من أهمِّ وأکبرالفرق الثلاثة الشيعية المشهورة هي الفرقة الإمامية الاثنا عشرية،وهم القائلون بعصمة الائمة الاثني عشر(ع ) وإمامتهم بالنص بعد رسول الله (ص) وقـد اسـتند الامامية في اعتقادهم هذا على مجموعة من الـنـصوص من الکتاب والسنة والتي سنتطرق إليها فيما يأتي. و اسم الشيعة ينصرف في الفترات المتأخرة إلى هذه الفرقة باعتبارها تمثل روح التشيع وجوهره، وحان الوقت لکي نبحثها بالتفصيل ليتبين مکانتها بين الفرق الإسلامية:
مکانة الإمامية بين الفرق الإسلامية
إنّ المناهج الكلامية التي قسَّمت المسلمين إلى فرق و مذاهب حدثت في أواخر القرن الأوّل الهجري، کاخوارج والمرجئة، والجهمية، والمعتزلة، والحشوية، والأشعرية، والكرّامية بفرقهم المتشعّبة، لا تجد لها تاريخاً متّصلًا بزمن النبيّ الأكرم(ص)، فالخوارج كانوا فرقة سياسية نشأت في عام 37هـ أثناء حرب صفّين ثمّ تبدّلت إلى فرقة دينيّة في أواخر القرن الأوّل، والمرجئة ظهرت عند اختلاف الناس في الخليفة عثمان والإمام علي(ع)، ثمّ تطورت إلى معنى آخر و هو تقديم الإيمان وتأخير العمل، والجهمية نتيجة أفكار «جهم بن صفوان» المتوفّى سنة 128.ق، والمعتزلة تستمد من واصل بن عطاء تلميذ الحسن البصري المتوفّىعام130هـ، وهكذا القدريّة والكرّاميّة والظاهريّة والأشعريّة فجميعها فرق نتجت عن البحث الكلامي عبر القرون، فلا تجد لهذه الفرق سنداً متّصلًا بالنبيّ الأكرم(ص). وأمّا الشيعة الإمامية فلا صلة في نشأتها بينها وبين تلك الفرق، لأنّها أُخذت أساساً من مصادر التشريع الحقيقي للإسلام وهو: الذكر الحكيم، والسنّة النبويّة، وتبيانهما من قبل الأئمة المعصومين(ع) فلأجل ذلك يحدّد تاريخ عقائدهم بتاريخ حياة النبي وأئمّتهم الطاهرين(ع)، وکان من البداية المرتكز الأساسي لبناء العقيدة الخاصة بالشيعة الإمامية هو الاعتقاد بعصمة الأئمة الإثني عشر و بإمامتهم بالنَّص من رسول الله(ص) وبأمرٍ من الله تعالی، وأنّ رسول الله وأهل بيته(ع) هم المرجع الأعلى بعد الذكر الحكيم. وهذا هو العنصر المقوّم للتشيّع، وأمّا سائر الأُصول فإنّها عقائد إسلامية لا تختص بالشيعة الإمامية وحدها، وإنّ الشيعة الذين نذكر عقائدهم و آراءهم أو ندافع عنهم هم الإِمامية الإِثنا عشرية الذين يؤلفون الجمهور الشيعي اليوم والذين تملأ كتبهم مكتبات العالم ولسنا نتكلم عمَّن يسمى شيعياً لغة لأنّه ذهب إلى تفضيل عليٍّ(ع) على غيره فعرف بالتشيع من أجل ذلك، وليس الفرق التي قد تکون منقرضة لا يوجد لها أثر إلا في مخيلة البعض أو في وريقات من كتب مهجورة.
وبما أنَّه لا تؤخذ عقيدة فئة من کتب الأدب أو القصص كما رأينا البعض يفعله فإنّ لكلِّ فرقة كتباً تختص بها فينبغي الرجوع إليها إذا كنا نتوخى الدقة فيما نقول أو نكتب.ولذا من أراد التَّعرف علی الشيعة الإمامية فلابُدَّ من مراجعة کتبهم الأصلية المعتمد عليها وأقوال أئمتهم وکبار علمائهم، وسنذكر هنا جملاً قصيرة عمَّا جاء من أئمة الشيعة و ماكتبه علماؤهم الأقدمون والمتأخرون بأقلامهم عن عقائدهم من مصادرهم حتى يقف الطالب للمعرفة على جذور تلك العقائد وتتوضح له الصورة الحقيقية عن ركائز معتقدات الإمامية وأنَّها محض الإسلام المحمدي الأصيل.
