اعتبر الإسلام الأسرة حجر الزاوية في المجتمع. وهذا الاعتبار هو قاعدة النقاش في الحقوق والواجبات بين الأفراد الذين يعيشون في ظلّها، أي الزوج والزوجة والأبناء. ولا يمكن أن ننظر إلى حقّ أيّ منهم بمعزل عن حقوق الآخرين ووجودهم في هذا الكيان المهمّ، في المنظور الإسلاميّ. وينطبق هذا المنظور على عمل المرأة، مثل ما ينطبق على حقّ الأبناء في الرعاية، أو على واجبهم تجاه الوالدين في برِّهما والإحسان إليهما.
فإذا كان معظم فقهاء المسلمين، خصوصاً في هذا العصر، قد أكدّوا على عدم تعارض عمل المرأة خارج المنزل مع الإسلام، وأنّ هذا العمل هو حقّ لها، إذا أرادت ذلك، وأنّه تعبير عن إنسانيّتها، أو حتّى عن حاجة المجتمع مشاركة نصف أفراده، فإنّ السؤال الذي يطرح في هذا المجال، وفي المجتمعات الإسلامية تحديداً: ما مدى تأثير عمل المرأة على الأسرة؟ خاصّة إذا توافقنا أنّ وجود هذه الأسرة هو ما ينبغي المحافظة عليه والتضحية من أجله.
ولا بدّ أن نذكّر هنا أنّ الأسرة هي المكان الأوّل والأهمّ، الذي تترسّخ فيه العلاقات الاجتماعيّة، وفي داخله تتحقّق الرعاية العاطفيّة والنفسيّة؛ ومن التجربة التي يعيشها الأولاد، تتشكّل صورتهم الإيجابيّة أو السلبيّة عن العالم الخارجيّ. وتحقيق الأمن في الأسرة، هو أساس الشخصية المتوازنة التي سيحصل عليها الأبناء؛ ومن المفترض أن نستحضر ذلك كلّه عندما نبحث في عمل المرأة؛ لأنّ تأثيراته تطال هذا الكيان الأسريّ في معظم الأحيان، وتطال تفاعلاته كلّها.
إنّ ما أشرنا إليه، من انخراط المرأة في سوق العمل، في كثير من المجتمعات الإسلاميّة، إنّما يعود إلى مجموعة من الأسباب أو التغيّرات: كارتفاع مستوى تعليم المرأة، وحاجة الأسرة الاقتصاديّة، وتراجع القيم التي كانت ترفض عمل المرأة، والتأثّر بالأفكار الغربيّة في هذه القضية.
مّما تقدم يفترض القول إنّ النقاش لم يعد حول جواز عمل المرأة أم لا، بل في انعكاس هذا العمل على الأسرة. وهذا ما ينبغي بحثه وإيجاد المخارج أو الحلول المناسبة له. فاذا كان الأطفال في سنواتهم الأولى من العمر بحاجة إلى رعاية المرأة واهتمامها، وعاطفتها، فالأولويّة هنا، هي لبقاء الأمّ إلى جانبهم. ومتى تجاوزوا هذه المرحلة، تتبدّل الأولويّات؛ فمع دخولهم إلى المدرسة، تصبح الحاجة إلى وجودها بحانبهم عند عودتهم... اللّهمّ إلاّ إذا كانت مهنة المرأة – كما في بعض الحالات – مثل الكتابة، أو الترجمة، أو سواها لا تفترض خروجاً منظّماً من المنزل. وليس من اليسير، في ظلّ أنظمة العمل، ومنطق استغلال طاقة العامل أو الموظّف إلى الحدّ الأقصى، أن تتمكّن المرأة من التحكّم في دوام عملها بحيث تحافظ عليه، وعلى وجودها في الأسرة في الوقت المناسب، إلى جانب أطفالها وزوجها.
فنعلم أنّ معظم المؤسّسات التي تعمل فيها المرأة، لا تراعي هذا الاعتبار، ولا يشكّل هاجساً لها؛ وغالباً ما ترضخ المرأة الأمّ، لاعتبارات، وشروط، ومواعيد عمل، واجتماعات المؤسّسة التي تعمل فيها، ثمّ تحاول أن تكيّف حاجات أسرتها وحاجاتها الشخصيّة، مع تلك المواعيد وليس العكس.
وقد دلّت التجارب والدراسات الحديثة على الصعوبات النفسيّة والجسديّة والاجتماعيّة، التي تعانيها المرأة، جرّاء هذه الضغوط المزدوجة من عملها ومن أسرتها في وقت واحد؛ أي إنّ حلّ هذه المشكلة ليس قراراً فرديّاً بيد المرأة أو الزوج، بل هو قرار المجتمع ومؤسّساته، التي ينبغي أن تتيح للمرأة المتزوّجة عملاً، بدوام جزئيّ، يتيح لها المشاركة المهنيّة، واختبار قدراتها وتعليمها، والحصول على عائد مادّيّ تحتاج إليه، والمحافظة على ارتباطها بأسرتها. وعلى المؤسّسات الإسلاميّة أن تقدّم نموذجاً في هذا المجال، بحيث تتمكّن المرأة من اختيار ما يناسبها من ساعات عمل يوميّة، على قاعدة المشاركة في حماية الأسرة، بدل المساهمة أو الانخراط في التيار الجارف، الذي بات يقدّم حقوق الأفراد ومصالح كلّ واحد منهم (الرجل، المرأة، الأولاد) على مصلحة الأسرة وتماسكها وأولويّة بقائها... وهذا يتيح من جانب آخر في ظلّ تفاقم البطالة، فرص عمل جديدة للشباب، تتيح لهم التفكير في الزواج، الذي يشهد بدوره تراجعاً ملحوظاً؛ لأسباب اقتصاديّة بالدرجة الأولى.
* د.طلال عتريسي - بتصرّف