
emamian
اللبنانيون بين مطرقة الأزمة الاقتصاديّة وسندان كورونا.. إلى متى يستمر العجز الحكوميّ؟
مع استمرار حظر التجول في لبنان بسبب الإجراءات الاحترازيّة في ظل انتشار فيروس كورونا المستجد، عادت الاحتجاجات الشعبيّة إلى الشارع اللبنانيّ، اعتراضاً على تمديد قرار الإغلاق العام الذي أعلنته الحكومة حتى 8 شباط القادم، ورغم وعود الحكومة بتعويض العاملين المياومين ودعم العائلات الأكثر فقراً بمخصصات ماليّة، شهدت 3 مدن رئيسة تحركات احتجاجيّة رفضا للتدهور الاقتصاديّ والمعيشيّ في لبنان.
غضب شعبيّ
بسبب الغضب الشعبيّ العارم إزاء الأوضاع المعيشيّة الصعبة في ظل الإغلاق، انطلقت الاحتجاجات الشعبيّة الأكبر في مدينة طرابلس شمالي البلاد، قبل أن تمتد إلى معظم المناطق اللبنانيّة، بدءاً من صيدا جنوبا التي أقدم المحتجون فيها على إغلاق دوار "إيليا" وسط المدينة تضامناً مع طرابلس واحتجاجاً على ما وصفوها "سياسات التجويع" الحكوميّة، وليس انتهاء بالعاصمة بيروت، حيث خرج عدد من المتظاهرين بمظاهرة وسط المدينة، رفعوا خلالها شعارات تُحمّل الطبقة السياسيّة مسؤولية الانهيار الاقتصاديّ.
وفي هذا الصدد، شهدت مناطق لبنانيّة كثيرة قطعاً للطرق الرئيسة، بينها شتورة وتعلبايا، وسعدنايل والمرج في منطقة البقاع، وطريق المنية الدوليّ شمالاً، وفي منطقة الجية، وبرجا، على الأوتوستراد الساحليّ جنوباً، فيما قطع محتجون جسر الرينغ وطريق الصيفي في بيروت، إضافة إلى ذلك شهدت الاحتجاجات قطع طرقات في منطقة كورنيش المزرعة وعلى جسر سليم سلام والدورة، احتجاجاً على الأوضاع المعيشيّة الصعبة وتضامناً مع مدينة طرابلس والموقوفين فيها، وأقدم المتظاهرون اللبنانيون على قطع طريق "جسر الرينغ" الحيويّ في العاصمة لنحو نصف ساعة، قبل أن يعاد فتحه وسط حضور مكثف لعناصر قوى الأمن الداخلي، ولم تسفر الاحتجاجات الغاضبة عن وقوع أيّ مواجهات حادة، لكن الشرطة استخدمت قنابل الغاز المسيل للدموع، في حين قام بعض المحتجين برشقهم بالحجارة.
ومنذ أيام على إعلان الحكومة اللبنانيّة تمديد الإغلاق الكامل، ضمن تدابير مواجهة كورونا، والتي تتضمن إغلاق المؤسسات والمحلات التجاريّة، ضج الشارع اللبنانيّ الذي يعيش أزمة اقتصاديّة خانقة، وقام محتجون برشق مكثف للحجارة على مبنى سرايا طرابلس الحكوميّ، احتجاجاً على الإقفال العام ومحاضر الضبط التي تنظم بحق المخالفين، والأزمة الاقتصاديّة الخانقة ما أدى إلى تضرر عدد من السيارات.
يشار إلى أنّ أزمة فيروس كورونا زادت طين الأزمة الاقتصاديّة بلة في البلاد، التي يمر بأسوأ أزمة اقتصادية منذ انتهاء الحرب الأهليّة بين عامي 1975 و 1990، ما أفرز تراجعاً غير مسبوق في قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار ودمر قدرتها الشرائيّة، في ظل الوضع الاقتصاديّ المأساويّ الذي يعيشه معظم المواطنين اللبنانيين.
قرار حكوميّ
جاء القرار الحكوميّ اللبنانيّ، للتخفيف من آثار فيروس كورونا، لكنه انعكس سلباً على هذا الموضوع، الذي فجر التحركات الشعبيّة للبنانيين الذين يعيشون التزاماً لا بأس به من ناحية الإغلاق العام المفروض من قبل السلطات، بسبب الانتشار الكثيف لكورونا وبلوغ القدرة الاستيعابيّة للمستشفيات حدها الأقصى، وإنّ الاحتجاجات خرجت من طرابلس مدينة التجار والمياومين، التي تعتبر من أكثر مدن لبنان فقراً، وفق مواقع إخباريّة.
وأقدم المحتجون الغاضبون بقطع طرق رئيسية في عاصمة الشمال بالإطارات المشتعلة والعوائق، في حين جابت المظاهرات أحياء عدة من المدينة بينها القبة وساحة عبد الحميد كرامي، مطلقة شعارات تندد بالإقفال العام والسياسات الحكوميّة التي لم تعوض عليهم أو تقدم لهم أيّ مساعدات خلال الأيام والأشهر الماضيّة التي شهدت إغلاقاً عاماً.
وفي هذا الخصوص، استقدم الجيش والقوى الأمنيّة اللبنانيّة، تعزيزات إضافية، وقد تعرض عدد من المحتجين للاعتقال في حين تم تفريق الباقين بالقوة، الأمر الذي رفع من حدة التوتر في طرابلس، حيث استمرت التظاهرات حتى ساعات متأخرة بعدما أعلن المحتجون بقاءهم في الشارع إلى حين النظر في أوضاعهم الاقتصاديّة المزرية.
من ناحية أخرى، أعلن الصليب الأحمر اللبنانيّ، أنّ 6 فرق إسعافيّة قامت بمهمة إسعاف الجرحى في ساحة النور وعمدت إلى نقل 12 منهم لمستشفيات المنطقة إضافة إلى إسعاف 29 حالة في موقع الاحتجاجات، فيما أشارت الوكالة الوطنيّة للإعلام إلى سقوط عدد من الجرحى في صفوف القوى الأمنيّة من حرس السرايا وقوات مكافحة الشغب.
وتأتي تلك التطورات، بعد 10 أيام من الإقفال التام سجل خلاله الأهالي التزاماً بالقوانين، وانتظروا على أساسه تعويضات وعدت بها الحكومة اللبنانيّة للعائلات الأكثر فقراً لكنها لم تنفذ على أرض الواقع، وهذا ما جعل الأمور تتجه إلى التصعيد، إضافة إلى أنّ الحالة المعيشيّة وصلت إلى وضع مأساويّ غير قابل للتحمل بالنسبة للمواطنين بمختلف مجالاتهم وخاصة أصحاب المحال التجاريّة أو بسطات بيع الألبسة أو سائقين عموميين أو أصحاب الأفران وغيرهم، إضافة إلى عدد هائل من الشبان العاطلين عن العمل.
ويؤكّد المحتجون أنّ الدولة كانت على علم مُسبق بالظرف الشعبيّ في المدينة خلال الأيام الماضية، وهددوا السلطات بخرق الإقفال العام وقوانين حظر التجول، كما صدرت تقارير أمنيّة متعلقة بالمزاج السائد هناك، ومع ذلك لم يتحرك أحد لضبط الوضع أو تهدئة الناس عبر إرشادهم لحقوقهم أو تعويضهم عليها، بل آثر المسؤولون على الصمت المعتاد تجاه المدينة وأهلها إلى أن انفلت الشارع، بحسب مصادر إعلاميّة.
ختاماً، لا يبدو أنّ الأمور في لبنان متجهة نحو الأفضل، زخاصة في ظل الأزمة الاقتصاديّة الخانقة وانتشار كورونا، ما يعني مزيداً من التصعيد والتظاهرات في الشارع اللبنانيّ الذي يعيش الأمرين نتيجة لذلك، في ظل شلل حكوميّ عن انقاذ لبنان من المشكلات الاقتصاديّة الكبيرة وعجز المسؤولين عن مساعدة الشعب الذي لم يعد يهمه انتشار الفيروس ومخاطره أكثر من كونهم يموتون جوعاً، وبرأيهم فإنّ هذا المرض لن يكون أسوأ من معاناتهم بسبب الإهمال الرسميّ، والتدخلات الأجنبيّة، وخاصة السعودية منها، حيث إنّ الرياض تشكل حجر الزاوية في فشل تشكيل الحكومة اللبنانيّة.
الحجّ ودوره المهم في حياة الإنسان
عندما نريد استعراض بعض معطيات الحجّ إلى بيت الله الحرام ينبغي لنا أن ننظر إليه كمجموعة كاملة أوّلاً، ثمّ نلاحط المعطيات التفصيلية لكلّ منسك منس
النظرة العامّة...
ويمكننا أن نذكر ـ هنا ـ أهم هذه المعطيات بصورة نقاط هي:
1 ـ تعميق الارتباط بالله: بالتركيز على ذكر الله المتواصل في أيّام الحجّ... فهي الأيّام التي يردد الحاج فيها كثيراً ذكر الله، ويحس بالرابطة بينه وبين الله إحساساً عميقاً. وهذا الترديد المركز سوف يترك أثره على حياة الحاجّ العامّة ليرتبط في كلّ آن بالله تعالى يلهج بذكره، ويستشعر عظمته عند كلّ عمل يقوم به.
2 ـ الشعور بالعمل في سبيل الله: فالإنسان الحاجّ في أيّام الحجّ متفرغ لهذه الناحية... قد أسلم نفسه وحياته بكلّ لحظاتها لله تعالى يأمره فيأتمر، وينهاه فينتهي، كلّ لحظة من هذه الأيّام تُصرف في سبيل الله وقُربة إليه. فهو إذن يتدرّب على أن يصوغ حياته كلّها وفق هدى الله وأوامره، ويبتعد عن كلّ ما يصرفه عن العمل في سبيل الله. قال الصادق (ع): «إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك لله عزّوجلّ ـ من قبل عزمك ـ من كلّ شاغل وحجاب حاجب، وفوض أُمورك كلّها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة»[1]، بمثل هذا التجريد القلبي والتسليم يدخل الحاج أيّام الحجّ، وبمثله يخرج ليستقبل الحياة.
ولهذا فإنّ للحجّ إشعاعاً على عمل الإنسان بعد الحجّ، ففي المحاسن عن عبدالله الحجال رفعه قال: «لا يزال على الحاجّ نور الحجّ ما لم يذنب»[2]. وقد وصف الحجّ بأنّه فرار إلى الله. فعن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات/50) قال: «حجّوا إلى اللهِ»[3].
3 ـ التضحية في سبيل الله: إذ أنّ الحجّ غالباً ما يرافقه بذل الجهد الكبير خصوصاً إذ كان الحاجّ يقصده من أماكن بعيدة، ولكنّ الحاجّ يبذل هذه الجهود مربياً نفسه على أساس أنّ في هذا البذل ربحاً لأنّه بذل «في طريق الجنّة» على حد تعبير الرواية[4]، وهذا البذل سيترك أثره بلاريب على نفس الحاجّ ليسترخص الجهد في كلّ مجال يريد الله أن يكون فيه الإنسان العامل حتى ولو تطلب ذلك الجهد الكبير. فعن الإمام الصادق (ع): «مَن اتّخذ محملاً للحجّ كان كمن ارتبط فرساً في سبيل الله».
4 ـ الغفران والتوبة: فإنّ الحجّ فرصة كبرى للعفو، وجوّ مفعم بطلب التوبة والاستغفار والرجوع إلى الصراط المستقيم.
وقد رُوِي في ثواب الأعمال عن ابن حازم قال: «قلت لأبي عبدالله (ع) ما يصنع الله بالحاجّ؟ قال: مغفور والله لهم لا أستثني فيه». وعن الصادق (ع): «في سؤال موسى (ع) جبرئيل (ع) ما لمن حجّ البيت بنيّة صادقة ونفقة طيِّبة؟ قال: فرجع إلى الله عزّوجلّ فأوحى إليه: قل له أجعله في الرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحُسن أُولئك رفيقاً».
وفي الرواية عن النبيّ (ص) قال رسول الله (ص): «للحاجّ والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إمّا يُقال له: قد غفر لك ما مضى، وإمّا أن يُقال له: قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل، وإمّا أن يُقال له: قد حُفِظتَ في أهلك وولدك وهي أخسّهن».
وواضح ما لجوّ التوبة من تأثير على رسوخها في النفس والتزام النفس بمقتضياتها.
5 ـ تمثّل التاريخ الإسلامي المشرق: حيث يعيش الحاجّ منطلق الدعوة الإسلامية للدول، ويمر بخطواتها وأحداثها الكبرى لتبقى مرتسمة في أعماقه تشده إليها وتدفعه لاستعادة أمجادها وبطولاتها وحمل أمانتها في كلّ عصر.
6 ـ الشعور بعظمة الإسلام: إنّ مَن يعيش عملية الحجّ يدرك حساً الدور العالمي العظيم الذي يستطيع الإسلام القيام به فيتأصل في نفسه الشعور بعظمة الإسلام. ويمكننا أن نقول إنّ هذا هو ما يشير إليه وصف الحجّ بأنّه (عِلم الإسلام) حيث يقول أمير المؤمنين (ع): «وجعلَهُ سبحانه وتعالى للإسلام عِلماً».
7 ـ الشعور بالوحدة والأُخوّة مع الحجّاج الذين لا تجمعهم لغة واحدة ولا تقاليد ولا حدود ولا مستوى ولا لون، وإنّما تجمعهم العقيدة. هذا يركّز الوحدة العقائدية التي يجب أن يحمل لواءها كلّ مسلم. منطلق واحد لكلّ الحجّاج، ومسير واحد، وهدف واحد هو التضحية في سبيل الله تعالى.
8 ـ الفرصة المغتنمة: فالحجّ أكبر فرصة تُتاح كي تلتقي فيها كلّ أجنحة العالم الإسلامي؛ فتتقارب مستوياتها الثقافية، ويتعرّف كلّ جناح على مشاكل الأجنحة الأُخرى، وتعقد المحادثات والمداولات بينهم، فالحجّ أكبر مؤتمر إسلامي عام.
كما أنّ الحجّ فرصة مغتنمة جدّاً لتوعية المسلمين على إسلامهم ونُظمه وقوانينه وفضح شبهات أعدائه ومخططاتهم العامّة.
وهكذا نجد بعد هذا أنّ الحجّ:
دورة تدريبية كبرى للبشرية لتدريبها على العمل بأوامر الله، والتخلق بأخلاقه، والتصديق بكلمته، والسير على منهج أنبيائه، وإحراز الأرباح في متجر عبادته.
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة، ص 45: «وفَرَضَ عليكم حَجَّ بيتِهِ الحَرَامِ، الذي جعلَهُ قِبلَةً للأنامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الأنعامِ، ويأْلهُونَ إليه وُلُوهَ الحَمَامِ. جعلَهُ سبحانهُ علامةً لتواضُعِهم لعظمتِهِ، وإذعَانِهم لعزَّتِهِ.
واختارَ من خَلقِهِ سُمّاعاً أجابُوا إليه دعوتَهُ، وصَدَّقُوا كلمتَهُ، ووَقفُوا مواقِفَ أنبيائِهِ، وتَشَبَّهُوا بملائكتِهِ المُطيفين بعرشِهِ، يُحرِزُونَ الأرباحَ في مَتجَرِ عبادتِهِ، ويتبادرون عنده موعِدَ مغفرتِهِ. - جعلَهُ سبحانه للإسلامِ عَلَماً، وللعائذين حَرَماً. فَرَضَ حَجَّهُ، وأوجَبَ حقَّهُ، وكَتَبَ عليكم وِفَادَتَهُ، فقال سبحانه: (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97)».
وتتميز هذه الدورة التدريبية الكبرى بميزات فريدة، فهي:
أوّلاً ـ دورة عالمية تشترك فيها كلّ الشعوب.
ثانياً ـ تتناول أهم القضايا في حياة الإنسان وسيرته الحضارية فتركزها.
ثالثاً ـ دورة يقوم بها الناس بإرادتهم واختيارهم بأداء شعائر خُطِّطَ لها تخطيطاً دقيقاً.
رابعاً ـ تشترك في إنجاحها الدوافع النفسية والذكريات التاريخية المتمثّلة بالأمكنة المقدّسة، والزمان المقدّس لأنّها تقع في الشهر الحرام.
وما أن يتم الناس القيام بشؤون هذه الدورة حتى يعلن العيد... عيد الانتصار على كلّ نوازع الظلم، والفوز بكلّ محقّقات الكمال.
والأمر الملاحظ بوضوح في الأعياد الإسلامية أنّها تأتي بعد دورة، إمّا تربوية كعيدي الفطر والأضحى أو حياتية كبرى كعيد الغدير؛ لتؤكد الفرحة البشرية الصحيحة بالانتصار على الشهوات والشيطان، وبقطع مرحلة مهمّة من الحياد وبدء مرحلة أُخرى منها تشكّل تطوّراً لها لتثير مشاعر المسلمين جميعاً للاتصال الدائم المجموعي بالله، وذلك لما فيها من تشريع للصلوات الواجبة والمستحبة وما إلى ذلك من موحيات.
النظرة التفصيلية:
أمّا إذا القينا على الحجّ نظرة تفصيلية تتناول واجباته ومحرماته وشرائطه فيمكننا أن نسير معه عموماً على النحو التالي:
1 ـ الإحرام:
روايات في الإحرام:
روى الكليني بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال: «أحرم موسى من رملة مصر، قال: ومر بصفائح الروحاء محرماً يقود ناقة بخطام من ليف عليه عباءتان قطوانيتان، يلبي وتجبيه الجبال»[5] وروى الصدوق إنّه وجب الإحرام لعلة الحرم.
وفي العلل وعيون الأخبار عن الرضا (ع) قال: «وإنّما أُمروا بالإحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم الله وأمنه، ولئلّا يلهوا ويشتغلوا بشيء من أُمور الدنيا وزينتها ولذّاتها، ويكونوا جادين فيما هم فيه قاصدين نحوه مقبلين عليه بكلّيتهم، مع ما فيه من التعظيم لله عزّوجلّ ولبيته، والتذليل لأنفُسهم عند قصدهم إلى الله عزّوجلّ، ووفادتهم إليه راجين ثوابه راهبين من عقابه، ماضين نحوه، مقبلين إليه بالذلّ والاستكانة والخضوع».
على ضوء من هذه الروايات الشريفة وغيرها وبملاحظة روح العملية وشرائعها ومستحباتها يمكن القول بأنّ الإحرام يوحي:
أ ـ بالإخلاص لله تعالى والخشوع له غاية الخشوع، ورفض كلّ المطلقات الوهمية، ونزع كلّ هوى بها تماماً كما ينزع الإنسان ملابسه، وغسل النفس عن كلّ دنس معنوي، كما يغتسل الإنسان للإحرام والتلبس بالحسنات والصالحات كما يلبس الإنسان ثوبي الإحرام الطاهرين، كلّ هذا يجري باختيار الإنسان وتدريباً له على أن يكون كذلك في كلّ حالات حياته.
