الدرس التاسع: الإمامة والخلافة عند الشيعة الإمامية

قيم هذا المقال
(1 Vote)
الدرس التاسع: الإمامة والخلافة عند الشيعة الإمامية

إتّفق الشيعة الإمامية من صدر الإسلام وإلی يومنا هذا على كون الإمامة أصلًا من أُصول الدين، والإعتقاد بإمامة الأئمّة الإثني عشر بعد رسول الله(ص)  من لوازم الإيمان بالإسلام المبين، وکون منصب الإمامة وخلافة المسلمين بالنصب والتعيين من قبل الله ورسوله سيد المرسلين، وأنّ النبي الأكرم (ص) نصّ في أيام حياته على الخليفة من بعده، وذلك في موارد سجَّلها الحديث و قد برهنوا على ذلك في كتبهم من الموسوعات الحديثية  والمؤلّفات الكلامية  وهي تستند إلی الكتاب والسنّة و العقل .  وأمّا أهل السنّة فقد صرّحوا في كتبهم الكلامية أنّ الإمامة ليست من اُصول الدين بل هي من الفروع،والخلافة بعد الرسول(ص) بالشوری وسيوافيک أقوال وأدلة الطرفين في ذلک ، وقبلها لابدَّ من تعريف الإمامة واالإمام لغة وإصطلاحاً .

معنی الإمامة لغة وإصطلاحاً

الإمامة : هي مصدر كالعدالة و الكتابة، و قد يطلق اسماً للوصف فيقال: إمامة زيد .  والامام في اللغة عبارة عن الشخص أو الشئ الذي يؤتم به، كالرداء اسم لما يرتدى به. وكالإزار لما يؤتزر به . والامام في الإصطلاح : ما ائتم به من رئيس أو غيره، ... فيطلق علی الخليفة، و العالم المقتدى به، و من يؤتم به في الصلاة ، وعلی الکتب السماوية منها قوله تعالی: « وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى‏ إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى‏ لِلْمُحْسِنينَ» ([1])

وکماتطلق کلمة الإمام علی أئمة الهدی تطلق علی أئمة الضلال کما يفهم من عموم معنی الآية في قوله تعالی: «يوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتيلاً» ([2]). ويقول آية الله مکارم الشيرازی حول هذه الآية: «ومن الواضح أنّ كلمة (إمام) في هذا المكان لها معنى أوسع، و تشمل أية قيادة سواء تمثّلت بالأنبياء أو أئمّة الهدى أو العلماء أو الكتاب و السنة. ويدخل في معنى الكلمة أيضا أئمّة الكفر و الضلال، و بهذا الترتيب فإنّ كل إنسان سيسلك في الاخرة مسار القائد الذي انتخبه لنفسه في الدنيا اماماً و قائداً »([3]).

و على كل تقدير، فالمهم هو تحليل ماهية هذه الإمامة، و تحديدها، و أنّه ما ذا يراد منها في مصطلح المتكلمين ، ومن هو الإمام  الذي تجب معرفته وإطاعته .

لقد انصبّ اكثر اهتمام علماء الكلام من الفرق الإسلامية المختلفة بموضوع «الامامة» وعرِّفوهابأنَّها: رئاسة عامّة في أمور الدين و الدنيا([4]) . فتكون الشئون الدينية و الدنيوية منوطة كلها بالامام، و تكون معرفته ثم طاعته واجبة في جميع المجالات. أمّا علماء الشيعة فالإمامة عندهم بالأدلة النقلية و العقلية هي من أصول الدين. وإنّ الإمام عندهم هو الإنسان الکامل المعصوم الذي يتعين بأمر الله بواسطة النبي (ص) أو الإمام المعصوم (ع) فتکون معرفته وإطاعته من أوجب الواجبات إستناداً إلی کثير من الآيات والروايات وأقوال أصحاب الفکر والإستدلالات ،کما سيوافيک فيه البحث والمقولات ، وقبلها لابدَّ من البحث حول مفهوم ومعاني الإمامة وصلاحيتها :

مفهوم الإمامة وصلاحياتها

إذا راجعنا  المصادر الإسلامية الأصيلة، وهي : القرآن الكريم و السنة النبوية ، لوجدنا أنّ منصب الإمامة هو اصطفاء من الله لهداية الناس وإدارة شؤنهم الدنيوية والاخروية ،وإنّ من  أهمِّ شؤون  الإمامة هي هداية الناس إلى اللّه تعالى. و هذا ما يدل عليه مجموعة من الآيات الكريمة التي تحدثت عن الإمامة، و قرنت الإمامة بالهدى، منها قوله تعالى في معرض حديثه عن قصص إبراهيم عليه السّلام و ولده: « وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ‏» ([5]). و قوله تعالى: «وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُون»([6])‏ . فالعمل الأساس للإمام هو هداية الناس وحفظ الدين من الإندراس سواء وصل إلی دکَّة الخلافة والحکم أم لم يصل ، ولکن عندما يکون مبسوط اليد وحاکماً بإمکانه أن يقوم بهذين العملين بأحسن وجه ، إضافة علی إدارة شؤون الناس دنيوياً .

و لعل أفضل نص يمكن أن نتعرف من خلاله على مفهوم الإمامة وصلاحياتها هو الآية الكريمة التي تحدثت عن جعل الإمامة لإبراهيم عليه السّلام، في قوله تعالی: «وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ» ([7])‏ . حيث يمكن أن نفهم من هذا النص  والنصوص الاخری عدة أبعاد لمفهوم الإمامة ومن تلک الأبعاد المعاني التالية:

المعنی الأول: أنّ هذه الإمامة هي إمامة عالمية و للناس جميعاً، و ليست خاصة بقوم أو جماعة أو منطقة أو إقليم، بل هي للناس‏ و هو بعد يمكن أن نستنبطه من الآية الكريمة،  ... إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ... وهذه الإمامة هي الولاية و الحكم و الإدارة لشئون الناس، لإقامة الحق و العدل و القسط بينهم، لأنّ من يتقدم الناس في هذا الأمر، و يتحمل مسئوليته بالاصطفاء الإلهي له، لا بد أن يكون مستحقا لهذه الولاية و الإدارة و الحاكمية. و کذلک يمکن أن نستفيد هذا المعنی من الآيات الأخرى التي أكدت وجوب الطاعة للرسول و لأولي الأمر، و ذكرت قيام الناس بالقسط و الحكم فيما يختلفون فيه هدفاً لإرسال الرسل و بعثة الأنبياء .

المعنی الثاني: أنّ الإمامة في معناها الکامل والجامع هي مرتبة عالية جعلها الله لبعض أنبيائه وأوليائه  کالنبي إبراهيم عليه السّلام ، كما يبدو ذلك من بعض القرائن القرآنية من مخاطبته بها بعد الابتلاء و الامتحان، و هو ما تحقق بعد النبوة، و من سؤال أو طلب الإمامة لذريته، و لم تكن له ذرية إلّا في آخر عمره. و هو ما تشير إليه الآيات الكريمة التي تحدثت عن الأنبياء السابقين، من أنّ هذا الجعل كان بعد نبوتهم، و ما تنص عليه بعض الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام، مثل ما رواه الكافي عن الصادق عليه السّلام: «إنّ اللّه عز و جل اتخذ إبراهيم عبدا قبل أن‏يتخذه نبيا، و إن اللّه اتخذه نبيا قبل أن يتخذه رسولا، و إن اللّه اتخذه رسولا قبل أن يتخذه خليلا، و إن اللّه اتخذه خليلا قبل أن يتخذه إماما، فلما جمع له الأشياء قال: ... إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً ...، قال عليه السّلام: فمن عظَّمها في عين إبراهيم قال: «... وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ‏، قال: لا يكون السفيه إمام التقيّ» ([8]).

