تشتهر عبارة "الشيطان الأکبر" في الأدبيات السياسية والإعلامية في عالم اليوم، للإشارة إلى النزعة التوسعية لأمريكا وعدائها لإيران، الذي اتضح للشعب الإيراني منذ الحرب العالمية الثانية في الحد الأدنی.
لكن مجلة "فورن افرز" وهي من المجلات الأمريكية المعروفة في السياسة الخارجية، قد استخدمت هذه العبارة في عددها الجديد(نوفمبر-ديسمبر2019) بمعنى معكوس.
ففي تقرير أفردته هذه المجلة لإيران تحت عنوان "شيطان أمريكا الأكبر: حساسية حيال إيران لأربعين عاماً"، تطرقت إلى بعض أخطاء أمريكا تجاه إيران، معتبرةً إدارة ترامب بأنها ذروة النظرة الأمريكية الخاطئة تجاه طهران.
كاتبا التقرير هما "دانيل بنجامين" المنسق السابق لشؤون مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية الأمريكية و"استيفن سايمون" عضو مجلس الأمن القومي الأمريكي في إدارتي کلينتون وأوباما.
حساسية أمريكية تجاه إيران لأربعين عاماً
يبدأ تقرير "فورن افرز" بوصف مستقبل محتمل كما يلي:
من خلال دراسة استراتيجيات الأمن القومي للإدارات المتعاقبة، هنالك بلد واحد فقط صُوِّر بأنه عدو دائم وحاقد، أي إيران. بحيث إنه منذ انتصار الثورة الإسلامية في عام 1979، صوَّرت واشنطن إيران بأنها لاعب مخاصم وخطير بالكامل.
وتشير المجلة الأمريكية إلى خروج ترامب من الاتفاقية النووية مع إيران وممارسة سياسة الضغط القصوى، وتقول: لم تشهد أمريكا حتى الآن رئيساً مزاجياً مثل ترامب، وهناك احتمال أن يميل هذا الرئيس إلى خيار المرونة أمام إيران، بعد اختباره لخيار تشديد الضغوط.
وتتابع فورن افرز بالقول: لم يأت النهج العدائي لترامب خلال ثلاث سنوات من رئاسته من فراغ، بل كان استمراراً لخصومة عميقة تجاه إيران اتسمت بها السياسة الأمريكية خلال 40 سنة الماضية. حالياً مع تصاعد الدوافع السياسية وتكثيف اللوبيات الإسرائيلية والسعودية، وصلت هذه الخصومة إلى أبعاد خطيرة قد تؤدي إلى خطأ جاد في الحسابات. فإيران لا تشكل تهديداً وجودياً لأمريكا، ولكن اشتباكاً خطيراً مع هذا البلد سيكون مكلفاً جداً وسيؤدي إلى نتائج معكوسة.
ثم يضيف الكاتبان: لقد آن الأوان لكي تعيد أمريكا النظر في بعض الفرضيات التي أدت إلى الطريق المسدود الحالي. حان الوقت لنسيان الظل الإيراني الذي يخيم على التفكير الأمريكي الاستراتيجي.
الموقع الجيوستراتيجي والبرنامج النووي.. الذريعة الأمريكية لمعاداة إيران
استناداً إلى بعض الإحصاءات حول عدد السكان، حجم الاقتصاد والميزانية العسكرية الضخمة البالغة 750 مليار دولار لأمريكا وحلفائها مثل السعودية والكيان الإسرائيلي، يقول بنجامين وسايمون: من ناحية ميزان القوى، فلا معنى لحساسية أمريكا تجاه إيران. فعلى الرغم من الفارق الواضح بين القدرة العسكرية للبلدين، فإن صنّاع القرار في أمريكا ينظرون إلى إيران نظرة العداء والتهديد لسببين: الجغرافيا والبرنامج النووي.
تتمتع إيران بخط ساحلي طويل في الخليج الفارسي، الذي ينتقل منه خمس نفط العالم. نظرياً تستطيع إيران عرقلة انتقال النفط عبر إغلاق مضيق هرمز، الأمر الذي ستكون له تداعيات مأساوية على اقتصاد العالم، رغم أن هذا التهديد مستبعد عملياً.
