1ـ الأمي العالم :
لقد تميّز خاتم النبيين بأنه لم يتعلّم القراءة والكتابة عند معلّم بشري ولم ينشأ في بيئة علم وإنما نشأ في مجتمع جاهلي، ولم يكذب أحد هذه الحقيقة التي نادى بها القرآن.
ترعرع ونما في قوم هم من أشد الأقوام جهلاً وأبعدهم عن العلوم والمعارف، ولقد سمّى هو ذلك العصر بالعصر الجاهلي ولا يمكن أن تصدر هذه التسمية إلاّ من عالم خبير بالعلم والجهل والعقل والحمق.
أضف إلى ذلك أنه قد جاء بكتاب يدعو إلى العلم والثقافة والفكر والتعقّل واحتوى على صنوف المعارف والعلوم، وبدأ بتعليم الناس الكتاب والحكمة وفق منهج بديع حتى أنشأ حضارة فريدة اخترقت الغرب والشرق بعلومها ومعارفها ولا زالت تتلألأ بهاءً ونوراً.
فهو أمي ولكنه يكافح الجهل والجاهلية وعبّاد الأصنام، وبعث بدين قيّم إلى البشرية وبشريعة عالمية تتحدّى البشرية على مدى التأريخ. فهو معجزة بنفسه في علمه ومعارفه وجوامع كلمه ورجاحة عقله وثقافته ومناهج تربيته.
ومن هنا قال تعالى: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾ وقال له: ﴿وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً﴾.
أجل, لقد أوحى الله إليه ما أوحى وعلّمه الكتاب والحكمة وجعله نوراً وسراجاً منيراً وبرهاناً وشاهداً ورسولاً مبيناً وناصحاً أميناً ومذكّراً ومبشّراً ونذيراً.
ولقد شرح الله له صدره وأعدّه لقبول الوحي والقيام بمهمة الإرشاد في مجتمع تسيطر عليه العصبية والأنانية الجاهلية فكان أسمى قائد عرفته البشرية في مجال الدعوة والتربية والتعليم.
إنها نقلة كبيرة أن يصبح المجتمع الجاهلي في بضع سنين حارساً أميناً ومدافعاً قوياً لكتاب الهداية ومشعل العلم ويقف أمام محاولات التشويه والتحريف، إنها معجزة هذا الكتاب الخالد وذلك الرسول الأمي الرائد والذي كان أبعد الناس ـ في ذلك المجتمع الجاهلي ـ عن الخرافات والأساطير. إنه نور البصيرة الربّانية التي أحاطت به بكل جوانب وجوده.
2 ـ أوّل المسلمين العابدين :
إن الخضوع المطلق لله خالق الكون ومبدع الوجود، والتسليم التام لعظيم قدرته ونفاذ حكمته، والعبودية الاختيارية الكاملة تجاه الإله الأحد الفرد الصمد هي القمة الاولى التي لابد لكل إنسان أن يجتازها كي يتهيّأ للاجتباء والاصطفاء الإلهي. وقد شهد القرآن الكريم بذلك لهذا النبيّ العظيم حين قال عنه : ﴿قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ... وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ﴾.
إنّه وسام الكمال الذي حازه هذا العبد المسلم وفاق في عبوديته من سواه على الإطلاق وتجلّت هذه العبودية المثلى في قوله وسلوكه حتى قال صلى الله عليه وآله وسلم: (قرّة عيني في الصلاة) فهو ينتظر وقت الصلاة ويشتد شوقه للوقوف بين يدي الله ويقول لمؤذّنه بلال: أرحنا يا بلال وقد كان يحدّث أهله ويحدّثونه فإذا دخل وقت الصلاة فكأنه لم يعرفهم ولم يعرفوه. وكان إذا صلّى يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل. ويبكي حتى يبل مصلاّه خشية من الله عزّ وجلّ , وكان يصلّي حتى تنتفخ قدماه، فيقال له: أتفعل هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخّر؟! فيقول: أفلا أكون عبداً شكوراً؟
وكان يصوم شعبان ورمضان وثلاثة أيام من كل شهر , وكان اذا دخل شهر رمضان يتغيّر لونه وتكثر صلاته ويبتهل في الدعاء. واذا دخل العشرالأواخر منه شدّ المئزر واجتنب النساء وأحيى الليل وتفرّغ للعبادة. وكان يقول عن الدعاء : (الدعاء مخّ العبادة) و (سلاح المؤمن وعمود الدين ونور السماوات والأرض). وقد كان دائم الاتصال بالله، دائم الانشداد إليه بالضراعة والدعاء في كل عمل كبير أو صغير، حتى كان يستغفر الله كل يوم سبعين مرّة ويتوب إليه سبعين مرة من غير ذنب, ولم يستيقظ من نوم قطّ إلاّ خرّ لله ساجداً وكان يحمد الله في كل يوم ثلاثمائة وستين مرّة ويقول: (الحمد لله ربّ العالمين كثيراً على كل حال) ولقد كان دؤوباً على قراءة القرآن وشغوفاً به.
ونزل عليه جبرئيل مخففاً لمّا أجهد نفسه بالعبادة بقوله تعالى: ﴿طه * مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى﴾.
3ـ الثقة المطلقة بالله تعالى:
قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وآله وسلم: (أليس الله بكاف عبده).
وقال له أيضاً : ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ﴾.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما قال الله تعالى على ثقة مطلقة به سبحانه.
جاء عن جابر أنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بذات الرقاع فإذا أتينا على شجرة ظليلة تركناها لرسول الله، فجاء رجل من المشركين وسيف رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم معلق بالشجرة فاخترطه وقال: تخافني؟ قال: لا. قال: فمن يمنعك منّي؟ قال: الله. فسقط السيف من يده فأخذ رسول الله السيف فقال: من يمنعك منّي؟ فقال: كن خير آخذ. فقال: تشهد أن لا اله الاّ الله وأني رسول الله؟ قال: لا، ولكني أعاهدك أن لا اُقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك، فخلّى سبيله فأتى أصحابه فقال: جئتكم من عند خير الناس.
4ـ الشجاعة الفائقة:
قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾ وجاء عن علي بن أبي طالب عليه السلام ـ الذي طأطأ له فرسان العرب ـ أنّه: كنّا إذا احمرّ البأس ولقي القومُ القومَ اتّقينا برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فما يكون أحد أدنى من القوم منه.
ووصف المقداد ثبات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم أحد بعد أن تفرّق الناس وتركوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحده فقال: والذي بعثه بالحق إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم زال شبراً واحداً. إنه لفي وجه العدوّ تثوب إليه طائفة من أصحابه مرّة وتتفرّق عنه مرّة، فربّما رأيته قائماً يرمي عن قوسه أويرمي بالحجر حتى تحاجروا..