المعنی الثالث: أنّ الإمامة هي بالتعيين والتنصيص والجعل من الله تعالی لخاصَّة عباده  الصالحين، وهي عهده الذي لا يناله الظالم من عباده  كما تصرح بذلك الفقرة التالية من الآية الكريمة: «... إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»، والتي سنوضِّح دلالتها علی التنصيص في الإمامة ضمن الأدلة النقلية والعقلية الاخری التي سنذکرها بإختصار:

الف- الأدلة النقلية علی تنصيص الإمامة والخلافة:
لقد تظافرت الأدلة من الكتاب والسنة على أنّ الإمامة والخلافة بجعل من الله تعالی و لعل أفضل نص قراني يمكن أن يستدل به علی ذلک ، هو  قوله تعالی: « وَ إِذِ ابْتَلى‏ إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ»([9]).فإنَّ النبي إبراهيم كان نبيّاً ورسولًا وقائماً بوظائف النبوة طيلة سنين حتّى خوطب بهذه الآية، واُعطي للخليل في أواخر عمره الإمامة،وهي عهد الله يؤتيه من يشاء من عباده المعصومين والمراد من الإمامة في المقام هو منصب القيادة، وتنفيذ الشريعة في المجتمع بقوّة، ويعرب عن كون المراد من الإمامة في المقام هو القيادة والحکومة قوله سبحانه: «أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى‏ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً»([10]). فالإمامة التي أنعم بها اللَّه سبحانه على الخليل وبعض ذرّيته هي الملك العظيم الوارد في هذه الآية. وعند ذلك يتّضح أنّ مقام الإمامة يلي النبوّة والرسالة، لأنَّها قيادة وحكومة إلهيّة لا يستحقها إلاَّ المعصوم من الذنوب ولذا لمَّا طلبها النبي إبراهيم لذريته خاطبه الله: لاينالها من کان ظالماً، وقد نالها بعض من ذريته وهم المذکورون في الآيات التالية: قوله تعالی حاكياً قول يوسف (ع): «رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ»([11])  ومن المعلوم أنّ الملك الذي منّ به سبحانه على عبده‏ ورسوله يوسف هو‏الحکم في الأرض حيث صار أميناً مكيناً في مصر. ويقول سبحانه في داود (ع): « ...وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاء...» ([12]).  ويحكي اللَّه تعالى عن سليمان (ع) أنّه قال: «وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ»([13])

وهذه الآيات الكريمة تفسّر لنا حقيقة الإمامة،والمتأمّل فيها يخرج بهذه النتيجة: أنّ ملاك إمامة الناس في ذرّية إبراهيم هي العصمة، غير أنّه ربّما تجتمع مع النبوة، كما في إبراهيم الخليل، ويوسف، وداود، وسليمان، وغيرهم، وربّما تنفصل النبوة عنها فيکون إماماً معصوماً زاده الله بسطة في العلم والجسم ولم يک نبيَّاً كما في طالوت حيث أخبر الله عنه في قوله تعالی: « وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ » ([14]).

وإضافة إلی الأدلة النقلية من الکتاب والسنَّة  يمکن الإستدلال بالأدلة العقلية علی کون الإمامة بالتعيين والتنصيص ومن تلک الأدلة قائدة اللطف: 

ب - الأدلة العقلية علی تنصيص الإمامة:

استدلّت الإمامية على وجوب نصب الإمام على اللَّه سبحانه بقاعدة اللطف کما في نصب الأنبياء،لأنّ وجود الإمام الذي اختاره اللَّه سبحانه، مقرّب من الطاعات، ومبعد عن المعاصي، وقد أوضحوه في كتبهم الكلامية. والمراد من اللطف کون وجود الإمام الذي اختاره اللَّه سبحانه، مقرّب من الطاعات، ومبعد عن المعاصي، المقرّب هنا سدّ الفراغات التي حصلت بعد وفاة النبي(ص) وذلک بنصب من هو صنو النبيّ الأكرم (ص) في علمه بالعقيدة والشريعة، وفي العدالة والعصمة، والتدبير والحنكة، وقيادة الأُمّة نحو الخير والصواب.

والدليل العقلي الآخر أنَّ الوصية فريضة شرعية وضرورة عقلية، ومن الثَّابت أنّ الشريعة الإِسلامية تؤکِّد الوصية على المسلم حتى في بعض الميراث البسيط کما صرَّح القرآن الكريم بذلک ([15])، وأنّ النبي (ص) كان إذا أراد الذهاب في سفر لا يترك المدينة بدون خليفة عليها لو كان سفره ليوم واحد، فكيف يترك اُمور الناس من بعده بدون راع ويعرضها إلى الفتن دون أن يوصي أو يرشح للأمر شخصاً من بعده، والحال أنّ استقرار الاُمة متوقف على ذلك وبدون ذلك يؤول الأمر إلى التنازع وهذا مايرفضه کلّ عقل سليم.

هذا بعض مانقلناه من الأدلة العقلية و النقلية حول الإمامة والخلافة بصورة عامَّة، وأمَّا ما ورد من  الأدلة علی إمامة وخلافة الإمام علي (ع) سيوافيک فيما يلي بإختصار:

الأدلة علی إمامة وخلافة الإمام علي (ع)

وأمَّا الآيات والروايات الدالة علی إمامة وخلافة الإمام علي بن أبي طالب (ع) بعد رسول الله (ص) بصورة خاصَّة  فنذکرها بإختصار ضمن الموارد التالية:

الموردالأول- آية الإنذار وحديث الدار:

بُعث الرسول الأكرم لهداية الناس وإخراجهم من الوثنية إلى التوحيد، ومن الشرّ إلى الخير، ومن الشقاء إلى السعادة، فأخذ بالدعوة ونشر دينه سنوات عديدة إلى أن نزل قوله سبحانه:  «وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ» ([16]).  فعند ذلك أمر الرسول علي بن أبي طالب وهو شاب يافع يتراوح عمره بين (13 إلى 15 سنة) أمره رسول اللّه أن يعد طعاماً ولبناً ثم دعا (45) رجلًا من سُراة بني هاشم ووجوههم، وبعد أن فرغوا من الطعام قال رسول اللّه: «إنّ الرائد لا يكذب أهله، واللّه الّذي لا إله إلّا هو إنّي رسول اللّه إليكم خاصّة وإلى الناس عامّة، واللّه لتموتنّ كما تنامون، و لتبعثنّ كما تستيقظون، ولتحاسبنّ بما تعملون، وانّها الجنّة أبداً والنار أبداً»- ثم قال:- «يا بني عبدالمطلب إنّي واللّه ما أعلم شابّاً في العرب جاء قومه بأفضل ممّا جئتكم به، إنّي قد جئتكم بخير الدنيا و الآخرة، وقد أمرني اللّه عزّوجل أن أدعوكم إليه، فأيّكم يؤمن بي ويؤازرني على هذا الأمر على أن يكون أخي و وصيّي وخليفتي فيكم».ولمّا بلغ النبي (ص) إلى هذا الموضع وقد أمسك القوم وسكتوا عن آخرهم، قام علي (ع) وقال: «أنا يا رسول اللّه أكون وزيرك على ما بعثك اللّه»، فقال له رسول اللّه: اجلس، ثم كرّر دعوته ، ففي كلّ مرّة يحجم القوم عن تلبية دعوته ويقوم علي ويعلن استعداده لمؤازرة النبي ويأمره رسول اللّه بالجلوس، حتّى إذا كان في المرّة الثالثة، أخذ رسول اللّه بيده والتفت إلى الحاضرين من عشيرته الأقربين وقال: «إنّ هذا أخي ووصيّي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا».([17]).

المورد الثاني - حديث المنزلة :
روى أصحاب السير والحديث أنّ رسول اللّه خرج إلى غزوة تبوك وخرج الناس معه، فقال له علي: «أخرج معك»؟ فقال صلى الله عليه و آله: «لا»، فبكى علي، فقال له رسول اللّه: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي، انّه لا ينبغي أن أذهب إلّا وأنت خليفتي». أخرجه البخاري في صحيحه. ([18]).والإستثناء يدلّ على ثبوت ما لهارون من المناصب لعلي سوى النبوّة.