ب ـ بالرجوع إلى الفطرة ورفض المقاييس الوهمية التي تفصل بين أبناء الإنسانية. ويبدو ذلك بوضوح عندما يلبس الجميع ثوبين بهيأة واحدة فتتمثّل لهم حقيقة التساوي بين الأفراد من الوجهة المادّية ويبدأ التسابق في المجال المعنوي، ويتأكد هذا عندما نلاحظ اشتراط أن لا يكون اللباس مخيطاً، وأن لا تلبس المرأة الزينة.
ج ـ بتذكّر حالات الموقف العظيم يوم القيامة حيث يخرج الناس إلى الله (وَبَرَزُوا لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (إبراهيم/ 48) وهذا ما يوحي له شبه الثوبين بالكفن.
د ـ بالشعور بعظمة النِّعمة التي أنعم الله بها على الإنسانية بتعريفها بالواقع الذي يمثّله هذا الحرم المقدّس، فتقديس الحرم لما يمثّله من واقع.
لعلّه بكلّ هذا وغيره كان الإحرام سُنّة كبرى يفعلها الأنبياء فتزيده خشوعاً وخضوعاً في محراب الله تعالى.
2 ـ التلبية:
بعض الروايات فيها:
روى الكليني بإسناده عن الحلبي قال ـ سألته لِمَ جعلت التلبية؟ فقال: «إنّ الله عزّوجلّ أوحى إلى إبراهيم أنّ: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). فنادى فأُجيب من كلّ وجه يلبّون»[6].
وروى بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (ع) قال: «التلبية لبيك اللّهُمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك ذا المعارج، لبيك ـ وقال في آخره ـ واعلم أنّه لابدّ من التلبيات الأربع في أوّل الكلام وهي الفريضة، وهي التوحيد وبها لبّى المرسلون»[7]
وروى الصدوق عن سليمان بن جعفر قال: «سألت أبا الحسن (ع) عن التلبية وعلتها، فقال: إنّ الناس إذا أحرموا ناداهم الله تعالى ذِكره، فقال: يا عبادي وإمائي لأُحرّمنكم على النّار كما أحرمتم لي، فقولهم لبيك اللّهُمّ لبيك إجابة لله عزّوجلّ على ندائه لهم»[8].
ورُوِي عن عاصم بن حميد قال: سمعت أبا عبدالله يقول: «إنّ رسول الله (ص) لمّا انتهى إلى البيداء حيث الميل قربت له ناقة فركبها، فلمّا انبعثت به لبّى بالأربع... ثمّ قال: هاهنا يخسف بالأخابث»[9].
ورُوِي عن الإمام الباقر (ع) قال: «قال أمير المؤمنين (ع) ما من مهلّ يهلّ بالتلبية إلّا أهلّ من عن يمينه من شيء إلى مقطع التراب، ومن عن يساره إلى مقطع التراب، وقال له المَلَكان: أبشر يا عبد الله وما يبشّرُ الله عبداً إلّا بالجنّة»[10].
ورُوِي عنه (ع) قال: قال رسول الله (ص): «ما من حاجّ يضحي ملبياً حتى تزول الشمس إلّا غابت ذنوبه معها».
وأكثر الروايات تؤكّد أنّ التلبية تعبّر عن استجابة بشرية كبرى لنداء تاريخي عظيم طلب من إبراهيم شيخ الموحدين أن يعلنه في الأرض، وأُعطي وعداً بأن يستجيب له المؤمنون.
إنّ المسلم إذ يلبي ليشعر:
أ ـ بأنّه أهل لأن يكون في عداد أُولئك الذين أجابوا دعوة إبراهيم (ع) التاريخية، ممّا يبعثه لأن ينظر لارتباطه بالإسلام كمهمّة كبرى أُلقيت تاريخياً على عاتق هده الأُمّة، وعليها أن تحمل هذه الأمانة بجدارة.
ب ـ بأنّه يرتبط بحركة التوحيد الخالص الذي ينزّه الله تعالى عن كلّ سخافات أهل الكتاب، وكلّ مفتريات المشركين بكلّ ما يعنيه هذا الارتباط من تحكيم التوحيد في كلّ شؤون الحياة.
ج ـ بأنّ عليه أن يستجيب لكلّ نداء إصلاحي حقيقي (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزّمر/ 18) فيلبي قبل كلّ شيء نداء الإسلام للعمل الصالح، ثم يتَّبع سبيل المؤمنين والقادة.
د ـ بأنّه ـ وهو يلبي ـ ينسجم مع الكون كلّه الذي يلبي معه نداء الله (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصّلت/ 11).
ومن هنا تركّز الروايات أنّ الجبال وما حواليه تردد تكبيره، وأنّه إذا انفصل عن مسيرة التلبية في قول أو عمل؛ فقد أصبح نشازاً في بناء الكون. ويتأكد هذا المعنى عندما تتردّد أصداء تلبية الحجيج في البيداء.
هـ ـ بأنّه سيغفر له فيعود طاهراً من الذنوب، ولذا فعليه أن يُحاذر من تفويت فرصة الطهارة هذه.
3 ـ محرمات الإحرام:
قال تعالى: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) (المائدة/ 94)، وقال تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة/ 197).
بعض الروايات في هذا الصدد:
عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية الكريمة المتقدمة: «حشرَ عليهم الصيد من كلّ وجه حتى دنا منهم ليبلون به»[11].
وعن الإمام الصادق (ع) قال: «إنّ المحرم إذا تزوج وهو محرم فرق بينهما، ثمّ لا يتعاودان أبداً»[12].
وعن الإمام الباقر (ع): «لا ينبغي للمحرم أن يأكل شيئاً فيه زعفران، ولا يطعم شيئاً من الطيب»[13]. وعن الصادق (ع) في هذا الصدد «اتقِ المفاخرة، وعليك بورع يحجزك عن معاصي الله»[14].
والملاحظ: في هذه المحرمات أنّها تزيد على المحرمات الاعتيادية من جهة وتركّز التنفر من تلك المحرمات الاعتيادية من جهة أُخرى.
وباستقرائنا لبعض مشاعر المسلم وما يتركه هذا التحريم في نفسه نلاحظ:
1 ـ التربية الأصيلة لعنصر مراقبة النفس: فبعد أن يدخل الإنسان المسلم في جوّ الإحرام يحسّ بأنّه صار تحت حماية الله ومراقبته الأشد، أو أنّه قد دخل دورة تدريبية خاصّة عليه فيها أن يتنبه ويكون واعياً لئلّا يقوم بعمل من هذه الأعمال المحرّمة ـ وبعضها أمر يعتاده ويعيش معه في أوقاته العادية ـ فيُطلب إليه أن لا يقتل هوام البدن، وأن لا يشم الطيب، وأن لا ينظر في المرآة، وأن لا يتدهن، وأن لا يلمس المرأة، وأن لا يقطع شعرة من بدنه، وهكذا باقي المحرمات الأُخرى. وكلّ هذا يحتاج إلى مراقبة دقيقة تبقى ذكراها مذكرة النفس بلزوم الدقة والوعي في كلّ سلوك يسلكه الحاج بعد ذلك.
2 ـ التربية الأصيلة لعنصر الإرادة: وهنا يحرم الجنس والصيد ـ وهو في متناول الأيدي ـ لتمتحن إرادتهم في مقدار استجابتها لأوامر الله عزّوجلّ، وسيطرتها على النوازع والغرائز، وليشعروا مع ذلك بعظمة نِعم الله عزّوجلّ فيشكروه شُكراً يتناسب مع ما رسمه لهم.
وتبدو ـ أكثر ما تبدو ـ هذه التربية للإرادة في تحريم لمس المرأة فضلاً عن تحريم الجماع، وكذلك تحريم العقد عليها، وكذلك تبدو واضحة في مسألة كشف الرأس وعدم التظليل بشيء وتحمل ذلك في سبيل الله، إذ له معطيات إرادية كبرى في الإنسان.
3 ـ الزُّهد: بالمتع الدنيوية والشعور بالتحرّر من ربقتها خصوصاً إذا كان الإنسان في سبيل تحقيق أوامر الله تعالى.
4 ـ التدريب العملي على الكلام الحسن والمنطقية في الحديث وتعظيم وجه الله تعالى وحُرماته... والموضوعية. وهو جانب مهم جدّاً. فمع أنّ الكذب شيء حرام في الحالات الاعتيادية، والجدال وغيره أمر مرفوض عموماً، إلّا أنّه هنا يتأكد رفض هذه الأُمور مع جعل أنواع من الجزاء عليها للتأكيد على لزوم نفيها من حياة المسلم. هذا إلى جانب الحِكم الخاصّة في كلّ محرم.
4 ـ الطواف بالبيت:
قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة/ 125)، وقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) (آل عمران/ 96).
بعض الروايات في ذلك:
1 ـ الكليني بإسناده إلى معاوية بن عمار عن الصادق (ع): «إذا دخلت المسجد الحرام فادخله حافياً على السكينة والوقار والخشوع، وقال: مَن دخله بخشوع غفر الله له إن شاء الله. قلت ما الخشوع؟ قال السكينة، لا تدخل بتكبر، فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، بسم الله وبالله ومن الله، وما شاء الله والسلام على أنبياء الله ورُسُله، والسلام على رسول الله (ص) والسلام على إبراهيم خليل الله والحمد لله ربّ العالمين)، فإذا دخلت المسجد فارفع يديك واستقبل البيت وقل: (اللّهمّ إنّي أسألك في مقامي هذا في أوّل مناسكي أن تقبل توبتي وأن تتجاوز عن خطيئتي، وتضع عني وزري، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام، اللّهُمّ إنّي أشهد أنّ هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابة للناس وأمناً ومباركاً وهدى للعالمين، اللّهُمّ إنّي عبدك، والبلد بلدك، والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك، مطيعاً لأمرك، راضياً بقدرك، أسألك مسألة المضطر إليك، الخائف لعقوبتك، اللّهُمّ افتح لي أبواب رحمتك واستعملني بطاعتك ومرضاتك)»[15].
2 ـ يظهر من بعض الروايات إنّ جبرئيل هو أوّل مَن بنى البيت، وأنّ الملائكة هي أوّل مَن طاف بالبيت. وهكذا كان الطواف حوله سُنّة الأنبياء وأوّلهم آدم (ع) لكن المعمر الأساسي بعد ذلك كان هو ابراهيم وابنه إسماعيل، وفي رواية أُخرى إنّ الملائكة بُنِي لها بيت في السماء يُسمّى الضراح بأزاء العرش فهي تطوف به، وإنّ هذا البيت بناه آدم بأزاء ذلك[16].
3 ـ وعن الرضا (ع) ـ في علة الطواف ـ إنّ الله تعالى قال للملائكة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة/ 30)، «فرَدّوا على الله فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا، فأحب الله أن يتعبّد العباد بمثل ذلك»[17].
4 ـ وعن أبي جعفر (ع): «إذا دخلت المسجد الحرام وحاذيت الحجر الأسود فقل: (أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، آمنت بالله وكفرت بالطاغوت وباللات والعزى، وبعبادة الشيطان، وبعبادة كل نِدٍّ يُدعى من دون الله). ثمّ ادنُ من الحجر واستلمه بيمينك، ثمّ قل: (بسم الله وبالله والله أكبر، اللّهُمّ أمانتي أديتها، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة)»[18].
5ـ وعلّل الإمام الصادق (عليه السلام) وضع الحجر في الركن الذي هو فيه قائلاً: «لعلة الميثاق»... وأمّا القبلة والاستلام فلعلة العهد تجديداً لذلك العهد والميثاق[19].
وبمراجعة الروايات الواردة في الطواف، وكذلك المشاعر التي يشعر بها الحاجّ الواعي نجد أنّ الطواف واستسلام الحجر يمثِّلان أرقى حالات:
أ ـ التسامي الإنساني وذلك لأنّ من الواضح أنّ الملائكة في التصوّر الإسلامي يمثِّلون الموجودات الطاهرة تماماً، العابدة تماماً. والإنسان الطائف يشعر ـ وهو يطوف ـ بأنّه يقلّد الملائكة الطائفين حول (الضراح) وهو البيت الذي يقوم في السماء بإزاء هذا البيت أو حول (العرش) وهو مطاف الكون كلّه. فما أروع إكرام الله للإنسان، وما أروع شعور الإنسان بهذه الكرامة الإلهيّة. خصوصاً وإنّ بعض الروايات تؤكّد أنّ مسألة طواف الملائكة جاء بعد سؤالها الذي ذكره القرآن (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) (البقرة/ 30) ثمّ ندمها، فطوافها حول العرش استغفار.
ب ـ التعلُّق بعالم الغيب: تبعاً لذلك التسامي وتأكيداً لنزع الإنسان من التعلُّق بالمادّة لا غير إلى التعلُّق بعالم الغيب عن طريق موجود محسوس جعل رمزاً لعالم الغيب، ومحلاً للاتصال بينه وبين عالم الشهادة، وإنّ من الواضح أنّ الإيمان بالغيب يشكّل أحد أهم مقومات الشخصية المسلمة (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) (البقرة/ 3).
ج ـ الغفران المؤكّد: وهذه الحالة الفريدة التي يوجدها الطواف أمر لا يمكن أن يُوصف، بل هو حالة نفسية يدركها مَن يعيشها... موقف خاشع كلّ الخشوع تظلله الرحمة الإلهيّة والعناية الخاصّة، ثمّ ميثاق يمنحه الإنسان للحجر الأسود تلك القطعة التي نزلت من الجنّة فتجسّدت أمام الإنسان تذكره بفطرته وبالميثاق الذي أعطاه بها لله بالإيمان والتسليم... فبالاستلام والتقبيل يتأكد العهد ويتجدّد كما يُعبِّر الإمام (ع). إنّ كلّ عناصر الموقف تشترك في تركيز التوبة وتعميقها خصوصاً إذا تصوّر الحاجّ أنّه يسلك صراط الملائكة في توبتها وإنابتها إلى الله.
د ـ الاتباع لسُنّة الأنبياء: وإذا قيل سُنّة الأنبياء فلا يعني ذلك إلّا الأسلوب الوحيد الذي وضعه الله لتكامل الإنسان، وهذا الاتّباع الحسي والشعوري لابدّ وأن يركّز الاتباع الحياتي بمجموع ما في الحياة من نشاط، ويتم تركيز هذا الشعور عند الطائف بأُمور: منها شعوره وهو يطوف حول الكعبة بأنّه يطأ موطئ الأنبياء جميعاً والأئمّة والصالحين عبر التاريخ... يضع قدماً حيث وضعوا، ويتّجه حيث اتجهوا، ومنها الأدعية التي يستحب له قراءتها آنذاك وقبله حيث استحبّ له التسليم على النبيّ (ص) قبل كلّ شيء، ثمّ التسليم على جميع الأنبياء مع التركيز على سلام خاص بإبراهيم (ع) رمز الحنيفية الصافية، التي لم تلوثها مبتدعات اليهود والنصارى. ومنها هذا المقام الذي يصلي عنده ركعتي الطواف، وحجر إسماعيل الذي يدخله بعد، فيصلّي ويدعو وغير ذلك.
هـ ـ تركيز التوحيد وتعظيمه باعتبار البيت الواحد رمزاً لله الواحد القهار، وباعتبار أنّ الأرض كلّها مكلّفة بالطواف حول هذا المركز الواحد الذي خصّه الله بذلك ليعمّق الإيمان الخالص به تعالى، ويبدو هذا واضحاً من خلال ما يدعو به الطائف عند الطواف من أدعية.
و ـ العمل الجاد في سبيل نشر أضواء الإسلام على العالم: وذلك يمكن أن يستفاد من الروايات التي تجعل الكعبة منار الإسلام وعلمه. فالطائف حول الكعبة جندي يطوف حول العلم ويتمسك به ويعمل على رفعته وتقدّمه، كما يظهر من الروايات التي تشبه الطائفين بالملائكة المطيفين بعرش الله، ومن ملاحظة وجه الشبه وهو كون العرش محور حركة الكون، والكعبة محور حركة الأرض ينطلق المسلم ليحقّق هذا المعنى في الأرض، فينزل أمله في جعل الكعبة محور حركة الأرض إلى واقع التطبيق.
ويرى محمّد أسد (ليو بولد فايس) المستشرق النمساوي المعروف في كتابه (في الطريق إلى مكّة) أنّ الكعبة هي رمز الوحدة الإلهيّة، وإنّ حركة الحاجّ هي التعبير الرمزي عن نشاط الإنسان. وهنا تنسجم المشاعر مع الألفاظ حيث يدعو الطائف (اللّهُمّ افتح لي أبواب رحمتك، واستعملني بطاعتك).
5 ـ السعي بين الصفا والمروة: قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 158). وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «ما من بقعة أحبّ إلى الله من السعي لأنّه يذلّ فيها كلّ جبّار».
وهناك رواية في (العلل) تربط السعي بسعي أُمّ إسماعيل بين الصفا والمروة لجلب الماء لإسماعيل. وأُخرى تربطه بسعي إبراهيم لطرد إبليس. ومن المناسب التذكير بأنّ الجبلين كانا موضعين لبعض الأصنام وقد تأثم البعض من السعي لذلك فنزلت (فَلا جُنَاحَ).
وروى بعض الأصحاب أنّه قال: «كنت في ظهر أبي الحسن موسى (ع) على الصفا والمروة وهو لا يزيد على حرفين: اللّهُمّ إنّي أسألك حُسن الظنّ بك على كلّ حال، وصِدق النيّة في التوكل عليك».
وإذا لاحظنا هذا تأكد في أنفُسنا أنّ السعي بين الصفا والمروة يعني فيما يعني:
أ ـ ذلة الجبارين، ونزع صفة التجبر والتكبر عن الإنسان لأنّهما رداء الله ولا يمكن أن يلبسهما غيره، وبهذا تفيض كلّ معاني الاستسلام لله الجبار استسلاماً كاملاً. فيصحو الإنسان على واقعه، ويتجاوز كلّ الخيالات الباطلة التي تدور في ذهنه نتيجة للترسبات الجاهلية الخداعة. وما أروع أن نجد المتحكمين يُطلب منهم أن يسعوا، بل ويرملوا في بعض المواضع مكشوفي الرأس لابسين بردي الإحرام فقط ليشعروا حساً بعدم الفرق بينهم وبين غيرهم وبأنّهم عبيد خاضعون له تعالى.
ب ـ السعي ضمن حدود الله: وهذا المعنى يتوجه إليه الحاجّ بوضوح، فيدرك أنّ الفعالية والنشاط، ورفض الكسل والجمود والخمول، والتوكل على الله أمر أصيل في الإسلام؛ ولكن على أن يكون ذلك السعي ضمن الحدود التي وضعها الله على ضوء من المصالح البشرية التي هو أعلم بها.
ج ـ الارتباط اكثر فأكثر بتلك العائلة المقدّسة، عائلة إبراهيم (ع) التي شكّلت حلقة الوصل الحسي بينه وبين النبيّ الأكرم (ص) والذي يؤكّد التلاحم الهدفي بينهما.
