أثارَت الثورات التي يشهدها العالم العربي المخاوف لدى كلٍّ من صنَّاع القرار وأرباب المرافق الاقتصاديَّة من أن تمثل التحولات الناجمة عنها تهديدًا لكل الإنجازات التي حقَّقتها إسرائيل بفعل عوائد التسوية، فقد اعتبرت النخب الإسرائيليَّة أن ما حدث في العالم العربي يمثل تهديدًا لاتفاقيَّة "كامب ديفيد"، التي أتاحت لإسرائيل تقليص نفقات الأمن ومضاعفة الاستثمار في المجالات المدنيَّة التي تعزز النمو، وتبعد شبح الركودالاقتصادي.
ويرى عوديد عيران، رئيس معهد أبحاث الأمن القومي الإسرائيلي أنه منذ التوقيع على المعاهدة عام 1979، وحتى اندلاع المظاهرات المطالبة بالتغيير في ميدان التحرير في الخامس والعشرين من يناير الماضي لم تطرحْ أي علامات استفهام حول مدى التزام مصر باتفاقية "كامب ديفيد" على الإطلاق.
ويشير عيران إلى أن النظام المصري فاجَأ إسرائيل عندما صمدت اتفاقيَّة "كامب ديفيد" في الوقت الذي قامت إسرائيل بقصف المفاعل الذري العراقي عام 1981 وغزت لبنان عام 1982، وفي خضمّ انتفاضتي الحجر والأقصى وكذلك حرب لبنان الثانية 2006، وحرب غزة 2008، بل إن مصر بدلًا من الاحتجاج الحقيقي على سلوك إسرائيل، حرصت على تهدئة الأطراف العربيَّة عندما أثارت الممارسات الإسرائيليَّة أعصاب العالم العربي، ولا يستبعد عيران تخلي مصر عن اتفاقية "كامب ديفيد"، مستندًا في حكمه هذا إلى نتائج استطلاع للرأي العام أجراه معهد "the Pew Research Cente "، التي أظهرت أن 64% من المصريين يرون وجوب إلغاء معاهدة "كامب ديفيد"، مقابل 36% رأوا وجوب الحفاظ عليها.
ويذهب دان إلدار، الذي تولَّى في السابق مناصب قيادية في جهاز "الموساد" ويعمل حاليًا محاضرًا لدراسات الشرق الأوسط في جامعة تل أبيب، إلى ما ذهب إليه عيران، مشيرًا إلى أن غياب نظام الرئيس مبارك سيسمح بالتعبير عن "عداوة إسرائيل الراسخة عميقًا في الوعي الجمعي للمصريين" وهو لا يستبعد أن يؤدي اندماج الإسلاميين في الحياة السياسيَّة المصريَّة إلى تحالفهم مع قادة الجيش، متوقعًا أن يسهم مثل هذا التحالف في التعجيل بوضع حدٍّ لمعاهدة "كامب ديفيد".
أما المستشرق إلكساندر بلي فيرى أن نظام الحكم القادم في مصر لن يلجأ إلى إلغاء اتفاقية "كامب ديفيد"، حتى لا يخسر الشرعيَّة الدوليَّة، لكنه في المقابل سيعمل على إضعافها على نحو تقع المسؤوليَّة فيه عن إلغائها على إسرائيل، وهو يدعي أن اندلاع الثورات العربيَّة ينذر بكارثة ستحلُّ بالتجارة الخارجيَّة الإسرائيليَّة عبر التحذير من إمكانية إغلاق الممرات البحريَّة أمام التجارة الخارجيَّة لإسرائيل.
واستنادًا إلى هذه المخاوف، ترى النخبة العسكريَّة وعدد من الخبراء الاقتصاديين وبعض أرباب المرافق الهامة أن التهديدات التي تنطوي عليها الثورات العربيَّة تفرض إدخال تغييرات جذريَّة على حجم وبنية موازنة الأمن، علاوةً على إعادة صياغة سلم الأولويَّات الإسرائيلي بشكلٍ جذري.
وقد عبَّر عن ذلك بشكلٍ واضح رئيس هيئة أركان الجيش بني جانز الذي قال: إن التحولات التي يشهدها العالم العربي توجب تخصيص موازنات إضافيَّة للجيش، معتبرًا أن هذه التحولات فاقمت من مستوى وحجم التهديدات على كل الجبهات، وتحدث رئيس شعبة الاستخبارات العسكريَّة السابق عاموس يادلين عن "انقلاب" يجب أن تشهده موازنة الأمن في حال تحقَّقت التنبؤات
السوداويَّة" بانهيار "كامب ديفيد" في أعقاب التحولات في العالم العربي، ويعتبر أن إسرائيل باتت مطالبةً بالاستعداد لمراكمة الردْع في مواجهة مصر مع كل ما يعنيه ذلك من إدخال تغييرات جذريَّة على بنية الجيش الإسرائيلي وانتشاره، وهذا ما يعني زيادة حجم موازنة الأمن بشكلٍ كبير.