وروى مسلم في صحيحه أنّ معاوية بن أبي سفيان قال لسعد بن أبي وقاص: ما منعك أن تسب أباتراب؟ فقال: امّا ما ذكرت ثلاثاً قالهنّ له رسول اللّه فلن أسبّه، لئن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم، سمعت رسول اللّه يقول له وقد خلّفه في بعض مغازيه بعد ما شكا إليه علي بقوله: «يا رسول اللّه خلّفتني مع النساء والصبيان»: «أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون من موسى إلّا أنّه لا نبوّة بعدي». وسمعته يقول يوم خيبر: «لأُعطينّ الراية رجلًا يحبّ اللّه ورسوله، ويحبّه اللّه ورسوله» قال: فتطاولنا لها، فقال: «ادعوا لي عليّاً»، فأُتي به أرمد العين، فبصق في عينه ودفع الراية إليه ففتح عليه.ولمّا نزلت هذه الآية: «فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ» دعا رسول اللّه عليّاً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: «اللّهمّ هؤلاء أهلي».([19])

المورد الثالث- أية التبليغ وحديث الغدير:
أجمع رسول الله (ص) الخروج إلى الحجّ في سنة عشرٍ من الهجرة، وأذّن في الناس بذلك، فقدم المدينة خلق كثير يأتمّون به في حجّته تلك التي يطلق عليها حجّة الوداع، وحجّة الإسلام، وحجّة البلاغ، وحجّة الكمال، وحجّة التمام([20])، ولم يحجّ غيرها منذ هاجر إلى أن توفّاه الله سبحانه. فلما قضى مناسكه، وانصرف راجعاً نحو المدينة ومعه من كان من الجموع المذكورات، وصل إلى غدير خُم من الجحفة ، وذلك يوم الخميس الثامن عشر من ذي الحجّة، نزل إليه جبرائيل الأمين(ع) عن الله مذکِّراً بقوله: «يا أيّها الرَّسُولُ بَلغ ما اُنزل إليك من ربّك...» ([21])، وأمره أن يقيم عليّاً عَلَماً للناس، ويبلغهم ما نزل فيه من الولاية وفرض الطاعة على كلّ أحد، وكان أوائل القوم قريباً من الجحفة، فأمر رسول الله أن يردّ من تقدّم منهم، ويحبس من تأخّر عنهم في ذلك المكان، ونهى عن سَمُرات([22]) خمس متقاربات دَوْحات عظام أن لا ينزل تحتهنّ أحد، حتى إذا أخذ القوم منازلهم، فقمّ ما تحتهنّ، حتى إذا نودي بالصلاة - صلاة الظهر - عمد إليهنّ، فصلى بالناس تحتهنّ، وكان يوماً هاجراً يضع الرجل بعض ردائه على رأسه، وبعضه تحت قدميه، من شدّة الرمضاء. وظُلّل لرسول الله (ص) بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فلما انصرف (ص) من صلاته، قام خطيباً وسط القوم([23]) على أقتاب الإبل([24])، وأسمع الجميع، وإليک نصّ کلامه(ص) کما ذكره ابن حجر وقد اعترف بصحّة سند الحديث.  يقول ابن حجر:إنّ النبي  صلى الله عليه و آله و سلم خطب بغدير خم تحت شجرات، فقال: «أيّها الناس... ، وانّي لأظن أنّي يوشك أن أُدعى‏ فأُجيب، وانّي مسؤول وانّكم مسؤولون، فماذا أنتم قائلون؟» قالوا:نشهد أنّك قد بلّغت وجهدت ونصحت فجزاك اللّه خيراً، فقال: «أليس تشهدون أن لا إله إلّااللّه وأنّ محمّداً عبده ورسوله، وأنّ جنّته حق، وأنّ ناره حقّ، وأنّ الموت حق، وأنّ البعث حق بعد الموت، وأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، وأنّ اللّه يبعث من في القبور؟» قالوا: بلى نشهد بذلك، قال: «اللّهمّ اشهد» ثمّ قال: «يا أيّهاالناس إنّ اللّه مولاي وأنا مولى المؤمنين وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا- يعني عليّاً- مولاه، اللّهمّ والِ من والاه وعاد من عاداه» ثمّ قال: «يا أيّها الناس إنّي فرطكم وانّكم واردون عليّ الحوض، حوض أعرض ممّا بين بصرى إلى صنعاء فيه عدد النجوم قِدحان من فضّة، وانّي سائلكم حين تردون عليّ عن الثقلين، فانظروا كيف تخلّفوني فيهما، الثقل الأكبر كتاب اللّه عزّوجلّ سبب طرفه بيد اللّه وطرفه بأيديكم فاستمسكوا به لا تضلّوا ولا تبدّلوا، وعترتي أهل بيتي، فإنّه نبّأني اللطيف الخبير أنّهما لن ينقضيا حتّى يردا عليّ الحوض» ([25]).  

وأخرج حديث الغدير غير واحد من أئمة الحديث، منهم الإمام أحمد من حديث زيد بن أرقم قال: نزلنا مع رسول صلى الله عليه (و آله) و سلم بواد يقال له وادي خم، فأمر بالصلاة فصلّاها بهجير، قال: «فخطبنا وظُلِّل لرسول اللّه صلى الله عليه (و آله) و سلم بثوب على شجرة سمرة من الشمس، فقال: «ألستم تعلمون، أو لستم تشهدون، أنّي أولى بكل مؤمن من نفسه؟» قالوا: بلى، قال: «فمن كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه».([26]).  

وأخرجه الحاكم في مناقب علي من مستدركه عن طريق زيد بن أرقم من طريقين صحّحها على شرط الشيخين، قال: لمّا رجع رسول اللّه من حجّة الوداع ونزل غدير خم، أمر بدوحات فقممن، فقال: «إنّي دعيت فأجبت، قد تركت فيكم الثقلين، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه وعترتي، فانظروا كيف‏تخلّفوني فيهما، فانّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض- ثمّ قال:- إنّ اللّه عزّوجلّ مولاي وأنا مولى كل مؤمن- ثمّ أخذ بيد علي فقال:- من كنت مولاه فهذا وليّه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه ...». ([27]).

ولو أردنا استقصاء مصادر الحديث ومسانيده ورواته من الصحابة والتابعين والعلماء لأحوجنا ذلك إلى تأليف مفرد، وقد قام بحمداللّه أعلام العصر ومحقّقوه بذلك المجهود ([28]).وإنّ حديث الغدير من الأحاديث المتواترة رواه الصحابة والتابعون والعلماء في كل عصر وجيل، ولسنا بصدد إثبات تواتره وذكر مصادره فقد قام غير واحد من المحقّقين بهذه المهمّة، وانّما الهدف إيقاف القارئ على نصوص الخلافة و دلالة الحديث على الولاية العامّة والخلافة الكبرى لعلي بعد الرسول، ويكفي في ذلك التدبّر في الأُمور التالية:

1- إنّه (ص) قال في خطبته: «أنا أولى بهم من أنفسهم- ثمّ قال:- فمن كنت مولاه» وهذا قرينة لفظية على أنّ المراد من المولى هو الأولى، وهذا هو معنى الولاية الكبرى للإمام.

2- إنَّ ذيل حديث الغدير وهو قوله (ص): «اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه» وفي بعض الطرق: «وانصر من نصره واخذل من خذله» إنّ هذا الدعاء لا يناسب إلّامن نصب زعيماً للإمامة والخلافة، فإنّه (ص) لمّا نصّبه إماماً على الأُمّة بعده، كان يعلم أنّ تطبيق هذا الأمر رهن توفّر الجنود والأعوان وطاعة أصحاب الولايات والعمّال، مع علمه بأنّ في الملأ من يحسده، وفيهم من يحقد عليه، وفي زمرة المنافقين من يضمر له العداء، فعاد يدعو لمن والاه ونصره، وعلى من عاداه وخذله، ليتمّ أمر الخلافة، ولِيُعْلم الناس أنّ موالاته موالاة للّه وأنّ عداءه عداؤه.

3- إنّ النبي (ص) ذكر قبل بيان الولاية قوله: «كأنّي دعيت فأجبت» أو ما يقرب من ذلك، وهو يعرب أنّه (ص) لم يبق من عمره إلّاقليل ، فأراد سد الفراغ الحاصل بموته ورحلته بنصب عليّ إماماً وقائداً من بعده.

هذه القرائن وغيرها الموجودة في كلامه، توجب اليقين بأنّ الهدف من هذا النبأ في ذلك المحتشد العظيم ليس إلّا إكمال الدين وإتمام النعمة من خلال ما أعلن عنه (ص) انّ علياً قائد وإمام الأُمّة، ومن أراد التوسّع في الاطّلاع على هذه القرائن فليرجع إلى الأثر القيّم «الغدير».([29]).