فالسعي بين الصفا والمروة تقليد واعٍ لسعي بينهما قامت به هاجر لتجد الماء لابنها إسماعيل جد النبيّ (ص)، فهو شعور بآلام هذه العائلة وآمالها، وهو تحرك لتحركها ووقوف لوقوفها. وكأنّ الجميع عائلة واحدة أبوها إبراهيم (ع) (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج/ 78) وهي الأُمّة التي دعا لها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان قواعد الكعبة. يقول تعالى في ذلك: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَاً وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (البقرة/ 125-129).
فيستجيب الله هذا الدعاء ويبعث النبيّ الأكرم (ص) ويقول تعالى في القرآن الكريم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة/ 2).
والملاحظ في كلّ هذه الآيات أنّها تطوف حول محور أصيل، وهو التسليم لله تعالى. ولذا تحمّلت هذه العائلة كلّ المشاق تسليماً لله، فكلّ مسلم عاش حياة السلم كان من ضمن هذه العائلة المقدّسة الموحّدة... عائلة خليل الله.
6 ـ الوقوف بعرفة والمزدلفة: قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة/ 198).
1 ـ ورد أنّه يوم دعاء ومسألة[20].
2 ـ وجاء عنهم (ع) أنّه «وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم فان الشيطان لن يذهلك في موطن قط أحب إليه من أن يذهلك في ذلك الموطن، واياك ان تشتغل بالنظر إلى الناس، وأقبل قِبَلَ نفسك»[21].
3 ـ وتواترت الأخبار في أدعية عرفة ومنها رواية دعاء الحسين (ع) يوم عرفة.
4 ـ وجاء في خبر عن النبيّ (ص) أنّ علة إيجاب الوقوف بعرفات بعد الظهر، والانصراف بعد المغرب، هي كون الوقت الأوّل يناسب وقت عصيان آدم والآخر وقت التوبة عليه[22].
5 ـ وعن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (ع) قال: «أصبح على طهر بعد ما تصلي الفجر فقف إن شئت قريباً من الجبل، وإن شئت حيث شئت، فإذا وقفت فاحمد الله عزّوجلّ، وأثن عليه، واذكر من آلائه وبلائه ما قدرت عليه، وصلّ على النبيّ (ص) ثمّ ليكن من قولك: (اللّهُمّ ربّ المشعر الحرام فك رقبتي من النار، وأوسع عليَّ من رزقك الحلال)»[23].
إلى ما هناك من الأخبار الكثيرة في هذا الصدد. وإذا أردنا أن نتحدّث عن بعض المشاعر التي يشعر بها الحاجّ في هذا الموقف الجليل استطعنا أن نذكر منها ما يلي:
أ ـ فرصة الدُّعاء: فقد رأينا بعض الأخبار التي تؤكّد على الدُّعاء، كما أنّ الروايات الواردة فيما يقرأ آنذاك كثيرة، وكلّها جاءت تشبع رغبة الإنسان في الدُّعاء والتضرع في هذا الموقف الرائع. ولن نحاول هنا التعرّض إلى دور الدُّعاء في حياة الإنسان، وإنّما نشير إليه باعتباره عاملاً مهماً في نفسه لتركيز عبودية الإنسان لربّه خصوصاً، بل ولتركيز كلّ المفاهيم والأخلاق الإسلامية إذا كانت له مضامين عالية كالذي ورد عن الأئمّة (ع) من ثروة دعائية لا تُقدَّر بثمن فإنّها كانت أدعية ركّزت العقيدة الصحيحة، والمفاهيم الحقّة والأخلاق الإسلامية في المسلم، ولنختر بهذه المناسبة أحد أروع الأدعية وهو دعاء الحسين (ع) الوارد في يوم عرفة ونقرأه لنجد الدليل الواضح على ذلك. وهذه فقرات منه:
(اللّهُمّ إنّي أرغب إليك، وأشهد بالربوبية لك، مقراً بأنّك ربّي وإليك مردّي، ابتدأتني بنِعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً.. فابتدعت خلقي من مني يمنى، وأسكنتني في ظُلمات ثلاث بين لحم ودم وجلد، لم تشهدني خلقي، ولم تجعل لي شيئاً من أمري، ثمّ أخرجتني للذي سبق لي من الهدى... حتى إذا اكتملت فطرتي واعتدلت مرتي (قوّتي) أوجبت عليَّ حجّتك بأن ألهمتني معرفتك...). (اللّهُمّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وأخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أُحبّ تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت، اللّهُمّ اجعل غناي في نفسي، واليقين في قلبي، والإخلاص في عملي، والنور في بصري، والبصيرة في ديني، ومتعني بجوارحي، واجعل سمعي وبصري الوارِثَينِ مني، وانصرني على من ظلمني.(
ب ـ تذكّر القيامة: وتجسمها بمثل هذا الموقف الرهيب حيث تمتلئ الصحراء بالحجيج في ثيابهم البيض التي تشبه الأكفان، تصهرهم أشعة الشمس، والوجوه كلّها تعنو للحيّ القيوم... إنّ الدُّعاء ليكتسب له معنىً خاصاً في مثل هذا الجو المفعم بالخشوع.
ج ـ التوبة: فقد حدّثتنا بعض الروايات أنّ هذا الوقت يشكّل ببُعديه وقت عصيان آدم ووقت توبته، وهي التجربة البشرية الأُولى التي مرّ بها آدم فندم عليها وتاب الله عليه، وهذا الجوّ الذي أوحت به الروايات وهو القيامة وجو الدُّعاء كلّها تشترك لتركّز مفعول التوبة في النفس، لتكون توبة نصوحاً.
د ـ الحياة الخالصة لله: وهذا المعنى يحسّ به المسلم تماماً حين يجد نفسه وقد ترك كلّ مشاغله ليعيش لله مطهراً نفسه من أدرانها ومعاهداً الله على أن يحوّل حياته بعد الموقف كلّها حياة مرضية له تعالى.
هذا إلى ما هنالك من المشاعر، ومنها شعور الإنسان بعظمة الإسلام الذي يستطيع أن يجمع القلوب والأجسام على صعيد واحد وتذوى حينذاك كلّ التفرقة الوهمية، وشعوره بأنّ هؤلاء جميعاً أينما وجدوا وكانوا هم أخوة له يقفون موقفه، ويدعون بدعائه، ويستهدفون هدفه، وغير ذلك.
7 ـ رمي الجمار: روى الصدوق عن النبيّ (ص) والأئمّة (ع) إنّما أُمر برمي الجمار لأنّ إبليس اللعين كان يتراءى لإبراهيم في موضع الجمار فيرجمه إبراهيم (ع) فجرت بذلك السنة[24].
قال: وقال (ع): الحاجّ إذا رمى خرج من ذنوبه[25]. وروى الكليني عن أبي عبدالله (ع) قال: قلت: ما أقول إذا رميت؟ قال: «كبّر مع كلّ حصاة».
وأهم ما يبدو للإنسان في هذا المنسك الرائع هو هذا الرمي المجموعي لرموز الشيطان واحداً بعد الآخر تعبيراً حسياً عن لزوم نفي الشرّ من الأرض بعد اتّباع طريق الخير، والطواف حول رمز الخير الكعبة. والجميل في الأمر أنّ المسلم يشعر إذ يطوف حول مركز واحد، ويرمي رموزاً للشرّثلاثة، بأنّ طريق الله واحد في حين أنّ طُرق الشيطان متعدّدة.
وباستحباب التكبير له عند كلّ رمية يشترك اللفظ في الموقف ليؤكّد في شعور الإنسان عهده لله تعالى بأن يرمي الشرّ والشيطان ولا يتبعهما، ويبقى وفياً لعقيدته بأنّ الله خالق كلّ شيء وفوق كلّ قوّة.
8 ـ الذبح: وهو جانب مهم من مناسك الحجّ، ويؤكّد على الوجه الاجتماعي للعبادات. إذ أنّ الذبح في كلّ عام يوفِّر للفقراء مقداراً كبيراً من الطعام ـ وإن لم يعمل المسلمون على الاستفادة منه بشكل أحسن ـ على أنّ الحاجّ إذ يقوم بهذا المنسك يتأكد في نفسه عنصر مواساة الفقراء وإطعامهم، وتخليص المجتمع من مآسي الجوع. وهنا يتجلّى أيضاً معنى التضحية العملية التي قام بها إبراهيم (ع) بتقديم وُلده العظيم إسماعيل. وتتوارد خواطر التسليم المطلق لأمر الله، وتتردّد صرخة إسماعيل المسلم (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) (الصافات/ 102) ممّا يُوجد شعوراً لدى المسلمين بقيمة الأوامر الإلهية، ولزوم التسليم لها حتى لو لم تعلم الحكمة فيها، لأنّها قد صدرت من لدن حكيم خبير.
9 ـ الحلق: في الرواية عن أبي عبدالله (ع) أنّه سُئِل: كيف صار الحلق على الصرورة واجباً دون من قد حجّ؟
قال: «ليصير بذلك موسوماً بسمة الآمنين، ألا تسمع قول الله عزّوجلّ: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ) (الفتح/ 27)»[26]، وكأنّ الحلق أصبح علامة للمسلمين تميزهم عن غيرهم. ومن هنا يحلق الحجاج لينضموا إلى الرعيل المؤمن المسلم عبر التاريخ.
وهكذا:
فقد رأينا كيف أنّ الحجّ بنظرة إجمالية، وبنظرة تفصيلية يشكّل أروع الأساليب التربوية التي قام بها الإسلام لتهذيب النفوس وتأكيد سيرها على خطّ التكامل.
[1]- سفينة البحار، عبّاس القمي، ج1، ص211.
[2]- المصدر السابق نفسه.
[3]- المصدر السابق نفسه.
[4]- المصدر السابق نفسه، ص210.
[5]- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج9، ص3.
[6]- المصدر السابق نفسه، ص47.
[7]- المصدر نفسه، ص48.
[8]- المصدر السابق نفسه.
[9]- المصدر نفسه، ص49.
[10]- المصدر نفسه، ص50.
[11]- المصدر السابق نفسه، ص76.
[12]- المصدر نفسه، ص91.
[13]- المصدر السابق نفسه، ص93.
[14]- المصدر نفسه، ص321.
[15]- المصدر السابق نفسه، ص325.
[16]- المصدر نفسه، ص386.
[17]- المصدر نفسه، ص388.
[18]- المصدر نفسه، ص401.
[19]- المصدر نفسه، ص403.
[20]- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 10.
[21]- المصدر نفسه، ج 10، ص15-16.
[22]- المصدر نفسه، ص 24.
[23]- المصدر نفسه، ص 45.
[24]- المصدر نفسه، ص 69.
[25]- المصدر نفسه، ج10، ص68.
[26]- المصدر نفسه، ج10، ص188.
الحج في موكب التاريخ
أحمد الواسطي
الحج – عند البشر جميعاً – هو زيارة جماعية لمكانٍ مقدس، في وقتٍ معلوم، بقصد الشعور باقتراب خاص من المعبود الذي يؤمن به القوم. ويربطون هذه الزيارة بذكريات معيّنة موغِلة في القِدم، تتصل بالمكان الذي يفِدون إليه. هكذا كان الحجّ ولا يزال، فقد قدّس الناس الأشجار والغابات والجبال، والأنهار، والآبار وجعلوا منها أماكن يزورونها جماعات، فيشعرون بالقوّة التي يبعثها في نفوسهم العدد الكثير، وبالطمأنينة لوجودهم معاً في موقف عبادة ذات شعائر خاصة، ونظام دقيق. ومن المؤكد أنّ الإنسان في العصور السحيقة قبل التاريخ، كان يرتاد بقاعاً من الأرض يجد لها رهبة، أو راحة نفسية، أو شفافية روحانية، يحلّق بها في آفاق أسمى من المطالب المادية التي تحاصره، ثمّ تبلور هذا الشعور في العصور التاريخية القديمة: فالمصريون القدماء كانوا يعتقدون أنّ آلهتهم الفرعونية تجتمع في معبد "أوزيريس" بمدينة "أبيدوس" في عيد هذا المعبود، فكانوا يحجّون إليه بهذه المناسبة. وكان الهنود يحجّون إلى المعابد الضخمة بجبال الهملايا، أو على ضفاف نهر الكنج، في "جُمنا"، أو "برندابان" أو في مدينة "بَنارِس" الجليلة القدر عندهم. وفي الصين كانت الجبال المقدسة التي يَؤمّونها للحج كثيرة، خاصة جبال "تاي – تِشان". وفي اليابان حيث تلتقي عبادة أرواح الأسلاف بالطقوس البوذية، في تعايش سلمي منسجم، تقوم معابد (الشِنْتو) – أي تقديس الأسلاف – مستقلة عند المعبد البوذي ومجاورة له: الأولى تسمى في لغتهم "جِنْجا" والثانية "أوتيرا". وأماكن حجّهم على الجبال العالية، ولا سيما جبل "فُوجي ياما". كما يؤمّون المعابد البوذية في مدينة "نارا" حيث أقسم أسلافهم القدماء على تحرير وطنهم من التبعية لامبراطور الصين فأصبح معبدها البوذي مكاناً للحجّ. وفي العراق القديم، كانت كلّ إمارة سومرية أو أكادية في (الألف الرابع قبل الميلاد) تتخذ لها عاصمة: تل العُبيد – الوَرْكاء – أُور – إريدُو – تل خَلَف – نينوى – بال – خفاجي – أرْبِل – كِرْكوك... إلخ، وكان تخطيط العاصمة يبدأ بمعبد مركزي، يمنح المدينة قدسيتها، إذْ يصبح حرماً ومكاناً للحج. وكان هذا المعبد إما مربعاً، إشارة إلى أنّ الله هو المهيمن على الجهات الأربع للعالم: الشرق والغرب والشمال والجنوب، وإما بيضاوياً، يذكر بأنّ الله خالق للحياة، بإرادته تخرج الدجاجة، لتبيض بدورها بمشيئته، فتستمر الحياة. وفي كلّ معبد برج شامخ يسمّونه "زقُّورة" شكله مربع في المعباد المربّعة، ومستدير في المعابد البيضاوية، ينتهي من أعلى بشرفة يرصد منها الكهنة النجوم – وكانوا يعبدونها – ويعلنون بدايات الطقوس الدينية للحجاج. وهكذا كان الحج في إيران القديمة وبلاد الحيثيين في آسيا الصغرى وغيرها من بلدان العالم القديم. وإذا كان إبراهيم الخليل (ع) قد رفع القواعد من بيت الله في مكة المكرّمة، فإنّه لم يَرِد عنه، حتى في المرويّات اليهودية، أنه بنى لله – تعالى – بيتاً آخر في فلسطين، بل يقولون: إنّه مرّ ببلدة "سالم" وهو الاسم الفلسطيني القديم للقدس فنزل ومن معه ضيوفاً على ملكيصادق (ملك الفلسطينيين) وقدّم ملكيصادق ملك (سالم) خبراً ونبيذاً؛ لأنّه كان كاهناً لله العليّ، ثمّ باركه وقال: "مبارك أبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض، وتبارك الله العلي الذي دفع أعداءك إلى يديك"[1]. أمّا الساميون فقد كانوا على اختلاف عشائرهم يحجّون إلى أماكن معيّنة في أوقات معلومة. وكان أهم هذه البقاع المباركة عندهم، الجبال والأشجار والآبار وعيون الماء، فنقرأ مثلاً في التوراة: "وهذه هي الرسوم والأحكام التي أعطاك الرب إله آبائك، لتملكها كلّ الأيام، التي تحيونها على الأرض، تقوّضون جميع المواضع التي كانت الأُمم التي ترثونها تعبد فيها آلهتها: على الجبال الشامخة، والتلال، وتحت كل شجرة وارفة، وتُهدّمون مذابحهم، وتكسّرون أنصابهم، وتحرّقون غاباتهم بالنار، وتحطّمون زخارفهم لآلهتهم، وتمحون أسماءهم من ذلك الموضع، حتى لا تصنعوا هكذا نحو الرب إلهكم. بل الموضع الذي يختاره الربّ إلهكم من جميع أسباطكم، ليحلّ فيه اسمه ويسكن فيه، فتؤمونه، وإلى هناك تسيرون، حاملين إليه محرقاتكم وذبائحكم وأعشاركم وتقدمات أيديكم ونذوركم ونوافلكم وبكور بقركم وغنمكم. وتأكلون هناك أمام الرب إلهكم وتفرحون بجميع ما تمتد إليه أيديكم أنتم وبيوتكم، مما بارككم فيه الرب إلهكم"[2]. ولم ينصّ الرب – لا هنا ولا في أي نصّ من كتابهم – على هذا الموضع! أمّا "أورشليم" فلم يكن اسمها قد أُطلق عليها بعد، بل كانت تحمل اسم "سالم" الفلسطيني، ثمّ سميت "يبوس" باسم العشيرة الفلسطينية التي كانت تسكنها، أما "أورشليم" فقد بدأ بناءَها داودُ وأتمّها سليمان، كلّ ذلك بعد موسى بخمسمائة سنة، وهما عند اليهود من الملوك وليسا من الأنبياء، ولا الكهنة! وكان اليهود – أو بنو إسرائيل – يجعلون من الأشجار والجبال والتلال وعيون الماء والآبار مزارات يحجّون إليها ويتبرّكون بها، ويبنون عندها معابدهم[3]. ولا يفوتنا أن نذكر "بئر الحيّ الرائي" بالقرب من الخليل، وقبالة سنديانة قمراً، وكثير من اليهود يحجّون إليها حتى اليوم، لما جاء في التوراة: "وكان بعد موت إبراهيم أنّ الله بارك إسحق ابنه، وأقام إسحق عند بئر الحيّ الرائي..."