أتباع عبدالله بن اباض م 86
وصفت الاباضية في كلام غير واحد بأنّهم أقرب الناس إلى أهل السنّة (1) وأنّهم هم الفرقة المعتدلة من الخوارج، ولأجل هذا اُتيح لهم البقاء إلى يومنا هذا، فهم متفرّقون في عمان وزنجبار وشمال أفريقيا، فإذا كان البحث في سائر الفرق بحثاً في طوائف أبادهم الدهر وصاروا خبراً لِكانَ، فالبحث عن الاباضية بحث عن فرقة موجودة من الخوارج ويعتبر مذهبهم، المذهب الرسمي في عُمان.
الاباضية في كتب المقالات والتاريخ :
عبدالله بن اباض المقاعسي المرّي التميمي من بني مرّة بن عبيد بن مقاعس، رأس الاباضية وإليه نسبتهم، وقد عاصر معاوية وعاش إلى أواخر أيّام عبدالملك بن مروان، وكان ممّن خرج إلى مكّة لمنع حرم الله من مسلم بن عقبة المرّي(2) عامل يزيد بن معاوية.
اتّفق عبدالله بن اباض مع نافع و أصحابه على أن يسألا عبدالله بن الزبير عن رأيه في عثمان، لأنّ الخوارج يومذاك كانوا ملتفِّين حول عبدالله بن الزبير، فلمّا سألوه وجدوه، مخالفاً للعقيدة فتفرّقوا من حوله، وذهبت طائفة من الخوارج إلى اليمامة وعدّة اُخرى إلى البصرة، منهم ابن الأزرق وعبدالله بن اباض وعبدالله بن الصفار(3) .
ثمّ إنّ ابن الأزرق خرج على ثلاثمائة رجل عند وثوب الناس بعبيدالله بن زياد، وتخلّف عنه عبدالله بن صفّار وعبدالله بن اباض ورجال معهما على رأيه، وكتب إليهما ما ألقاه لأصحابه في خطابته وهو:
«إنّ الله قد أكرمكم بمخرجكم، وبصَّركم ما عمى عنه غيركم. ألستم تعلمون أنّكم إنّما خرجتم تطلبون شريعته وأمره، فأمره لكم قائد، والكتاب لكم إمام، وإنّما تتّبعون سننه و أثره؟ فقالوا: بلى، فقال: أليس حكمكم في وليّكم حكم النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في وليّه، وحكمكم في وعدوّكم حكم النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في عدوّه، عدوّكم اليوم عدوّالله وعدوّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ كما أنّ عدوّ النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ يومئذ هو عدوّ الله وعدوّكم اليوم؟ فقالوا: نعم، قال: فقد أنزل الله تبارك و تعالى:( بَراءَةٌ مِنَ اللهِ وِرَسُولِهِ اِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ المُشْرِكِينَ) وقال: (لا تَنْكِحُوا المُشْرِكاتِ حَتّى يُۆْمِنَّ) فقد حرّم الله ولايتهم، والمقام بين أظهرهم، واجازة شهادتهم، وأكل ذبائحهم، وقبول علم الدين عنهم، ومناكحتهم و مواريثهم. قد احتجّ الله علينا بمعرفة هذا، وحقّ علينا أن نعلم هذا الدين الذين خرجنا من عندهم، ولانكتم ما أنزل الله، والله عزّوجلّ يقول:( إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ البَيِّناتِ وِ الهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيِّنّاهُ لِلنّاسِ فِى الكِتابِ اُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاّعِنُونَ)( البقرة: 159) .
فبعث بالكتاب إلى عبدالله بن صفار وعبدالله بن اباض، فأتيا به، فقرأه عبدالله بن صفار، فأخذه، فوضعه خلفه فلم يقرأه على الناس خشية أن يتفرّقوا ويختلفوا، فقال له عبدالله بن اباض: مالك لله أبوك؟ أيّ شي أصبت؟ أن قد اُصيب اخواننا؟ أو اُسر بعضُهم؟ فدفع الكتاب إليه، فقرأه، فقال: قاتله الله، أيّ رأي رأى. صدق نافع بن الأزرق (لكن) لوكان القوم مشركين، كان أصوب الناس رأياً وحكماً فيما يشير به، وكانت سيرته كسيرة النبي ـ صلّى الله عليه وآله وسلم ـ في المشركين .
