جواب:
نهج البلاغة هو كتاب ألّف من طرف أحد العلماء الشيعة واسمه السيّد الرضيّ (المتوفّى سنة 406 هـ ق) اعتماداً على الروايات التي وصلته عن الإمام علي عليه السلام. وقد كان الهدف من تأليف هذا الكتاب ـ بحسب ما يذكره السيّد الرضي بنفسه في مقدّمة نهج البلاغة وكما يظهر من اسم الكتاب ـ هو جمع نبذة من الكلمات الفصيحة والبليغة للإمام علي عليه السلام.
وقد حظي هذا الكتاب منذ تدوينه إلى الآن بأعلى درجة من الإقبال ـ بعد القرآن الكريم ـ من طرف العلماء الشيعة والسنّة، بل وحتّى من غير المسلمين، بحيث أنّ الآلاف من الكتب ألّفت في شرحه أو التعليق عليه أو ذكر أسانيده أو ترجمته أو بيان قسم من مسائله أو ... .
ومن الجدير بالذكر أنّه على الرغم من عدم تعرّض السيّد الرضي إلى ذكر أسانيد الخطب والرسائل الواردة في نهج البلاغة، إلاّ أنّ هذا لا يعني افتقاد خُطب ورسائل وكلمات الإمام علي عليه السلام للسند؛ إذ تمّ التطرّق إليه في كتب أخرى. ومن هنا، فقد بذل الباحثون في المسائل المرتبطة بنهج البلاغة جهوداً علميّة قيّمة في مجال مصادر نهج البلاغة، وعرضوها في قالب مجموعة من الكتب، نستعرض جملةً منها فيما يلي:
1. استناد نهج البلاغه (أسانيد نهج البلاغة)، تأليف امتياز علي خان عرشي؛
2. أسناد ومدارک نهج البلاغة، تأليف محمد الدشتي؛
3. مصادر نهج البلاغة وأسانيده، تأليف السيّد عبد الزهراء الحسيني؛
4. مدارک نهج البلاغة ودفع الشبهات عنه، هادي کاشف الغطاء.
وكمثال على هذا الأمر، فإنّ الخطبة الثالثة من نهج البلاغة (المعروفة بالخطبة الشقشقيّة والأكثر عُرضة من الجميع للاتّهام بالوضع) قد نُقلت بواسطة الشيخ الصدوق (المتوفّى سنة 381) في كتابيه علل الشرائع (1) ومعاني الأخبار (2) بشكل مُسند. كما يذكر العلاّمة الأميني في كتاب الغدير أنّ بعض رواة هذه الخُطبة كانوا يعيشون في عصرٍ لم يكن السيّد الرضي قد وُلد فيه بعد (3)، فكيف يُمكن إذن للسيّد الرضي أن يُحرّف ما تمّ نقله قبل ولادته بسنوات مديدة؟!
فمع وجود كلّ هذه المصادر والمراجع، لا مجال للشكّ والارتياب في استناد المطالب الواردة في نهج البلاغة إلى الإمام علي عليه السلام، هذا فضلاً عن أنّ مضمون العديد من الخطب والرسائل والحكم يشهد بفصاحته وبلاغته العالية على صدورها عن أمير المؤمنين علي عليه السلام، كما يذكر ابن أبي الحديد المعتزلي ـ الذي يُعدّ من شرّاح لنهج البلاغةـ :
«... لأنّ كثيراً من أرباب الهوى يقولون إنّ كثيراً من نهج البلاغة كلامٌ مُحدث صنعه قوم من فصحاء الشيعة، وربّما عزوا بعضه إلى الرضيّ أبي الحسن وغيره؛ وهؤلاء قومٌ أعمت العصبيّة أعينَهم، فضلّوا عن النهج الواضح... ». (4)
ولكي يبيّن خطأهم في الاستدلال، فإنّه يعقّب على ذلك قائلاً:
«لا يخلو إمّا أن يكون كلّ نهج البلاغة مصنوعاً منحولاً أو بعضه، والأوّل باطل بالضرورة؛ لأنّا نعلم بالتواتر صحّة إسناد بعضه إلى أمير المؤمنين عليه السلام، وقد نقل المحدّثون كلّهم أو جلّهم والمؤرّخون كثيراً منه، وليسوا من الشيعة لينسبوا إلى غرض في ذلك. والثاني يدلّ على ما قلناه؛ لأنّ من قد أنس بالكلام والخطابة وشدا طرفاً من علم البيان وصار له ذوق في هذا الباب لا بدّ أن يفرّق بين الكلام الركيك والفصيح، وبين الفصيح والأفصح، وبين الأصيل والمولّد، وإذا وقف على كرّاس واحد يتضمّن كلاماً لجماعة من الخطباء أو لاثنين منهم فقط، فلابدّ أن يُفرّق بين الكلامين ويُميّز بين الطريقتين؛ ألا ترى أنّا مع معرفتنا بالشعر ونقده، لو تصفّحنا ديوان أبي تمّام، فوجدناه قد كتب في أثنائه قصائد أو قصيدة واحدة لغيره، لعرفنا بالذوق مباينتها لشعر أبي تمّام ونفسه وطريقته ومذهبه في القريض. ألا ترى أنّ العلماء بهذا الشأن حذفوا من شعره قصائد كثيرة منحولة إليه لمباينتها لمذهبه في الشعر، وكذلك حذفوا من شعر أبي نواس شيئاً كثيراً لمّا ظهر لهم أنّه ليس من ألفاظه ولا من شعره، وكذلك غيرهما من الشعراء، ولم يعتمدوا في ذلك إلاّ على الذوق خاصّة.
وأنت إذا تأمّلت نهج البلاغة وجدته كلّه ماءً واحداً ونفساً واحداً وأسلوباً واحدا كالجسم البسيط الذي ليس بعض من أبعاضه مخالفاً لباقي الأبعاض في الماهية». (5)
الهوامش:
1. الشيخ الصدوق (المتوفّى سنة 381)، علل الشرائع، قمّ، مکتبة الداوري، 1385 ش، ج 1، ص 150.
2. الشيخ الطوسي (المتوفّى سنة 460)، الأمالي، قمّ، دار الثقافة، 1414، ص 372.
3. العلاّمة الأميني، الغدير فى الكتاب والسنّة والأدب، قمّ، مركز الغدير للدراسات الإسلاميّة، 1416 ق، ج 7، ص 109.
4. ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، قمّ، مكتبة آية الله المرعشي النجفي، 1404 ق، ج 10، ص 127.
5. نفس المصدر، ص 128.