[4]. كما سبق ذكر التبرك بهذه البئر، إذ تزوج عندها إسحق من رفقة، قبل موت أبويه إبراهيم وسارة[5]. أما معبد "بيت إيل" الذي أقامه يعقوب في أرض كنعان بالقرب من نابلس، فقد كان المكان الأول الذي يحج إليه بنو إسرائيل حتى بعد أن شيّد سليمان الهيكل في القدس، ولم يفقد منزلته هذه إلا بعد انشطار مملكة سليمان نصفين بعد وفاته: السامرة شمالاً وكانت مملكة معادية لأُسرة داود وسليمان في الجنوب، وتسمّي نفسها إسرائيل! واستمرّت في الحجّ إلى "بيت إيل". أمّا أُسرة يهوذا المنحدرة من داود وسليمان فكانت تحج إلى "الهيكل" في أُورشليم، وهو الاسم الذي اشتهرت به منذ سليمان. - الحج قبل الإسلام وبعده: تعدُّ أيام الحج وما بعدها أعياداً تقام بها الأفراح لإدخال السرور إلى قلب الأرباب. ويكون الحج بالدعاء وبمخاطبة الآلهة، غير أنّ بعض الجاهليين كان يحجّ صامتاً أي من دون كلام. وقد تميّز الشهر الذي يقع فيه الحج عن الأشهر الأخرى بتسميته بشهر ذي الحجة وبشهر الحج. وهذه التسمية المعروفة حتى الآن في التقويم الهجري هي تسمية قديمة، كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام[6]. وكان هناك عدد من الآلهة يحج الناس إليها في الجاهلية؛ لذلك تعددت بيوت الأرباب. ومعنى هذا أنّ حجّ أهل الجاهلية لم يكن إلى مكة وحدها، بل كان إلى محجّات عديدة أخرى، بحيث حجّ كلّ قوم إلى البيت الذي قدّسوه، والصنم الذي عبدوه وطافوا حوله وتقرّبوا إليه ولبّوا له. وكانت "قريش" تتعبّد لأصنامها في الكعبة، ولكنها كانت تزور "العزّى" وتهدي لها وتتقرّب لها بالذبائح، كما كانت "قُضاعة" و"لَخْم" و"جَذام" و"أهل الشام" يحجّون إلى "الأُقيصر" ويحلقون رؤوسهم عنده. وكانت "مُذْحِج" تحج إلى "يَغوث" كما كانت "طَي" تعبد "الغَلَس" وتهدي إليه. وكانت "ثقيف" تعبد "اللّات" في الطائف. وحجّ الجاهليون إلى بيوت أخرى مثل "بيت نجران" و"بيت ذي الخِلْصة" و"بيت مناة" و"بيت جَهار" و"سُواع شمس"، و"مَحرِق" و"مَرحَب" و"ذُريح"[7]. ولم تكن طقوس الحج إلى مكة واحدة عند كلّ القبائل، بل كانوا يختلفون ويصنّفهم المؤرخون في صنفين عامين هما "الحُمْس" أو "الأحماس" و"الحُلّة" ويضيف البعض صنفاً ثالثاً هم "الطُلْس" أو "الأطلاس". و"الحُمْس" من العرب، وهم قريش كلّها و"خُزاعة" لنزولها مكة، وكلّ من ولدت قريش من العرب، وكل من نزل مكة من قبائل العرب. أمّا "الطُلْس" فهم سائر أهل "اليمن" وأهل "حضرموت" و"عك أياد". أمّا "الحُلّة" فالمفروض أنهم بقية القبائل. والأخباريون يذكرون أنّ الطائفين بالبيت كان صنف منهم يطوف عرياناً، وصنف يطوف في ثيابه، ويعرف من يطوف بالبيت عرياناً بـ"الحلّة". أمّا الذين يطوفون بثيابهم فيعرفون بـ"الحُمْس". وكان "الطُلْس" لا يتعرّون حول الكعبة ولا يستعيرون ثياباً، ويدخلون البيوت من أبوابها ولا يئدون بناتهم. وكان "الحلّة" يقصدون من نزع الثياب طرح ذنوبهم معها ويقولون: إنّهم لا يطوفون في الثياب التي فارقوا فيها الذنوب، ولا يعبدون الله في ثياب أذنبوا بها. وذكر أنّ "الحُلّة" إذا أتمّوا طوافهم تركوا ملابسهم عند الباب ولبسوا ملابس جديدة[8]. وقد منع الإسلام طواف العري في أي وقت، وحتّم على جميع قريش وغيرهم لبس الإحرام. والإحرام قديم عرف عند غير العرب أيضاً. ويظهر أنّ أهل مكة وقريشاً كانوا يلبسون الإحرام أو يعيرونه لغيرهم من العرب إن كانوا من حلفائهم. ومن المحتمل أن "المَعينيين" و"السَبيئيين" و"القَتْبانيين" و"الحَضْرميين" كانوا يطوفون حول معابدهم على نحو ما كان يفعله أهل الحجاز؛ لأنّ الطواف حول بيوت الأصنام من السنن الشائعة بين العرب وعند بني "أرم" و"النبط". وكان الطواف حول البيت الحرام بمكة سبعة أشواط[9]. ومن مناسك الحج: التلبية وهي إجابة الملبّي ربّه وقولهم: لبّيك اللّهمّ لبّيك معناه: إجابتي لك يا رب. وكان الجاهليون يلبّون تلبيات مختلفة، فتلبية قريش كانت: "لبيك اللّهمّ لبيك. لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك". وتلبية من نسك للعزّى كانت: "لبيك اللّهمّ لبيك، لبيك وسعديك ما أحبنا إليك". وتلبية من عبد اللات كانت: "لبيك اللّهمّ لبيك كفى ببيتنا بنيه ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية أربابه من صالحي البرية". وكانت تلبية من عبد "هبل": "لبيك اللّهمّ لبيك إننا لقاح حرمتنا على أسنّة الرماح يحسدنا الناس على النجاح". والتلبية هي من الشعائر الدينية التي أبقاها الإسلام ولكنّه غيّر صيغها القديمة بما يتّفق مع عقيدة التوحيد، فصارت على هذا النحو: "لبيك اللّهمّ لبيك لبيك لا شريك لك لبيك. إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك". كما جعلها جزءاً من حجّ مكة بعد أن كانت تتم خارج مكة، إذْ كانت كلّ قبيلة تقف عند صنمها وتصلّي عنده ثمّ تلبّي قبل أنْ تأتي إلى مكة، وذلك بالنسبة لمن كان يحج مكة فأبطل ذلك الإسلام[10]. ومن مناسك الحج السعي بين الصفا والمروة وكان بهما صنمان هما لـ"أساف" و"نائلة" وطواف الحجاج بهما قدر طوافهم بالكعبة أي سبعة أشواط وكانت قريش تقوم بذلك. أمّا غيرهم فلم يطوفوا بهما. وبين "الصفا" و"المروة" يكون المسعى وكان "أساف" بالصفا و"نائلة" بالمروة. وكان أهل مكة يطوفون بـ"أساف" أوّلاً ويلمسونه كلّ شوط ثمّ ينتهون بـ"نائلة" ويلبّون لها. وذُكر أنّ قوماً من المسلمين قالوا: يا رسول الله! لا نطوف بين "الصفا" و"المروة"، فإنّه شرك كنّا نصنعه في الجاهلية، ولما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله في كتابه الكريم: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (البقرة/ 158). ويتّضح من الأخبار أنّ الذين كانوا يطوفون بالصنمين ويسعون بينهما هم قريش خاصة؛ لأنها كانت تعبد الصنمين، وليس كلّ من كان يحج من العرب. وقد استبدل الإسلام الطواف بالسعي بين الموضعين. وذُكر أنّ السعي بين "الصفا" و"المروة" شعار قديم من عهد هاجر أُمِّ إسماعيل[11]. ومن مناسك حج أهل الجاهلية الوقوف بـ"عرفة" ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة ويسمى ذلك اليوم "يوم عرفة". ومن "عرفة" تكون الإفاضة إلى "المزدلفة" ومن "المزدلفة" إلى "منى". وكان الجاهليون من غير قريش يفيضون في "عرفة" عند غروب الشمس وفي "المزدلفة" عند شروقها. ولم يكن "الحَمس" يحضرون "عرفة" وإنما كانوا يقفون "بالمزدلفة"، وقد بدّلَ الإسلام ذلك وأخضع الجميع للوقوف بـ"عرفة". قال تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة/ 199)، يعني من "عرفة". و"عرفة" موضع على مسافة غير بعيدة عن "مكة". ولابدّ من أنّه كان من المواضع التي قدّسها الجاهليون، وربما كان له ارتباط بصنم من الأصنام. ويقف الحجاج المسلمون موقف "عرفة" من الظهر إلى وقت الغروب. وقد يكون وقوف الجاهليين في "عرفة" وقت الغروب له علاقة بعبادة الشمس، فإذا غربت الشمس اتّجه الناس إلى "المزدلفة" وهي على منتصف الطريق بين "عرفة" و"منى". وفيها يبيت الحجاج ليلة العاشر من ذي الحجة، وقد وصفت في القرآن الكريم بالمشعر الحرام. وكانت الإفاضة منها عند شروق الشمس إلى "منى". وفيها يبيت الحجاج ليلة العاشر من ذي الحجة، وقد وصفت في القرآن الكريم بالمشعر الحرام. وكانت الإفاضة منها عند شروق الشمس إلى "منى". ومن المحتمل أنّ "المزدلفة" كانت من مواضع الجاهلية المقدّسة التي لها صلة بالأصنام[12]. وذُكر جبل بـ"المزدلفة" اسمه "قُزَح"، وهناك صنم يقال له: "قُزَح" وقد تكون له صلة بهذا الموضع. ويذكر أنّه كانت على قُزَح اسطوانة من حجارة مدوّرة محيطها (24) ذراعاً وارتفاعها (12) ذراعاً كانت توقد عليها النيران منذ زمن قصيّ ليلة الجمعة. وعند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة كان الحجاج في الجاهلية يفيضون من "المزدلفة" إلى منى لرمي الجمرات ولنحر العتائر، وإفاضة الجاهليين عند طلوع الشمس له دلالة على عبادة الشمس عندهم[13]. ورمي الجمرات بمنى من مناسك الحج، وهو من شعائر الحج المعروفة في المحجات الأخرى في جزيرة العرب، وكان معروفاً عند غير العرب أيضاً. ويرجع أهل الأخبار مبدأ رمي الجمرات إلى "عمرو بن لحي" وترمى الجمرات على مكان عرف بموضع الجمار بمنى، تتجمع وتتكوّم عنده الحصى، وهي جمرات ثلاث: الجمرة الأولى، وهي جمرات ثلاث: الجمرة الأولى، والجمرة الوسطى وجمرة العقبة. ويرمي المسلمون كلّاً منها بسبع حصي[14]. ومن الشعائر المتعلقة بمنى نحر الذبائح وهي "العتائر" في الجاهلية، والأضاحي أو الهدْي في الإسلام ولذلك عرف هذا العيد بعيد الأضحى. وكان الجاهليون يقلّدون "عتائرهم" بقلادة أو بنعلين يعلّقان على رقبة الحيوان إشعاراً للناس بأنّه للذبح. ولا يحلّ للحجاج في الجاهلية حلق شعرهم أو تقصيره طيلة حجّهم وإلّا بطل حجّهم. ويلاحظ أنّ غير العرب من "الجزيريين" كانوا يفعلون ذلك في المناسبات الدينية. وكانت القبائل لا تحلق شعرها إلا عند أصنامها وذلك بعد النحر مباشرة ولا يجوز أن يتمّ قبله. ولا يقتصر ذلك على الحج إلى مكة، بل يمتد إلى بقية الآلهة فكان الأوس يحلقون شعرهم عند مناة، وكانت "قضاعة" و"لخم" و"جذام" تقصّ شعرها عند "الأُقيصر". ويجوز للحجاج مغادرة "منى" في اليوم العاشر من ذي الحجة، أي في اليوم الأول من العيد، ففي هذا اليوم يكمل الحجاج حجهم، ولكن فيهم من يبقى في هذا المكان حتى اليوم الثالث عشر وذلك إبتهاجاً بأيام العيد[15]. والجدير بالذكر أنّ الإسلام خطا بالضمير الإنساني شوطاً بعيداً في جميع هذه المناسك والعبادات. فالمسلم لا يحج إلى الكعبة ليعزّز فيها سلطان الكهّان أو ليقدّم إليهم القرابين والاتاوات، وإنّما هي فريضة "عبادية – سياسية" للأُمّة وفي مصلحة الأُمّة، وعلى شريعة المساواة بين أبناء الأُمّة، وهي بهذه المثابة فريضة اجتماعية تعلن فيها الأُمم الإسلامية وحدتها، والمساواة بين الكبير والصغير أمام الله وعند بيت الله. وليس المقصود بالضحية في الإسلام أنها طعام للكهان، أو طعام للإله، ولكنها سخاء من النفس في سبيل العبادة، يشير بها الإنسان إلى واجب التضحية بشيء من الدنيا في سبيل الدين، متجشماً لذلك مشقة الرحلة وتكاليفها جهد المستطيع. ويمتاز الحج في الإسلام بدلالته الروحية التي تناسب مقصدها الأسمى من تحقيق الرابطة بين الأُمم، التي تدين بعقيدة واحدة في أرجاء الكرة الأرضية على تباعد مواقعها واختلاف أجوائها وفصولها، فهو رابطة من روابط السماء تؤمن بها أُمم وحدتها العقيدةُ السماوية، وإن فرّقت بينها شتّى المطارح والبقاع. فالحجّ الإسلامي في عصرنا هذا هو الفريضة الوحيدة الباقية من قبيلها في جميع الأديان الكتابية. فهيكل بيت المقدس قد تهدّم منذ القرن الأوّل للميلاد، ولم يرد في الأناجيل المسيحية نصّ على مكان مقدس مفروض على المسيحيين أن يحجوا إليه، وكلّ ما عرف بعد القرون الأولى فإنما اتّبع فيه الخَلْق سُنّة الملكة "هيلانة" أُمّ الامبراطور قسطنطين التي قيل: إنها وجدت الصليب الأصيل في فلسطين عندما توجّهت إليها لزيارة آثار السيد المسيح، وهي قصة يكفي للدلالة على قيمتها التاريخية أنّ رواتها جميعاً نقلوها بعد عصر الملكة "هيلانة" وأنّ مؤرخ العصر الأكبر يوسيبيوس Eusebius لم يشر إليها بكثير أو قليل على شدّة اهتمامه باستقصاء الأخبار التي لا تذكر بالقياس إلى هذا الخبر العظيم. ثمّ تتابعت القرون والدول – المنتسبة إلى المسيحية – وهي تتذرع بالأماكن المقدسة لترويج مطامعها السياسية، فروسيا القيصرية تدّعي حمايتها على مذهب الكنيسة الشرقية، وملوك فرنسا يدّعون حمايتها على مذهب الكنيسة الغربية. ولما ذهب هؤلاء الملوك وتبعتهم دولة الجمهورية "اللاتينية" كانت الغيرة على الحج في عهدها على أشدّها وأقواها، ونشأت في أيامها صحيفة الحاج Pelerin التي بلغ المطبوع من أعدادها مئات الألوف، وامتلأت صفحاتها بأنباء المعجزات والكرامات التي تشاهد في أرض الميلاد، وتظافرت الدولة والكنيسة على ترويجها خدمة لمطامع الاستعمار. ثمّ تقلّبت الأيام حتى رأينا دعاة الاستعمار يسلّمون الأماكن المقدسة إلى أيدي الصهيونيين! أما فريضة الحج الإسلامي فقد بقيت لها رسالتها التي لا عبث فيها ولا موضع للمكر والدسيسة من ورائها، وإنّ رسالتها اليوم في العالم الإسلامي لأعظم وألزم من رسالاتها في جميع الأزمنة؛ لأنها العهد المجدّد في كل عام بين شعوب الإسلام إلى الوفاق والوئام. الهوامش:
[1]- التوراة، سفر التكوين 14: 18-20. [2]- سفر التثنية 12: 1-7. [3]- سفر التكوين 18: 1-14. [4]- التكوين 25: 11. [5]- التكوين 24: 62. [6]- د. جواد علي، مفصل تاريخ العرب قبل الإسلام 6: 190. [7]- المصدر نفسه، ودراسة مستقلة حول أصنام العرب. [8]- المصدر نفسه 198:6. [9]- المصدر نفسه [10]- د. جواد علي، مفصل تاريخ العرب قبل الإسلام 201:6. [11]- د. صالح العلي، محاضرات في تاريخ العرب 75:1. [12]- د. صالح العلي، محاضرات في تاريخ العرب 1: 80-81. [13]- المصدر نفسه.
[14]- المصدر نفسه: 86.
[15]- المصدر نفسه: 86.
الإسلام يركز على النصيحة
يركِّز الإسلام في أخلاقياته، في علاقة المسلم بالله وبالناس وبالحياة كلّها وبالقيادات الشرعية، على النصيحة، وهي أن يبذل الإنسان كلّ جهده ليقدّم النصيحة التي ترفع مستواه، وتربطه بالله وبسلامة المصير، وتبعده عن كلّ ما يُسقط إنسانيته ويبتعد به عن الخطّ المستقيم. وقد كان شعار الأنبياء لشعوبهم وأُممهم، أنّهم يقدّمون إليهم النصيحة، وقدّموا أنفُسهم على أنّهم الناصحون لهم، الأُمناء على إبلاغهم رسالات الله التي تنقذهم وترفع مستواهم.
فنحن نقرأ في كلمات الأنبياء التي نقلها الله تعالى: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 62). فالنبيّ (ص) لم يأتِ من أجل أن يستغلّ موقعه ليجلب لنفسه نفعاً أو ليحصل على ثروة وما إلى ذلك، وإنما جاء مبلّغاً للرسالة، وناصحاً للأُمّة، حتى تسير في الخطّ الذي يحقّق لها سلامة المصير. ونقرأ أيضاً: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف/ 68). وفي آية أُخرى، عندما بلّغ الرسول (ص) كلّ ما عنده من الرسالة، وقدّم لهم كلّ ما عنده من النصح، ولكنّهم تولّوا عنه، قال: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف/ 79).
وفي حديث رسول الله (ص): «قال الله عزّوجلّ: أحبّ ما تعبّد لي به عبدي النصح لي»، أي أن تكون علاقتك بالله علاقة النصح له. والله لا يحتاج إليك لترشده وتنصحه، ولكنّ النصح لله هو الانفتاح على مسؤولياتك أمامه، في توحيدك له سبحانه في العقيدة والألوهيّة والعبادة والطاعة.
وعن رسول الله (ص): «مَن أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس منهم ـ بحيث يكون همّ المسلمين همّه، ومشاكلهم مشاكله، فإذا لم يهتمّ بأُمورهم، وعاش الفردية في ذلك، فليس منهم مسلماً ـ ومَن لم يصبح ويمس ناصحاً لله ـ في الإخلاص لمسؤولياته أمام الله ـ ولرسوله ـ في السير على خطّ رسالته ـ ولكتابه ـ للقرآن في العمل به ـ ولإمامه ـ الذي يمثّل القيادة الشرعية ـ ولعامّة المسلمين ـ كلّ المسلمين في كلّ قضاياهم الثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية ـ فليس منهم». فمن لا ينصح المسلمين في ذلك، فإنّه يكون خارجاً عن الأُمّة، ولا يمثّل عضواً صالحاً في مجتمعهم.
وعنه (ص) أنّه قال لأصحابه: «الدّين النصيحة»، فالدين تختصره كلمة النصيحة التي يحملها المسلم المتديّن في عقله وفكره وحركته في الحياة، فقال الأصحاب: «لمن؟»، قال (ص): «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم».
ويقول الإمام الصادق (ع) وهو يتحدّث عن الإمام عليّ (ع) في انفتاحه على واقع المسلمين واهتمامه بسلامتهم واستقامتهم وعزّتهم وكرامتهم: «إنّ عليّاً كان عبداً ناصحاً لله عزّوجلّ فنصحه، وأحبّ الله عزّوجلّ فأحبّه».
وتلك كانت قيمة الإمام عليّ (ع)، أنّه عاش مع الله في كلّ كيانه، فلم يكن في عليّ شيء لنفسه، بل كان بكلّه لله، وقد باع نفسه لله، فأحبّه الله تعالى وأحبّه رسول الله، ولذلك كانت كلمة النبيّ (ص) في واقعة خيبر: «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله». وتلك كانت ميزة عليّ في المسلمين، فلم يكن بين الصحابة ـ كلّ الصحابة ـ مَن ارتفع إلى هذا المستوى من الإخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين.