ولكنّه قد كذب وكذبنا فيما يقول: إنّ القوم كفّار بالنعم والأحكام، وهم براء من الشرك، ولايحلّ لنا إلاّ دماۆهم، وما سوى ذلك من أموالهم فهو علينا حرام (4) .
ثمّ إنّ المبرّد نقل كتاب ابن الأزرق إليهما بغير هذه الصورة، والنقلان متّفقان في المادة، وأضاف أنّ الكتاب ورد إلى أبي بيهس وعبدالله بن اباض، فأقبل أبوبيهس على ابن اباض فقال: إنّ نافعاً غلا فكفر وانّك قصّرت فكفرت (5).
هذا هو عبدالله بن اباض، وهذه زمالته مع نافع بن الأزرق وهذا فراقه له في مسألة تكفير المسلمين كفر ملّة ودين، وهذه اباحته دماء المسلمين (بعد اتمام الحجّة) ولأجل هذه المرونة بين الاباضية، يقول المبرّد: إنّ قول عبدالله بن اباض أقرب الأقاويل إلى أهل السنّة من أقاويل الضلال.
أوهام حول مۆسّس المذهب:
ثمّ إنّ هناك أوهاماً حول الرجل في كتب الفِرق والتواريخ:
1 ـ خرج ابن اباض في أيام مروان بن محمّد (6) وهذا وهم فقد مات قبل أيام مروان بأربعين عاماً.
2 ـ وقال الزبيدي: كان مبدأ ظهوره في خلافة مروان الحمار(7).
3 ـ وقال المقريزي: إنّه من غلاة المحكّمة وانّه خرج في أيام مروان، ثمّ قال: ويقال: إنّ نسبة الاباضية إلى اباض ـ بضم الهمزة ـ وهي قرية باليمامة نزل بها نجدة بن عامر(8) .
وكلا الأمرين يدلاّن على أنّه ظهر بين سنتي 127 ـ 132، أيام حكم مروان وهو لايتّفق مع ما عليه الاباضية على أنّ وفاته كانت في أيام عبدالملك بن مروان .
وقال الشهرستاني: عبدالله بن اباض الذي خرج في أيام مروان بن محمّد (9) .
ولعلّ وجه اشتباههم هو: وقوع فتنة الاباضية في أواخر حكومة مروان بن محمّد، وكان في رأس الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي طالب الحق وكان اباضياً.
قال ابن العماد: وفي سنة 130 كانت فتنة الاباضية وهم المنسوبون إلى عبدالله بن اباض. قال: مخالفونا من أهل القبلة كفّار، ومرتكب الكبيرة موحّد غير مۆمن، بناءً على أنّ الأعمال داخلة في الإيمان، وكفّروا عليّاً وأكثر الصحابة، وكان داعيتهم في هذه الفتنة عبدالله بن يحيى الجندي الكندي الحضرمي (طالب الحق)، وكانت لهم وقعة بقديد مع عبدالعزيز بن عبدالله بن عمرو بن عثمان فقتل عبدالعزيز ومن معه من أهل المدينة، فكانوا سبعمائة أكثرهم من قريش منهم: تخرمة بن سليمان الوالبي، روى عن عبدالله بن جعفر وجماعة، وبعدها سارت الخوارج إلى وادي القرى ولقيهم عبدالملك السعدي فقتلهم ولحق رئيسهم إلى مكّة فقتله أيضاً، ثمّ سار إلى تبالة ـ وراء مكّة بستّ مراحل ـ فقتل داعيتهم الكندي (10) .
ومن الأوهام ما ذكره ابن نشوان الحميري عن أبي القاسم البلخي المعتزلي: انّ عبدالله لم يمت حتى ترك قوله أجمع، ورجع إلى الاعتزال (11)، والرجل توفّي ولم يكن للاعتزال أي أثر، فإنّ رأس الاعتزال هو واصل بن عطاء الذي ولد عام 80 .