ويتفق وزير الحرب الإسرائيلي إيهود براك مع أولئك الذين يرون أن التحولات في مصر تمثل خطرًا حقيقيًّا على مصير معاهدة "كامب ديفيد"، متوقعًا أن تتنافس الأحزاب المصريَّة بعد الثورة فيما بينها على إظهار عدائها لكل من إسرائيل والولايات المتحدة، ويرى براك أن هذا السيناريو يعني زيادة النفقات الأمنيَّة بشكلٍ جذري، لكن براك يرى أن إسرائيل ليس
بإمكانها تأمين النفقات الأمنيَّة لوحدها، لذا لا يتردَّد في مطالبة الولايات المتحدة بدفع عشرين مليار دولار إضافية لموازنة الأمن، إسهامًا منها في مساعدة إسرائيل على تحمل تبعات الثورات العربيَّة على أمن إسرائيل القومي في المرحلة القريبة القادمة، ولم يفت براك أن يذكِّر الأميركيين أن استثمار هذا المبلغ سيعود بالنفع على الولايات المتحدة "لأن ضمان تفوُّق إسرائيل يمثل أحد عوامل الاستقرار في منطقة غير مستقرَّة".
وعلى الرغم من أن أرباب المرافق الاقتصاديَّة الإسرائيليَّة يرفضون بشكلٍ تقليدي المسوّغات التي تقدمها النخبة الأمنيَّة لتبرير زيادة موازنة الأمن، إلا أن بعضهم يرى أن التحولات التي يشهدها العالم العربي تبرِّر بالفعل إدخال تغييرات جذريَّة على هذه الموازنة، ويرى أوري جلاي، مدير عام المجموعة الاستثماريَّة "سيجما" أن حجم موازنة الأمن الإسرائيلية اعتمد في العقود الثلاثة الماضية بشكل أساسي على حالة الهدوء التي تسود الحدود مع مصر والأردن وسوريا، وهو ما لن يستمر، لذا يتوقع جلاي أن يدفع تعاظم النفقات الأمنية الحكومة الإسرائيليَّة لتجريد الوزارات المدنيَّة المختلفة من الكثير من مواردها الماليَّة ونقلها لوزارة الحرب لتغطية المصاريف الأمنيَّة.
ويتوقع ميشيل ستربتسنسكي، نائب رئيس قسم الأبحاث في بنك إسرائيل أن يتمَّ تجاوز إطار موازنة الأمن بفعل التطورات في العالم العربي، التي ستترك تأثيرها على نفقات الأمن، متوقعًا تجاوز إطار الميزانيَّة.
إن الإسرائيليين ينطلقون من افتراض مفاده أن نجاح الثورة في مصر قد يدفع إلى إحداث تغييرات جوهريَّة في العالم العربي تُفضي إلى بروز تحديات أمنيَّة ذات كلفة اقتصادية باهظة، ويرى داني روتشيلد، رئيس "مركز هرتسليا متعدد الاتجاهات" والذي شغل في الماضي منصب رئيس قسم الأبحاث في شعبة الاستخبارات العسكريَّة الإسرائيليَّة أن الذي يُفاقم خطورة التداعيات الناجمة عن الثورات العربيَّة حقيقةً أنها اندلعت في ظلّ حالة الجمود الذي تشهده المفاوضات مع الفلسطينيين، مما يحمل في طياته إمكانيَّة الانزلاق إلى تدهور أمني.
ويبرِّر المطالبون بزيادة موازنة الأمن ذلك بالقول بأن النفقات الأمنيَّة تمثل في الواقع استثمارًا ذا طابع استراتيجي في النشاط الاقتصادي، لأن هذه النفقات توظّف في الجهد الهادف لتقليص المخاطر الأمنيَّة التي تؤثِّر بدورها على عجلة الاقتصاد.
يتضح مما تقدم أن الاتجاه السائد في تحليلات الإسرائيليين يشدِّد على أن الثورات العربيَّة تنذر بتغيير البيئة الاستراتيجيَّة لإسرائيل، وهو ما يوجب القيام باحتياطات أمنية واسعة تتطلب زيادة مستويات الإنفاق الأمني بشكلٍ كبير، وما هو سيفضي بالتأكيد إلى إلحاق أذى كبير بالاقتصاد الإسرائيلي.