عاب بعضٌ على حكم الشريعة الإسلامية بتعدد الزوجات؛ بأنه إضرار بالزوجة وإرباك لحياتها، وأن التعدد ينافي وفاء الرجل لزوجته، كما أن هذه المسألة تعتبر تفريقاً بين الرجل والمرأة حيث جوّز الإسلام للرجل الزواج بأربع، قال تعالى: (فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَثُلاثَ وَرُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً)([1])، بينما حرّمه على المرأة.
* * * * *
كراهية النساء لتعدد الزوجات:
قبل الرد على ما تقدم لا بد من ذكر مقدمة، نذكر فيها سبب كراهية النساء وتنفرهنّ من تعدد الزوجات، فنقول: إن من أهم أسباب تنفر النساء من تعدد الزوجات كون الرجال في الغالب يتزوّجونَ من الثانية والثالثة؛ إما إعراضاً عن الأولى أو لمجرد ميل شهوي، ثم ركَّزوا اهتمامهم بالثانية وأهملوا الأولى، كما أنهم في كثير من الموارد قد تزوَّجوا مع عجزهم في أداء واجبهم في الإنفاق، فتركت هذه الأسباب رؤية اجتماعية خاطئة، فأصحبت المرأة التي ترد عليها الضرّة ينظر إليها نظرة ترحم وتحقير، بينما الإسلام إنما جوز الزواج الثاني أولاً لمن يقدر على الإنفاق بالمعروف، ثانياً يلتزم بالعدالة في القسم والإنفاق وسائر الجهات، مضافاً إلى أن الآية جعلت الزواج المتعدد للطوارئ، فقال: (وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَىَ فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النّسَآءِ مَثْنَىَ وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَىَ أَلاّ تَعُولُواْ...)([2]).
وبعد هذه المقدمة، نتابع السؤال المتقدم ذكره وهو لماذا شرع الإسلام تعدد الزوجات؟ إليك الجواب باختصار:
أولاً: لم يكن الإسلام المشرّع الأول لتعدد الزوجات، فقد شرّعته الأديان السماوية السابقة، وأقرّته القوانين الوضعية قبل الإسلام بقرون مديدة، يقول: (وستر مارك) في تاريخ الزواج: «إن تعدد الزوجات ـ باعتراف الكنيسة ـ بقي إلى القرن السابع عشر الميلادي، وكان يتكرر كثيراً في الحالات التي لا تحصيها الكنيسة والدول»، فلم يأت الإسلام ببدعة فيما أباح تعدد الزوجات، وإنما الجديد الذي أتى به أنه أصلح ما أفسدته الفوضى من الإباحية المطلقة عن كل قيد.
ثانياً: لقد أثبتت الإحصائيات وعلى مرّ العصور أن النساء في الغالب أوفر عدداً من الرجال، ويعود ذلك لأسباب أساسية وهي تكفي لتكون مسوغاً ومجوّزاً لتعدد الزوجات:
منها: أن الرجال أكثر تعرضاً لأخطار العمل، وأحداث الوفاة من النساء، وذلك لممارستهم الأعمال الشاقة الخطيرة المؤدية إلى ذلك.
منها: قد أثبت علماء الحياة أن الرجال أضعف مناعة من النساء، وأكثر إصابة بعدوى الأوبئة والأمراض، مما يجعلهم أقلّ عدداً منهنّ.
منها: أن الحروب التي دارت في الأرض وتدور بشكل مستمر تفني أعداداً ضخمة من الرجال، وتسبب هبوط نسبتهم عن النساء هبوطاً مريعاً، يكفي أن تقرأ ما أفنته الحرب العالمية الأولى والثانية من الرجال، لتذعن بالهبوط السحيق لأعداد الرجال عن النساء.
ثالثاً: هناك حالات غير طبيعية تحدث في المجتمع بشكل واضح وملحوظ تعتبر بحق من أعظم المشاكل، وأكثر الأزمات لولا جواز تعدد الزوجات، ومن هذه الحالات:
1) أن الرجل ـ غالباً ـ صاحب طاقة جنسية عارمة لا تكفي لإشباعها امرأة واحدة.
2) إصابة المرأة بالعقم والحرمان من نعمة النسل والإنجاب.
3) إصابة المرأة بمرض جسمي تعجز من خلاله عن أداء واجبها الزوجي، ولا تستطيع أن تلبي رغبات الزوج، ورعاية الأسرة والأبناء.
وأمام هذه القضايا والحوادث لا يجد الرجل أمامه مخرجاً منها إلاّ بأحد الاقتراحات التالية:
1ـ أن يطلّق زوجته ويأتي بزوجة جديدة، فتکون المطلقة تقاسي شدائد الحياة ووحشة الانفراد.([3])
2ـ أن يترك الزوج على حاله محروماً يعاني مرارة الحرمان من تمتعات الزوجية، ويغدو عرضة للتردي في مهاوي الرذيلة والإثم.
3ـ أن يمارس علاقات غير مشروعة مع امرأة أخرى يكون بها خراب دينه وآخرته ويغدو عرضة للتردي في مهاوي الرذيلة والإثم.
4ـ أن يبقي زوجته الأولى، ويتخذ زوجة أخرى تلبي رغباته، وتلم شعث الأسرة وتنجب له الأولاد.