النظرة السلبية المفرطة وازدواجية المعايير لدى واشنطن
وإذ تنتقد مجلة فورين افرز أمريكا لأنها تحافظ على علاقاتها مع شركائها في منطقة الخليج الذين يدعمون الإرهاب من جهة، وتتعامل مع إيران كبلد منبوذ من جهة أخرى، توضح أن هناك كواليس تفوق المصالح الاستراتيجية.
ثم يشير الكاتبان إلى مسألة مهمة ألا وهي دعم إيران لحزب الله اللبناني، الذي تحول الآن إلى حزب سياسي في لبنان. إن دوافع طهران لدعم حزب الله إضافةً إلى كونها إيديولوجيةً، فهي جيوسياسية بالدرجة نفسها أيضاً. فهذه الصواريخ تشكل العامل الأساس لردع إيران الاستراتيجي أمام "إسرائيل"، وهذا الردع الذي بدأ منذ عام 2006 ظل مستمراً حتى الآن ويحقق نجاحاً.
ويذکِّر بنجامين وسايمون بنقطة مهمة، وهي أن طبيعة العديد من إجراءات إيران لتوسيع نفوذها في أنحاء الشرق الأوسط، تأتي رداً على الأخطاء الاستراتيجية لأمريكا وحلفائها. فرغم أن الصقور في واشنطن يحذّرون دائماً من نفوذ إيران في العراق، ولكن الحقيقة هي أن هذا النفوذ "ناتج في الأساس عن احتلال أمريكا للعراق عام 2003، كما أن دعم إيران لحكومة بشار الأسد في سوريا ما هو إلا جهود طهران للحفاظ على الوضع الموجود والدفاع عن حليفها الموثوق به، بعد أن حاولت الدول العربية السنية الإطاحة بالرئيس الأسد من خلال تسليح وتمويل المتمردين السوريين.
ويلفت التقرير اهتمام الساسة الأمريكيين إلى أن: المشكلة هي أن هذا الإطار الفكري(إذا كان عدوكم متأثراً بالأيديولوجية أكثر من أي شيء آخر، فمن غير المرجح أن يقبل بالتسوية أو التراجع)، قد أعمى العديد من المحللين الأمريكيين، ولذلك، فهم لا يرون الدافع الحقيقي لإيران، والذي هو عبارة عن خلق الحد الأقصى من المصالح الأمنية في الأجواء العدائية العميقة.
من السبب في العداء بين إيران وأمريكا؟
تعترف المجلة أن "الذنب الأول" في العلاقات بين واشنطن وطهران، هو مشاركة أمريكا في المؤامرة البريطانية للإطاحة بـ"محمد مصدق" رئيس الوزراء الإيراني المنتخب في عام 1953، ولكن لم ينته الأمر عند هذا الحد، بل زاد الدعم الأمريكي لمحمد رضا شاه بعد الانقلاب غضب الشعب الإيراني. وبعد خروج ترامب من الاتفاق النووي، أضيف الشعور بالحقد والانتقام إلى هذا الغضب.
أسباب وتداعيات العداء الأمريكي لإيران
ثم يتساءل بنجامين وسايمون بالقول: «كيف يمكن إيضاح هذا العداء؟"، ويذكر أن إجابتين له، هما "انطباق إيران على التعريف التقليدي للأمريكيين عن التهديد الخطير" و"التأثير المدمر للوبي الإسرائيلي".
يزعم الكاتبان أن إيران، مثل الاتحاد السوفيتي في الحرب الباردة، لها نفس الخصائص التي يتصورها الأمريكيون لأكبر أعداء بلدهم، أي "الأيديولوجية الثورية والنهج التوسعي للمتحالفين في كل أنحاء العالم".
أما السبب الثاني للعداء الأمريكي لإيران بحسب الكاتبين، فهو تزايد تأثير اللوبي الصهيوني في واشنطن، ونتيجة هذا اللوبي هي "تكثيف نفوذ المسيحيين الانجيليين في الحزب الجمهوري ونمو الدعم العام لإسرائيل في أمريكا".