وعن النبيّ (ص): «إنّ أعظم الناس منزلةً عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه». هذه المرتبة العليا عند الله، لا يمنحها إلّا لمن تكون حركته في كلّ الأُمور في خطّ النصيحة لخلق الله تعالى، بحيث يدرس كلّ أوضاعهم ويلاحق كلّ حالاتهم، وكلّ ما يمكن أن يرتفع بهم إلى الدرجات العليا في دينهم ودنياهم. وعن النبيّ (ص): «مَن يضمن لي خمساً أضمن له الجنّة: النصيحة لله عزّوجلّ ـ وذلك بأن يخلص لله في كلّ مسؤولياته أمامه ـ والنصيحة لرسوله ـ في السير على سنّته والاقتداء بسيرته والدعوة إلى رسالته ـ والنصيحة لكتاب الله ـ بالعمل بكتاب الله ـ والنصيحة لدين الله ـ بحيث يتحمّل الإنسان الذي يعيش رسالية الدِّين، مسؤوليته في خطّ الدعوة إلى الله ومسؤولية تعليم الناس والسير بهم في الخطّ المستقيم ـ والنصيحة لجماعة المسلمين»، بحيث يعيش الاهتمام بأُمورهم ويواجه واقعهم بمسؤولية.
ونقرأ في حديث الإمام الصادق (ع): «يجب للمؤمن على المؤمن ـ كتكليف شرعي ملزم ـ النصيحة له في المشهد والمغيب». وعنه (ع): «عليكم بالنصح لله في خلقه ـ لأنّك إذا نصحت خلق الله وعباده، فقد نصحت لله، لأنّ الله يريد لك أن تكون الناصح لعباده بما يقرّبهم إليه ويرفع مستواهم عنده، وبما يحقّق لهم النتائج الكبرى في سلامة المصير ـ فلن تلقاه بعمل أفضل منه»، فإنّ النصح لله في خلقه، هو العمل الأفضل الذي لا عمل فوقه في حركة الإنسان في الواقع. وعن النبيّ (ص): «أنسك الناس نسكاً، أنصحهم جيباً ـ بأن يكون صدره مفتوحاً بالنصيحة للمسلمين ـ وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين»، فلا يحمل في قلبه أيّ حقد عليهم في أيّ أمر من الأُمور.
وقد كان الإمام عليّ (ع) يخاطب المسلمين في خلافته، فيؤكّد لهم ما هو حقّ الإمام على الأُمّة، وما هو حقّ الأُمّة على الإمام: «أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّاً ولكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم... ـ أن أنصح لكم وأرشدكم وأنفتح على كلّ قضاياكم، بما يمكن أن يحقّق لكم الخير والسعادة والسلامة ـ وأمّا حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب».
ونقرأ في كلمته (ع) وهو يتحدّث عن الصالحين من أصحابه: «أنتم الأنصار على الحقّ، والإخوان في الدِّين، فاعينوني بمناصحة جليّة لا غشّ فيها».
ويقول (ع) وهو يوجّه الناس إلى الارتباط بالقرآن، والانفتاح على آياته واتّباع كلّ تعاليمه: «اتّعظوا بمواعظ الله، واقبلوا نصيحة الله، واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، فاستنصحوه على أنفُسكم، واتّهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم».
إنّ كلّ هذه الكلمات الواردة في الكتاب والسنّة، تريد من مجتمعنا أن يكون مجتمعاً يعيش المسؤولية تجاه كلّ أفراد المجتمع، بحيث يعمل كلّ إنسان على تحريك فكره ليدرس ما يحتاجه المسلمون، ممّا يمكن أن يحقّق لهم الخير والقوّة والسلامة، ولاسيّما في المواقع التي يواجهون فيها التحدّيات الكبرى من قبل المستكبرين، الذين يكيدون لهم، ويعملون على مصادرة كلّ واقعهم. إنّ القضية أنّ كلّ واحد من المسلمين مسؤول عن كلّ المسلمين: «كلّكم راع، وكلّ راع مسؤول عن رعيته». إنّ الأُمّة الإسلامية تمثّل وحدة في المصير والمسير، وعلينا أن نرتفع إلى مستوى هذه الوحدة لنعيش همّ المسلمين، لنؤكّد القوّة في كلِّ واقعهم.
آداب الحجّ في كلام الإمام السجّاد (ع)
محمّد عبدالله فضل الله
الحجّ وفادة طيِّبة ومباركة على ربّ العالمين، حيث يتجلّى التوحيد في هذه العبادة مزيداً من التوجّه الصادق والتطهّر المخلص والسموّ بالروح، وعقد العزم على مواصلة العمل الصالح.
فالحجّ عبادة متعدِّدة الدروس والأبعاد، تنفتح بعقل الإنسان ومداركه على كلّ خير وعدل ورحمة وموقف حقّ، وعلى كلّ ما يبني الروح الجماعة المتضامنة التي تحسّ ببعضها البعض، وتعمل على تأكيد التكافل بينها كأُمّة متوحِّدة بالله مستفيدة من كلّ طاقاتها.
ولهذه العبادة آثارها الروحية والمعنوية والأخلاقية الكبيرة في حياة الفرد والجماعة. قال أمير المؤمنين عليّ (ع): «والحجّ تقوية للدِّين»، عندما يعيش الفرد والجماعة روح التسامح والوحدة والانفتاح والتواصل.
وفي الحديث عن الإمام الرضا (ع) قال: «إنّما أُمِروا بالحجّ لِعِلَّةِ الوِفادة إلى الله عزوجل»، إلى أن قال: «وَحَظْرِ النفس عن اللَّذّات».
وفي رواية طويلة معروفة برواية الشبلي، يشير الإمام السجاد (ع) إلى الآداب المعنوية للحجّ.
قال الإمام السجاد (ع) لأحد أصحابه الشبلي: «حجّجت يا شبلي؟»، قال: نعم، يابن رسول الله. فقال (ع): «أَنَزلْتَ الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟». قال: نعم. قال (ع): «فحين نزلت الميقات، نويت أنّك خلعت ثوب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك، نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟»، قال: لا.
قال (ع): «فحين اغتسلت، نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟»، قال: لا. قال (ع): «فما نزلت الميقات، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت!».
قال الإمام السجاد (ع): «تنظّفت وأحرمت وعقدت بالحجّ؟». قال: نعم. قال (عليه السلام): «فحين تنظّفت وأحرمت وعقدت الحجّ، نويت أنّك تنظّفت بنور التوبة الخالصة لله تعالى؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين أحرمت، نويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ محرّم حرّمه الله عزّوجلّ؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين عقدت الحجّ، نويت أنّك قد حللت كلّ عقد لغير الله؟»، قال: لا. قال (ع) له: «ما تنظّفت ولا أحرمت ولا عقدت الحجّ!».
قال الإمام السجاد (ع) للشبلي: «أدخلت الميقات وصلّيت ركعتي الإحرام ولبّيت؟»، قال: نعم. قال (ع): «فحين دخلت الميقات، نويت أنّك بنيّة الزيارة؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين لبّيت، نويت أنّك نطقت لله سبحانه بكلّ طاعة، وصمتَ عن كلّ معصية؟»، قال: لا. قال (ع) له: «ما دخلت الميقات... ولا لبّيت!».
ممّا قاله أيضاً الإمام السجاد (ع) للشبلي: «طفت بالبيت ومسست الأركان وسعيت؟»، قال: نعم. قال (ع): «فحين سعيت، نويت أنّك هربت إلى الله، وعرف منك ذلك علّام الغيوب؟»، قال: لا. قال (ع): «فما طفت بالبيت ولا مسست الأركان ولا سعيت!». قال (ع) له: «أسعيت بين الصفا والمروة، ومشيت وتردّدت بينهما؟»، قال: نعم. قال (ع) له: «نويت أنّك بين الرجاء والخوف؟»، قال: لا. قال (ع): «فما سعيت ولا مشيت، ولا تردَّدت بين الصفا والمروة!».
وقال الإمام السجاد (ع) للشبلي: «هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحيفتك واطّلاعه على سريرتك وقلبك؟»، قال: لا. قال (ع): «فما وقفت بعرفة!».
وممّا قاله (ع) للشبلي أيضاً: «فنويت عندما وصلت منى ورميت الجمار أنّك بلغت إلى مطلبك، وقد قضى ربّك لك كلّ حاجتك؟» قال: لا. قال (ع): «فعندما رميت الجمار، نويت أنّك رميت عدوّك إبليس وغضبته بتمام حجّك النفيس؟»، قال: لا. قال (ع): «فعندما حلقت رأسك، نويت أنّك تطهّرت من الأدناس ومن تبعة بني آدم، وخرجت من الذنوب كما ولدتك أُمّك؟»، قال: لا.
قال (ع): «فعندما ذبحت هديك، نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت به من حقيقة الورع، وأنّك اتّبعت سنّة إبراهيم (ع) بذبح وُلده وثمرة فؤاده وريحان قلبه، وأحييت سنّته لمن بعده، وقربه إلى الله تعالى لمن خلقه؟»، قال: لا.
قال له الإمام زين العابدين (ع): «فما وصلت منى، ولا رميت الجمار، ولا حلقت رأسك، ولا أدّيت نسكك... ولا تقرّبت، ارجع فإنّك لم تحجّ!». فطفق الشبلي يبكي على ما فرّطه في حجّه، ومازال يتعلّم حتى حجّ من قابل بمعرفة ويقين.
نتعلّم من فحوى ما ورد عن الإمام السجاد (ع)، ونحن في زمن الحجّ إلى الله، أن نفد عليه ونحن مطهَّرون من كلّ ما اكتسبناه من آثام، وأن نعقد العزم على عدم العودة إلى ارتكاب المعاصي عبر التوبة الخالصة النصوح، وأن نلبس ثوب الطاعة الحقيقية لله في السرّ والعلن، فنبتعد حقيقةً عن الرياء والعصبية والنفاق، ونبتعد عن الشبهات في مواقفنا وعيشنا وعقيدتنا، وأن نعاهد الله على التزام ما أمر والانتهاء عمّا نهى، وأن نهاجر إلى الله ونهرب إليه من كلّ ما يلوّث نفوسنا ويسقط عزّتنا، وأن نرجو دوماً رحمة الله، فنسعى إليها بأفعالنا وأقوالنا، وأن نخاف الله، فنراقب أنفُسنا ونحاسبها، وأن نعي حقيقة وقوف الله على كتاب أعمالنا في السرّ والعلانية.
نتعلّم أيضاً التطهّر من الذنوب، ورجم كلّ تصرف شيطاني يمكن أن يصدر عنّا، وأن نرمي أعداء الله بكلّ ما نستطيعه من قوّة، ونتمسّك بالورع والتقوى وهجران الذنب والأطماع والأهواء، عندها قد نحقّق بعضاً من معنويات عبادة الحجّ التي تعدّ من أهمّ العبادات في الإسلام.
هذه من جملة وصايا الإمام زين العابدين (ع)، حيث يدعونا أئمّتنا كي نتربى على القيم والمفاهيم العبادية السليمة التي تفتح قلوبنا وعقولنا على الخير كلّه، والبركة كلّها، وعلى فضل الله ورضوانه في الدُّنيا والآخرة.►
في ذكري وفاة السيدة ام البنين
نسب ام البنين
أم البنين هي فاطمة بنت حزام ، بن خالد ، بن ربيعة ، بن عامر ، بن كلاب ، بن ربيعة ، بن عامر ، بن صعصعة الكلابيّة ، فهي تنحدر من بيت عريق في العروبة و الشجاعة ، و قال عنها عقيل بن أبي طالب : ليس في العرب أشجع من آبائها و لا أفرس .
زواجها
تزوَّجها سيّدنا و مولانا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ، بإشارة من أخيه عقيل بن أبي طالب لكونه عالماً بأخبار العرب و أنسابهم ، حيث كان قد طلب منه الإمام ( عليه السَّلام ) أن يختار له امرأةً قد ولدتها الفحولة من العرب ليتزوّجها فتلد له غلاماً فارساً ، فاختارها له و قال الطبري : ثم تزوّج ـ أي علي ( عليه السَّلام ) بعد فاطمة ( عليها السلام ) ـ أم البنين بنت حزام ، و هو ـ أي حزام ـ أبو المجل بن خالد ، بن ربيعة ، بن الوحيد ، بن كعب ، بن عامر ، بن كلاب ، فولدها لها منه : العباس و جعفر و عبد الله و عثمان ، قتلوا مع الحسين ( عليه السلام ) بكربلاء ، و لا بقية لهم غير العباس 1 .
أم البنين و الشعر
كانت اُم البنين شاعرة فصيحة ، تخرج بعد مقتل الحسين ( عليه السَّلام ) و مقتل أولادها الأربعة كلّ يوم إلى البقيع و معها عبيد الله ولد ولدها العباس ، فتندب أولادها ـ خصوصاً العباس ـ أشجى ندبة ، فيجتمع الناس فيسمعون بكاءها و ندبتها ، و كان مروان بن الحكم على شدّة عداوته لبني هاشم يجيء في مَن يجيء ، فلا يزال يسمع ندبتها و يبكي .
من جملة رثائها
يا مَن رأى العباسَ كَرَّ *** على جمـاهيرِ النَقد
و وراه مِن أبناءِ حيدر *** كـلّ لـيثٍ ذي لبـد
أُنبئتُ أنّ ابني اُصيبَب *** برأسـهِ مـقطوع يد
ويلي على شبلي آمالَ *** برأسه ضَـربُ العَمد
لو كان سيفُكَ في يدك *** لمـا دنـا منك أحـد
و من مراثيها أيضاً
لا تَدعـونِّي ويـكِ اُم ّ البنين *** تُـذكّرينـي بليـوث العَرين
كانت بنـون لـي اُدعى بهم *** و اليوم أصبحتُ و لا من بنين
أربعـةُ مـثل نسـور الرُبـى *** قد واصلوا الموت بقطع الوتين
تُنـازع الخرصـان 2 أشـلاءَهم *** فكلُّهـم أمـسى صريعاً طعين
يـا ليت شعـري أ كما أخبروا *** بـأن عبّـاساً قطيـع اليميـن
موقفها البطولي الرائع
لم تحضر أم البنين واقعة الطف ، إلاّ أنّها واست أهل البيت ( عليهم السلام ) و ضحَّت من أجل الدفاع عن الدين الإسلامي بتقديم أولادها الأبطال الأربعة فداءً للحسين ( عليه السَّلام ) و لأهدافه السامية .
ثم واصلت جهادها الإعلامي بعد مقتل سيد الشهداء و وصول أهل البيت ( عليهم السلام ) إلى المدينة المنورة ، فكانت تخرج كل يوم إلى مقبرة البقيع و معها عبيد الله ولد ولدها العباس ، فتندب أبناءها الأربعة أشجى ندبة ، فيجتمع الناس إليها فيسمعون بكاءها و ندبتها و يشاركوها العزاء ، كما كانت تقيم مجالس العزاء في بيتها فتنوح و تبكي على الحسين ( عليه السَّلام ) و على أبنائها الشهداء الأربعة ، و لم تزل حالتها هذه حتى التحقت بالرفيق الأعلى .
وفاتها
تُوفيت هذه السيدة الجليلة في الثالث عشر مِن جمادى الآخرة سنة : 64 هـجرية في المدينة المنورة و دُفنت بالجانب الغربي من جنة البقيع حيث يتوافد الزائرون لزيارة مرقدها الطاهر.
ولائها للإمام الحسين ( عليه السَّلام )
كانت أم البنين تحب الحسين ( عليه السَّلام ) و تتولاه إلى حدّ كبير يفوق المألوف ، و مما يدلّ على ذلك موقفها البطولي لدى وصول خبر إستشهاد الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) إلى المدينة ، الموقف الذي لا ينمحي من ذاكرة التاريخ أبداً ، هذا الموقف الذي رفع من شأنها و منحها منزلة رفيعة في قلوب المؤمنين .
يقول المامقاني في تنقيح المقال : و يستفاد قوّة إيمانها و تشيّعها من أنّ بشراً بعد وروده المدينة نعى إليها أحد أولادها الأربعة .
فقالت ما معناه : أخبرني عن أبي عبد الله الحسين ( عليه السَّلام ) ، فلمّا نعى إليها الأربعة .
قالت : قطّعت نياط قلبي ، أولادي و مَن تحت الخضراء كلّهم فداء لأبي عبد الله الحسين ( عليه السَّلام ) ، فإنّ عُلْقَتِها بالحسين ليس إلاّ لإمامته ( عليه السَّلام ) ، و تهوينها على نفسها موت مثل هؤلاء الأشبال الأربعة إن سَلِمَ الحسين ( عليه السَّلام ) يكشف عن مرتبة في الديانة رفيعة ،
- تاريخ الطبري : 5 / 153 .
- الخرص من الرماح : رمح قصير يتخذ من خشب منحوت ، و قد يقال لدقاق القناة و قصارها : خرصان ، انظر : العين : 4 / 184 ، للخليل بن أحمد الفراهيدي البصري ، المولود سنة : 100 هجرية بالبصرة ، الطبعة الثانية ، سنة : 1410 هجرية ، دار الهجرة ، قم / إيران .
لماذا ترفض السّعودية الحوار مع إيران؟
وفاء العم
- 25 كانون الثاني 18:48 أكثر ما تحتاجه السعودية في هذه المرحلة هو شدّ العصب لمرحلة إدارة بايدن، لتقليل خسارة مكتسبات حصلت عليها خلال فترة إدارة ترامب الذي كان متشدداً مع إيران.
تغيب المؤشرات الإيجابيّة عن العلاقات السعودية الإيرانية، ولا يوجد في الأفق ما يوحي بانتهاء التوترات والصراع القائم بين الطرفين، ولا يبدو أنَّ الرياض تتلقّى دعوات الوساطة بجديّة، وليس آخرها ما عرضته قطر حول الوساطة بين إيران ودول الخليج.
كما تتكرَّر التّصريحات الإيرانيّة بالاستعداد للحوار مع الرياض، وآخرها ما قاله المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زادة، من أنَّ بلاده تجاهلت بعض أخطاء السعودية، وهي مستعدّة للحوار معها حول مخاوفها التي وصفها بالوهميّة، فيما تتمسّك السعودية بموقفها بأنّ الدعوات الإيرانية ليست جدية، ما يثير التساؤل عن الأسباب التي تقف خلف رفض الرياض إجراء حوار مباشر مع طهران أو فتح الأبواب لتسوية سياسية في الملفات العالقة في المنطقة، على الرغم من خسارة السعودية في العديد من الملفات، منها الفشل في عزل حركة "أنصار الله" أو تحقيق أهداف الحرب على اليمن والخسارة في لبنان والعراق وسوريا.
في الحقيقة، هذه الخسارات هي التي تشدّ العصب السعودي. ومن يعرف تاريخ هذه المنطقة الصحراوية من العالم، يعرف أنَّ الخسارة تشدّ العصب القبلي نحو الذهاب إلى الأقصى، وليس العكس، وذلك على قاعدة "إما نحن وإما هم". إنها خصائص الجغرافيا والإنسان في تلك المنطقة.