ثمّ إنّ الاباضية انقسمت إلى فرق خرجوا عن الاعتدال والمرونة ومالوا إلى التطرّف والشدّة، ولكن جمهور الاباضية على الاعتدال. يقول الأشعري:
وجمهور الاباضية يتولّى المحكّمة كلّها إلاّ من خرج، ويزعمون أنّ مخالفيهم من أهل الصلاة كفّار، وليسوا بمشركين، حلال مناكحتم وموارثتهم حلال غنيمة أموالهم من السلاح والكراع عند الحرب، حرام ماوارء ذلك، وحرام قتلهم وسبيهم في السر، إلاّ من دعا إلى الشرك في دار التقيّة ودان به، وزعموا أنّ الدار ـ يعنون دار مخالفيهم ـ دار توحيد إلاّ عسكر السلطان، فإنّه دار كفر ـ يعني عندهم ـ .
وحكي عنهم أنّهم أجازوا شهادة مخالفيهم على أوليائهم، وحرّموا الاستعراض إذا خرجوا، وحرّموا دماء مخالفيهم حتّى يدعوهم إلى دينهم، فبرأت الخوارج منهم على ذلك، وقالوا: إنّ كل طاعة إيمان ودين، وإنّ مرتكبي الكبائر موحّدون وليسوا بمۆمنين(12).
وقريب من ذلك ما ذكره البغدادي في كتابه، يقول: افترقت الاباضية فيما بينها فرقاً يجمعها القول بأنّ كفّار هذه الاُمّة ـ يعنون بذلك مخالفيهم من هذه الاُمّة ـ براء من الشرك والإيمان، وانّهم ليسوا مۆمنين ولا مشركين ولكنّهم كفّار، وأجازوا شهادتهم وحرّموا دماءهم في السرّ واستحلّوها في العلانية، وصحّحوا مناكحتهم، والتوارث منهم، وزعموا أنّهم في ذلك محاربون لله ولرسوله، لايدينون دين الحق، وقالوا باستحلال بعض أموالهم دون بعض، والذي استحلّوه الخيل والسلاح، فأمّا الذهب والفضة فإنّهم يردّونهما إلى أصحابهما عند الغنيمة .
ثمّ افترقت الاباضية فيما بينهم أربع فرق: الحفصية، والحارثية، واليزيدية، وأصحاب طاعة لايراد الله بها.
ثم قال: واليزيدية، منهم غلاة لقولهم بنسخ شريعة الإسلام في آخر الزمان (13) .
ولأجل تصريح عبدالله بن اباض بأنّ المراد من الكفر هو الكفر بالنعم لا محيص عن تفسير الكفر فيما نقله البغدادي عنه بالكفر بالنعم، نعم بعض الفرق منهم خرجوا عن الاعتدال وحكموا بكفر المسلمين كفراً حقيقياً .
هذا ما يقوله أصحاب المقالات عنهم ولكنّهم في كتبهم المنتشرة في السنوات الأخيرة يقولون خلاف ذلك، وانّهم لا يختلفون مع جماهير المسلمين إلاّ في مسألة التحكيم، وأمّا ما سواه فهم وغيرهم سواسية، وينكرون وجود هذه الفرق التي نسبها إليهم الأشعري ثم البغدادي (14) . ولأجل ذلك يجب دراسة مذهبهم من كتبهم .
بحوث في الملل والنحل لأية الله الشيخ جعفر السبحاني ، ج5
المصادر:
1. المبرّد: الكامل 2/214 .
2. الطبري: التاريخ 4/438 .
3. الطبري: التاريخ 4/438 .
4. الطبري: التاريخ 4/438 ـ 440 .
5. المبرّد: الكامل 2/213 ـ 214 وقد مرّ ـ كتاب ابن الأزرق ـ إليهما عند البحث عن البيهسية، فلاحظ.
6. نقله خير الدين الزركلي في الاعلام 4/184، عن هامش الأغاني: 330 من المجلد السابع .
7. الزبيدي: تاج العروس، مادة ابض .
8. المقريزي: الخطط 2/355 .
9. الشهرستاني: الملل و النحل 1/134 .
10. ابن عماد الحنبلي: شذرات الذهب 1/177 .
11. ابن نشوان الحميري: الحور العين 173 .
12. الأشعري: مقالات الإسلاميين 104 ـ 105 .
13. البغدادي: الفَرق بين الفِرق: 103، ثمّ ذكر عقائد فرق الاباضية تبعاً للشيخ الأشعري في المقالات 102 ـ 111، ومن أراد التفصيل فليرجع إليهما.
14. الاباضية بين الفرق الإسلامية 1/21 ـ 28 .