عقائد الإمامية هي محض الإسلام
روى الصدوق بسنده عن الفضل بن شاذان قال: سأل المأمون علي بن موسى الرضا(ع) أن يكتب له محض الإسلام على سبيل الإيجاز والاختصار فكتب (ع) له: «إنّ محض الإسلام شهادة أن لا إله إلّا اللَّه وحده لا شريك له إلهاً واحداً أحداً، فرداً صمداً، قيّوماً، سميعاً، بصيراً، قديراً، قديماً، قائماً، باقياً، عالماً لا يجهل، قادراً لا يعجز، غنيّاً لا يحتاج، عدلًا لا يجور، وأنّه خالق كلّ شيء، ليس كمثله شيء، لا شبه له ولا ضدّ له ولا ندّ له ولا كفو له، وانّه المقصود بالعبادة والدعاء والرغبة والرهبة.وأنّ محمّداً عبده ورسوله وأمينه وصفيّه وصفوته من خلقه، وسيّد المرسلين وخاتم النبيين وأفضل العالمين، لا نبيّ بعده ولا تبديل لملّته ولا تغيير لشريعته، وانّ جميع ما جاء به محمّد بن عبد اللَّه هو الحقّ المبين، والتصديق به وبجميع من مضى قبله من رسل اللَّه، وأنبيائه، وحججه، والتصديق بكتابه، الصادق العزيز الذي: “لا يَأْتيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزيلٌ مِنْ حَكيمٍ حَميد” ([1])، وانّه المهيمن على الكتب كلّها، وانّه حقّ من فاتحته إلى خاتمته، نؤمن بمحكمه ومتشابهه، وخاصّه وعامّه، ووعده ووعيده، وناسخه ومنسوخه، وقصصه واخباره، لا يقدر أحد من المخلوقين أن يأتي بمثله. وأنّ الدليل بعده والحجّة على المؤمنين والقائم بأمر المسلمين، والناطق عن القرآن، والعالم بأحكامه: أخوه وخليفته ووصيّه ووليّه، والذي كان منه بمنزلة هارون من موسى: علي بن أبي طالب- عليه السّلام أميرالمؤمنين، وإمام المتّقين، وقائد الغرِّ المحجّلين، وأفضل الوصيّين، ووارث علم النبيّين، والمرسلين، وبعده الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنّة، ثمّ علي بن الحسين زين العابدين، ثمّ محمّد بن علي باقر علم النبيّين، ثمّ جعفر بن محمّد الصادق وارث علم الوصيّين، ثمّ موسى بن جعفر الكاظم، ثمّ علي بن موسى الرضا، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ علي بن محمّد، ثمّ الحسن بن علي، ثمّ الحجّة القائم المنتظر- صلوات اللَّه عليهم أجمعين- أشهد لهم بالوصية والإمامة، وأنّ الأرض لا تخلو من حجّة للَّه تعالى على خلقه في كلّ عصر وأوان، وأنّهم العروة الوثقى، وأئمّة الهدى والحجّة على أهل الدنيا، إلى أن يرث اللَّه الأرض ومن عليها، وأنّ كل من خالفهم ضال مضل باطل، تارك للحقّ والهدى، وأنّهم المعبّرون عن القرآن، والناطقون عن الرسول صلَّى اللَّه عليه و آله بالبيان، ومن مات ولم يعرفهم مات ميتة جاهلية، وأنّ من دينهم الورع والفقه والصدق والصلاة والاستقامة والاجتهاد، وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، وطول السجود، وصيام النهار وقيام الليل، واجتناب المحارم، وانتظار الفرج بالصبر، وحسن العزاء وكرم الصحبة ([2]). ثمّ ذكر الإمام فروعاً شتّى من مختلف أبواب الفقه وأشار إلى بعض الفوارق بين مذهب أهل البيت وغيرهم لا يهمّنا في المقام ذكرها ومن أراد الوقوف عليها فليرجع إلى المصدر.
