الهجرة النبوية وصفحة التاريخ الأولى

قيم هذا المقال
(0 صوت)
الهجرة النبوية وصفحة التاريخ الأولى

انتهت المراحلُ الاُولى لنجاة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) وفق تخطيط صحيح، بنجاح، فقد لجأ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في منتصف اللّيل إلى غار ثور، واختبأ فيه، وبذلك أفشل محاولة المتآمرين عليه.

 

ولقد كان رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) طوال هذا الوقت مطمئناً لا يحسُّ في نفسه بأيّ قلق أو إظطراب، حتّى انه طمأن رفيقَ سفره عندما وجده مضطرباً في تلك اللحظات الحساسة بقوله: «لا تَحْزَنْ اِنَّ اللّه مَعَنا»([1]).

 

وبقي هناك ثلاث ليال محروساً بعين اللّه تعالى ومشمولا بعنايته ولطفه، وكان يتردّد عليه (صلى الله عليه وآله) في هذه الاثناء علىٌ (عليه السلام) وهند ابن ابي هالة (ابن خديجة) على رواية الشيخ الطوسي في أماليه، وعبد اللّه بن أبي بكر وعامر بن فهيرة راعي اغنام أبي بكر (بناء على رواية كثير من المؤرّخين).

 

يقول ابن الاثير: كان عبد اللّه بن ابي بكر يتسمَّع لهما بمكة نهاره ثم يأتيهما ليلا، وكان يرعى غنمه نهاره على مقربة من الغار، وكان إذا غدا من عندهما عفى على أثر الغنم([2]).

 

يقول الشيخ الطوسي في أماليه: عند ما دخل علي (عليه السلام) وهند على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في الغار (بعد ليلة الهجرة) أمر رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) عليّاً أن يبتاع بعيرين له ولصاحبه، فقال أبو بكر: قد كنتُ أعددت لي ولك يا نبي اللّه راحلتين نرتحلهما إلى يثرب.

 

فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله): إني لا آخذهما ولا أحدهما إلاّ بالثمن. ثم أمر (صلى الله عليه وآله) عليّاً (عليه السلام) فدفع إليه ثمن البعيرين([3]).

 

وكان من جملة وصايا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) لعليّ (عليه السلام) في الغار في تلك الليلة ان يؤدي أمانته على أعين الناس ظاهراً وذلك بأن يقيم صارخاً بالابطح غدوة وعشياً: ألا من كان له قبل محمّد أمانة أو وديعة فليأت فلنؤدِ إليه أمانته([4]).

 

ثم أوصاه (صلى الله عليه وآله) بالفواطم (والفواطم هن: فاطمة الزهراء بنت رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) الحبيبة لديه، والأثيرة عنده، وفاطمة بنت أسد اُمّ عليّ (عليه السلام) وفاطمة بنت الزبير ومن يريد الهجرة معه من بني هاشم)، وأمره بترتيب أمر ترحيلهم معه إلى يثرب وتهيئة ما يحتاجون إليه من زاد وراحلة.

 

وهنا قال (صلى الله عليه وآله) عبارته الّتي تذرَّع بها ابن تيمية في دليله الأول: «انهم لن يصلوا من الآن اليك يا عليّ بأمر تكرهه حتّى تقدم عليَّ».

 

فالملاحظ للقارئ هو أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) إنما قال هذه العبارة عندما أمره بأداء أمانته، وذلك بعد انقضاء قضية ليلة المبيت.

 

أي انه أمر علياً بذلك، وقال له تلك العبارة وهو يتهيّأ للخروج من غار ثور.

 

يقول الحلبي في سيرته: «وصى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) في احدى الليالي وهو بالغار علياً رضي اللّه عنه بحفظ ذمته وأداء أمانته ظاهراً على أعين الناس»([5]).

 

وثم ينقل عن مؤلف كتاب «الدر» ما يقتضي أنه اجتمع به عند خروجه من الغار.

