تقّدم الإمام زين العابدين(ع) على أهل زمنه علماً وفهماً حتى غدا قبلة الطّلاب والوافدين إلى مكّة والمدينة، وتُظهر بعض ألقابه الكثيرة تلك المكانة: فهو «وارث علم النبيّين، وخازن وصايا المرسلين».
وفيه قال ابن شهاب الزّهريّ: «...كان أفضل هاشميّ أدركناه...».
وفي حوار دار بينه (ع) وبين عبد الملك بن مروان، قال له عبد الملك:«...لقد بيّن عليك الاجتهاد، ولقد سبق لك من الله الحسنى، وأنت بضعة من رسول الله (ص)، قريب النّسب وكيد السبب، وإنّك لذو فضل عظيم على أهل بيتك وذوي عصرك، ولقد أوتيت من الفضل والعلم والدّين والورع ما لم يؤته أحد من مثلك ولا قبلك إلاّ من مضى من سلفك... ». ولذلك لم يجد عبد الملك بن مروان أفضل من الإمام زين العابدين(ع) لإفحام ملك الرّوم وترهيبه لأنه توعّد بغزو بلاد المسلمين، ففي ذلك ورد:«كتب ملك الروم إلى عبد الملك:أكلت لحم الجمل الذي هرب عليه أبوك من المدينة، لأغزونّك بجنود مائة ألف ومائة ألف. فكتب عبد الملك إلى الحجاّج أن يبعث إلى زين العابدين(ع) ويتوعّده ويكتب إليه بما يقول ففعل؛ فقال عليّ بن الحسين(ع): إنّ لله لوحاً محفوظاً يلحظه في كلّ يوم ثلاثمائة لحظة، ليس منها لحظة إلاّ يحيي فيها ويميت ويعزّ ويذلّ، ويفعل ما يشاء، وإنّي لأرجو أن يكفينيك منها بلحظة واحدة، فكتب به الحجّاج إلى عبد الملك بن مروان، وكتب به عبد الملك إلى ملك الرّوم، فلمّا قرأه قال: ما خرج هذا إلاّ من كلام النبوّة».
أ- الإمام السّجاد وعلوم اللّغة
كان الإمام زين العابدين فصيحاً بليغاً، وكان إذا وقف يخطب تقشعرّ له الأبدان من قوّة حججه وسلامة منطقه، وقد عرضت الصّحيفة السّجاديّة على بليغ في البصرة فقال:خذوا عنّي حتّى أملي، وأخذ القلم وأطرق رأسه فما رفعه حتى مات.
كما أتقن الإمام (ع) اللّغة الروميّة (أي اللّغة اللاتينيّة) التي احتكّ المسلمون بأهلها بعد فتح الشّام، وفي هذا ورد: « لـمّا أتى بعليّ بن الحسين (ع) يزيد بن معاوية... جعلوه في بيت فقال بعضهم: إنّما جعلنا في هذا البيت ليقع علينا فيقتلنا، فراطن الحرس، فقالوا:انظروا إلى هؤلاء يخافون أن يقع عليهم البيت، وإنّما يخرجون غداً فيقتلون؛ قال عليّ بن الحسين (ع) لم يكن فينا أحد يحسن الرّطانة غيري، والرّطانة عند أهل المدينة الرّوميّة ».
وفي رواية أخرى، ورد:«ذكر عند أبي عبدالله (ع) قتل الحسين(ع) وأمر ابنه في حمله إلى الشّام، فقال: إنّه لـمّا ورد إلى السّجن، قال بعض من فيه لبعض: ما أحسن بنيان هذا الجدار، وكان عليه كتابة بالرّوميّة، فقرأها عليّ بن الحسين (ع) فتراطن الرّوم بينهم وقالوا: ما في هؤلاء من هو أولى بدم المقتول، من هذا؟ يعنون عليّ بن الحسين (ع)».
ب - اهتمامه بالقرآن الكريم
عمل الإمام السجّاد(ع) في المدينة المنوّرة على جذب النّاس إلى أهميّة القرآن في حياتهم، قراءةّ وتدبّراً، ولا سيّما بعدما استفحلت أجواء الهزل واللّهو في مدينة النّبيّ(ص)، فكان يقرأ القرآن جهراً في منزله، فقيل إنّه كان «أحسن النّاس صوتاً بالقرآن، وكان السّقّاؤن يمرّون فيقفون ببابه، يسمعون قراءته...» ؛ وقيل أيضاً: « إن ّ عليّ بن الحسين(ع) كان يقرأ القرآن، فربّما مرّ به المارّ فصعق من حسن صوته، وإنّ الإمام لو أظهر من ذلك [أي من حسن الصوت] لما احتمله النّاس من حسنه».
وكان الإمام السجّاد(ع) يقول: «لو مات ما بين المشرق والمغرب، لما استوحشت بعد أن يكون القرآن معي».