بالنّسبة إلى السعودية، إنَّ الأمر مع إيران ليس مجرّد خصومة. هو صراع وجود. وبمعنى أدقّ، لا يوجد مكان في الدبلوماسية السعودية لمفهوم تقاسم النفوذ، ولا تقبل السعودية بقوّةٍ تقود معها العالم الإسلامي بالشراكة، وهو ما يفسر علاقتها المتوترة بأنقرة وخصومتها القصوى مع إيران.
ربما يتساءل البعض: ماذا لو تصالحت مع قطر؟ في الحقيقة، إنَّ الخصومة معها ليست على قاعدة تقاسم النفوذ، بل إن قطر خرجت من البيت الخليجي الذي تضبط إيقاعه الرياض، محاولة الاستقلال بوجهتها السياسية أو فرض تفرّدها الدبلوماسي ونسج تحالفات منفردة لا تتسق مع رؤية الرياض، والتراجع السعودي نابع من محاولة احتواء "ابن عاق"، كما يصف ذلك بعض السعوديين، وذلك لمصلحة أكبر، بمواجهة إيران.
من جانب آخر، هناك من يرى أنَّ ما يجلب السعودية إلى طاولة التفاوضات ليس الخسارات، وإنما تقديم بعض التنازلات التي تحفظ مكانها كمركز مهمّ في العالم العربي والإسلامي، وليس كطرف.
وبالنظر إلى التوازنات في بعض دول المنطقة، فإنَّ المعادلة تغيّرت وصارت معادلة موجعة لدولة بحجم السعودية، فهي طرف في اليمن بعد أن كانت مركزاً، وطرف في لبنان والعراق. وفي سوريا، سجلت خسارة كبيرة. ترفض السعودية هذا التحوّل وتقاومه، فهو تحول على مستوى النفوذ والأمن. وعملياً، تعدّ الرياض مطوقة بالنفوذ الإيراني في العراق من الشمال، واليمن في الجنوب.
هذا الأمر يفسر "الاستشراس" السعودي في مواجهة إيران بين محاولة استعادة النفوذ المفقود وفكّ الطوق، والذهاب بعيداً برعاية التطبيع الخليجي مع "إسرائيل". إنّ ما يسعى إليه الخليج هو تشكيل جبهة إسرائيلية خليجية للضغط على إدارة بايدن بشأن عودة العمل أو التفاوض حول الاتفاق النووي مع إيران من جهة، ومحاولة تقويضه من جهة أخرى.
قالت الدول الخليجية في قمة "العلا" صراحة: "ينبغي إشراك الخليج هذه المرة في أي مفاوضات مرتقبة بين إدارة بايدن وإيران حول اتفاق نووي جديد، وذلك لضمان معالجة قدرات إيران الصّاروخية ونشاطها المزعزع للأمن والاستقرار في المنطقة". أما وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، فقد أكَّد أن لا تفاهم مع إيران قبل تغيير سلوكها في المنطقة.
في المقابل، وفي المعلومات، أعطت السّعودية إشارات إيجابية لقطر للمضيّ قدماً في القيام بدور الوساطة مع تركيا، وليس واضحاً إن كانت الرياض تتطلَّع إلى تفاهمات جوهرية أو حوار مع الأتراك للتخفيف من التوترات، ولكن الواضح أن الأخيرة تبحث عن تسويات مرحلية مع بعض الخصوم.
أكثر ما تحتاجه السعودية في هذه المرحلة هو شدّ العصب لمرحلة بايدن، لتقليل خسارة مكتسبات حصلت عليها خلال فترة ترامب الذي كان متشدداً مع إيران، بإنهاء العمل بالاتفاق النووي وتشديد العقوبات عليها والسماح بالحرب على اليمن بحجة مواجهة نفوذها فيه، فيما يبدو أنَّ سياسة بايدن تسير على النقيض من كلّ ذلك، فنتوقّع أن يمارس الضّغط لوقف الحرب على اليمن؛ الحرب التي أدت إلى نتائج كارثية من دون مكاسب تُذكر، والعودة إلى مربّع الاتفاق النووي، والتخفيف من العقوبات، لتشجيع إيران على التفاوض.
هذا كلّه لا يشجع الرياض على الحوار، وإنما يرفع منسوب القلق على النفوذ والأمن. لذا، لا حوار في الأفق مع إيران من جانب السعودية، ولا مبادرات، ولا رغبة في قبول الوساطات، وإنما المواجهة كخيار أول، ما يفتح الأبواب للتساؤل عن مآلات الذهاب بالصراع بعيداً عوضاً عن الحوار، وعن الثمن والإمكانيات، وكذلك عن ارتدادات وجود الإسرائيلي في منطقة الخليج؛ التساؤل عن النقطة التي ستبدأ منها التسوية، هل هي قبل حربٍ أو بعدها، ذلك أن آفاق الحوار والتسوية تبدو بعيدة حتى الآن!
المصدر:المیادین
لافروف وظريف يُشددان على أهمية الحفاظ على الاتفاق النووي
وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف وبعد محادثات مع نظيره الروسي سيرغي لافروف، يؤكد أنه إذا تم رفع العقوبات عن إيران "من الممكن العودة إلى المربع الأول من الاتفاق النووي". ولافروف يقول إن عودة واشنطن إلى الاتفاق ضرورية لكي تحترمه إيران.
عقد وزيرا الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف والروسي سيرغي لافروف مؤتمراً صحافياً مشتركاً في موسكو، بعد محادثات في العاصمة الروسية التي وصل إليها ظريف صباح اليوم الثلاثاء.
ظريف أشاد خلال المؤتمر بالعلاقات الثنائية بين طهران وموسكو، ورأى أنها "تتطور بشكل جيد". موجهاً التهنئة "للرئيس الروسي وروسيا الاتحادية لوضع حد للمشاكل في منطقتنا".
ظريف تناول الملف السوري، فشدد على ضرورة أن "تمضي العملية الدستورية في سوريا قدماً، وضرورة إدخال المساعدات إلى هناك".
في الملف اليمني أمل ظريف "مواصلة التعاون لحل الأزمة الإنسانية التي يعاني منها اليمن، والعمل لوقف إطلاق النار وإراقة الدماء".
وإذ أشاد بـ"العلاقات الروسية الإيرانية العريقة والقديمة"، أكد أن "تاريخ العلاقات بين إيران وروسيا، أطول من عمر الولايات المتحدة الأميركية".
وأكد أن "طهران تلتزم بتعهداتها في الاتفاق النووي على عكس واشنطن"، معتبراً أن "تصريحات الإدارة الأميركية الجديدة أقوال لا أفعال"، مشيراً إلى أن "السيد القائد (خامنئي) قال إنه اذا تم رفع العقوبات من الممكن العودة إلى المربع الأول من الاتفاق النووي".
ولفت إلى أن طهران ستعود إلى التنفيذ الكامل لالتزاماتها بموجب خطة العمل الشاملة المشتركة إذا رفعت الولايات المتحدة العقوبات عن إيران.
ظريف أشار إلى أن البرلمان الإيراني أقر مؤخراً قانوناً يطالب إيران بإنهاء تطبيق البروتوكول الإضافي لاتفاقيات الضمانات مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في حال عدم إحراز تقدم بين 21 و23 شباط/فبراير.
وقال ظريف: "ولكن إذا تم اتخاذ إجراءات إيجابية بحلول ذلك الوقت لإعادة تعاوننا الاقتصادي إلى المسار الطبيعي - أي أن يضع الأميركيون حداً لعقوباتهم ولن يتدخلوا في التعاون الاقتصادي بين إيران والعالم - ورأينا النتيجة .. ستقوم إيران بالوفاء بالتزاماتها".
وثمّن من جهة أخرى، التوصل إلى اتفاق بين أذربيجان وأرمينيا حول كاراباخ، وقال إنه "بالنسبة لإيران كان ضرورياً حل الأزمة في كاراباخ لأسباب أمنية".
وختم قائلاً "لن أتصرف كما فعل نظيري السعودي بالهجوم على إيران، بل أقول علينا التعاون لصالح أمن المنطقة".
من جهته، أشار وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف إلى أنه "تحدثنا بالتفصيل عن الوضع حول خطة العمل الشاملة المشتركة لحل مشكلة البرنامج النووي الإيراني، ولدينا موقف مشترك" مع طهران. وأكد اهتمام موسكو "بالحفاظ الكامل عليها ومقتنعون بأن الطريق إلى ذلك يكمن حصراً من خلال التنفيذ المتسق والشامل لهذه الوثيقة الهامة من قبل جميع الأطراف المعنية على أساس قرار مجلس الأمن رقم 2231".
لافروف أعرب عن أمله أن "تكون الجهود المبذولة الآن، ستؤدي إلى نتائج وستسمح بالحفاظ على خطة العمل الشاملة المشتركة"، معتبراً أن الولايات المتحدة "ستعود إلى التنفيذ الكامل لقرار مجلس الأمن المذكور، وهذا بدوره يخلق الظروف للامتثال لجميع متطلبات الاتفاق النووي الإيراني". لافتاً إلى أن "روسيا ستعمل مع الدول الأخرى للحد من انتشار الأسلحة النووية".
لافروف أشار إلى أنه "قدمنا رؤية جديدة للأمن في منطقة الخليج". وأعرب عن أمله أن "تتعاون دول جنوب القوقاز فيما بينها".
وفي الملف السوري، أعلن لافروف أن "مفاوضات أستانا المقبلة بشأن سوريا ستعقد في شباط/فبراير المقبل في سوتشي".
المصدر:المیادین
كلمة الإمام الخامنئي المتلفزة في ذكرى نهضة أهالي قم
النصّ الكامل لكلمة الإمام الخامنئي المتلفزة في ذكرى نهضة أهالي قم عام 1978 2021/01/08
في أجواء الذكرى السنويّة لنهضة أهالي قم عام 1978، ألقى الإمام الخامنئي يوم الجمعة 8/1/2021 كلمة متلفزة مباشرة، وفي كلمته أشار قائد الثورة الإسلاميّة إلى أنّ حضور الجمهورية الإسلاميّة في المنطقة يعزّز استقرارها ويقوّي أصدقائها عكس ما يُنتجه حضور أمريكا والدول الاستكباريّة، مشيراً إلى أنّ أعداء إيران باتوا مجبرين بعد إسقاط الطائرة الأمريكية وضربة عين الأسد على إجراء حسابات بشأن قراراتهم العسكرية، ثمّ أشاد الإمام الخامنئي باللقاح الإيراني الذي صنّعه الخبراء الإيرانيّون وقال أنّه مدعاة فخر واعتزاز إيران.
بسم الله الرحمن الرحيم،
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله الطاهرين، ولا سيّما بقية الله في الأرضين.
أقدّم التحية إلى أهل قم الأعزاء والحوزة العلمية العظيمة. للأسف، هذا هو وضع لقائنا السنوي هذا العام، وأنا محروم رؤيةَ الوجوه المستنيرة للإخوة القمّيّين الأعزاء، لكن هذا أيضاً واحد من صور الحياة، ولها تقلّبات. الحياة فيها دهاليز كثيرة، ويجب سلوك طريق الحياة. هذه [الأزمة] ستمرّ، إن شاء الله، فهي مثل كل الأحداث الأخرى التي كانت حلوة أو مرّة. إنّها مؤقتة، وإن شاء الله، سيصير طريق الحياة مُعبّداً.
الحمد لله، والشكر للشعبين الإيراني والعراقي العزيزين على التحرّكات العفوية في ذكرى الشهيد سليماني والشهيد «أبو مهدي»
حديثي اليوم كلمات قليلة حول الحدث المهمّ والملحمة المهمّة ليوم «التاسع عشر من دي»(1)، وبضع كلمات حول بعض قضايا اليوم التي أثيرت في الرأي العام، لكن قبل أن أبدأ الموضوع الرئيسي يجدر أن الحمد لله وأشكر شعب بلادنا العزيز على الحركة الملحمية العظيمة لهم في البلاد، في ذكرى شهيدنا العزيز سليماني(2).
تجسّد الشهيد سليماني والشهيد «أبو مهدي» في الحركات العفوية للناس في أنحاء البلاد جميعاً. الحمد لله، بهذه الحركة الشّعبية العظيمة، انبعثت روحٌ جديدة في جسد الوطن والشّعب، بل لم يكن من الممكن إنشاء هكذا حركة بأي توجيه أو أمر. هذه الحركة جاءت بسبب مشاعر الناس وقلوبهم وبصيرتهم، والدوافع الصحيحة لهم.
كما كان هناك تجمّع كبير ورائع في بغداد ومدن عراقية أخرى لإحياء ذكرى الشهيد «أبو مهدي»، القائد العراقي البارز، والشهيد سليماني، الضيف العزيز على الشّعب العراقي. خالص الشّكر لجميع الإخوة والأخوات الذين شاركوا في هذه المراسم هنا، وفي العراق.
يجدر أن أذكر أسماء الشهداء المرافقين للشهيد سليماني، لأن عظمة الشهيد سليماني جعلت أسماء هؤلاء أقل ذكراً: الشهيد بور جفري (3)، الشهيد مظفري نيا (4)، الشهيد طارمي (5)، الشهيد زماني نيا (6)، وجميعهم من الشهداء العظيمي المقام. وكذلك رفقاء الشهيد العراقي «أبو مهدي» الذين لم يتسنَّ لي تذكّر أسمائهم.
أيضاً يجدر إحياء ذكرى الشهداء (7) الذين فقدوا أرواحهم خلال مراسم التشييع في كرمان، وكذلك في حادث تحطم الطائرة المرير والمؤسف جداً في طهران، الذي كان مأسويّاً حقاً، كما أنه أحزن المسؤولين في البلاد. نتمنى، إن شاء الله – تعالى -، أن يجعل هؤلاء الشهداء، سواء شهداء كرمان أو طهران، في رحمته ولطفه، وأن يشمل أسرهم بالصّبر والسّلوان والسّكينة والعناية وفضله ومَنِّه. بالطبع، على المسؤولين أيضاً واجبات ذكّرناهم بها.
كما أرى من الضروري إحياء الذكرى بمناسبة الأربعين لاستشهاد الشهيد فخري زاده(رض)(8). لقد كان شهيداً عظيماً وشخصية عظيمة. فقدنا في المدة الأخيرة شخصيتين علميتين عظيمتين: أحدهما الشهيد فخري زاده، والآخر آية الله المصباح(9). كلاهما من الشخصيات العلمية البارزة. كلٌّ في مجاله الخاص وعمله الخاص. وكلاهما ترك إرثاً قيّماً في المؤسسة التي كان يديرها، وهذا يجب أن يستمرّ بقوة الله، وبأفضل حال.
مسألتان في «انتفاضة 19 دي»
أما عن «التاسع عشر من دي»... سأقول شيئين عن «التاسع عشر من دي»: أحدهما أننا بحاجة إلى حراسة ذكرى «التاسع عشر من دي» وحادثة «التاسع عشر من دي» وصَونهما، والآخر ضرورة أن نصون محتوى ملحمة «التاسع عشر من دي» ومضمونها، أي من الضروري واللازم علينا صَون الحدث نفسه وحراسته، ما يعني إبقاءه حيّاً، وكذلك حماية المحتوى لهذه الملحمة العظيمة وحراسته، وسوف أشرح السبب الآن.
1) صَون ذكرى «19 دي» بوصفها من نقاط أوج الشّعب الإيراني
يجب أن نصون ونحرس تلك الملحمة نفسها، لأنها من إحدى النقاط في أوج حياة الشّعب الإيراني. الشعوب لها نقاط أوج ونقاط حضيض. يجب إبقاء نقاط الأوج حيّةً. فهي التي تُظهر الحيويّة والمثابرة للشّعب، وإرادة الشّعب وعزيمته وبصيرته في هذه الأوقات الحساسة. كان الأمر كذلك يوم «19 دي». فيجب أن تبقى نقطة الأوج حيّة، لأنها تعطي المعنوية لجيل المستقبل، ولأنها مصدرٌ للفخر والعزة الوطنية. هذه النقاط تُسجّل في التاريخ وتضيء المستقبل لجيل المستقبل. لذلك، لا ينبغي السماح لهذه الحادثة نفسها بأن تصير باهتة. الحمد لله، حتى يومنا، ظلّت هذه الحادثة حية ونشيطة، وينبغي أن تبقى كذلك.
2) المحافظة على مضمون «19 دي» ومنع التّفسير الخطأ لها
وأما حراسة مضمون هذه الحادثة، حسناً، فلكل حادث مضمون ومحتوى ومعنى... ما مضمون هذه الحادثة؟ يجب علينا معرفة هذا المضمون وحراسته. لماذا نحرسه؟ لأن الرّواة الخونة والمحللين المغرضين يحاولون تغيير محتوى الأحداث العظيمة لمصلحتهم ولمصلحة القوى الغاصبة في العالم. هذه الحالة موجودة دوماً منذ القِدم: الراوي المغرض يروي الحادثة بطريقة تجعل صورة تلك الملحمة تتبادر إلى ذهن المخاطب بعكس المقصود منها. اليوم، مع انتشار وسائل التواصل الاجتماعي والإمكانات الهائلة والواسعة، من الممكن للقوى المغرضة والأيدي الخائنة تغيير الأحداث وتغيير مضمونها ومغالطة تفسيرها وتضليل الرأي العام، خاصة لتغيير الرأي العام للأجيال المقبلة، وللذين لم يكونوا حاضرين في تلك الحادثة ولم يطّلعوا عليها من كثب أو لم يسمعوا بها في الزمن القريب، ومن هم بعيدون من الحادث. اليوم، إنّ من أهم المهمات لأجهزة التجسّس الجلوس ورصد أحداث العالم، ثمّ، ليس مباشرة لكن بلسان الآخرين أو بأقلامهم، أو عن طريق مقالات وتحليلات للأشخاص ذوي الاعتبار والشهرة، أو بالوسائل المتاحة لديهم: المال، والتهديد، والتطميع... يعكسون ما ورد في الحادثة وفقاً لتفسيرهم المطلوب.
لقد قرأت في المدة الأخيرة كتاباً كتبه أمريكي. في الواقع، لقد جمع هذا الكتاب، لأن أشخاصاً مختلفين شاركوا في تأليفه. يدور هذا الكتاب حول سيطرة وكالة «سي آي إي» التجسّسية (10) على الصحف والمجلات الرئيسية في العالم. هذا الكتاب هو في الأساس عن هذا الموضوع. يشرح كيف تدخلت «سي آي إي» في المقالات والتحليلات والكتابات والبيانات لمؤلفين مشهورين، وفي بعض الأحيان في المجلات المعتدّ بها، إذ لقّنت الرأي العام تفسيرها الخاص بدلاً من التفسير الحقيقي وسيطرت عليه، ليس في الصحافة الأمريكية فقط بل في بلدان أخرى، في أوروبا. يذكر مجلة فرنسية شهيرة ويقول إنهم فعلوا تلك الأشياء هناك. قالوا هكذا، وكتبوا هكذا، ما يعني أن هذا العمل شائع في العالم الآن، وهو موجود. في الواقع، وبذلك، تنقل وكالة «سي آي إي» تحليلها المضلل وتفسيرها الخطأ للقضايا والأحداث إلى الرأي العام وتضلّله. هذا خطر موجود دائماً.