عقائد الإمامية هو دين الله الخالص
روى الصدوق عن عبد العظيم الحسني([3]) قال: دخلت على سيدي علي بن محمّد بن علي بن موسى بن جعفر بن محمّد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب(ع) فلمّا بَصُرَ بي، قال لي: «مرحباً بك يا أبا القاسم أنت وليّنا حقّا» قال: فقلت له: يا ابن رسول اللَّه إنّي أُريد أن أعرض عليك ديني، فإنّ كان مرضيّاً أثبت عليه حتى ألقى اللَّه عزّ وجلّ. فقال: «هاتها أبا القاسم». فقلت: إنّي أقول: إنّ اللَّه تبارك وتعالى واحد ليس كمثله شيء، خارج من الحدّين: حدّ الابطال، وحدّ التشبيه، وأنّه ليس بجسم ولا صورة ولا عرض ولا جوهر، بل هو مجسِّم الأجسام ومصوِّر الصور، وخالق الأعراض والجواهر، وربَّ كلّ شيء ومالكه وجاعله ومحدثه، وأنّ محمّداً عبده ورسوله، خاتم النبيّيين فلا نبيّ بعده إلى يوم القيامة، وأقول: إنّ الإمام والخليفة ووليّ الأمر بعده أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ثمّ الحسن، ثمّ الحسين، ثمّ علي بن الحسين، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ جعفر بن محمّد، ثمّ موسى بن جعفر، ثمّ علي بن موسى، ثمّ محمّد بن علي، ثمّ أنت يا مولاي. فقال (ع): «ومن بعدي الحسن ابني، فكيف للناس بالخلف من بعده» قال: فقلت: وكيف ذاك يا مولاي؟ قال: «لأنّه لا يرى شخصه ولا يحل ذكره باسمه حتى يخرج فيملأ الأرض قسطاً وعدلًا كما ملئت ظلماً وجوراً».
قال: فقلت: أقررت وأقول: إنّ وليّهم وليّ اللَّه، وعدوّهم عدوّ اللَّه، وطاعتهم طاعة اللَّه ومعصيتهم معصية اللَّه، وأقول: إنّ المعراج حقّ والمساءلة في القبر حقّ، وإنّ الجنّة حقّ، والنار حقّ، والميزان حقّ، وانّ الساعة آتية لا ريب فيها وانّ اللَّه يبعث من في القبور، وأقول: إنّ الفرائض الواجبة بعد الولاية: الصلاة والزكاة، والصوم، والحج، والجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فقال علي بن محمّد (ع): يا أبا القاسم: «هذا واللَّه دين اللَّه الذي ارتضاه لعباده، فاثبت عليه ثبّتك اللَّه بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة» ([4]).
وقد اكتفينا بهذين النصّين من الإمامين الطاهرين، أحدهما قوليّ، والآخر إمضائيّ.
عقيدة الإمامية في التوحيد و القرآن
صنّف الشيخ الصدوق (306- 381 هـ) رسالة موجزة في عقائد الإمامية، قال: اعلم انّ اعتقادنا في التوحيد: أنّ اللَّه تعالى واحد أحد، ليس كمثله شيء، قديم لم يزل ولا يزال، سميعاً بصيراً، عليماً حكيماً، حيّاً قيّوماً، عزيزاً قدّوساً، عالماً قادراً، غنيّاً، ...إلى أن قال: وأنّه تعالى شيء لا كالأشياء، أحد صمد لم يلد فيورث، ولم يولد فيشارك، ولم يكن له كفواً أحد، ولا ند ولا ضد، ولا شبه ولا صاحبة، ولا مثل ولا نظير، ولا شريك له، لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، ولا الأوهام وهو يدركها، لا تأخذه سنة ولا نوم وهو اللطيف الخبير، خالق كلّ شيء لا إله إلّا هو، له الخلق والأمر تبارك اللَّه ربّ العالمين. ومن قال بالتشبيه فهو مشرك، ومن نسب إلى الإمامية غير ما وصف في التوحيد فهو كاذب، وكل خبر يخالف ما ذكرت في التوحيد فهو موضوع مخترع، وكل حديث لا يوافق كتاب اللَّه فهو باطل، وإن وجد في كتب علمائنا فهو مدلس ... ثمّ إنّه قدّس اللَّه سرّه ذكر معتقد الإماميّة في أفعال العباد، وأنّه بين الجبر والتفويض، كما ذكر عقائدهم في القضاء والقدر،... إلى أن قال: اعتقادنا أنّ القرآن الذي أنزله اللَّه تعالى على نبيّه محمّد هو ما بينالدفّتين، وهو ما في أيدي الناس ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس 114 سورة، وعندنا أنّ الضحى والانشراح سورة واحدة، كما أنّ الإيلاف والفيل سورة واحدة. ومن نسب إلينا أنّا نقول إنّه أكثر من ذلك فهو كاذب ... إلى آخر الرسالة ([5]).