مضمون حديث الغدير ومفهوهه:
إنّ مَن درس مضمون حديث الغدير وما حوله من القرائن يقف على أنّ المراد منه هو نصب علي للإمامة والخلافة، وهذا هو الّذي فهمه الحضّار من المهاجرين والأنصار في ذلك المحفل كما فهمه من بلغه النبأ بعد حين ممّن يُحتجّ بقوله في اللغة، وتتابع هذا الفهم فيمن بعدهم من الشعراء ورجال الأدب إلى العصر الحاضر، وهذا هو حسّان بن ثابت الحاضر مشهد الغدير وقد استأذن رسول اللّه أن ينظم الحديث في أبيات منها قوله:

يناديهم يوم الغدير نبيهم      بخمّ وأسمع بالرسول مناديا
وقال: فمن مولاكم ووليّكم؟      فقالوا: ولم يبدوا هناك التعاديا
إلهك مولانا وأنت ولينا      ولن تجدنّ منا لك اليوم عاصيا
فقال له: قم يا علي فإنني      رضيتك من بعدي إماماً وهاديا
فمن كنت مولاه فهذا وليه      فكونوا له أنصار صدق مواليا
هناك دعا: اللهم وال وليه      وكن للذي عادى علياً معاديا

فقال له رسول الله(ص): « لَا تَزَالُ يَا حَسَّانُ مُؤَيَّداً بِرُوحِ الْقُدُسِ مَا نَصَرْتَنَا بِلِسَانِكَ »([30]).

حتّى أنّ عمرو بن العاص الّذي لا يَخفى عداؤه لعلي على أحد يقول في قصيدته الّتي أرسلها إلى معاوية شاكياً إيّاه:

وكم قد سمعنا من المصطفى‏       وصايا مخصّصة في علي‏
وفي يوم خم رقى منبراً       وبلّغ والصحب لم ترحل‏
فأمنحه إمرة المؤمنين‏       من اللّه مستخلف المنحل‏
وفي كفّه كفّه معلناً       ينادي بأمر العزيز العلي‏
وقال: فمن كنت مولى له‏       علي له اليوم نعم الولي([31])

شبهة واهية حول معنی المولی:
إنّ المولى يراد به معان مختلفة فمنها، المحبّ والناصر، فمن أين علم أنّ المراد بها المتولّي والمالك للأمر والأولى بالتصرّف؟ ويلاحظ عليه: أنّ لفظ المولى ليس له إلّامعنى واحد وهو: الأولى.، وانّ كلّما ذكر من المعاني المختلفة له إنّما هي من موارد استعماله ومتعلّقاته، فقد ذكروا له من المعاني سبعة وعشرين معنى، خلطوا فيها المتعلّق بالمعنى، ومورد الاستعمال بالموضوع له، فقد قيل إنّ من معانيه الرب، والعم، والمعتق، والعبد، والمالك، والتابع، والمحب، والناصر وكلّها متعلّقات للمعنى، وليس له إلّامعنى واحد وهو الجامع لهاتيك المعاني جمعاء، ومأخوذ في كل منها بنوع من العناية، ولم يطلق لفظ المولى على شي‏ء منها إلّابمناسبة.

 فالربّ سبحانه هو أولى بخلقه من أي قاهر عليهم،  والعم أولى الناس بكلاءة ابن أخيه والعطف عليه، و «المعتِق» أولى بالتفضّل على من أعتقه، كما أنّ المعتق أولى بأن يعرف جميل من أعتقه عليه، والمالك أولى بالتصرّف في ماله وكلاءة مماليكه. والتابع أولى بمناصرة متبوعه ممّن لا يتبعه، والمحب والناصر أولى بالدفاع عمّن أحبّه أو التزم بنصرته.فإذن ليس للمولى إلّامعنى واحد، وتختلف هذه الأولوية بحسب الاستعمال في الموارد المختلفة.

حصيلة الکلام حول ولاية الإمام (ع):
إنَّ النبي(ص) تارة يعرّف علياً بأنّه خليفته ووصيّه ووزيره، وأُخرى بأنّ منزلته منه منزلة هارون من موسى، وأنّ له كل المناصب الثابتة لهارون إلّامنصب واحد وهو النبوّة، والدليل على ذلك هو الاستثناء «إلّا أنّه لا نبي بعدي»،وثالثة يقف النبي (ص) في أرض جافة وفي هواء حار في محتشد عظيم مبتدئاً كلامه بأخذ الشهادة من الناس على ولايته عليهم ثمَّ يأخذ بيد الإمام علي (ع) في غدير خم ليقول: «من كنت مولاه فهذا علي مولاه»، ودلالة هذه النصوص على خلافة من عيّنه الرسول(ص) من بعده إماماً ووليَّاً وقائداً علی المسلمين  على وجه لا ينكره إلّا مكابر ولا يردّه إلّامعاند، وكفانا في الموضوع ما ألّفه علماؤنا قديماً وحديثاً .

لماذا رضي الإمام علي (ع) بالأمر الواقع ؟
هناك سؤال يطرح نفسه، وهو أنّه لو كان الحق كما نطقت به النصوص كتاباً وسنّة، وثبت أنّ الرسول لم يرحل عن أُمّته إلّا بعد أن نصب علياً للخلافة والقيادة،  فلماذا أعرض المهاجرون والأنصار عن ما أُمروا أن يتمسّكوا به وانثالوا علی غير علي ،ولماذا لم يطلب الإمام حقّه الشرعي و رضي بالأمر الواقع؟

والجواب: أمّا إعراض المهاجرين عن النص، فليس هذا أمراً عجيباً، فقد أعرضوا عن كثير من النصوص، واجتهدوا اتجاهها،و إنّ المهم هو بيان السرّ الّذي دفع الإمام إلى ترك المطالبة بحقّه بالقوة والعنف، ولکن ليس معنی هذا سکوت الإمام ورضاه عنه، بل أظهر الإمام عدم رضاه بالأمر الواقع وأنّه غصب حقّه،و يقف علی هذا الأمر كلّ من قرأ مأساة السقيفة في كتب التاريخ، فلا يفوتنّك قراءة السيرة النبوّية لابن هشام،و طبقات ابن سعد، و الإمامة والسياسة لابن قتيبة، وتاريخ الطبري و العقد الفريد، فكلّها مفعمة بشكوى الإمام وعدم قبوله بالأمر الواقع، غير أنّ التكليف حسب القدرة، وفي ظلّ المصالح العامّة، فلم يكن للإمام قدرة على المطالبة بحقّه، وعلى فرض وجودها كانت المصلحة تكمن يومذاك في إدلاء الأمر إلى متقمّصيها وعدم المطالبة بها بالقهر والقوّة، وإليك ما يدل على ذينك الأمرين من خلال دراسة بعض النصوص التاريخية:

فهذا ابن قتيبة يسرد تاريخ السقيفة، وما فيه من مآسي، يقول: إنّ علياً كرّم اللّه وجهه أُتي به إلى أبي بكر وهو يقول: «أنا عبداللّه وأخو رسول اللّه» فقيل له: بايع، فقال: «أنا أحقّ بهذا الأمر منكم، وأنتم أولى بالبيعة لي، أخذتم هذا الأمر من الأنصار، واحتججتم عليهم بالقرابة من النبيّ، وتأخذوه منّا أهل البيت غصبا! ألستم زعمتم للأنصار أنّكم أولى بهذا الأمر منهم لما كان محمد فيكم فسلّموا إليكم الإمارة، فإذن أحتجُّ عليكم بمثل ما احتججتم على الأنصار، نحن أولى برسول اللّه حيّاً وميتاً، فأنصفوا إن كنتم تؤمنون، وإلّا فبوؤا بالظلم وأنتم تعلمون» ([32]). فأيّ بيان أروع من هذا البيان، وأيّ بلاغ أصرح منه، فقد فنَّد إستدلال المتقمّص للخلافة بهذا البيان .

ولمّا انتهت إلى أميرالمؤمنين(ع) أنباء السقيفة قال (ع): « ماذا قالت قريش؟» قالوا: احتجّت بأنّها شجرة الرسول صلى الله عليه و آله و ، فقال (ع): «احتجّوا بالشجرة وأضاعوا الثمرّة».([33]).

وروى الرضي في المقام شعراً للإمام:

فإن كنت بالشورى ملكت أُمورهم‏       فكيف بهذا والمشيرون غيّب‏
وإن كنت بالقربى‏ حججت خصيمهم‏       فغيرك أولى‏ بالنبي وأقرب‏ ([34]).

