يقول تعالى عن الدنيا: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾[1]، وإنّ من عظيم الأسف أن يظلّ الكثيرون منّا في غفلة وتعامٍ عن ذلك، وقد قال الخالق تبارك وتعالى: ﴿وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾[2].
قال النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "كُنْ في الدنيا كأنّك غريب أو عابر سبيل"[3]، يوجّهنا الذي ما ينطق عن الهوى صلى الله عليه وآله وسلم بهذا الحديث الشريف إلى أنّ المؤمن لا ينبغي له أن يتّخذ الدنيا داراً يطمئنّ فيها لأنّها دار هدنة أي: "دار بلاغ وانقطاع"، ونحن على ظهر سفر والسير بنا سريع، وقد رأينا الليل والنهار والشمس والقمر يبليان كلّ جديد، ويُقرّبان كلّ بعيد، ويأتيان بكلّ موعود، فالواجب إعداد الجهاز لبُعد المجاز، وقد اتفقت على ذلك وصايا أنبياء الله تعالى وأوصيائهم، وقال تعالى حاكياً نداء مؤمن آل فرعون: ﴿يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ﴾[4].
لقد نام سيّد ولد آدم صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم على حصير، فقام وقد أثّر في جنبه، فقالوا: يا رسول الله، لو اتخذنا لك وطاءً؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "ما لي وللدُّنيا، ما أنا في الدنيا إلاّ كراكبٍ استظلّ تحت شجرة ثمَّ راحَ وتركها"[5].
وخاطب مولانا الإمام علي بن الحسين عليهما السلام أصحابه قائلاً: "إخواني أوصيكم بدار الآخرة ولا أوصيكم بدار الدنيا، فإنّكم عليها حريصون، وبها متمسّكون، أما بلغكم ما قال عيسى ابن مريم عليهما السلام للحواريّين. قال لهم: الدنيا قنطرة، فاعبروها ولا تعمروها، وقال: أيّكم يبني على موج البحر داراً تلكم الدار الدنيا، فلا تتّخذوها قراراً"[6].
واجعل الموت نصب عينيك
أرشدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قائلاً: "أكثروا من ذكر هادم اللذّات، فقيل: يا رسول اللّه، وما هادم اللذّات؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الموت، فإنّ أكيس المؤمنين أكثرهم ذكراً للموت، وأحسنهم للموت استعداداً"[7].
وقال الإمام أمير المؤمنين علي عليه السلام: "من صوّر الموت بين عينيه هان أمر الدّنيا عليه"[8]، وقال عليه السلام: "اتّقوا باطل الأمل، فربّ مستقبل يوم ليس بمستدبره، ومغبوط في أول ليلهِ قامت بواكيه في آخره"[9].
والواقع أنّ أصحاب العقول لا يُمكن أن يغترّوا بطول الآمال، وهم يرون في كلّ يوم وفي كلّ صباح وفي كلّ مساء أجناس الناس الذين ينتقلون إلى الدار الآخرة، ممّن هم أقوى منهم أبداناً وأكثر أموالاً كلّ هؤلاء يُدفنون جميعاً يُشيّعون ليُدفنوا في المقابر، وكلّنا صائرون إلى ذلك المصير، وقد قال مولانا أمير المؤمنين علي عليه السلام: "من أيقن أنّه يُفارق الأحباب، ويسكن التراب ويواجه الحساب، ويستغني عمّا خلف، ويفتقر إلى ما قَدّم، كان حريّاً بقصر الأمل وطول العمل"[10].
إنّ المسلم إذا استحضر الموت وجعله نصب عينيه اجتهد في الطاعة، ونشط في العبادة، ومن يفعل ذلك أُكرم بتعجيل التوبة، وقناعة القلب، وأمّا أهل الغفلة الذين نسوا الموت وذكره، فحالهم لم يعد خافياً على أكثر عباد الله، لأنّ جُلّ أحوالهم أصبحت تُرى وتُشاهد، وأهل النظر السليم يرون كيف قد عوقب الذين نسوا الموت بتسويف التوبة، وعدم الرضا بالكفاف، والتكاسل في العبادة.
طلائع القلوب، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية
[1] سورة الحديد، الآية 20.
[2] سورة الأنعام، الآية 32.
[3] الشيخ الطوسي، الأمالي، ص 381، المجلس الثالث عشر.
[4] سورة غافر، الآية 39.
[5] محمد بن عيسى الترمذي، الجامع الصحيح، ج 4 ص 508، حديث 2377، باب 44، طبعة دار الفكر.
[6] الشيخ المفيد أبو عبد الله محمَّد بن محمَّد بن النعمان العكبري، الأمالي، ص 43، المجلس السادس، طبعة 1: قم .
[7] ابن الأشعث محمد بن محمد، الجعفريات، ص 199، باب ذكر الموت، ط 1، مكتبة نينوى الحديثة، طهران.
[8] الآمدي، غرر الحكم و درر الكلم، ص625.
[9] م.ن، الفصل السابع "الأماني"، رقم: 7231.
[10] محمد بن علي الكراجكي، كنز الفوائد، ج 1، ص 351، طبعة 1: دار الذخائر، قم.