ثمّ إنّ الشيخ المفيد (336- 413 هـ) قد شرح تلك الرسالة بكتاب أسماه شرح عقائد الصدوق، أو تصحيح الاعتقاد ناقش فيها استاذه الصدوق في بعض المواضع التي استند فيها الصدوق على روايات غير جامعة للشرائط في باب العقائد. و تحدّث الشيخ المفيد عن القرآن وأشار إلى قول من يدعي أنّ القرآن حذف منه شيء فأوّل هذا القول بأنّ المحذوف هو الشروح والتفسيرات ولا شيء من أصل القرآن محذوف وذكر أنّه من الذاهبين إلى هذا الرأي فقال في ذلك: «وقال جماعة من أهل الإِمامة إنّه لم ينقص من آية ولا من كلمة ولا من سورة ولكن حذف ما كان في مصحف عليٍّ من تأويله، وتفسير معانيه على حقيقة تنزله، وذلك كان ثابتاً وإن لم يكن من كلام الله تعالى وقد يسمى تأويل القرآن قرآناً، قال الله تعالى: “فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْني عِلْماً “ ([6]). فقد سمى تأويل القرآن قرآناً، وعندي أنّ هذا القول أشبه من مقال من ادعى نقصان كلم نفس القرآن([7]).
عقيدة الشيعة الإمامية في النبوة و القرآن
يقول آية الله کاشف الغطاء: يعتقد الشيعة الإمامية : أن جميع الأنبياء الذين نص عليهم القرآن الكريم رسل من الله، وعباد مكرمون، بعثوا لدعوة الخلق الى الحق، وأن محمداً(ص) خاتم الأنبياء، وسيد الرسل، وأنه معصوم من الخطأ والخطيئة، وأنه ما ارتكب المعصية مدة عمره، وما فعل إلا ما يوافق رضا الله سبحانه حتى قبضه الله إليه وأن الله سبحانه أسرى به من المسجد الحرام الى المسجد الأقصى، ثم عرج من هناك بجسده الشريف الى ما فوق العرش والكرسي وما وراء الحجب والسرادقات، حتى صار من ربه قاب قوسين أو أدنى. وأن الكتاب الموجود في أيدي المسلمين هو الكتاب الذي أنزله الله إليه للإعجاز والتحدي، ولتعليم الأحكام، وتمييز الحلال من الحرام، وأنه لا نقص فيه ولا تحريف ولا زيادة، وعلى هذا إجماعهم، ومن ذهب منهم ـ أو من غيرهم من فرق المسلمين ـ الى وجود نقص فيه أو تحريف فهو مخطىء يرده نص الكتاب العظيم “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُون”([8]). والأخبار الواردة من طرقنا أو طرقهم الظاهرة في نقصه أو تحريفه ضعيفة شاذة، وأخبار آحاد لا تفيد علماً ولا عملاً، فإما أن تُأول بنحو من الاعتبار، أو يضرب بها الجدار. ويعتقد الإمامية أن كل من اعتقد أو ادعى نبوة بعد محمد (ص)، أو نزول وحي أو كتاب فهو كافر يجب قتله ([9]).
عقيدة الشيعة الإمامية في الإمامة
يقول آية الله کاشف الغطاء: هذا هو الأصل الذي امتازت به الإمامية وافترقت عن سائر فرق المسلمين، وهو فرق جوهري أصلي، وما عداه من الفروق فرعية عرضية كالفروق التي تقع بين أئمة الاجتهاد عندهم كالحنفي والشافعي وغيرهما. وعرفت أن مرادهم بالإمامة: كونها منصبا إلهياً يختاره الله بسابق علمه بعباده، كما يختار النبي، ويأمر النبي بان يدل الأمة عليه، ويأمرهم باتباعه.