وقد شاع بين النّاس اهتمام الإمام (ع) بكتاب الله وشرح ما غمض من معانيه، ويروى عن الزّهريّ، أنّه قال: «سمعت عليّ بن الحسين [ع] يقول:آيات القرآن خزائن، فكلّما فتحت خزانة ينبغي لك أن تنظر ما فيها». وكان القرّاء لا يخرجون إلى مكّة حتّى يخرج عليّ بن الحسين(ع).
ج- اهتمامه بأحاديث النّبيّ(ص)
بعد وفاة رسول الله (ص) مُنع تدوين الأحاديث الشريفة بحجّة اختلاط الحديث بالآيات القرآنيّة، إلا أنّ الإئمّة (ع) عمدوا إلى تدوينه، وكذلك فعل شيعتهم سرّاً، فساهم هذا التدبير في حفظ أحكام الشريعة، وتفصيل حلالها وحرامها، فقد كان حفظ الأحاديث في الصّدور والكتب الركّيزة التي ارتكز عليه الفقه والعلوم الأخرى. وقد حرص الإمام زين العابدين(ع) على حفظ أحاديث النبيّ (ص) في صدور الرّجال وذكرها بين الخاصّة والعامة، بالرّغم من قرار منع التدوين، حتى قيل: «كان عليّ بن الحسين ثقة مأموناً، كثير الحديث، عالياً رفيعاً ورعاً».
د- اهتمامه بالفقه
إذا كان الزهريّ فقيه المدينة من قبل الحكّام الأمويين، فإنّ الإمام زين العابدين كان المرجع الفقهيّ الذي رجع إليه القاصي والدّاني لاستجلاء المسائل وما أشكل على النّاس البتّ فيه، ولم يُخفَ تفقّهه بالدّين وتظلعه فيه، حتى حكى الطبريّ في تاريخه أنّ السّنة التي توفّي فيها الإمام زين العابدين(ع) قيل لها سنة الفقهاء، إذ مات فيها عامة فقهاء، مات في أولّها عليّ بن الحسين عليه السّلام، ثمّ عروة بن الزّبير، ثمّ سعيد بن المسيّب....
هـ- تصويب العلوم العقليّة
بدأت الحياة العقليّة في هذا العصر بالتطوّر، وبدأت براعم علم الكلام تتفتّح وأخذ النّاس يخوضون في مسائل كلاميّة، فكان الإمام(ع) يصحّح ما أخذه النّاس بالتّداول من خلال الأدعية، لأنّهم حديثو العهد بهذه العلوم؛ من ذلك ما روي أنّه (ع) (كان في مسجد رسول الله، ذات يوم إذ سمع قوماً يشبّهون الله تعالى بخلقه، ففزع لذلك وارتاع له، ونهض حتى أتى قبر رسول الله، فوقف عنده ورفع صوته يناجي ربّه ، فقال في مناجاته له:
إلهي بدت قدرتك ولم تبد هيئةً فجهلوك، وقدروك بالتقدير على غير ما به أنت فشبّهوك، وأنا بريء يا إلهي من الذين بالتّشبيه طلبوك، ليس كمثلك شيء إلهي ولم يدركوك، وظاهر ما بهم من نعمة دليلهم عليك لو عرفوك، وفي خلقك يا إلهي مندوحة أن يناولوك، بل ساووك بخلقك فمن ثمّ لم يعرفوك، واتخذوا بعض آياتك رباً فبذلك وصفوك، فتعاليت يا إلهي عما به نعتوك).
وقال أبو حمزة الثماليّ: سألت زين العابدين عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب(ع) عن الله جلّ جلاله: هل يوصف بمكان؟ فقال: تعالى الله عن ذلك! قلت: فَلِمَ أسرى بنبيّه محمّد(ص) إلى السّماء؟ قال: ليريه ملكوت السّماوات وما فيها من عجائب صنعه وبدائع خلقه. قلت: فقول الله عزّ وجلّ:( ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى)؟ قال: ذلك رسول الله(ص) دنا من حجب النّور فرأى ملكوت السّماوات، ثمّ تدلّى فنظر من تحته إلى ملكوت الأرض حتى ظنّ أنّه في القرب من الأرض كقاب قوسين أو أدنى.
كما أنّه ردّ على المرجئة الذين قالوا إنّ التّوحيد كافٍ للدّخول إلى الجنّة، وكان يحاور أهل الأديان السّماوية بمما حاورهم به جدّه رسول الله(ص)
فكان سلام الله عليه أن مهّد لابنه الإمام الباقر(ع) بتفريع ما أصلّه على المستويات الدينيّة كافة، ثمّ أكمل الإمام الصادق(ع) بناء هذه المدرسة الشّامخة حتى نسب الفقه عند الشّيعة الإماميّة إلى الفقه الجعفريّ.
تبيان