 

وخلاصة القول: انه مع رواية شيخ جليل من مشائخ الشيعة الإمامية كالشيخ الطوسي بالاسناد الصحيحة أن الأمر بردّ الودائع والامانات صدر من جانب النبيّ (صلى الله عليه وآله) إلى عليّ (عليه السلام) بعد ليلة المبيت لا يحقّ لنا أن نعارض هذا النقل الصحيح، ونعمد إلى إلهاء العامّة بالتوافه، وأما رواية مؤرخي اهل السنة هذا المطلب بشكل آخر يوحي ظاهرُه بأن جميع وصايا النبيّ (صلى الله عليه وآله) لعليّ تمت في ليلة واحدة هي ليلة الهجرة (ليلة المبيت) فقابلٌ للتفسير والتوجيه، لأنه لا يبعد أن عنايتهم كانت مركزة على رواية أصل الموضوع، ولم يكن لظرف صدور هذه الوصايا والأوامر ووقت بيانها أهمية عندهم.

 

الخروج من الغار:

هيّأ علي (عليه السلام) بأمر النبيّ ثلاث رواحل ودليلا امينا يدعى أريقط ليترحلوها إلى المدينة، ويدلّهم الدليل على طريقها وأرسل كل ذلك إلى الغار.

 

ولما سمع النبيّ (صلى الله عليه وآله) رغاء البعير أو نداء الدليل نزل هو وصاحبه من الغار وركبا البعيرين وتوجها من أسفل مكة إلى «يثرب» سالكين إلى ذلك الخط الساحلي، وقد جاء ذكر المنازل الّتي مرّا بها في السيرة النبوية لابن هشام([6]) وفي الهوامش المثبتة على التاريخ الكامل لابن الاثير([7]).

 

صفحةُ التاريخ الاُولى:

أجل لقد حلّ الظلام في كل مكان، ولملمت الشمس اشعتّها الذهبية من هذا الوجه من الكرة الأرضية لتوجّهها إلى الوجه الاخر منها.

 

وعاد جماعة من رجال قريش الذين سلكوا كل طريق في مكة وضواحيها بحثاً عن النبيّ، ثلاثة أيام، بلياليها، إلى بيوتهم ومنازلهم متعبين مرهقين، وقد يئسوا من الظفر بالجائزة (وهي مائة من الإبل) الّتي وضعتها سادة قريش جائزةً لمن يأخذ محمّداً أو يدل على مكانه، واُعيد فتح طريق مكة ـ المدينة الّتي اُغلقت لهذه الغاية بعد اليأس من الظفر برسول اللّه (صلى الله عليه وآله)([8]).

 

وفي هذه اللحظات بالذات بلغ نداء الدليل الّذي كان يصطحب معه ثلاث رواحل ومقداراً من الطعام، إلى مسمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله) ورفيقه وهما في الغار وقد كان يقول بصوت خافت: لابد أن نتخد من ظلام هذا الليل ستراً، ونسرع في الخروج من حدود المكيّين، ونختار طريقاً يقلّ سالكوه ولا يهتدي إليه أحد.

 

ويبدأ تاريخ المسلمين من العام الّذي تضمَّن تلك الليلة بالضبط، وجعل المسلمون يقيسون كل ما يقع من الحوادث بذلك العام وبذلك يحددون تاريخه وزمان حدوثه.

 

سيد المرسلين (صلى الله عليه وآله) – ج1، آية الله الشيخ جعفر سبحاني

 

([1]) التوبة: 40.

([2]) الكامل في التاريخ: ج 2، ص 73 مع تصرف.

([3]) أمالي الشيخ: ج 2، ص 82.

([4]) الكامل: ج 2، ص 73. السيرة الحلبية: ج 2، ص 53.

([5]) السيرة الحلبية: ج 2، ص 35.

([6]) السيرة النبوية لابن هشام: ج 1، ص 491.

([7]) الكامل في التاريخ: ج 2، ص 75.

([8]) تاريخ الطبري: ج 2، ص 104.

قراءة 996 مرة