«19 دي» مقدمة لانتفاضة عامة للشّعب
حسناً، في ما يخصّ «التاسع عشر من دي»، [ينبغي] أن نكون حذرين حتى لا يحدث ذلك. طبعاً سأقول بإيجاز ما هو المضمون والمحتوى والمعنى لحركة «19 دي» في قم، الحركة العظيمة التي نفّذها الشّعب والحوزة العلمية بالاشتراك. إذا انتهت قضية قم في مدينة قم نفسها وبقت محصورة فيها، يمكن للمرء أن يحملها على أنها حركة عاطفية سببها مثلاً انفعالات دينية وعابرة، فيقول: لقد كانوا أناساً شجعاناً... لقد ثاروا في حادثة ثم قُمِعت وانتهى الأمر!
قد يقولون ذلك، لكن حادثة قم لم تكن كذلك. حادثة قم لم تنتهِ ولم تقتصر على قم. امتدت من قم إلى تبريز، إلى يزد، إلى كرمان، إلى شيراز، إلى مشهد، إلى طهران... وأدّت تدريجياً إلى انتفاضة عامة. بدأت في قم، بدأت من القمّيين، لكن الحادثة لم تنتهِ في قم. في غضون خمسة أشهر أو ستة، تحوّلت الحادثة إلى انتفاضة وطنية في المدن جميعها وتدريجياً في القرى؛ ثار الجميع. ما هذه الحادثة؟ بعد ذلك، على أساس هذه الانتفاضة، حدثت ثورة شعبية كبيرة وفريدة في التاريخ... ربما فريدة من نوعها في بعض الجوانب.
معنى «19 دي»: غضب الشّعب على النظام الديكتاتوري الفاسد والمناهض للدين والأرستقراطي
حسناً، من هذا المنظور، لم يعد من الممكن تبسيط حادثة قم وتفسيرها بوصفها هيجاناً. كلا! هذه الحادثة لها معنى آخر، لها عمق، لها معنى أعمق. فما معنى حادثة «التاسع عشر من دي»؟ إنها غضب وقوة اعتراض من الشّعب ضدّ النّظام الديكتاتوري، التابع، الفاسد، المناهض للدين، الأرستقراطي الطبقي. لقد تراكم استياء الناس وغضبهم مع مرور الوقت، ووجدوا دعماً فكرياً من دروس الإمام وخطاباته وبياناته التي كانت تُنشر من قم والنجف. استطاعت هذه الحركة العظيمة خلق هذه الانتفاضة العظيمة من هذا الغضب العام للناس المعتمدين على الدعم الفكري الذي يلقيه الإمام دائماً وباستمرار، ثمّ انعكس على يد الشباب المناضلين، خاصة طلاب العلم في أنحاء البلاد جميعاً.
نقطتان مهمّتان في «19 دي»: الجانب الديني والجانب المعادي لأمريكا
هناك نقطتان مهمتان يجب أخذهما بالحسبان وهما مصيريّتان. النقطة الأولى أنّ قائد هذه الحركة العامة كان مرجع تقليد، عالم دين عظيم، شخصية بارزة، مبلّغاً ومروّجاً لأسس المعرفة الدينية. دعا هذا القائد العظيم الناس إلى الدين منذ اليوم الأول للنضال. منذ بداية النضال، عام 1963، كانت دعوة الإمام تستند إلى مبادئ دينية، وإن كان يعترض أو يقترح عرضاً، فهو يعتمد على المبادئ الدينية في الأحوال جميعاً. فكانت حركة الناس دينية أساساً، لأنها كانت بقيادة الإمام، بتعليمٍ وهدي وتوجيه منه. كان الإمام مرجع تقليد وعالم دين بارزاً، وعمله قائماً على مبادئ دينية منذ البداية. هذه نقطة مهمة جداً.
النقطة الثانية أنه قبل أسبوع تقريباً من انتفاضة أهالي قم، أعرب رئيس أمريكا - في ذلك الحين (جيمي) كارتر- من طهران عن دعمه الكامل لنظام بهلوي، ومحمد رضا. لقد أعدّوا له خطاباً يلقيه في الحفل، ووضعوا ذلك الخطاب في جيبه، ثم بدأ الكلام - كَشف عنه لاحقاً مستشاروه ومرافقوه - وأخذ يمدح ويؤيّد محمد رضا ونظام بهلوي بصورة كاملة. لذلك، كانت هذه الحركة في قم معادية لأمريكا، ومناهضة للاستكبار. لقد كانت خطوة ضد تلك القوى الخبيثة التي دعمت النظام البهلوي الديكتاتوري المناهض للدين والفاسد من أجل مصالحها الخاصة. في الواقع، كان للانتفاضة جانب ديني وآخر مناهض لأمريكا.
«19 دي» الضربة الأولى للفأس الإبراهيمي على متن الصنم الأمريكي العظيم
في الواقع، يمكن وصف انتفاضة «التاسع عشر من دي» بأنها الضربة الأولى للفأس الإبراهيمي على متن الصنم الكبير. كانت هذه ضربة الفأس الأولى التي وُجهّت إلى صنم أمريكا الكبير على يد أهالي قم، واستمرت بعد ذلك، وأنتم تشاهدون الوضع في أمريكا اليوم. ترون حالة الصنم العظيم اليوم، ترون أنّ هذه هي ديمقراطيتهم، هذه فضيحة انتخاباتهم، هذه حقوق الإنسان! حقوق الإنسان هي في قتل رجل ذي بشرة سمراء في الشارع كل بضع ساعات، أو على الأقل كل بضعة أيام، دون سبب، ودون جرم، ولا تتم ملاحقة القاتل! إنها قيمهم كما يكرّرون، القيم الأمريكية، والقيم الأمريكية... اليوم صارت هذه القيم أضحوكة العالم كله. حتى أصدقاؤهم يسخرون منها. وهذا أيضاً اقتصادهم المشلول. إن الاقتصاد الأمريكي مشلول بكل معنى الكلمة، فهناك عشرات الملايين من المتعطّلين عن العمل والجياع والمشرّدين. هذا هو الوضع في أمريكا اليوم. هذا أمر مهم بالطبع، لكن الأكثر غرابة منه أن بعض الناس لا تزال لديهم القِبلة في أمريكا، ولا يزال لديهم أمل وحلم بها، بأمريكا بمثل هذه الحالة!
حسنًا، قلنا إن الانتفاضة العامة كانت معادية لأمريكا. لم يكن السبب حصراً أن رئيس أمريكا قد جاء الآن و[أيّد الشاه] بنسبة 100%. في الواقع، كانت تنفيساً للاستياء والغضب الداخلي عند الناس، فقد كانت أمريكا تمارس أنواع الضغط كافة على الشّعب خمسة وعشرين عاماً عبر نظام بهلوي الاستبدادي والفاسد، الذي جعل إيران في الواقع قاعدتها الرئيسية. لم تكن نتيجةُ ذلك تقدّماً لبلادنا، بل على العكس، نتيجةُ الوجود الأمريكي في بلادنا كانت الفقر الاقتصادي والفقر العلمي والفساد والانحطاط الثقافي. لقد خلقوا مثل هذا الوضع. يعتقد بعض الناس الآن أننا إن تعاملنا مع أمريكا، وإذا تصالحنا وصرنا أصدقاء، فإنّ الوضع في البلد سيتحوّل إلى جنّة. كلا! انظروا إلى ما قبل الثورة وكيف كان الوضع. انظروا إلى البلدان التي تتملّق لأمريكا، وانظروا إلى وضعهم، وضعهم الاقتصادي والعلمي... في منطقتنا نفسها، ولن أسميهم، فأنتم تعرفونهم.
بالطبع، حتى بعد تلك الثورة العظيمة، لم تكفَّ أمريكا يدها. يسعون إلى الاستمرار بتلك الهيمنة الجهنمية نفسها على بلدنا، ليس على بلدنا فقط، [بل] على إيران والمنطقة كلها. أن يتساءل بعض الناس ما الفرق بين أمريكا ودولة أوروبية، فهذا هو الاختلاف. أمريكا، لأنها استفادت هنا لسنوات عدة وظلت جالسة هنا، ترى نفسها قوة متفوّقة وتسعى باستمرار إلى العودة إلى الوضع السابق، وهذا ما يجعل الشّعب الإيراني واعياً ويقظاً. بالطبع، إن بعض الحكومات الخائنة في المنطقة تساعدها.
المصالح الأمريكية مرهونة بالاضطراب في المنطقة
أقول أيضاً: أمريكا ترى مصلحتها في الاضطراب في المنطقة في الظروف الحالية. وإلى حين أنها لم تسيطر على المنطقة بالكامل، سيكون من مصلحتها قبل ذلك زعزعة استقرار المنطقة. مصلحة أمريكا في غياب الاستقرار في المنطقة. يقولون هذا بأنفسهم. يعبّرون عنه صراحة بأنفسهم. قال خبير مشهور في مؤسسة أمريكية شهيرة، «إنتربرايز» (11)، وهو خبير مشهور في مركز الأبحاث هذا، ولو أسمّيه، فهو معروف لكثير من الضالعين في السياسة. قال بصراحة إننا لا نريد الاستقرار في إيران والعراق وسوريا ولبنان. ليست إيران فقط، بل إيران والعراق وسوريا ولبنان... لا نرغب في الاستقرار ولا نريده؛ إن القضية الأساسية ليست اللزوم لزعزعة الاستقرار في هذه البلدان أو العكس، فذلك من المسلّمات: يجب أن يحدث الاضطراب في هذه البلدان، لكن كيفية زعزعة الاستقرار هي القضية. كيف نصل إلى الاضطراب. الآن، تارةً ما وفي مكان ما عبر «داعش»، وتارةً أخرى عبر «فتنة 2009»... يفعلون أشياء مثل هذه، والأشياء التي ترونها في المنطقة. إنهم يسعون إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة، ثم يأتي مثرثر أمريكي ويقول إن إيران تسبب الاضطراب في المنطقة. كلا، بل نتسبّب في الاستقرار، وإننا نقف ضد زعزعة أمريكا للاستقرار. أرادت أمريكا أن تزعزع الاستقرار في إيران عام 2009، وقد نزل عليهم البلاء نفسه في 2021. الشيء نفسه الذي حدث في واشنطن في هذه الأيام، خاصة أول من أمس (12)، عندما ذهب أشخاص إلى الكونغرس فاقتضى تهريب أعضائه عبر ممرات سرية. أرادوا أن يفعلوا ذلك في إيران، أرادوا خلق الفوضى هنا، أرادوا أن يُشعلوا حرباً أهلية، والله – تعالى - لم يوفقهم لذلك. كانوا يسعون [إلى الفوضى] هنا في 2009، وقد جلب الله – تعالى - عليهم البلاء نفسه في 2021.
حضارةٌ إسلامية جديدة هدفُنا النهائيّ
بالطبع، عندما ننظر إلى مسار حركة البلد والثورة من «19 دي» حتى يومنا، [نرى] عشرات المرات على الأقل - يمكن أن نقول مئات المرات، لكن لا أريد استخدام كلمات كبيرة جداً – كيف اكتسب بلدنا القوام المتسّق والصّلابة والعمق والنّضج والخبرة، وصار مجهّزاً. لم نكن مجهّزين في ذلك اليوم. نحن اليوم مجهّزون بصورة كبيرة، مجهزون فكرياً وعملياً وسياسياً وعسكرياً، بحمد لله. لقد تغلبنا على كثير من العقبات. الهدف هو إنشاء حضارة إسلامية جديدة. هذا هدفنا النهائي. جيلٌ واحد قد لا يصل إلى هذا الهدف، لكن هذا الطريق سيستمر، وإن شاء الله، ستصل الأجيال المقبلة إلى هذا الهدف.
علينا التغلب على المطبّات التي يضعها المهيمنون في طريقنا، والسياسات الخبيثة التي يحيكونها ضد بلدنا. موقفنا ضد الحكومة الأمريكية ينطلق من هذا الفكر وهذا الاستدلال وهذه الفلسفة. هذا حديثي حول «19 دي».
تحديات مهمّة بين إيران وجبهة الاستكبار
في ما يخصّ بعض القضايا السّاخنة: من القضايا المتكرّرة في المواجهة بين الجمهورية الإسلامية وجبهة الاستكبار التي تقودها أمريكا الأولى مسألة الحظر، والأخرى قضية الحضور الإقليمي لإيران، وأيضاً القدرة الدفاعية والقدرة الصاروخية الإيرانية، فيقولون دائماً أمراً ما، وكلاماً ما، وتذمّراً ما... وهذا الجانب يردّ عليهم بإجابة ما.
طبعاً عناصرنا الداخلية والمسؤولون في الداخل قد ردّوا على جبهة الاستكبار في القضايا الثلاث، سواء أكانوا مسؤولينا العسكريين أم وزارة الخارجية أم شعاراتنا الشّعبية... لقد ردّوا عليهم، لكنني الآن سأقول الكلام الفصلَ والنهائيّ في هذا الصدد.
1- الحظر الغادر والخبيث
أمّا في الحظر، فجبهة الغرب وأعداؤنا ملزمون بوضع حدٍّ لهذه الحركة الخبيثة، أي الحظر على الشّعب الإيراني، ووقفها فوراً. هذا واجبهم: رفع الحظر كلّه. إنها حركة غادرة وخبيثة، وهذا عداء كبير لا طائل منه مع الشّعب الإيراني. ليس عداءً مع نظام الجمهورية الإسلامية أو الحكومة فقط [لكن] هم يعادون الشّعب الإيراني. واجبهم رفع الحظر سريعاً. بالطبع، قلت مرات عدة وأكرر: يجب عليهم رفع الحظر، ونحن أيضاً علينا تنظيم اقتصادنا وتخطيطه بطريقة يمكننا بها إدارة البلاد جيداً رغم الحظر. لقد كررت هذا مرات (13)، وسوف أكرّره مرة أخرى الآن.
لنفترض أن الحظر لن يُرفع... طبعاً لقد صار غير فعّال تدريجياً، هذا يعني أنه صار شكلياً، لكن لنفترض الآن أن الحظر سيبقى، يجب أن نخطط اقتصاد البلد بطريقة لا نواجه فيها مشكلات في الاقتصاد مع وجود الحظر أو إلغائه، ومع ألاعيب الأعداء الاقتصادية. هذا ممكن أيضاً؛ الخبراء يقولون هذا، ولست أنا من يقوله. الحريصين يقولون هذا... يقولون: هذا أمر ممكن، القدرات الداخلية كبيرة جداً. وقد أبلغنا هذا بصفته سياسات عامة، وهي سياسة «الاقتصاد المقاوم» (14) التي يجب متابعتها بقوّة وجدية. إذن، [الجواب الحاسم] في قضيّة الحظر هو هذا. أما قولهم: افعلوا كذا ولا تفعلوا كذا، فهو كلام فارغ؛ الحظر خيانة وجريمة بحق الشّعب الإيراني ولا بدّ من إزالتها. هذه مسألة.
2- حضور إيران الباعث على الاستقرار
في ما يخصّ حضورنا في المنطقة، يقولون دائماً لماذا توجد إيران في المنطقة. نظام الجمهورية الإسلامية ملزم بالتصرّف بطريقة تعزّز أصدقاءه وحلفاءه في المنطقة. هذا واجبنا. حضورنا يعني تعزيز أصدقاءنا وحلفاءنا. يجب علينا ألّا نفعل عملاً يؤدي إلى تضعيف الأصدقاء والأوفياء للجمهوريّة الإسلاميّة في المنطقة. حضورنا على هذا النحو. وهو باعث على الاستقرار. ثبت أن حضور الجمهورية الإسلامية يزيل ما يسبّب فقدان الاستقرار، مثل قضية «داعش» في العراق وقضايا مختلفة في سوريا وما شابه... لا أريد التطرّق إلى هذه التفاصيل. الأشخاص المعنيون يدركون هذا الأمر. لذلك، هذا الحضور في المنطقة محسوم، ويجب أن يكون، وسيبقى.
3- مسألة القدرة الدّفاعيّة والصّاروخيّة الإيرانيّة
أما في القدرة الدفاعية، فلا يجوز لنظام الجمهورية الإسلامية أن يكون الوضع الدفاعي للبلد على نحوٍ يأتي فيه شخص عديم القيمة مثل صدام حسين ويكون قادراً على قصف طهران وإطلاق الصواريخ وأن تحلّق طائراته «ميغ-25» في سمائها ولم يكن النظام (آنذاك) قادراً على فعل شيء. هذا قد حدث. في مدينة طهران هنا. كانت إما تُستهدف بالصواريخ العراقية - هؤلاء «السادة» الأوروبيون أنفسهم عملوا على تعزيز قدرات [صدام] الصاروخيّة حتى تصل صواريخه من بغداد إلى طهران وبقية المدن - أو بطائرات «ميغ-25» التي تقصف من ارتفاع عالٍ ولم نتمكّن من فعل أي شيء؛ لم تكن لدينا إمكانات. لا يجوز للنظام الإسلامي أن يبقيَ البلد على هذا النحو. نحن لم نبقيها على هذا النحو، بتوفيق إلهي. اليوم، قدراتنا الدفاعية تجعل أعداءنا يأخذون هذه القدرات بالحسبان. عندما يتمكن صاروخ الجمهورية الإسلامية من إسقاط الطائرة الأمريكية التي دخلت الأجواء الإيرانية، أو تتمكن الصواريخ الإيرانية من ضرب قاعدة «عين الأسد» (15) بهذه الطريقة، سيكون العدو مُجبراً على أن يأخذ قوّة هذا البلد وقدراته في حساباته الخاصّة وقراراته العسكريّة. يجب ألّا نترك البلاد دون قدرات دفاعيّة. هذا واجبنا. لا ينبغي أن نجعل العدو يجرؤ علينا وألا نكون قادرين على أن نفعل شيئاً في مواجهته.
نقاط حول الاتفاق النووي وتقليص التزامات الجمهوريّة الإسلامية
هناك قضية أخرى تتكرر اليوم كثيراً على لسان المسؤولين والشّعب والسياسيين وفي الفضاء الافتراضي وغير الافتراضي، وهي قضية الاتفاق النووي والالتزامات التي أعلنتها الجمهورية الإسلامية ووضع بعض هذه الالتزامات جانباً، والبدء أخيراً في التخصيب بنسبة 20% وتنفيذ الحكومة قرارَ البرلمان. هذه إحدى النقاشات التي يجري التداول بها اليوم. أودّ أن أشير إلى نقطتين أو ثلاثٍ حول قضية الاتفاق النووي.