و الإمام لم يكتف بهذه الجُمل في بادئ الأمر، بل استمرّ على بيان الحق بأساليب مختلفة منها إحتجاجه بحديث الغدير ، قال عمرو بن واثلة: كنت على الباب يوم الشورى وعلي (ع) في البيت، فسمعته يقول: «لأحتجنَّ عليكم بما لا يستطيع عربيّكم ولا أعجميّكم تغيير ذلك- ثمّ قال:- أُنشدكم اللّه، أفيكم من وحّد اللّه قبلي؟» قالوا: لا ...- إلى أن قال:- «فأُنشدكم باللّه، هل فيكم أحد قال له رسول اللّه: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللّهمّ وال من والاه وعاد من عاداه، وانصر من نصره، ليبلّغ الشاهد الغائب غيري؟» قالوا: اللّهمّ لا. ([35]).

وهذه شواهد باهرة على عدم سكوته ولا رضاه بالأمر الواقع، بل استمرّ على هذا إلى آخر حياته، ويتّضح هذا بالرجوع إلى کلامه مع ابن عباس المعروف  بالشقشقية وهو في أوآخر أيام خلافته فعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ ذَكَرْتُ الْخِلَافَةَ عِنْدَ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ (ع)، فَقَالَ: « وَ اللَّهِ لَقَدْ تَقَمَّصَهَا أَخُو تَيْمٍ وَ إِنَّهُ لَيَعْلَمُ أَنَّ مَحَلِّي مِنْهَا مَحَلُّ الْقُطْبِ مِنَ الرَّحَى ، يَنْحَدِرُ عَنِّي السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيَّ الطَّيْرُ، فَسَدَلْتُ دُونَهَا ثَوْباً، وَ طَوَيْتُ عَنْهَا كَشْحاً، وَ طَفِقْتُ أَرْتَئِي بَيْنَ أَنْ أَصُولَ بِيَدٍ جَذَّاءَ أَوْ أَصْبِرَ عَلَى طَخْيَةٍ عَمْيَاءَ، يَشِيبُ فِيهَا الصَّغِيرُ، وَ يَهْرَمُ فِيهَا الْكَبِيرُ، وَ يَكْدَحُ فِيهَا مُؤْمِنٌ حَتَّى يَلْقَى رَبَّهُ، فَرَأَيْتُ أَنَّ الصَّبْرَ عَلَى هاتى [هَاتَا] أَحْجَى، فَصَبَرْتُ وَ فِي الْعين قَذًا، وَ فِي الْحَلْقِ شَجًا، أَرَى تُرَاثِي نَهْباً، ...» ([36]).

وأمّا عدم قيام الإمام (ع) بأخذ الحقّ بالقوة، إذ لم يكن يومذاك أيّ منعة وقدرة للإمام(ع)، ولو افترضنا وجود القدرة، لكنَّ مصالح الإسلام كانت تكمن في المسالمة وإدلاء الأمر إليهم، حيث يقول (ع): « لَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي أَحَقُّ بِهَا مِنْ غَيْرِي وَ وَ اللَّهِ لَأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ الْمُسْلِمِينَ وَ لَمْ يَكُنْ فِيهَا جَوْرٌ إِلَّا عَلَيَّ خَاصَّةً الْتِمَاساً لِأَجْرِ ذَلِكَ وَ فَضْلِهِ وَ زُهْداً فِيمَا تَنَافَسْتُمُوهُ مِنْ زُخْرُفِهِ وَ زِبْرِجِهِ » ([37]).وفي خطبة اُخری يشير الإمام (ع) إلی موقف آخر من مواقفه فيقول:« فإن أقل، يقولوا: حرص على الملك، وإن أسكت، يقولوا: جزع من الموت، هيهات بعد اللّتيَّا والّتي واللّه لابن أبي طالب آنس بالموت من الطفل بثدي أُمّه، ...».([38])

لا يصلح للخلافة إلّا علي (ع)
كان الإمام قرابة ربع قرن جليس بيته، يشتغل ببعض الأُمور لما فيه صلاح الإسلام والمسلمين، إلى أن قُتِل عثمان و انثال الناس على الإمام من كل جانب هاتفين: لا يصلح للخلافة إلّاعلي ،لقد روى الطبري نقلًا عن محمّد بن الحنفية: كنت مع أبي، حين قتل عثمان‏فدخل منزله، فأتاه أصحاب رسول اللّه(ص)، فقالوا: إنّ هذا الرجل قد قتل، ولابدّ للناس من إمام، ولا نجد اليوم أحداً أحقّ بهذا الأمر منك، ولا أقدم سابقة، ولا أقرب من رسول اللّه صلى الله عليه (و آله) و سلم فقال(ع): «لا تفعلوا فانّي أكون وزيراً خير من أن أكون أميراً» فقالوا: واللّه ما نحن فاعلين حتّى نبايعك، فقال(ع) : «ففي المسجد، فإنّ بيعتي لا تكون خفياً، ولا تكون إلّاعن رضا المسلمين»، قال سالم بن أبي الجعد: فقال عبداللّه بن عباس: فلقد كرهت أن يأتي المسجد مخافة أن يشغب عليه، وأبى‏ هو إلّاالمسجد. فلمّا دخل، دخل المهاجرون والأنصار، فبايعوه، ثم بايعه الناس...([39]). ولم تشهد ساحة الخلافة إحتشاداً جماهيرياً ، مثلما شهدته في بيعة الإمام علي(ع)، فقد اتّفق المهاجرون والأنصار، والتابعون على المبايعة، ولم يتخلّف إلّاقليل من الناس لا يتجاوزن عدد الأنامل. وقد جاء الطبري بأسمائهم يقول: بايعت الأنصار علياً إلّانفراً يسيراً، منهم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، ومَسلمة بن مخلَّد، وأبو سعيد الخدري،وغيرهم...

ولمَّا قام الإمام (ع)بالأمرإنهالت عليه الحروب الثلاثة: الجمل وصفين والنهروان،  وهو يصف ذلك بقوله: «فلمّا نهضت بالأمر نكثت طائفة،ومرقت أُخرى، وقسط آخرون، كأنّهم لم يسمعوا كلام اللّه سبحانه يقول: «تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ»([40]).بلى‏! واللّه لقد سمعوها ووعوها، ولكنّهم حَلِيَتْ الدنيا في أعينهم، وراقهم زِبْرجها ،أما و الّذي فلق الحبة، وبرأ النسمة، لولا حضور الحاضر، وقيام الحجّة بوجود الناصر، وما أخذ اللّه على العلماء أن لا يقارّوا على كظّة  ظالم، ولا سغب‏ ([41]).مظلوم، لألقيت حبلها على غاربها، ولسقيت آخرها بكأس أوّلها، ولألفيتم دنيا كم هذه أزهد عندي من عفطة عَنْز» ([42])

مؤهلات أمير المؤمنين (ع) للخلافة

يكفي لأي إنسان منصف أن يُلقي نظرة سريعة على حياة ومواقف الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب(ع) ليخرج بنتيجة واضحة أنَّ هذا الرجل العظيم ذو شخصية فذة وفريدة لا يقاس به أحد بعد رسول الله(ص) ،وله من المؤهلات الدينية والسياسية والعسکرية ماتجعله هوالأفضل والأولی بالخلافة بعد النَّبي (ص) بغضِّ النظر عن کونه إنساناً معصوماً منصوصاً عليه بالإمامة والخلافة بعقيدة الشيعة بنصِّ آية الولاية ([43]) وآية التبليغ ([44])وحديث الغدير وغيرها من نصوص الکتاب والسُّنة، فهو وليد الکعبة وربيب النبي (ص) وابن عمِّه وأخوه([45]) ،وصهره، وأوَّل من آمن به ، وباب مدينة علمه وأعلم الناس بسنَّته ووزيره وحافظ سرِّه وحامل لواء نصرته،ونفسه التي بين جنبيه بنصِّ آية المباهلة([46]).ومن أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهَّرهم تطهيراً .