ويرى الكاتبان أن "الجميع يعلم شكل حروب أمريكا الكبيرة في الشرق الأوسط، ومن الواضح أن أفضل خيار حيال هذه الحروب هو الحيلولة دون وقوعها". والتكلفة الأخرى هي تفاقم الخلافات بين أمريكا والاتحاد الأوروبي والذي تجلى في عهد ترامب بوضوح. وحتى إذا كانت الحكومة الحالية في طهران غير مرغوب بها لواشنطن، فإن تداعيات إسقاطها مثل أزمة اللاجئين المحتمل والضغوط الشديدة على الجيران، أكثر مأساويةً.
عداء ترامب الخاص تجاه إيران
لقد خصصت فورين افرز قسماً من تقريرها لدراسة علاقات الإدارات الأمريكية المتعاقبة مع طهران، وقالت: لقد كانت الخصومة حاضرةً بين واشنطن وطهران إلا نادراً، ولكن عداء ترامب الخاص تجاه طهران يختلف عن المسار الطبيعي لرؤساء أمريكا السابقين. فلم تتخذ أي إدارة قبل إدارة ترامب هذا الموقف بشكل ثابت دون تغيير، بأن إقامة علاقات فاعلة مع حكومة رجال الدين في إيران غير منطقي وغير مقبول.
ويضيف التقرير: من المؤكد أن هناك إشارات ضعيفة بأن ترامب هو الآخر سيسلك طريق من سبقوه تجاه إيران، بمعنی أنه سيحاول التشدد في السلوك الظاهري، ولكن في الوقت نفسه سيتوصل إلى صفقة مع إيران خلف الکواليس.
من التعامل العسكري إلى إعادة فتح السفارة.. أهداف وآليات أمريكا تجاه إيران
في القسم الأخير من التقرير، ترى فورين افرز أن أمريکا يجب أن تتعامل مع إيران في نهاية المطاف. الهدف الأهم لواشطن يجب أن يکون منع إيران من الوصول إلی السلاح النووي. والطريق الأنجع لذلك هو الدبلوماسية المتعددة الأطراف في إطار الاتفاق النووي. وهذا الطريق لا يوفر إمکانية التفتيش وجمع المعلومات من المنشآت النووية الإيرانية من قبل الغرب فحسب، بل سيخلق لدی إيران دوافع للتعاون في هذا المجال أيضاً.
والهدف الثاني لأمريکا يجب أن يکون الحصول علی أدوات للضغط في مجال السياسة الخارجية الإيرانية، لکي تتضاءل إمکانية الصراع بين واشنطن وطهران. والحصول علی نفوذ هادف في السياسة الإيرانية يستلزم في الحد الأدنی فتح قناة اتصال بين جيشي البلدين، بهدف منع الاشتباکات غير المقصودة. ثم يمکن أن يسير هذا الاتصال نحو مفاوضات سرية متعددة الأطراف حول القضايا التقنية، ويتعزز عن طريق إثارة مواضيع سياسية في مستويات أعلی في مجالات التعاون المحتملة، ويصل إلی ذروته في النهاية من خلال تطبيع العلاقات الدبلوماسية.
ثم تختم فورين افرز تقريرها بالقول: ثمة ضرورة لإعادة فتح السفارة الأمريکية في طهران، لتأثير واشنطن علی المستويات العلیا لصنع القرار في إيران، ولا يتأتی هذا التأثير إلا من خلال إعادة فتح السفارة وإقامة التعاملات المنتظمة والمحترفة بين الطرفين. حالياً، حيث وضعت الحرب في سوريا أوزارها، واستمر الردع في حدود "إسرائيل" مع جنوب لبنان، وأظهرت إسرائيل عزمها علی منع تقدم إيران بالقرب من مرتفعات الجولان، وابتعدت الإمارات عن الحرب السعودية علی اليمن، توفَّرت فرصةٌ للتحرك بحذر. ومن المستبعد أن ينتهز ترامب هذه الفرصة، لأن التکاليف السياسية لهذا التغيير باهظة جداً. ولکن رغم ذلك، علی الإدارة اللاحقة أن تجرِّب التعامل مع طهران في المدی البعيد
المصدر.الوقت