ويعتقدون: أن الله سبحانه أمر نبيه بأن ينص على علي (ع) وينصبه علماً للناس من بعده، وكان النبي يعلم أن ذلك سوف يثقل على الناس، وقد يحملونه على المحاباة والمحبة لابن عمه وصهره، ومن المعلوم أن الناس ذلك اليوم، وإلى اليوم، ليسوا في مستوى واحد من الإيمان واليقين بنزاهة النبي وعصمته عن الهوى والغرض، ولكن الله سبحانه لم يعذره في ذلك فاوحى اليه : “ يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ ہرِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرينَ “ ([10]).، فلم يجد بدَّاً من الإمتثال بعد هذا الإنذار الشديد، فخطب الناس عند منصرفه من حجة الوداع في غدير خم، فنادى ـ وجلهم يسمعون ـ : «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم»؟. فقالوا: اللهم نعم . فقال: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه» الى آخر ما قال([11]). ثم أكد ذلك في مواطن اخرى تلويحاً وتصريحاً، إشارة ونصاً، حتى أدى الوظيفة، وبلغ عند الله المعذرة. ولكن كبار المسلمين بعد النبي (ص) تأولوا تلك النصوص، نظراً منهم لصالح الإسلام ـ حسب اجتهادهم ـ فقدموا وأخروا، وقالوا : الامر يحدث بعده الأمر. وامتنع علي(ع) وجماعة من عظماء الصحابة عن البيعة أولاً، ثم رأى [ أن ] امتناعه من الموافقة والمسالمة ضرر كبير على الإسلام، بل ربما ينهار عن أساسه، وهو بعد في أول نشوئه وترعرعه، ...، فمن ذلك كله تابع وبايع ([12]) ، حيث رأى أن بذلك مصلحة الإسلام، وهو على منصبه الإلهي من الإمامة، وان سلم لغيره التصرف والرئاسة العامة، فإن ذلك المقام مما يمتنع التنازل عنه بحال من الأحوال . أما حين انتهى الأمر إلى معاوية، وعلم أن موافقته ومسالمته وإبقائه والياً ـ فضلاً عن الإمرة ـ ضرر كبير، وفتق واسع على الاسلام ـ لا يمكن بعد ذلك رتقه ـ لم يجد بُداً من حربه ومنابذته ... وإن الإمامية تعتقد أن الله سبحانه لا يخلي الأرض من حجة على العباد، من نبي أو وصي، ظاهر مشهور، أو غائب مستور، وقد نص النبي (ص) وأوصى إلى علي، وأوصى علي ولده الحسن، وأوصى الحسن أخاه الحسين، وهكذا إلى الإمام الثاني عشر المهدي المنتظر(ع) وهذه سنة الله سبحانه في جميع الأنبياء، من آدمهم إلى خاتمهم ([13]).
عقيدة الشيعة في المهدي الموعود
إنّ فكرة الإِمام المهدي في نطاق العقيدة الدينية، هي من البحوث الإسلامية التي قد نالت الإهتمام الكثير من قبل علماء الإسلام وقد بُحث من جميع جوانبه على ضوء الكتاب والسنّة والعقل، لأنَّ الإيمان والاعتقاد بظهور المصلح العالمي المنتظر كما هو موجود عند الفرق الشيعية موجود في سائر المذاهب الاُخری أيضاً ولکن بصورة ناقصة و غيرواضحة ولا وجود له في الخارج فعلاً. ولکن حينما يتحدث أهل البيت(ع) وشيعتهم عن هذه الفكرة فإنما يقدِّمون البيان الأكمل في هذا الموضوع، ويشخِّصون مصداقه ويذکرون رائد هذا الإصلاح و النهضة العالمية، وقائد عملية الإنقاذ والتغيير الشامل، وفي ذلک يقول الشيخ محمد رضا المظفَّر: «أنَّ هذا المصلح المهدي هو شخص معين ولد في سنة 255 هـ (في سامراء) ولايزال حيَّاً، وهو بن الحسن العسكري واسمه (محمد). وذلک بما ثبت عن النبي(ص) وآل البيت من الوعد به و ماتواتر عندنا من ولادته و احتجابه ...» ([14]). هذا وسيأتي الکلام بالتفصيل حول قضية الإمام المهدي الموعود.
خلاصة الکلام
ما ذکرناه هو مقتطفات من اُمَّهات عقائد الشيعة الإمامية أوردناها من أعلام أئمتهم وعلمائهم بتلخيص لتكون مؤشراً لعقائد هذه الفرقة، وهذه الکلمات ممتدة على أبعاد التاريخ الشيعي فإنّ کلمات اثنين ممن ذكرناهم هما من أئمة الشيعة الأول علي بن موسى الرضا(ع) والثاني هو الإمام الهادي علي بن محمّد(ع) وقد عاشا في القرن الثاني والثالث، والشيخ الصدوق والمفيد من کبار علماء الإمامية وقد عاشا في القرن الرابع، وأما الأخيران المعاصران هما المرحوم آية الله کاشف الغطاء صاحب کتاب (أصل الشيعة واصولها)، والمرحوم المجدد الشيخ محمد رضا المظفر صاحب کتاب (عقائد الإمامية).
