ورد في وصية الإمام الباقر عليه السلام: "وَاسْتَبْقِ خَالِصَ الأَعْمَالِ لِيَوْمِ الْجَزَاء". ذكرنا أنّ شكر العلم يكون بالعمل به. لكن لا بدّ من إنجاز هذا العمل بحيث يكون مفيداً يوم القيامة. ولعلّ في كلمة "استبق" إشارةً إلى أنّ بعض أعمال الخير تُنجَز بشكل صحيح في حينها لكنّها تبطل فيما بعد. ومن هنا يقول عزّ من قائل في كتابه العزيز: ﴿لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأذَى﴾[1]، فقد يُنجز العمل الصالح في وقت معيّن لكنّه يبطل بعمل آخر بعد حين. فهناك من العوامل ما يُبطل أعمال عمر بأكمله في لحظة واحدة، كالارتداد مثلاً.
إذن فعندما نهمّ بالقيام بفعل خير فإنّه لا بدّ:
أوّلاً: أن نعلم هل كان هذا العمل عملاً صالحاً، وأن نقوم به بالكيفيّة التي تُرضي الله عزّ وجلّ.
ثانياً: أن تكون نيّاتنا سليمة خالصة من الشوائب.
ثالثاً: أن نحذر لئلّا نأتي بفعل يُبطل ذلك العمل"[2].
قال الله تعالى ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾[3]، وقال: ﴿أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾[4]. وقال تعالى: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ﴾[5].
ومعنى الإخلاصُ أن تكونَ نيّتك فيما تقوم به لله، لا تريد غيرَ الله، لا سمعةً ولا رياء ولا رِفعةً عند أحدٍ، ولا تزلّفًا، ولا تتقّرب من الناس مدحًا، ولا تخشى منهم قَدحًا، والله سبحانه غنيّ حميد، لا يرضى أن يشرِك العبد معه غيرَه، فإن أبى العبد إلا ذلك ردّ الله عليه عملَه وحمله عواقب ذلك، وقد قال الله سبحانه في آخر سورة الكهف: موجّهاً أهل الإيمان للعمل الخالص: ﴿فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾[6]، ﴿عَمَلًا صَالِحًا﴾ أي: صوابًا يتابع فيه النبي، ﴿وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا﴾ أي: عليه أن يخلص لله عزّ وجلّ، ولا يبتغي إلا وجهه.
فالعمل إذا كان لله فهو مقبولٌ، وصاحبه مأجورٌ عليه، وإن كان لغير الله فهو مردودٌ على صاحبه، ويكون عليه وزرًا، وإن الله ليجازي الصادقين بمجرّد نياتهم الصادقة، حتى ولو لم يوفّقوا إلى العمل، والله جل جلاله متّصِف بالحمد والكرم، وإذا أحسنَ العبد القصدَ ولم تتهيّأ له أسباب العمل فإنّه يؤجَر على تلك النية وإن لم يعمل، كرَمًا من الله وفضلاً، بل إن همّ بعملٍ صالح يؤجَر عليه العبد وإن تخلَّف العمل، روى الإمام الصادق عليه السلام قال: "إن المؤمن لَيَهمّ بالحسنة ولا يعمل بها فتكتب له حسنة، وإن هو عملها كتبت له عشر حسنات، وإن المؤمن ليهم بالسيئة أن يعملها فلا يعملها فلا تكتب عليه"[7].
وقالت سيدة نساء العالمين أم أبيها فاطمة الزهراء عليها السلام: "وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له كلمة جعل الإخلاص تأويلها، وضمن القلوب موصولها، وأنار في التفكر معقولها"[8]، وقد بينت مولاتنا الطهر البتول عليها السلام بكلمتها هذه أن مرجع ومآل الشهادة بـ (لا إله إلا الله) هو الإخلاص، وقد جعله الله تعالى تأويلاً لهذه الكلمة التي هي مفتاح دار السلام، وأس هذا الدين العظيم، لذلك قال أمير المؤمنين عليه السلام: "وكلمة الإخلاص، فإنّها الفطرة"[9].
والإخلاص لله تعالى ـ إضافة لآثاره الأخروية ـ من أكبر عوامل التقدّم والنهوض بالأمة واستنقاذها من واقعها المر، فإنّ المخلص يُضحّي بوقته وصحّته وماله ونفسه لخدمة الإسلام والمسلمين، أما غير المخلص فتراه يُضحّي بمصالح الدين والأمة لأجل أن يعيش أياماً معدودات… وقد ورد عن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلّم: "وأمّا علامة المخلص فأربعة: يسلم قلبه وتسلم جوارحه، وبذل خيره، وكفّ شرّه"[10]. وعن أمير المؤمنين عليه السلام: "سادة أهل الجنة المخلصون"[11]. وورد عنه عليه السلام: "الزم الإخلاص في السر والعلانية والخشية في الغيب والشهادة والقصد في الفقر والغنى والعدل في الرضا والسخط"[12].
وقال عليه السلام: "الإخلاص غاية الدين"[13] وقال سلام الله عليه: "الإخلاص أعلى الإيمان"[14]، وجاء فيما يقوله المسلم المحب في زيارته عليه السلام: "السلام على الإمام التقي المخلص الصفي"[15].
جعلنا الله وإياكم من المهتدين بهدي سيد الأنام المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وسلّم وآله المعصومين الكريم، ومن المقتفين آثارهم والسالكين منهاجهم، والآخذين بحجزتهم، والماكثين في ظلّهم، إنه أرحم الراحمين وما ذلك عليه بعزيز، وصلى الله على محمد وآله الطاهرين.
[1] سورة البقرة، الآية 264.
[2] من محاضرة لسماحة آية الله مصباح اليزديّ (دامت بركاته) ألقاها بتاريخ 10 آب 2011م
[3] سورة البينة، الآية 5.
[4] سورة الزمر، الآية 3.
[5] سورة النساء، الآية 146.
[6] سورة الكهف، الآية 110.
[7] الحر العاملي، وسائل الشيعة، ج1، ص51.
[8] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج 29، ص221.
[9] م.ن، ج74، ص290.
[10] م.ن، ج1، ص121.
[11] الليثي الواسطي، عيون الحكم والمواعظ، ص284..
[12] م.ن، ص81.
[13] م.ن، ص19.
[14] م.ن، ص51.
[15] العلامة المجلسي، بحار الأنوار، ج97، ص 375.