إنّ مسألة أصل الوجود، وتحديدًا منه الإنساني، هي من أكثر المسائل الجدليّة التي واجهها العلم. وعلى الرغم من أنّ بداية الحياة على وجه الأرض، وبأشكالها الأشدّ بساطة، تعود إلى 3.5 مليار سنة، فنحن لا نعيش إلّا فترة وجيزة جدًّا من عمر الكون، ونسكن في زاوية ضيّقة أيضًا في فضائه الرحب، ولكنّ الفضول، وهو من خاصيّات الإنسان في وجوده، جعل من مراقبة السماء أول تجربة علميّة يقوم بها. فالكائن الإنساني هو الوحيد الذي ينام على ظهره وعيناه ضائعتان في السماء، متسائلًا كيف يعمل الكون الرحب، وكيف نفهم كوكبنا الذي نعيش فيه، من أين جئنا، وهل نحن في بداية عمر الكون أم آخره، وكيف كانت البداية وإلى أين النهاية؟
وحيث إنّ أسئلة الإنسان هي فلسفيّة الطابع، فإنّ بعضًا من علماء اليوم ممّن أضاعهم بريق الكشوفات العلميّة قد أعلنوا «موت الفلسفة»، وحملوا مشعل الإجابة العلميّة التطبيقيّة فقط دون غيرها عن كلّ تلك الأسئلة. فما قدّموه في القرن العشرين واليوم قد أعطى إجابات - وإن كانت غير حاسمة - عن العديد من الأسئلة الفلسفيّة، لكنّها وقعت في إشكالات عدّة لا شأن للعلم بها، وذلك من خلال علم الفلك الذي لا ينتهي جديده كلّ يوم.
وبالأساس، إنّ علم الفلك علمٌ يطال تطوّر الكون بكليّته منذ نشأته، ويطال تطوّره وصولًا إلى اللحظة التي نعيشها. ولم يكن هذا العلم أيام اليونان وما قبلهم قائمًا، وإنّما كانت الحقيقة المبرمة محض فلسفيّة، وكانت المعارف قائمة دون الاختبار المؤسّس لصدقيّتها، ثمّ شكّلت بدايات القرن العشرين محطة تمّ فيها حشد كميّة كبرى من المعارف والملاحظات مع نتائج عمل التلسكوبات، ليبدأ التأسيس العلمي الواقعي لنموذجٍ ما للكون، حيث وقبل هذه المرحلة كان الحديث سائدًا في أوساط العلم عن كون أزليّ لا بداية له، وكان القول إنّ «تلاطمًا» في المادة قد أوجده، ولا حديث أبدًا وقتها عن خلق الكون.
وبالعودة إلى تاريخيّة المسألة، فإنّه، ومنذ مئة عام، كانت الفكرة الرائجة عن الكون في أوروبا أنّه أزليّ، وأزليته قائمة على أنّه تشكّل من قطع «متخلخلة» من المادة ولا بداية له، وكانت كلّ الأفكار الفلسفيّة تتمحور حول خلود المادة والكون، منطلقة من بعض ما تقوله الفلسفة اليونانيّة القائمة على أنّ المادّة هي الحقيقة الوحيدة في الكون، وهي السبب الوحيد لوجود الكون. نمت هذه الأفكار في العصر الروماني، ولكنّها تراجعت بعد انهيار الإمبراطوريّة الرومانيّة وفي بداية القرون الوسطى؛ حيث سادت أفكار الكنيسة وفلسفتها الملحقة بها.
بعد عصر النهضة، عادت أفكار أزليّة المادة، وكان الظهور الجديد ناتجًا عن إعادة اكتشاف الفلسفة اليونانيّة القديمة، فأتى الفيلسوف كانط وثبّت هذه المقولة وتحدّث عن كون لا محدود، وتبعه كارل ماركس، ثمّ فريدريك أنجلز على النغمة نفسها، مستفيدين من تطوّر علم الميكانيك منذ نيوتن وما بعده؛ حيث تبنّى بعض الفلاسفة ما عرف آنذاك التفسير الميكانيكي للكون، وأنّ الكون يعمل ميكانيكيًّا ولا حاجة إلى وجود الخالق بعدما علمنا كيف يعمل!!
