هناك معركة كبيرة تدور داخل نفس الإنسان بين عقله وشهواته، سنتحدث في هذا المقال عن هذه المعركة وحقيقة أطرافها بشيء من التفصيل، إذ لا بد من التعرف على هذا الأمر، لأن المشرف على المعركة هو نفس الإنسان، فلا بد له أن يعلم بأطرافها ومدى قوتهم ومكامن الضعف لديهم، ليعرف كيف يديرها بحيث تصب في مصلحته.
أما أطراف المعركة فالطرف الأول هو قوى النفس: الشهوية والغضبية والوهمية، التي تلعب دور الطاغي الشرير الذي لا يحب سوى أن يقوم بملذاته غير عابئ بما يخلف وراءه من الخراب والدمار، والطرف الآخر هو العقل الذي يمثل الخير والمبادئ الصالحة، ولكل من هذين الطرفين جنود، فجنود الأهواء النفسية تسمى جنود الجهل أو جنود الشيطان، والعقل تسمى جنوده بجنود العقل أو الرحمن.
وسنشرح معنى العقل والجهل قبل أن نخوض في المعركة ونقيم النتائج فيما لو تغلب أحدهما على الآخر.
ما هو العقل؟
أجاب الإمام الصادق عليه السلام على هذا السؤال بقوله: "ما عبد به الرحمن واكتسب به الجنان قال: قلت: فالذي كان في معاوية؟ فقال: تلك النكراء! تلك الشيطنة، وهي شبيهة بالعقل، وليست بالعقل"1.
ويستفاد من الرواية أن العقل هو الذي ينتج الخير ويأمر به وأما الذي يتمادى في الشر ويخترع الحيل وأساليب المكر فإنه ليس من العقل بل من الشيطان أي من القوة الواهمة التي توجد في نفس الإنسان حينما يسخرها لأجل تنفيذ أهواءه وشهواته وقد سماها الإمام عليه السلام بالشيطنة.
ولذا ورد في رواية أخرى عن الإمام الصادق: "من كان عاقلاً كان له دين، ومن كان له دين دخل الجنة"2.
وبما أن العقل على هذا القدر من الصلاح إذ يوصل الإنسان لمعرفة الدين ومعرفة رب العالمين، فمن الطبيعي أن يكون متصلاً بسائر الأخلاق ففي الرواية عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام قال: "هبط جبرائيل على آدم عليه السلام فقال: يا آدم إني أمرت أن أخيرك واحدة من ثلاث فاختر واحدة ودع اثنتين، فقال له: وما تلك الثلاث؟ قال: العقل والحياء والدين، فقال آدم عليه السلام: فإني قد اخترت العقل، فقال جبرائيل عليه السلام للحياء والدين: انصرفا ودعاه، فقالا: يا جبرائيل إنا أمرنا أن نكون مع العقل حيث كان، قال: فشأنكما وعرج"3.
لذلك كان العقل محلاً للتكريم الإلهي، ففي الرواية عن الإمام الباقر عليه السلام قال: "لما خلق الله العقل استنطقه ثم قال له: أقبل فأقبل ثم قال له: أدبر فأدبر، ثم قال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقاً هو أحب إلي منك ولا أكملتك إلا فيمن أحب، أما إني إياك آمر، وإياك أنهى وإياك أعاقب، وإياك أثيب"4.
وأما الجهل فهو عدم التعقل ففي الرواية عن أبي عبد الله الصادق: "اعرفوا العقل وجنده والجهل وجنده تهتدوا، قال سماعة: فقلت: جعلت فداك لا نعرف إلا ما عرفتنا، فقال أبو عبد الله: إن الله عز وجل خلق العقل وهو أول خلق من الروحانيين عن يمين العرش من نوره فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فأقبل، فقال الله تبارك وتعالى: خلقتك خلقاً عظيماً وكرمتك على جميع خلقي، قال: ثم خلق الجهل من البحر الأجاج ظلمانياً فقال له: أدبر فأدبر، ثم قال له: أقبل فلم يقبل فقال له: استكبرت فلعنه"5.