ومن الواضح أنه لو تركنا الحكم بذلك إلى العقل والوجدان، فإنهما يختاران الحل الرابع بدون أدنى تردد.
رابعاً: أنه قد تفقد المرأة زوجها وهي في مقتبل الحياة، كما في زوجات قتلى الحرب، ويرغبن في الزواج، ولا يتيسر لهن أن يجلبن اهتمام نظر الرجال إلى أنفسهن كزوجة أولى، فإذا لم يكن قانون تعدد الزوجات مشروعاً، فهذا يعني بقاء هؤلاء النساء بلا أزواج.([4])
فالزواج المتعدد حل لعدد من النساء في المجتمع كما هو حل لعدد من الرجال فيه، ولا يصح أن يقال بأنه ظلم للمرأة، لأنه حل لشريحة منهن لا يجدن الحل من دونه، فلو لم يكن الزواج المتعدد حلاً للمرأة لما قبلت الثانية أو الثالثة أو الرابعة أن تتزوج من رجل متزوج.
كما يجب الالتفات إلى الآثار المجتمعية السلبية التي تولدت في المجتمعات الغربية بسبب شعار (رفض التعدد). فانتشار الزنا والخيانة الزوجية وتعبئة المرأة باتجاه حقها في حريتها بأن تحقق رغباتها من دون ضوابط الزواج... إلخ.
فإذا اعتبرت المرأة نفسها مظلومة بنظام التعدد، أو أنها لا تتحمل مشاركة زوجها لأحد معها، فبإمكانها الاشتراط في عقد الزواج بأن تكون وكيلة عن زوجها في طلاق نفسها إذا تزوج عليها من دون موافقتها، وبذلك تكون قد تحللت من هذا الارتباط عندما يشكل إزعاجاً لها، فرغبتها محترمة مع الاشتراط، وحقها محفوظ ضمن الضوابط الشرعية، وليس لها أن توجد أزمة مع عدم الاشتراط، إذ ليس من حقها المنع.
لقد أكد الإسلام حق الزوج في التعدد، واعتبره غير قابل للإلغاء، إذ لا يمكن الاشتراط في عقد الزواج على إلغاء حق الزوج في ذلك، ولو تم الاشتراط فالشرط باطل وعقد الزواج صحيح، إنما يمكنها اشتراط أن تكون وكيلة عنه في طلاق نفسها لحل عقد الزوجية بينها وبينه أو أي شرط آخر محلل ربطاً بالتعدد أو بغيره.
وليعلم أنه حين شرّع الإسلام التعدد لم يطلقه جزافاً، فقد اشترط فيه العدل والمساواة بين الأزواج صيانة لحقوق المرأة وكرامتها، بيد أن ذلك العدل مشروط في مستلزمات الحياة المادية، كالمطعم والملبس والمسكن، ونحوها من المآرب الحسيّة المتاحة للإنسان، والداخلة في نطاق وسعه وقدرته؛ وضمان تحقق العدالة هو إيمان وتقوى الرجل وعلمه ومعرفته بالأحكام الشرعية وأداء متطلبات المرأة واحتياجاتها المعنوية والمادية.
أما العدالة في النواحي الوجدانية والعاطفية كالحب والميل النفسي، فإنها خارجة عن نطاق قدرة الإنسان واختياره، ولا يستطيع أحد العدل فيها والمساواة؛ لأن الرجل بسبب من الأسباب تتفاوت ميول قلبه وحبه إلى نسائه، وإذا كانت لهذه أسباب عقلية وشرعية، فلا يضر هذا التفاوت بعدالته؛ لأن العدالة القلبية ليست مطلوبة، وهذا معنى قوله تعالى: (وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ)([5]).
تعدد الأزواج للمرأة...؟!
أما بشأن ما يقوله بعضٌ، من أنه لماذا لا يجوز للمرأة أن تتزوج عدة أزواج في وقت واحد مثل الرجل؟! والجواب:
أولاً: لم نجد في الشرائع السماوية ولا في القوانين الوضعية ولا في الأزمنة الغابرة التزويج من هذا النوع. (إلا النوادر من الشعوب المتخلفة عن ركب الحضارة).
ثانياً: أن الأسباب السابقة غير متوفرة على الأغلب في المرأة.
ثالثاً: أن الميل الجنسي لدى الرجال أقوى وأشد بأضعاف من النساء، فالغالب أن الرجل الواحد يكفي المرأة، ولا عكس.
رابعاً: أن تعدد الزوجات للرجال لا ينطوي على أية مشاكل اجتماعية وحقوقية، في حين أن السماح بتعدد الأزواج للنساء يسبب مشاكل كثيرة، أبسطها ضياع النسب، إذ لا يعرف في هذه الحالة إلى من ينتسب الولد، ولا شك أن مثل هذا الولد المجهول الأب لن يحظى باهتمام أي واحد من الرجال، ولا يجد مكانته في المجتمع.
لهذه الأسباب لا يكون السماح للمرأة بتعدد الأزواج أمراً منطقياً في حين أنه بالنسبة للرجال ـ ضمن الشروط المذكورة سابقاً ـ أمر منطقي وعملي أيضاً.
[1] ـ النساء: 3.
[2] ـ النساء: 3.
[3] ـ راجع أخلاق أهل البيت، للعلامة محمد مهدي الصدر:292
[4] ـ الأمثل في تفسير کتاب الله المنزل 3: 89.
[5] ـ النساء: 129.