إنّ القرآن قد يسند الفعل إلى العبد واختياره، فيقول: ﴿فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾.
والآيات بهذا المعنى كثيرة، فيدلّ على أن العبد مختار في عمله. وقد يسند الاختيار في الأفعال إلى الله تعالى، فيقول: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللهُ﴾.
فزعموا أنه يدلّ على أنّ العبد مجبور في فعله. وقالوا: هذا تناقض واضح، والتأويل في الآيات خلاف الظاهر، وقول بغير دليل.
الجواب:
إنّ كلّ إنسان يدرك بفطرته أنه قادر على جملة من الأفعال، فيمكنه أن يفعلها وأن يتركها، وهذا الحكم فطري لا يشك فيه أحد إلا أن تعتريه شبهة من خارج. وقد أطبق العقلاء كافة على ذم فاعل القبيح، ومدح فاعل الحسن، وهذا برهان على أن الانسان مختار في فعله، غير مجبور عليه عند إصداره. وكلّ عاقل يرى أن حركته على الأرض عند مشيه عليها، تغاير حركته عند سقوطه من شاهق إلى الأرض، فيرى أنه مختار في الحركة الأولى، وأنه مجبور على الحركة الثانية. وكلّ إنسان عاقل يدرك بفطرته أنّه وإن كان مختاراً في بعض الأفعال حين يصدرها وحين يتركها، إلا أنّ أكثر مبادئ ذلك الفعل خارجة عن دائرة اختياره، فإن من جملة مبادئ صدور الفعل نفس وجود الإنسان وحياته، وإدراكه للفعل، وشوقه إليه، وملاءمة ذلك الفعل لقوة من قواه، وقدرته على إيجاده، ومن البيّن أنّ هذا النوع من المبادئ خارج عن دائرة اختيار الإنسان، وأن موجد هذه الأشياء في الإنسان هو موجد الإنسان نفسه.
وقد ثبت في محله أنَّ خالق هذه الأشياء في الإنسان لم ينعزل عن خلقه بعد الإيجاد، وأن بقاء الأشياء واستمرارها في الوجود محتاج إلى المؤثّر في كلّ آن، وليس مثل خالق الأشياء معها، كالبنّاء يقيم الجدار بصنعه، ثم يستغني الجدار عن بانيه، ويستمرّ وجوده وإن فني صانعه، أو كمثل الكاتب يحتاج إليه الكتاب في حدوثه، ثم يستغني عنه في مرحلة بقائه واستمراره، بل مثل خالق الأشياء معها، ولله المثل الأعلى، كتأثير القوّة الكهربائية في الضّوء. فإنّ الضوء لا يوجد إلا حين تمدّه القوّة بتيارها، ولايزال يفتقر في بقاء وجوده إلى مدد هذه القوّة في كلّ حين، فإذا انفصل سلكه عن مصدر القوّة في حين، انعدم الضّوء في ذلك الحين كأن لم يكن. وهكذا تستمدّ الأشياء وجميع الكائنات وجودها من مبدعها الأوّل في كل وقت من أوقات حدوثها وبقائها، وهي مفتقرة إلى مدده في كلّ حين، ومتصلة برحمته الواسعة التي وسعت كلّ شيء. وعلى ذلك، ففعل العبد وسط بين الجبر والتّفويض، وله حظّ من كلّ منهما. فإن إعمال قدرته في الفعل أو الترك وإن كان باختياره، إلا أنّ هذه القدرة وسائر المبادئ حين الفعل تفاض من الله، فالفعل مستند إلى العبد من جهة، والى الله من جهة أخرى. والآيات القرآنية المباركة ناظرة إلى هذا المعنى، وأنّ اختيار العبد في فعله لا يمنع من نفوذ قدرة الله وسلطانه.
ولنذكر مثلاً تقريبياً يتّضح به للقارئ حقيقة الأمر بين الأمرين الذي قالت به الشيعة الإمامية، وصرحت به أئمّتها، وأشار إليه الكتاب العزيز.
لنفرض إنساناً كانت يده شلّاء لا يستطيع تحريكها بنفسه، وقد استطاع الطبيب أن يوجد فيها حركة إرادية وقتية بواسطة قوّة الكهرباء، بحيث أصبح الرجل يستطيع تحريك يده بنفسه متى وصلها الطبيب بسلك الكهرباء، وإذا انفصلت عن مصدر القوّة، لم يمكنه تحريكها أصلاً، فإذا وصل الطبيب هذه اليد المريضة بالسلك للتجربة مثلاً، وابتدأ ذلك الرجل المريض بتحريك يده، ومباشرة الأعمال بها ـ والطبيب يمدّه بالقوَّة في كل آن ـ فلا شبهة في أنّ تحريك الرجل ليده في هذه الحال من الأمر بين الأمرين، فلا يستند إلى الرّجل مستقلاً، لأنه موقوف على إيصال القوّة إلى يده، وقد فرضنا أنها بفعل الطبيب، ولا يستند إلى الطبيب مستقلاً، لأنّ التحريك قد أصدره الرّجل بإرادته، فالفاعل لم يجبر على فعله لأنَّه مريد، ولم يفوّض إليه الفعل بجميع مبادئه، لأن المدد من غيره، والأفعال الصادرة عن الفاعلين المختارين كلّها من هذا النّوع. فالفعل صادر بمشيئة العبد، ولا يشاء العبد شيئاً إلا بمشيئة الله. والآيات القرآنية كلّها تشير إلى هذا الغرض، فهي تبطل الجبر ـ الّذي يقول به أكثر العامّة ـ لأنها تثبت الاختيار، وتبطل التفويض المحض ـ الّذي يقول به بعضهم ـ لأنها تسند الفعل إلى الله. وسنتعرّض إن شاء الله تعالى للبحث تفصيلاً، ولإبطال هذين القولين حين تتعرّض الآيات لذلك.
وهذا الذي ذكرناه مأخوذ عن إرشادات أهل البيت (عليهم السلام) وعلومهم، وهم الذين أذهب الله عنهم الرِّجس وطهَّرهم تطهيراً. وإليك بعض ما ورد منهم: سأل رجل الصادق فقال: قلت: أجبر الله العباد على المعاصي؟ قال: لا. قلت: ففوَّض إليهم الأمر؟ قال: قال: لا. قال: قلت: فماذا؟ قال: لطف من ربّك بين ذلك.
وفي رواية أخرى عنه: "لا جبر ولا قدر، ولكن منزلة بينهما". وفي كتب الحديث للإماميّة جملة من هذه الروايات.
المرجع السيّد أبو القاسم الخوئي (قدس سره)، "البيان في تفسير القرآن".