دور العقل
إن للعقل دوراً مهماً، يمكن تلخيصه بالنقاط التالية
1- توجيه الميول والغرائز الإنسانية: إن العقل هو الذي يحاول أن يضع حداً للتمرد الذي تقوم به غرائز النفس المنطلقة من قوى النفس الغضبية والشهوية والشيطانية، ويجعلها خاضعة لقانون المصالح العامة ولهذا المعنى أشار أمير المؤمنين: "النفوس طلقة، لكن أيدي العقول تمسك أعنتها عن النحوس"6، أي عن ارتكاب المخالفات التي تدمر المجتمع.
2- الأمر بالخير: فإن العقل يأمر بكثير من الأمور الأخلاقية الأساسية، كحسن الصدق والوفاء، وقبح الكذب والخداع، وإلى هذا المعنى أشارت الكثير من الروايات منها ما روي عن الإمام علي عليه السلام أنه قال: "لو كنا لا نرجو جنة ولا نخشى ناراً ولا ثواباً ولا عقاباً، لكان ينبغي لنا أن نطلب مكارم الأخلاق، فإنها مما تدل على سبيل النجاح"7.
وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله: "استرشدوا العقل ترشدوا ولا تعصوه فتندموا"8.
3- الصلاح الاجتماعي: إن تجاهل الإنسان لنداء العقل الداعي إلى الخير، والناهي عن الشرور والطغيان يؤدي بالمجتمعات إلى التحلل ومن ثم الانهيار، وخير دليل وشاهد على صحة هذا القول ما نراه في الدول الكبرى التي نقمت على الدين واعتبرته كابتاً لحاجات الإنسان، وشرّعت الإباحية، فها هي اليوم تعاني الأمرّين من جراء ضياع النسل وتفكك الأسر وانقراض الحياة العائلية الأسرية، ولو حاولنا أن نجد السبب الرئيسي لهذه المشاكل لوجدنا الإجابة في أنهم لم يصغوا لنداء العقل، وعن أمير المؤمنين: "فضِّل العقل على الهوى، لأن العقل يملكك الزمان، والهوى يستعبدك للزمان"9.
الجهاد الأكبر
بعد أن عرفنا حقيقة العقل والجهل في الإنسان وأنهما متصارعان على الدوام، سنتحدث فيما يلي عن هذا الصراع العنيف الذي يجري داخل النفس بين جنودهما، وهنا يكون الجهاد الحقيقي، يقول الإمام الخميني قدس سره: وفيها (أي في مملكة الباطن عند الإنسان) تكون جنود النفس أكثر وأهم مما في مملكة الظاهر، والصراع والنزاع فيها بين الجنود الرحمانية والشيطانية أعظم والغلبة والانتصار فيها أشد وأهم...
وجهاد النفس في هذا المقام مهم للغاية عند المشايخ العظام من أهل السلوك والأخلاق، بل ويمكن اعتبار هذا المقام منبع جميع السعادات والتعاسات، والدرجات والدركات10.
نموذج عن المعركة
من المناسب أن نذكر نموذجاً من المعارك التي تجري في باطن الإنسان بين جنود العقل والجهل حتى يتبين لنا كيفية هذا الصراع بشكل أوضح.
فمن النماذج التي سلط التاريخ عليها ضوءاً، نموذج عمر بن سعد حين وعده الخليفة الظالم يزيد بن معاوية، بإمارة الري، ولكنه طلب منه مقابل منحه لإمارة الري، أن يقتل الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب عليه السلام وابن السيدة الزهراء وحفيد رسول الله، فهنا اصطفت الجنود للمعركة في نفس عمر بن سعد فجعل يتخير بين قتل الحسين عليه السلام والذي تأمره به النفس الأمارة وحب الجاه والمنصب لينال إمارة الري، وبين العقل الذي يمنعه عن ذلك من خلال جند الرحمن الذين يحذرونه من عاقبة قتل إمام زمانه المظلوم، وكان يقول في ليله:
أأترك ملك الري والري منيتي أم أرجع مأثوماً بقتل حسين
ففي مثله النار التي ليس دونها حجاب وملك الري قرة عيني
فهنا يتجلى ويحتدم الصراع لاحتلال النفس، ولكن في هذه المعركة تغلبت جند الشيطان على عقل عمر بن سعد فرضخ لحب الجاه، وقتل الإمام العادل حفيد الرسول صلى الله عليه واله وسلم.