وکانت حياة الإمام(ع) مملوءَة بالمواقف المشرَّفة من البطولات والتضحيات في سبيل الله ونصرة الإسلام والمسلمين ، ولولاه لما استقام الدين کما صرَّح بذلک سيد المرسلين(ص)، ففي العهد المكي ومن بداية البعثة النبوية كان علي بن أبي طالب(ع)  أوَّل من آمن بالنبي محمد(ص) ورسالته الخالدة وصلَّی خلفه وهو في العقد الأوَّل من عمره([47]) ، ثمَّ شاركه وآزره في قضية يوم الإنذار ،. وحضر معه (ص) في شعب أبي طالب ، وقد انتهت أدواره(ع) المکية بمنامه في فراش النبي (ص) ليسلم (ص) من الأعداء، وشراه بنفسه([48]) وذلک عند هجرته(ص) إلی يثرب، ثمَّ التحاق الإمام(ع) به في يثرب ليستمرَّ في مؤآزرته ونصرته لرسول الله(ص) ([49]).

و في بداية العهد المدني وفي السنة الثانية للهجرة تزوَّج الإمام علي(ع) بإبنة رسول(ص) فازداد فخراً واعتزازاً ورزق منها الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة، وزينب الحوراء بطلة کربلاءواستمرَّ الإمام (ع) في المدينة بمشاركته الفاعلة في الغزوات والمواطن الخطرة التي قلَّ أن يثبت فيها أحد، تُعدّ الأبرز والأهم فكان يواجه تلك الأخطار التي ارتعدت منها الفرائص وخفقت عندها القلوب فأصبح المثل الأعلى في هذه الساحة التي لولاه لما استقام الدين الحنيف، بداية من غزوة بدر الکبری ثمَّ اُحد والخندق(الأحزاب) وخيبر ومکَّة إلی آخر غزواته(ص) الصغيرة والکبيرة منها ما عدی غزوة تبوک التي جعله خليفة لنفسه علی المدينة، وقد أسهمت تلك الأدوار والمواقف في ترسيخ اُسس هذا الكيان الرسالي وبناء الحضارة الإسلامية . وکل ذلک بشهادة الخلفاء الثلاثة والصحابة ومسطور في کتب التفاسير والحديث والتاريخ، وهناک الکثير من البطولات والفضائل والکرامات للإمام علي (ع) التي يشهد له العدُّو قبل الصديق.

وبانتهاء العهد المدني بوفاة رسول الله(ص) يأتي عهد الخلفاء حيث عُرف الإمام(ع) خلاله بالمسالمة والصبر والتعاون معهم وفق ما تقتضيه المصلحة العليا للإسلام والمسلمين، فرغم أن الإمام (ع) كان يرى محله من الخلافة محل القطب من الرحى ولكن سالم وصبر وفي العين قذا وفي الحلق شجى، على حد تعبيره،([50]) مدة ربع قرن، وفي هذه الفترة اجتهد الإمام (ع) في جمع القرآن الكريم مشعل هداية الأمة الإسلامية استمراراً لمهام الرسالة في تلك الظروف العصيبة، ولم يقف مكتوف اليد أمام التطورات المتسارعة التي كانت الاُمَّة تشهدها بل ساهم في إدارة شؤونها بكل إخلاص، إلى أن حان الوقت لكي تعود الأمة إلى رشدها وتعرف إمامها فالتجأت إليه تسلِّم له زمام أمرها بعد تلك الخطوب الصعاب فحمل عبء الخلافة وقيادة الاُمّة بكلِّ جدارة وحكمة خلال نصف عقد، حارب فيها الناكثين والقاسطين والمارقين وأقام العدل بين الناس وأحيا السنّة وأعاد للإسلام عزَّته وشوكته ورسالته المحمدية الأصيلة.  وهكذا نسير مع تاريخ حياة هذا الإمام العظيم ودوره الرائد في الإسلام حتى ننتهي إلى شهادته يوم الواحد والعشرين من شهر رمضان من السنة الأربعين للهجرة حيث كان يصلي لربه في محراب مسجد الكوفة، فكفاه فضلاً وشرفاً أن يكون وليد الكعبة وشهيد المحراب([51]).

هذا بالنسبة إلی إمامة وخلافة الإمام علي (ع)وأمَّا الإستدلال علی إمامة سائر الأئمة من أهل البيت عليهم السلام فتکفينا آية التطهير وآية اُولي الأمر وحديت الثقلين وحديث السفينة ،وتنصيص کلِّ إمام علی الإمام من بعده وغيرها من الدلائل والقرائن التي سنذکرها في محلِّها في مبحث  مکانة أهل البيت عند الشيعة في الدرس الرابع عشر ، ونکتفي هنا بذکر بعض النصوص النبوية  علی إمامة الأئمّة الاثني عشر .

النص علی إمامة الأئمّة الاثني عشر
إنّ من تصفّح مصنّفات الحديث النبوي الشريف يجد أنّ هناك روايات تنص علی خلافة الأئمّة الاثني عشر بعد رسول الله (ص) وتحدِّد عددهم وتعيِّن سماتهم وصفاتهم ، من دون ذكر لأسمائهم، وهي أحاديث الأئمّة الاثني عشر التي رواها أصحاب الصحاح والمسانيد، وهي على وجه لا ينطبق إلّاعلى من عيّنهم الرسول (ص) للخلافة من بعده، ولذلك نذكرها في عداد أدلّة التنصيص على الخلافة: روى البخاري عن جابر بن سمرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه (و آله) وسلَّم يقول:«يكون اثنا عشر أميراً» فقال كلمة لم أسمعها، فقال أبي: إنّه قال: «كلّهم من قريش» ([52]).   وروى مسلم عنه أيضاً قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه (وآله) وسلَّم يقول: «لا يزال الإسلام عزيزاً إلى اثني عشر خليفة» ثمّ قال كلمة لم أفهمها، فقلت لأبي: ما قال؟فقال: قال: «كلّهم من قريش» ([53]). و قال ابن حجر في الصواعق: أخرج الطبراني عن جابر بن سمرة أنّ النبي صلى الله عليه (و آله) وسلَّم قال: «يكون بعدي اثنا عشر أميراً كلّهم من قريش» ([54]). وغير ذلك من الأحاديث الدالّة على أنّ الأئمّة بعد النبي الأكرم (ص) اثنا عشر كعدد نقباء بني إسرائيل ، وهؤلاء أوّلهم علي بن أبي طالب(ع) وآخرهم المهدي المنتظر(ع) ، بهم حفظ اللَّه تعالى دينه وأعزّ رسالته، وبهم لايزال الإسلام عزيزاً، منيعاً،قائماً. وقد وصل إلی منصب الخلافة بالفعل إثنان منهم فقط وهما الإمام علي (ع) ما يقارب خمس سنين وابنه الإمام حسن (ع) ما يقارب ستة أشهر وبقية الأئمة لم يتسن لهم الخلافة ولکن قاموا بوظيفة الإمامة وهي: إرشاد الاُمَّة وهدايتها نحو الخير والصلاح ، لأنَّ الإمامة أعمُّ من الخلافة ، فالإمام المنصوب من قبل الله هو إمام سواء وصل إلی الحکم أم لم يصل ومشروعيته منبعثة ومستمدَّة من الله ومقبوليته من قبل الناس فإذا حضر الناس وتوجَّهوا إليه وبايعوه وجب عليه القبول عملاً بالتکليف الإلهي کما فعل أمير المؤمنين (ع).

الإمامة والخلافة عند أهل السنة
لقد اعتبر أهل السنّة الإمامة حكماً شرعياً فرعياً كسائر الأحكام الفرعية الواردة في الكتاب والسنّة والكتب الفقهية، و عدم كون الخلافة من صميم الدين عندهم .فهذا الآمدي (551- 631 ه) يقول: واعلم أنّ الكلام في الإمامة ليس من أُصول الديانات ولا من الأُمور اللابديات بحيث لا يسع المكلّف الإعراض عنها، والجهل بها ([55]). و قال السيّد الشريف (المتوفّى 816 هـ) في شرح المواقف، المرصد الرابع في الإمامة ومباحثها:« وليست الإمامة من أُصول الديانات والعقائد خلافاً للشيعة، بل هي عندنا من الفروع المتعلّقة بأفعال المكلّفين إذ نصب الإمامة عندنا واجب على الأُمّة سمعاً ([56]). وقد عقد ابن كثير الحنبلي في كتابه «البداية والنهاية» باباً مستقلًا في أنّ رسول اللَّه(ص) لم يستخلف وتبعه السيوطي في «تاريخ الخلفاء».

