ما هو سرُّ الخلق؟

قيم هذا المقال
(0 صوت)
ما هو سرُّ الخلق؟

وبعبارة أخرى: ما هي الحكمة من إيجاد الله تعالى للكائنات؟

إنّ السؤال عن سرِّ الخلق يستبطن اعتقاداً بحكمة الخالق. وهذا ما يجب إثباته أولاً قبل الإجابة على السؤال المتقدّم.

سنعتمد في الإجابة على جواب السؤال الأول الذي أثبتنا فيه أن هناك علة أولى للكائنات، هي واجبة الوجود، غنيّة لا تحتاج إلى أيّ شيء.

وهذه العلة الأولى لعالم الوجود الممكن لها مميّزات هي:
1- إنّها هي الخالقة والموجدة لجميع الكائنات، وهذا منبثق مع كونها العلة الأولى.

2- إنّها تشتمل على جميع كمالات هذه الكائنات؛ لأن فاقد الشيء لا يعطيه.
وعليه، بما إنّ الكائنات فيها حياة، فالعلة الأولى حيّة، وبما أنّ الكائنات فيها قدرة، فالعلة الأولى قادرة، وبما أنّ الكائنات فيها علم، فالعلة الأولى عالمة.

3- إن الكائنات تحتاج إلى العلة الأولى في أمرين:
أ‌- في أصل حدوثها ووجودها، فلولا العلة الأولى لما وُجدت.
ب‌- في استمرارها وبقائها، لأن الكائنات لم تكن موجودة- أصلاً-، وإنَّ وجودها هو من وجود العلة الأولى، فارتباطها بها ليس كارتباط البِنَاء مع البنَّاء بحيث يحتاج البِنَاء في حدوثه إلى البنَّاء، فإذا حدث ووجد، فإنّه لا يرتبط في بقائه به، فيموت البنَّاء ويبقى البناء.

بالتأكيد ليست هذه هي العلاقة بين العلة الأولى وسائر الكائنات؛ لأنّ الكائنات هي لا شيء من دون العلة الأولى، بل ارتباطها به – من باب تقريب الفكرة- كارتباط شعاع الشمس بالشمس، فإن حدوث الشعاع مرتبط بالشمس، وبقاء الشعاع مرتبط بها، فلا يمكن أن تفنى الشمس ويبقى الشعاع، وكارتباط صورة الإنسان في المرآة بوجود الإنسان قبالها؛ فإنّ أصل حدوث الصورة مرتبط بوجود الإنسان، وكذلك استمرار الصورة وبقائها مرتبط به أيضاً.

إذاً عالم الوجود يرتبط بالعلة الأولى في أصل حدوثه ووجوده وفي استمراره وبقائه.

وهذا يعني أنّ العلة الأولى هي المدير والمدبّر والربّ لشؤون عالم الوجود، وبالتالي فهي صاحبة الإفاضات والعطاء والرزق والجود على عالم الوجود، وهي المحيية والمميتة وهكذا.

لقد استطعنا خلال العرض السابق أن نتعرّف على صفات عديدة لواجب الوجود ونثبتها وهي أنه خالق، غنيّ، حيّ، قادر، عالم، ربّ، جواد،...الخ.

بعد هذا التمهيد ندخل في إثبات كون واجب الوجود حكيماً.

الدليل على حكمة العلة الأولى
الحكمة هي وضع الأشياء في مواضعها المناسبة، بحيث يكون هناك هدف لأيّ عمل.

وعليه فمن لا يضع الأمور في مواضعها المناسبة فهو يفعل ذلك إما بسبب حاجة أو عجز أو جهل أو بخل وقد أثبتنا سابقاً أن واجب الوجود وهو الله تعالى غنيّ، قادر، عالم، جواد، وبالتالي هو حكيم.

بعد هذه المقدمة يُطرح السؤال:

ما هي الحكمة من خلق الكائنات؟
والجواب لا بدّ أن يتلاءم مع كون الله تعالى غنيّاً، ما يعني أنّه لا يحتاج إلى الخلق، فخلقه للكائنات لا لحاجة منه إليها.

إذاً ما هو الهدف من إيجادها؟
لا بدّ أن يكون الهدف هو مصلحة لنفس الكائنات، وهي ما يمكن أن نعبّر عنه بعنوان واحد هو الكمال، بمعنى أن الله تعالى خلق الكائنات لأجل أن تصل إلى كمالها.

وهذا هو الجواب المنطقي الوحيد في سرِّ الخلق، والحكمة منه.
وهذا الجواب هو تفسيرٌ للحديث القدسي الوارد عن الله تعالى: "كنت كنزاً مخفياً، فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق لكي أعرف"1.