ونموذج آخر ينقله لنا التاريخ وهو موقف الحر بن يزيد الرياحي، الذي كان في جيش ابن زياد وقد خيّر نفسه بين الجنة التي يلقاها بالاستشهاد من أجل الهدف النبيل في الدفاع عن الإسلام الحقيقي المتمثل بالإمام الحسين عليه السلام، وبين النار التي تتمثل في دعم الطغيان الذي يمثله يزيد بن معاوية، فاختار الجنة وعاد تائباً إلى معسكر الإمام الحسين عليه السلام.
تقييم لنتائج المعركة
إن الهزيمة التي تتعرض لها الجيوش في المعارك التي تجري بين المتحاربين في الدنيا، قد تكون هزيمة محدودة في كثير من الأحيان، وقد يستطيع الجيش أن يلملم صفوفه مرة أخرى ليعاود شن الهجوم على الأعداء، ولكن في معركة جنود العقل والجهل قد يكون هذا ممكناً في أول الأمر إلا أن الأمر يختلف فيما لو انتصر جنود الجهل نصراً ساحقاً فيجب على الإنسان الالتفات كثيراً إلى نفسه في هذا الجهاد، فمن الممكن لا سمح الله أن تسفر هزيمة الجنود الرحمانية في تلك المملكة وتركها خالية للغاصبين والمحتلين من جنود الشيطان، عن الهلاك الدائم للإنسان بالصورة التي يستحيل معها تلافي الخسارة ولا تشمله شفاعة الشافعين، وينظر إليه أرحم الراحمين أيضاً بعين الغضب والسخط نعوذ باللَّه من ذلك بل ويصبح شفعاؤه خصماؤه، وويل لمن كان شفيعه خصمه.
ويعلم الله أي عذاب وظلمات وشدائد وتعاسات تلي هذا الغضب الإلهي، وتعقب معاداة أولياء اللَّه حيث تكون كل نيران جهنم وكل الزقوم والأفاعي والعقارب لا شيء أمام هزيمة جنود الرحمان من قِبَلِ جنود الشيطان التي تترتب عليها عقوبات تفوق جميع نيران جهنم والزقوم والأفاعي. والعياذ باللَّه من أن يصب على رؤوسنا نحن الضعفاء والمساكين ذلك العذاب الذي يخبر عنه الحكماء والعرفاء وأهل الرياضة والسلوك، فإنّ جميع أشكال العذاب التي تتصورونها، يسيرة وسهلة في مقابله، وجميع النيران التي سمعتموها، جنة ورحمة في قباله وبالنسبة إلى ذلك العذاب.
*جهاد النفس، إعداد ونشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية، ط1، حزيران 2005م ، ص43-53.
1- الكافي الشيخ الكليني، ج1، ص11.
2- وسائل الشيعة (آل البيت) الحر العاملي، ج51، ص206.
3- من لا يحضره الفقيه الشيخ الصدوق، ج4، ص417.
4- الكافي الشيخ الكليني، ج1، ص10.
5- الكافي الشيخ الكليني، ج1، ص21.
6- ميزان الحكمة محمدي الريشهري، ج3، ص2039.
7- مستدرك الوسائل الميرزا النوري، ج11، ص193.
8- مستدرك الوسائل الميرزا النوري، ج2، ص286.
9- راجع كتاب الأفكار والميول الأستاذ محمد تقي فلسفي، ج1، الصفحات 160 وما بعد