شکل الحکومة عند أهل السنّة
قد تعرّفت على نظام الإمامة والخلافة عند الشيعة، وحان البحث عن صيغة الخلافة لدى أهل السنّة، وأنّهم يختلفون عن الشيعة في شكل الحكومة بعد رسول اللّه، في أمرين:

الأوّل: فيما يتعلّق بجوهر الإمامة والخلافة وأساسها، فانّ الخلافة عند الشيعة إمرة إلهية، واستمرار لوظائف النبوّة ، سوى‏ تلقّي الوحي الإلهي، والامام نفس الرسول في الصلاحيات والوظائف غير أنّه ليس بنبيّ، لأنّ النبوّة ختمت بالنبي محمد(ص) فلا نبي ولا رسول بعده، وكان الإمام علي وعترته الطاهرة على هذا الوصف فكانوا خلفاءً إلهيّين عيّنهم الرسول (ص) ولكن لم تسمح الظروف للقيام بجميع وظائفهم إلّا للإمام علي (ع). وفترة قصيرة للإمام الحسن (ع) ولكن الخلافة عند أهل السنّة رئاسة دينية لتنظيم أُمور الأُمّة من تدبير الجيوش، وسد الثغور، وردع الظالم، والأخذ للمظلوم، وقيادتهم في حجّهم وغزوهم ([57]).ولأجل اختصاص وظائف الإمام بهذه الأُمور السياسية لا تشترط فيه العصمة، ولا الإحاطة بالشرع أُصوله وفروعه، بل يكفي فيه المقدرة لتدبير الأُمور، وتسهيل الحياة للأُمّة فعلى‏ ذلك، فلا تتجاوز وظائفه عن الوظائف المخوّلة للحكومات الحاضرة، غير أنّه يجب أن يكون مؤمناً باللّه ورسوله وقائماً بالوظائف الشرعية الفردية، ولا يعزل عن مقامه بالخروج عن الطاعة واقتراف المعصية حسب ما ذكروه في محلّه ([58]).

الثاني: إنّ الإمام عند الشيعة يُعيّن من جانب اللّه سبحانه ويبلّغ بواسطة الرسول (ص)، وأمّا الإمام عند أهل السنّة، فقد فوّض أمر انتخابه إلى الأُمّة على وجه الإجمال ولم تذكر خصوصياته على وجه التفصيل، والّذي يظهر من مجموع كلامهم، أنّ الإمامة تنعقد عن طريق الشورى، واختيار أهل الحل والعقد أوّلًا، وبتعيين الإمام السابق ثانياً، وبالغلبة ثالثاً.

قال الماوردي: الإمامة تنعقد بوجهين:أحدهما: باختيار أهل الحل والعقد. والثاني: بعهد الإمام من قبل ([59]). ثمّ إنّهم اختلفوا في عدد من تنعقد بهم الإمامة على مذاهب شتّى‏، قالت طائفة: أقلّ ما تنعقد به منهم خمسة، بشهادة أنّ بيعة أبي بكر انعقدت بخمسة وهم: عمر بن الخطاب، وأبو عبيدة الجرّاح، واسيد بن حضير، وبشير بن سعد، وسالم مولى أبي حذيفة. وقال آخرون: تنعقد بثلاثة، يتولّاها أحدهم برضا الاثنين، ليكونوا حاكماً وشاهدين، كما يصحّ عقد النكاح بولي وشاهدين. وقالت طائفة أُخرى: تنعقد بواحد، لأنّ العباس قال لعلي: امدد يدك أُبايعك، فيقول الناس عم رسول اللّه بايع ابن عمّه فلا يختلف عليك اثنان، ولأنّه حكم وحكم الواحد نافذ. ([60]).

و هناك أسئلة تطرح نفسها حول نظام الشورى وهي: من هم المشاركون في الشورى ومن هم أهل الحل والعقد؟ ومن يختارهم؟ وتبقی الأسئلة بدون جواب مقنع، وحتَّی أدلَّة القائلين بالشوری ليست بمقنعة ولايمکن التمسُّک بهاحيث لم يتمسَّک بها ولم يعمل بها حتَّی أصحابها ولم تتمَّ خلافة الخلفاء بالشورى  کما سيوافيک البحث والدليل([61]).

أدلة القائلين بنظام الشورى للخلافة:
إنّ القائلين بكون نظام الحكم بعد رحلة الرسول الأعظم (ص) و هو الشورى، استدلّوا  بالآيتين الواردتين حول الشورى، و بانّ خلافة الخلفاء تمّت بالشورى. فالآية الأُولى قوله تعالی‏: «فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ».([62]). انّ الآية خطاب للنبي (ص) وهوالحاكم الإسلامي وأنّ عليه المشورة أوّلًا وأخذ التصميم النهائي ثانياً، وأمّا أنّ الحاكم الإسلامي يتعيّن بالشورى، والّذي يؤكّد هذا المعنی أنّه يأمر النبيّ بعد المشاورة، بالتوكّل عند العزم، وأنّ له الرأي النهائي والأخير. وأمّا الآية الثانية: «وَ أَمْرُهُمْ شُورى‏ بَيْنَهُمْ» ([63])،  فهي تحثّ المؤمنين على المشورة في جميع الأُمور المرتبطة بهم، وأمّا أنّ أمر الخلافة والولاية، من الأُمور المرتبطة بهم فلا تظهر من الآية.ولا يصحُّ التمسّك بها في مثل هذا المقام المردّد بين كونه من أُمور المؤمنين أو ممّا يرجع إلى اللّه ونبيّه(ص) . وأمَّا الإستدلال بشرعية الشوری في إختيار الإمام والخليفة بکون الخلفاء بعد الرسول (ص) تمّ‏ إنتخابهم عن طريق الشوری هو إدعاء باطل بشهادة التاريخ کما سيوافيک:

خلافة الخلفاء لم تتمَّ بالشورى:
إنَّ من قرأ تاريخ السقيفة وانتخاب الخلفاء الثلاثة يقف على أنّه لم يكن هناك أي ‏مشورة ولا استشارة، وإنّما تمّت خلافة أبي بکر في أجواء الترهيب والترغيب في سقيفة بني ساعدة، ببيعة عدّة من المهاجرين، كعمر بن الخطاب وأبي عبيدة الجراح، وبيعة الأوسيين من الأنصار. والعجب أنَّه لم يستند أحد من المتواجدين في السقيفة إلى نظام الشورى‏، فادّعى‏ أبوبكر أنّ المهاجرين من أقوام النبيّ وعشيرته، واحتجّ الأنصار بأنّهم هم الذين آووا الرسول (ص)، ونصروه، وأمَّا خلافة عمر الخطاب فإنَّها تمّت بتنصيص من الخليفة الأوّل وانّه استبدّ بالأمر ولم يدع مجالاً للأُمّة ([64]).والإنسان عندما يقرأ هذه الصفحة من التاريخ، يقف على قيمة ما ذكره الإمام علي (ع)، عندما رفعوا السيف على رأسه ليبايع أبابكر، فقال لعمر: «إحلب يا عمر حلباً لك شطره، أُشدد له اليوم أمره، ليردّه عليك غداً، ألا واللّه لا أقبل قولك ولا أُبايع» ([65]). وقد تحقّق قول الإمام حيث ردّ عليه الأمر من بعد.

وهذا عمر بن الخطّاب، فبعدما جرح ودنا أجله عيَّن ستة أشخاص وهم: علي بن أبي طالب (ع)، وعثمان بن عفّان، وطلحة، والزبير العوّام، وسعد بن أبي وقّاص، وعبدالرحمن بن عوف، وفي الحقيقة كانت لعبة سياسية ولم تکن شوری سداسية وكان الهدف منها تسليم الخلافة إلى عثمان . وقد أفصح الامام أميرالمؤمنين (ع) بما يكنّه ضميره حول وصية الشورى، فقال في بعض حديثه :« فياللّه وللشورى، متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتّى صرت أُقرن إلى هذه النظائر! لكنّي أسففت إذ أسفّوا، وطرت إذ طاروا؛ فصغا رجل منهم لضغنه، ومال الآخر لصهره ...». ([66]).وبهذا تبيّن أنّ الشورى كانت نظرية بدون تطبيق، وقد بلغت فضاحة الأمر في السقيفة إلى حدّ يصفه عمر بقوله: كانت بيعة أبي بكر فلتة كفلتة الجاهلية وقى‏ اللّه المسلمين شرّها. أو قال: كانت بيعة أبي بكر فلتة فتمّت،  فمن بايع رجلًا من غير مشورة من المسلمين، فانّه لا بيعة له ([67]).