وبعد هذه الجولة القصيرة في عقائد الإمامية سنفرد لبعضها بحثاً مستقلاً لأهميتها أوجوهريتها في العقيدة الشيعية ونجيب علی بعض التساؤلات والشُّبهات المطروحة حولها، ومن تلک العقائد: عقيدة الإمامية في النبوة والإمامة، والعصمة والإمام المهدي الموعود، وأهل البيت(ع) و مسألة الغلو ومايرتبط بها، ونبدأ بالبحث حول عقيدة الشيعة الإمامية بالأنبياء وبنبوَّة محمد(ص) في الدرس الآتي ونتابع البحث والبيان والتوضيح لبقية العقائد والمسائل المرتبطة بها في الدروس الآتية إن شاءالله تعالی ([15]).
الهوامش:
([1]) فصلت: 42.
([2]) عيون أخبار الرضا 2: 121.
([3])ينتهي نسب عبد العظيم الحسني بوسائط أربع إلى الإمام الحسن المجتبى(ع) فهو عبد العظيم بن عبد الله بن علي بن الحسن بن زيد بن الحسن المجتبى(ره)، ولد في الرابع من ربيع الثاني عام 173هـ في المدينة ، وتوفي عبد العظيم الحسني في النصف من شوال عام 252 للهجرة،ودفن في ري في بستان عبدالجبَّار بن عبد الوهَّاب عند شجرة التِّفاح. وعلوّ مقام عبد العظيم وجلالة شأنه أظهر من الشمس فهو من أكابر المحدثين وأعاظم العلماء والزهّاد والعباد ومن أصحاب الإمامين الجواد والهادي(ع)، وقد روى عنهما أحاديث كثيرة، وقدعرض دينه على الإمام الهادي(ع)، فأقرّه وصدَّقه، وهو المؤلف لكتاب خطب أمير المؤمنين(ع)، و يروي ابن بابويه وابن قولويه في فضل زيارة عبد العظيم الحسني أنَّ رجلاً من أهل الرَّي قدم إلی الإمام علي الهادي(ع) فسأله: من أين قدمتَ؟ فقال:کنتُ في زيارة الحسين،فقالA(ع)« أما لوأنَّك زرتَ قبرَ عبد العظيم عندَكم لكنتَ كمن زارَ الحسينَ بن علي(ع)» ([3]).
([4]) التوحيد للشيخ، الصدوق:81 ،باب التوحيد والتشبيه ، ح37.
([5]) الأمالي، للشيخ الصدوق: کتاب المقنع والهداية.
([6]) طه آية 114.
([7]) أوائل المقالات للشيخ المفيد:53 .
([8]) الحجر: 9.
([9]) المائدة : 67.
([10]) المائدة 5 : 67 .
([11]) روت معظم المصادر الحديثية وغيرها واقعة الغدير باسانيد متعددة منها : مسند أحمد 1 : 84 ، 88 و 4: 368 ، 372 و5 : 366 ،419 ، تاريخ بغداد 7 : 377 و 8 : 290 و 12 : 343 ، اسد الغابة 2 : 233 و 3 : 3 9 ، الإصابة 1 : 304 ، مستدرك الحاكم 3 : 109 ، 110 ، 116 64 ، ترجمة الامام علي(ع) من تاريخ دمشق2 :50 1 ـ 531 ، وغيرها من المصادر.
([12]) وکانت البيعة بعد تفاقم حرکات الرِدات وفي حياة فاطمة الزهراء(ع)، ولايصحُّ القول بأنَّ ذلک کان بعد ستة أشهر وبعد وفاتها(ع) ، وهورواية الزُهري الاُموي عن عروة بن زبير عن خالته عائشة ، لتقول أنَّ الناس إنَّما احترموا علياً لحياة الزهراء(ع) وهو کان ممتنعاً عن البيعة بها وإلاَّ فلا حرمة لعلي(ع)! ( راجع المجلد الرابع من موسوعة التاريخ الإسلامي ، للشيخ هادي اليوسفي الغروي ) .
([13]) أصل الشيعة واصولها :143.
([14] عقائد الإمامية للشيخ محمد رضا المظفَّر:178.
([15]) هذا و من أراد التوسع في معرفة عقائد الشيعة الإمامية فليراجع الکتب والموسوعات المؤلَّفة قديماً وحديثاً في هذا الموضوع.