤنا عن الله"([8]).
التعاليم:
١ـ السبيل الوحيد لبلوغ منزلة المحسنين الإنفاق الخالص ممّا نحب، «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ...».
٢ـ ليس هدف الدين الإسلامي من الإنفاق محاربة الفقر فحسب، بل دفع المنفق نحو الکمال. أمّا أهمّ نتائج الإنفاق فهي نزع الأهواء والعلائق المزيّفة من قلب المنفق، وتنمية روح السخاء والکرم في نفسه، «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ...».
٣ـ طلب الدنيا يحرم المرء من بلوغ البرّ، «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ...».
٤ـ سعادة المرء مرهونة برؤيته الاجتماعية وسخائه، «لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّی تُنْفِقُوا«.
٥ ـ "الروح" هي أغلی ما يملک الإنسان، لهذا فإنّ الشهداء الذين ضحّوا بأرواحهم في سبيل الله يتربّعون علی ذری البرّ، «تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ«.
٦ـ أنفق ممّا تحب، لا ممّا يحبّ البائس الفقير؛ إذ لربّما رضي الفقير بالنزر اليسير لشدّة فقره.. «مِمَّا تُحِبُّونَ»، لا "ممّا يحبّون".
٧ـ الإنسان الذي تربّی في المدرسة الإلهية، لا يسمح لنفسه أن يکون عبداً للمال بل يصيّره عبداً له، «تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ«.
٨ ـ المهمّ في الإنفاق النوعيّة لا الکمّية، «مِمَّا تُحِبُّونَ«.
٩ـ الإسلام مدرسة لحبّ البشرية لا عبادة المال، «تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ«.
١٠ـ لا إفراط ولا تفريط في الإنفاق، أنفق قسماً ممّا تحبّ، «مِمَّا تُحِبُّونَ»؛ "من" تفيد التبعيض.
١١ـ حبّ المال مغروس في نفس کلّ إنسان: «مِمَّا تُحِبُّونَ»؛ بيد أنّ الخطير في الأمر هو المغالاة في حبّ المال الذي يحول دون الإنفاق، «وإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ»([9]) .
١٢ـ الإنفاق مهمّ حتی وإن قلّ، «ومَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ» نعم، فورقة صفراء علی سطح الماء قد تکون سفينة لمئات النمل.
١٣ـ إذا کان الله ناظراً لإنفاقنا، فلماذا نبخس کمّه ونوعه؟ تعالوا إذن ننفق الأفضل، «فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ«.
تفسير النور، سماحة الشيخ محسن قراءتي
([1]) آل عمران: 92
([2]) سورة البقرة، الآية ١٧٧.
([3]) سورة المائدة، الآية ٢.
([4]) التفسير الكبير؛ وتفسير مجمع البيان؛ صحيح البخاري، ج٢، ص٨١.
([5]) تفسير مجمع البيان.
([6]) تفسير المنار.
([7]) الكافي، ج٢، ص ١٥٧.
([8]) تفسير العيّاشي.
([9]) سورة العاديات، تلآية ٨.