إذًا، على امتداد القرون السالفة، ووصولًا إلى بدايات القرن العشرين، كان الاتّجاه السائد في أروقة العلم والبحث العلمي، ودائمًا بحسب القدرات المتواضعة للبحث آنذاك، قياسيًّا على ما هو متوفر اليوم، أنّ الكون أزليٌّ، وأنّ هذه الحقيقة تفرضها «وقائع العلم». فالكون في تلك الفترة لا بداية ولا نهاية له. لكنّ هذه «الحقيقة الكاملة» تعرّضت لنكسة علميّة شديدة من خلال نظريّة الانفجار العظيم التي أثبتت أنّ الكون له بداية لم يكن قبلها موجودًا، وأنّ مع هذه البداية نشأ الزمان والمكان والمادّة. وقد وقف الملحدون آنذاك في حيرة شديدة، ولم يستطيعوا رفضها لأنّ الأدلة كانت مبرمة، أدلة علميّة ثابتة مثبتة، وبالوقائع إلى درجة أنّ بداية الكون مع الانفجار العظيم باتت حقيقة تسلم بها كل اتجاهات الفيزياء الحديثة، المتوافقة منها والمختلفة.
وعلى أعتاب القرن العشرين، تبلور علم الفلك الحديث، وبانت علائمه على يد فريدمان في العام 1922، والذي تحدّث عن أنّ بنية الكون ليست ثابتة، وهي تتعرّض سواء للتمدد أو للتقلص، وتبعه لوميتر الذي أكّد للكون بداية وأنّه في توسع مستمر. ثمّ كان الحدث الأعظم في العام 1929 عندما أعلن الفلكي الأميركي أدوين هابل أنّ الضوء الآتي من النجوم البعيدة يترافق مع انزياح نحو اللّون الأحمر، الأمر الذي يعني أنّ هذه النجوم تبتعد ولا تقترب بحسب قوانين الفيزياء الفلكيّة، وأنّ الأشياء الموجودة في الكون تبتعد عن بعضها البعض، ولا تبتعد فقط عنّا نحن على الأرض، بمعنى آخر ومباشر الكون آخذٌ في التوسّع!!
واستمرّت أروقة البحث العلمي بمواكبة نتيجة هذا الحدث العميق في دلالاته، وصولًا إلى بلورة فكرة الانفجار العظيم أو البيغ بانغ، والذي بموجبه سلَّم العلماء على اختلاف مشاربهم، وعلميًّا، هذه المرة بفكرة أنّ للكون بداية وأنّ من له بداية فله نهاية، وانتهت الفكرة التي سادت طويلًا حول أزليّة الكون، والتي كانت منطلقة من فكرة التفسير الميكانيكي للكون، والتي كتب حولها كثيرون من العلماء والفلاسفة في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وبات واضحًا أنّ الفيزياء المتسارعة في حصد النتائج إنّما ستضيء الدرب أمام أفكار علميّة وفلسفيّة انقلابيّة يلتقي معها العلم بالإيمان بالخالق. ويجد العلم معناه وروحه وموقعه الحقيقي في الكون عبر هذا التكامل، وتسمو بالتالي إنسانيّة الإنسان على الرغم من طغيان قيم المادة والمنفعة في السياسة والحياة الاجتماعيّة للبشر، ووقوعهم أسرى في الحروب الناعمة التي حلّت لاحقًا محل الحروب الصلبة.
ومن نافلة القول، إنّه وبحسب النموذج النيوتني الذي قدّمه نيوتن، فإن الكون يعمل كمحرك عظيم، لا شأن له بوجود الحياة أو أيّ مرادف إنسانيّ ماديًّا وشعوريًّا، وهو يعمل بشكل مستقلّ عن أي وجود آخر يراقبه أو لا يراقبه. إلّا أنّه ومنذ خمسين عامًا التي خلت، فإنّ صفات الكون صارت مرتبطة أو متلائمة مع الوجود الإنساني، وذلك من خلال قراءة جديدة لتناسب السوابق الكونيّة مع الوجود البشري، وباتت مقبولة حسبما يُعرف بالمبدأ الأنثروبي، والذي استبدل فيما بعد بالمبدأ الأنثروبي الضعيف، على اعتبار أنّ الإنسان لا يتحكّم ولا شأن له ببعض خصائص الكون، مثل: عمر الكون، وتاريخ تشكّل الأرض، وتاريخ وجود الحياة عليها.
________________________________________
المصدر: الله والكون برواية الفيزياء الحديثة