1-عودة أمريكا إلى الاتفاق
النقطة الأولى: يثيرون مسألة هل على أمريكا أن تعود إلى الاتفاق النووي أم لا؟ الجمهورية الإسلامية ليس لديها إصرار ولا هي مستعجلةٌ لعودة أمريكا إلى الاتفاق. عودة أمريكا أو عدمها ليست قضيتنا أصلاً. فالمطلب المنطقي والعقلاني للمطالبة به هو رفع الحظر. يجب رفع الحظر. هذا حقّ مغتصب لشعبنا، وواجب عليهم أن يؤدّوا حقّ الشّعب الإيراني، سواء أمريكا أو أوروبا الذين هم معلّقون بأمريكا وتابعون لها. إنْ رُفع الحظر، تصير عودة أمريكا إلى الاتفاق ذات معنى. طبعاً موضوع الخسائر، وهو أحد مطالبنا، ستجري متابعته في المراحل المقبلة، لكن بلا رفعٍ للحظر، قد تكون عودة أمريكا إلى الاتفاق النووي مضرّة بالبلد، فهي ليست من مصلحتنا، [بل] قد تكون مضرّةٌ بنا. وطبعاً، طلبت من المسؤولين في السلطتين التنفيذية والتشريعية المضيّ قُدماً والعمل على هذه القضايا بدقّة والمراعاة الكاملة للضوابط.
2- القرار الصائب في إلغاء الالتزامات
المسألة الثانية: إنّ قرار «مجلس الشورى الإسلامي» والحكومة إلغاءَ جزء من التزامات الاتفاق النووي قرار صائب ومنطقي وعقلاني تماماً ومقبول. عندما لا يفي الطرف الآخر بالتزاماته جميعاً في الاتفاق، لا معنى أن تفيَ الجمهورية الإسلامية بالتزاماتها جميعاً. لذلك، منذ مدة، ألغوا تدريجياً بعض التزاماتهم، وقبل مدة قصيرة، ألغوا التزامات أخرى. بطبيعة الحال، إذا عادوا إلى التزاماتهم، سنعود إلى التزاماتنا، وقد قلت هذا من البداية. كما قلت منذ طُرحت مسألة الاتفاق: يجب أن يكون الالتزام مقابل الالتزام وعملهم مقابل عملنا. كل ما يتوجب علينا فعله ينبغي على الطرف المقابل أن يعمل مقابله. هذا ما لم يحدث في البداية لكن يجب أن يحدث الآن.
الاستفادة من المبادرة وحيوية الشباب مع خبرة الأفراد المجرَّبين
مسألة أخرى لا ضير من أن أطرحها، ولقد دوّنتها هنا، هي أنني سمعت سؤالاً، وقد قلت ذات مرة في برنامج تلفزيوني (16) بُثّ في المدة الأخيرة على ما يبدو، إنه ينبغي أن تأتي حكومة فتيّة وذات نهج متديّن، وقد قلت ذات مرة إنه لا مصلحة في الاستفادة من المُجرَّبين.
قال بعضهم: وكيف ذلك؟ هاتان لا تنسجمان معاً. أقول: لا، هاتان تنسجمان مع بعضهما بعضاً، ولا تتنافيان مع بعضهما بعضاً. التفتوا! أنا أؤمن بالاعتماد على قوّاتي الشابة، ولديّ إيمان راسخ بذلك، وهو لا يخصّ اليوم، فقد كنت أؤمن بذلك منذ القِدم. معنى الوثوق بالقوى الشابة أنه أولاً في بعض الإدارات المهمة في البلاد يجب الاستفادة من الشباب والوثوق بهم. ثانياً ينبغي الترحيب بالمبادرات التي يتخذونها وحركتهم وطول بالهم ونشاط عملهم. أحياناً يذهب الشاب إلى كل مكان، ويقترح شيئاً مهماً يمكنه فعله ولا يجيبونه، فيأتي إلينا، ثم عندما نحوّله إلى الخبير، يؤكد ويقول إنه صحيح. هذا عمل مهم ويمكن لهذا الشخص أداؤه. حسناً، أعتقد أن على البلاد الاستفادة القصوى من المبادرات الشبابية ونشاط الشباب وروح العمل والتَحفزَّ عندهم. هؤلاء أبناؤنا، وهم أبناء البلد وله الحقّ في الاستفادة منهم. هذه هي مسألة الإدارات، وهي [النقطة المقصودة] في الوقت نفسه. لكن عندما نقول إنه يجب الاستفادة منهم في الإدارات، لا يعني هذا أننا يجب أن نتخلى تماماً عن الجيل السابق. لا! يقتضي الأمر في مكان ما الإدارة للشاب، وفي مكان آخر الإدارة لشخص مجرّب وذي خبرة عملية.
لقد كان هذا هو [المبدأ] نفسه منذ بداية الثورة. قال بعضهم إن الإمام في طهران قد عيّن إمام جمعة في الأربعين، وقد كان أنا، هذا العبد! حسناً، نعم، في الوقت نفسه أيضاً، في كرمانشاه، عيّنوا إمام جمعة يبلغ الثمانين(17)، وفي يزد وشيراز ومشهد وتبريز وما إلى ذلك... من العلماء الكبار، عيّنوا رجالاً يبلغون نحو السبعين، فالأمر مختلف بما يقتضيه. في بداية الثورة، وضع الإمام الجليل على رأس «حرس الثورة» شاباً لم يتجاوز الثلاثين (18)، ووضع على رأس القوات البرية في الجيش رجلاً يبلغ ستين عاماً تقريباً (19). فالاقتضاءات كانت على ذلك النحو. في مكان ما، يتطلب الأمر مديراً شاباً على رأس العمل، وفي مكان آخر مديراً مُجرّباً.
الآن، سأتحدّث عن الحكومة الفتيّة المتديّنة... في ما بعد، إن شاء الله، قريباً من الانتخابات. سوف أتحدث، أي لدي كلمات أقولها لاحقاً، لكن أن يُخيّل لبعضهم أننا إن قلنا: استفيدوا من المُجربين، فهذا يتعارض مع الاستفادة من الشباب. كلا! هذا لا يتنافى. بالطبع، تجدر الإشارة إلى أن بعض الأشخاص في منتصف العمر هم مثل الشباب، فقد كان الشهيد سليماني في الستين تقريباً، [لكن] رأيتم كيف يتنقل في الجبال والسهول والصحراء وكل مكان مثل الشباب، ولم يخَفْ من شيء. طبعاً، لا يعرف الناس كثيراً عن نشاطاته وأعماله، ما شوهد على شاشات التلفاز فقط. ما أعرفه أكثر من ذلك بكثير. في بعض الأحيان، خلال 24 ساعة، يكون في بلد ما ويعمل بمثابرة لدرجة أن المرء يتعب من قراءة مقدار الجهد المبذول والتنقل الذي تمّ في 24 ساعة أو 36. هناك من هم على هذا النحو أيضاً.
بعض النقاط حول «كورونا»
1- اللّقاح المصنوع في إيران مبعثٌ للفخر والاعتزاز
الموضوع الأخير هو موضوع «كورونا» الذي سنكرره. أولاً إن اللّقاح [الإيراني] المُعدّ لـ«كورونا» أمر يدعو للفخر. فلا تنكروا هذا. هذا اعتزاز لأي بلد. إنه فخرٌ للبلد. بالطبع، يسيرون نحو صناعة اللّقاح بطرق مختلفة، وقد وصل إلى مرحلة الاختبار على البشر وكان ناجحاً. فلا تحاولوا إنكار هذا. هناك بعض من يرون أن إنجاز أي عمل عظيم في البلاد مستبعد. عندما صنع شبابنا أجهزة الطرد المركزي النووية هذه، وقد ذكرتها وأشرت إليها مرات عدة في خطاباتي، كتب لي بعض هؤلاء الكبار في المجال العلمي رسالة تقول: سيدي! لا تنخدعوا بهؤلاء، فهم لا يستطيعون فعل شيء كهذا. كانوا ينكرون ذلك، ويقولون إنه لا يمكن فعله، لكنكم رأيتم ما حدث وإلى أين وصل. ينطبق الشيء نفسه على مسألة الخلايا الجذعية. عندما استطاع المرحوم كاظمي (20) وهؤلاء الشباب الأعزاء، الحمد لله، الذين ما زالوا حتى اليوم، إنتاج الخلايا الجذعية، وهو عمل عظيم جداً ضمن القضايا البيولوجية البشرية، فوراً أيضاً صار يُرسل إلينا عدد من الأشخاص برقيات أو يكتبون رسائل - لا أتذكر الآن هل كانت رسائل - ألّا تُصدّقوا كثيراً. جاء بعضهم إلى هنا وقالوا لي: لا تصدق هذا كثيراً، وهذا ليس معتدّاً به. كلا! لقد كان معتدّاً به وصدقناه وكان ذلك صحيحاً آنذاك، ثم تطوّر عشرة أضعاف. إنه الشيء نفسه الآن. لقد صنعوا هذا اللّقاح وجُرّبَ على البشر، وإن شاء الله، سيصنعون أفضله وأكمله أيضاً، أي سيكون أكثر اكتمالاً يوماً بعد يوم، وقد نجح حتى الآن، وبعد هذا، إن شاء الله، سيكون ناجحاً. هذه أول نقطة تدلّ على أن هذا مصدر فخر. أشكر جميع المعنيين وزارة الصحة وغيرهم ممن شاركوا في إنتاج اللّقاح.
2- منع اللّقاحات الأمريكية والبريطانية والفرنسية
النقطة الثانية بخصوص «كورونا» هي أن اللّقاحات الأمريكية والبريطانية غير مسموح دخولها إلى البلاد. لقد قلت هذا للمسؤولين، وأقول ذلك للعموم الآن. لو كان بإمكان الأمريكيين إنتاج اللّقاح، ما حدثت كارثة «كورونا» في بلدهم. قبل أيام قليلة، في غضون 24 ساعة، كان لديهم أربعة آلاف ضحية. إذا كانوا يعرفون كيف يصنعون لقاحاً، وإذا كان مصنع «فايزر» الخاص بهم قادراً على صنع لقاح، لماذا يريدون إعطاءه لنا؟ بل ينبغي أن يستهلكوه بأنفسهم حتى لا يكون لديهم هذا القدر من القتلى والموتى. الشيء نفسه ينطبق على بريطانيا. لذلك، لا ثقة بهم؛ أنا حقاً لا أثق... لا أعرف، أحياناً يريدون تجربة اللّقاح على دول أخرى، لمعرفة هل يعمل أم لا. لذلك [غير مسموح اللّقاحات] من أمريكا وبريطانيا. بالطبع، لست متفائلاً بشأن فرنسا، لأن لديهم سابقة في الدم الملوّث (21). طبعاً، إذا أرادوا الحصول على لقاح من أماكن أخرى – على أن يكون مكاناً مطمئناً - لا مشكلة.
3- الاستمرار بالإجراءات الصحية
النقطة الثالثة بشأن «كورونا» هي أن المراعاة الشّعبية يجب أن تستمر. الآن انخفض عدد الضحايا قليلاً. بالطبع إنه ما زال كثيراً. مئة، أو مئة شخص أو أكثر، في اليوم، ليس شيئاً قليلاً. إنه كثير. لكن الآن [لأنه] قلّ عن ذي قبل، يجب ألّا يعتقد الناس أنّ المشكلة قد حُلّت وانتهت. كلا! استمروا في المراعاة، وعلى مسؤولي الدولة الذين هم مسؤولون عن هذا الأمر متابعة واجباتهم.
4- الاستفادة من الخبرات الجديدة
النقطة الرابعة حول «كورونا» هي أن بعض الأشخاص لديهم تجارب جيدة في هذا المجال وصنعوا دواءً، وجربوا هذا الدواء في مكان ما تحت إشراف المسؤولين، وتم اعتماده وثبتت فعّاليته، فلا تعارضوا هؤلاء. قد يكون هناك كثير من الأشخاص من حولكم يفعلون شيئاً جديداً. طبعاً لا أقصد قبول أي ادّعاء. كلا! لكن تأكّدوا من صحة تلك الادعاءات.
التفاؤل بالمستقبل والنجاح في المجالات الاقتصادية والثقافية والسياسية والعسكرية
الكلمة الأخيرة لشعبنا العزيز وشعب قم العزيز والحوزة العلمية المعظّمة هي أنّ الشّعب الإيراني استطاع في الأمس أن يقوم بهذه الثورة العظيمة في ظل الوحدة والعزم والتديّن والحضور في الوقت المناسب والنضال. استطاع القيام بهذا العمل العظيم الذي غيّر مجرى تاريخ العالم والبشر. واليوم، هذا الشّعب ذاته، بالقدرات نفسها والمزيد من الخبرة، ومع الإمكانات المتوافرة، حاضر بأضعاف، ويمكنه التغلب على العقبات كافة. يمكن لهذا الشّعب أن يكون موفّقاً في المجال الاقتصادي، وفي مجال الإنتاج والقيمة النقدية، وفي الشؤون الثقافية والسياسية والعسكرية وما شابه.
أسأل الله – تعالى - أن يُضاعف فضله ولطفه على هذا الشّعب يوماً بعد يوم، إن شاء الله. والسلام على وليّ الله الأعظم، بقية الله، الحجة ابن الحسن - أرواحنا فداه - الذي كان عونه دائماً سنداً لنا. وسلام الله ورحمته على روح الإمام العظيم المطهّرة والمباركة، والذي فتح لنا هذا الطريق.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1- انتفاضة أهالي مدينة قم في 9/1/1978، المشهورة بـ«انتفاضة 19 دي».
2- استُشهد الفريق قاسم سليماني (قائد «فيلق القدس» في قوّات «حرس الثورة الإسلامية») إثر هجوم طائرة مسيّرة أمريكية على مطار بغداد فجر الجمعة (3/1/2020) برفقة الشهيد «أبو مهدي» المهندس (القائد في «الحشد الشّعبي» العراقي) وثمانية آخرين من المرافقين لهما.
3- الشهيد حسين بور جعفري (المساعد الخاص للشهيد سليماني).
4- الشهيد شهرود مظفري نيا (مرافق الشهيد سليماني).
5- الشهيد هادي طارمي نيا (مرافق الشهيد سليماني).
6- الشهيد وحيد زماني نيا (مرافق الشهيد سليماني).
7- خلال مراسم تشييع جثمان الشهيد قاسم سليماني ودفنه في مقبرة شهداء كرمان، استُشهد عدد من المواطنين وسط ازدحام الحشود. كما أصيبت طائرة ركاب أوكرانية متجهة من طهران إلى كييف بالخطأ في 8/1/2020 بواسطة الدفاع الجوي الداخلي، ما أدى إلى استشهاد ركابها جميعاً.
8- الشهيد محسن فخري زاده العالم النووي والدفاعي الذي استشهد باغتيال في 27/11/2020 في منطقة آبسرد في دماوند.
9- آية الله محمد تقي مصباح يزدي (عضو «مجلس خبراء القيادة» ورئيس «مؤسسة الإمام الخميني التعليمية والبحثية»).
10- وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA).
11- American Enterprise Institute.
12- اقتحام المئات من أنصار دونالد ترامب مبنى الكونغرس الأمريكي واحتلاله لساعات، ما أدى إلى اشتباكات عنيفة مع القوات العسكرية والأمنية أسفرت عن مقتل أربعة أشخاص على الأقل.
13- من كلمته في لقاء أعضاء «المجلس الأعلى للتنسيق الاقتصادي» (24/11/2020).
14- إبلاغية السياسات العامة «الاقتصاد المقاوم» (18/2/2014).
15- في 8/1/2020، وفي عملية أطلق عليها اسم الشهيد سليماني، استهدف «حرس الثورة» القاعدة الأمريكية في «عين الأسد» بصواريخ باليستية. وجاءت العملية رداً على العمل الإرهابي الأمريكي، اغتيال الشهيد سليماني.
16- برنامج وثائقي تحت عنوان «غير رسمي».
17- آية الله عطاء الله أشرفي إصفهاني.
18- اللواء محسن رضائي.
19- أمير قاسم علي ظهير نجاد.
20- سعيد كاظمي آشتياني (الرئيس الأسبق لمؤسسة «رويان» التحقيقية).
21- في الثمانينيّات، صدّر معهد «إنستيتو مَريو» الفرنسي مخثرات الدم الملوّثة بفيروس نقص المناعة البشرية (الإيدز) إلى إيران. ونتيجة لاستخدام هذا الدم أصيب عدد كبير من مرضى الهيموفيليا بالفيروس وفقدوا حياتهم.
ظريف يعلن عن تسجيل لقاح "سبوتنيك V" الروسي في إيران
- إعلان ظريف يأتي بعد يوم من تأكيد لجنة برلمانيّة إيرانيّة، أن البلاد وضعت على جدول أعمالها استيراد 16 مليوناً و800 ألف جرعة من لقاح كورونا من "دول موثوقة".
أعلن وزير الخارجية الإيراني، محمد جواد ظريف، أن اللقاح الروسي "سبوتنيك V" ضد فيروس كورونا، تمّ تسجيله في إيران، معرباً عن أمله في البدء قريباً بإنتاجه المشترك مع روسيا.
ظريف قال في مؤتمر صحفي مشترك مع نظيره الروسي اليوم الثلاثاء في موسكو: "أود أن أبلغكم أنه تمّ تسجيل لقاح سبوتنيك V في إيران يوم أمس، وقد تمّت الموافقة عليه من قبل سلطاتنا الصحيّة، وفي المستقبل القريب نأمل أن نتمكن من شرائه وكذلك بدء الإنتاج المشترك".
يذكر أنّ لجنة برلمانيّة إيرانيّة، كانت أعلنت أمس الإثنين، أن البلاد وضعت على جدول أعمالها استيراد 16 مليوناً و800 ألف جرعة من لقاح كورونا من "دول موثوقة".
وقال حسين علي شهرياري، رئيس لجنة الصحة والعلاج في مجلس الشورى الإيراني، إن "استيراد 16 مليوناً و800 ألف جرعة من لقاح كورونا من دول موثوقة ومعتمدة، وضع على جدول الأعمال".
شهرياري أشار إلى أنّه "وفقاً لتوجيهات قائد الثورة الإسلاميّة، يُحظر استيراد لقاح فايزر المنتج في بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة، بينما تمّ السماح باستيراد اللقاحات الآمنة من دول أخرى موثوقة"، لم يُسمها.
وأوضح شهرياري أنّ "مسؤولية استيراد اللقاح تقع على عاتق وزارة الصحة والعلاج والتعليم الطبي"، مبرزاً أنّه "تمّ دفع 52 مليون دولار كدفعة مقدمة لاستيراد هذا المنتج الطبي إلى الجهات الخارجيّة المعنيّة، وسوف يتمّ توريده إلى البلاد في أواسط شهر شباط/فبراير المقبل".
يأتي ذلك في وقت سجلت فيه إيران حتى الآن 1.38 مليون إصابة و57,481 وفاة بـ"كوفيد-19"، فيما تقوم بتجاربها السريريّة على أوّل لقاح محليّ الصنع ضد الفيروس.
يشار إلى أن لقاح "سبوتنيك V" هو أول لقاح مسجل في العالم للوقاية من مرض "كوفيد- 19"، وقد تمّ تطويره في مركز "غامالي" الروسي للأبحاث الخاصة بالأوبئة والأحياء الدقيقة بالتعاون مع صندوق الاستثمار الروسي (RDIF).
نتائج الاختبارات المتعلقة باللقاح، أظهرت فعاليّة كبيرة ونسبة أمان عالية، حيث يتمّ إعطاؤه على مرتين بفاصل 21 يوماً، وبدأت عملية التطعيم به في روسيا في كانون الأول/ديسمبر الماضي.
المصدر:المیادین