الهوامش:
([1])الأحقاف: 12.  ولمزيد من الإطلاع علی المعنی اللغوی والإصطلاحي للإمام راجع کتب اللغة و التفاسير وعلم الکلام في ذلک  .منها القاموس المحيط ،والمصباح المنير، ،  الكشاف للزمخشری،و الالفين للعلامة الحلي وغيرها من الکتب .
([2])الإسراء: 71.

([3])الأمثل 9: 67.
([4]) المواقف: 345، و قال فيه: «و نقض بالنبوة». و إنّ النقض غير وارد لأنَّ الوحي من مختصَّات النبوة. وفي  المصدر نفسه قال : «الإمامة خلافة الرسول في إقامة الدين، بحيث يجب اتّباعه على كافة الأمة» .
([5])الأنبياء: 73.  
([6])  السجدة: 24.

([7])البقرة: 124.
([8]) أصول الکافي1: 175ح2. و روي هذا المعنى بأسانيد أخرى عن الباقر و الصادق عليهما السّلام، و للعلامة الطباطبائي قدّس سرّه بحث روائي جميل و مفيد حول هذا الحديث، الميزان 1: 276.
([9]) البقرة: 124.
([10]) النساء: 54.
([11]) يوسف: 101.
([12]) البقرة: 251.
([13]) سورة ص: 35.
([14]) البقرة: 247.
([15]) البقرة :180.
([16]) الشعراء: 214.
([17])  مسند أحمد: 1: 111، تاريخ الطبري 2: 62 ، و غيرها من المصادر الفريقين.
([18]) صحيح البخاري 5: 24، باب فضائل أصحاب النبي (ع)، باب مناقب علي.
([19]) صحيح مسلم 6 :120، باب فضائل علي.
([20]) الغدير 1: 9، إنّ الوجه في تسمية حجة الوداع بالبلاغ هو نزول الآية 67 من سورة المائدة، كما أنّ الوجه في تسميتها بالتمام والكمال هو نزول الآية الثالثة من سورة المائدة.
([21]) سورة المائدة: الآية 67.
([22])  سَمُرات، جمع سمرة: شجرة الطلح.
([23])  الهيثمي في مجمع الزوائد 9: 106، وتاريخ آل زرارة لابن غالب الزراري 2: 84.
([24])  ثمار القلوب 511-636 رقم 1068، المستدرك للحاكم 3: 533.
([25]) الصواعق المحرقة : 43، وأخرجه ابن حجر من طريق الطبراني وغيره، وحكم بصحّته.
([26]) مسند أحمد 4: 372، وأخرجه أحمد أيضاً في مسنده من حديث البراء بن عازب من طريقين.
([27]) المستدرك 3: 109، وأخرجه الذهبي في تعليقته على المستدرك وصرّح بصحّة الحديث.
([28]) راجع العبقات للسيد مير حامد حسين (المتوفّى 1306 هـ)، والغدير للعلّامة الأميني (المتوفّى 1390 هـ).
([29]) الغدير 1: 370، وقد ذكر هناك ما يقرب من عشرين قرينة على ما هو المراد من الحديث.
([30]) بحارالأنوار21 : 388 ،باب 36، حجة الوداع ، عن الإرشاد للمفيد .
([31]) والقصيدة تربو على 66 بيتاً، نقل قسماً منها ابن أبي الحديد في شرحه: 10: 56 ونقلها برمّتها الأميني في الغدير 2: 115.
([32]) الإمامة والسياسة 1: 11.
([33]) نهج البلاغة: الخطبة 67.
([34]) نهج البلاغة: قسم الحكم، برقم 190.
([35]) الصواعق المحرقة: 75؛ المناقب للخوارزمي: 135 برقم 152.
([36]) نهج البلاغة: خ3، الخطبة الشقشقية،وفي الحقيقة ليست بخطبة وإنَّما هو حديث شجون مع ابن عباس.(اُنظر موسوعة التاريخ الإسلامي5: 306) وراجع شرح‏ نهج ‏البلاغة 6: 166. وبحارالأنوار29 :497 باب 15، باب شكاية أمير المؤمنين (ع).
([37])  المصدر السابق .
([38])  نهج البلاغة: الخطبة 5.
([39]) تاريخ الطبري 3: 450.
([40]) القصص: 83.
([41]) الكظّة: البِطْنَة (ما يعتري الآكل عند امتلائه بالطعام)،و السغب: شدة الجوع.
([42]) نهج البلاغة: الخطبة 3.
([43]) إشارة إلی الآية( 55)من سورة المائدة قوله تعالی: « إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذينَ آمَنُوا الَّذينَ يُقيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُون‏».
([44]) إشارة إلی الآية( 67)من سورة المائدة قوله تعالی:«يا أيّها الرَّسُولُ بَلغ ما اُنزل إليك من ربّك...».
([45]) إشارة إلی مؤآخاة النبي (ص) مع عليٍ(ع) في المدينة .
([46]) إشارة إلی الآية( 61)من سورة آل عمران قوله تعالی:  «فَمَنْ حَاجَّكَ فيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا...».
([47]) إنَّ علي بن أبي طالب (ع) لم يسجد لصنم قط، ولم يُشرِك بالله طرفة عين، ومن هنا اتفقت كلمة العلماء على احترام هذه الفضيلة وتقديسها له حين ذكره بقولهم: «علي كرم الله وجهه» . ، وكان أوَّل من آمن برسالته (ع) في السنة الأولى للبعثة كما شهدت بذلك المصادر التاريخية المعتبرة، راجع: سنن البيهقي 6: 206، تاريخ الطبري 2: 55 ، الكامل في التاريخ 2: 57، أسد الغابة 4: 16، تاريخ ابن خلدون 3: 715،  السيرة الحلبية 1: 432، مروج الذهب 2: 283، ، الإصابة في معرفة الصحابة 2: 507.
([48]) إشارة إلی الآية (207) من سورة البقرة: «وَمِنَ النّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللهِ». ومن مصادر الخبر في نزول الآية نزلت في علي(ع) ليلة المبيت على الفراش: أسد الغابة 4: 25، تاريخ اليعقوبي 2: 39،  شواهد التنزيل 1: 97،  المناقب للخوارزمي: 74، التفسير الكبير 5: 204، والجامع لأحكام القرآن 3: 31. شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 13: 262.
([49]) راجع سيرة ابن هشام 1: 245،تاريخ الطبري 3: 1171، مجمع البيان 7: 206، الغدير 3: 220- 240.
([50]) في حديث شجونه مع ابن عباس المعروف بالخطبته الشقشقية وليس بخطبة کما مرَّ.
([51]) للإطلا ع علی خبر شهادة أمير المؤمنين  بالتفصيل راجع المصادر التالية: شرح نهج البلاغة6: 115 وج20: 284،المناقب لإبن شهراشوب3: 310،وج4: 93،روضة الواعظين :132،وبحار الأنوار42: 275، الباب 127. وانظر موسوعة التاريخ الإسلامي 5: 411.
([52]) صحيح البخاري 9: 101، كتاب الأحكام، الباب 51 ،باب الاستخلاف .
([53]) صحيح مسلم 6: 3.
([54])  الصواعق: 189.
([55]) غاية المرام في علم الكلام: 363.
([56]) شرح المواقف 8: 344.
([57]) قد لخّص الماوردي مسؤوليات الإمام في عشرة، لاحظ الأحكام السلطانية: 15.
([58])  التمهيد للباقلاني: 181.
([59]) الأحكام السلطانية: 6 و شرح مقاصد الطالبيين في علم أُصول عقائد الدين: 272.
([60]) الأحكام السلطانية: 4.
([61]) راجع الخلافة والإمامة: 271.
([62]) آل عمران: 159.
([63])  الشورى‏: 38.
([64]) راجع الإمامة والسياسة: 18؛ الكامل في التاريخ 2: 425.
([65]) الإمامة والسياسة: 23؛ الكامل 3: 35.
([66]) نهج البلاغة: خ 3.
([67]) السيرة النبوية 2: 658 ، تاريخ الطبري 2: 446.

قراءة 5654 مرة