إنّه حبٌ للكمال، وإظهار للكمال، فقد خلق الله الخلْقَ لكي يظهر هذا الكمال.

وظهور الكمال في الخلق على نوعين: قهريّ واختياريّ.

الكمال القهري: ونجده في الجمادات والنباتات والحيوانات.

الكمال في الجمادات: يكفي في معرفته التأمل في حركة الكواكب.
يقدر علماء الفلك أنّ هذا الكون يتألف من خمسمائة مليون من مجاميع النجوم مضروباً هذا العدد في 500.000.000.000.000 مليون، في كل مجموعة منها حوالي مئة مليار نجمة.

وأن الكون يتسع من كل جوانبه كالبالون المطاطي2.
واللافت أن هذا العدد الضخم من الكواكب قد نظمت حركته بشكل دقيق، إذ يرى علماء الفلك أن مجرّاته النجوم يتداخل بعضها في بعض، فتدخل مجرة تشتمل على بلايين من السيارات المتحركة في مجرّة أخرى مثلها تتحرك سياراتها أيضاً، ثم تخرج منها بسياراتها جميعاً دون أن يحدث أيّ تصادم بين سيارات المجرَّتين3.

وقد عبّر الله تعالى عن هدايتها التكوينية للكواكب إلى كمالها بقوله تعالى: ﴿وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا﴾4 أي تمّ إبلاغ كل سماء بما تقوم به وهديت إلى مسار حركتها5.

ولعلَّ من أبهى مشاهد الكمال في الكون ما يظهر من حركة الأرض حول الشمس بانضباط شديد بحيث لو بعدت أكثر لتجمّدت الأرض، ولو اقتربت أكثر لاحترقت، وكذا حركة القمر حول الأرض، كل ذلك في ظل جاذبية مدهشة بين الأجسام والأجرام في الكون.

الكمال في النبات: إنّ المحرّكات الآلية الضخمة ذات قوة 100 حصان تعجز عن تصعيد الماء إلى مسافة 20 متراً، إلا أن الأوراق الرقيقة في الشجرة قادرة على إيصال الماء إلى أعلى من هذه المسافة بقوتي "الضغط الجذري والشدّ الورقي".

الكمال في الحيوان: ولنأخذ النملة في حديث أمير المؤمنين (عليه السلام) في نهج البلاغة: »ألا ينظرون إلى صغير ما خلق كيف أحكم خلقه، وأتقن تركيبه، وفلق له السمع والبصر، وسوَّى له العظم والبشر6. انظروا إلى النملة في صغر جثتها ولطافة هيئتها، لا تكاد تُنالُ بلحظ البصر، ولا بمستدرَكِ الفكر، كيف دبّت على أرضها، وصُبَّت على رزقها، تنقل الحبة إلى جُحرها، وتُعدُّها في مستقرِّها، تجمع في حرّها لبردها، وفي وُرُودها لصَدَرِها7، مكفولةٌ برزقها، مرزوقة بوِفِقها، لا يُغفلها المنّانُ، ولا يَحرِمها الديّان ولو في الصفا اليابس والحَجَر الجامس8. ولو فكرت في مجاري أَكْلها في عُلْوِها وسُفْلِها، وما في الجوف من شراسيف بطنها9، وما في الرأس من عينها وأذنها، لقضيت من خَلقِها عجباً، وَلَقِيْتَ من وصفِها تعباً، فتعالى الذي أقامها على قوائمها، وبناها على دعائمها، لم يَشْرَكهُ في فطرتها فاطرٌ، ولم يُعِنْهُ في خلقها قادرٌ10.

الكمال بين النبات والحيوان
لقد أثبت العلم الحديث تفاعلاً كمالياً بين النبات والحيوان ومن لطيف ما ثبت في ذلك ما حدث في الصين من اكتشاف دور للطائر المعروف بالدوري في إنقاص حجم محاصل زرع الأرز، مما استدعى تدخلاً من الحكومة الصينيّة التي دعت إلى إبعاد الدوري عن محاصل الأرز تحت شعار "الدوري عدو الشعب الصيني".

وفعلاً نفذت برامج عديدة أدّت إلى ذلك الإبعاد المطلوب، إلا أن المفاجأة كانت هي في تدني محاصيل الأرز بشكل أكثر بكثير مما كان، وعند دراسة الموضوع ومتابعته، تبيّن أن هناك دودة تأكل من نبتة الأرز، وأنّ الدوري يأكل تلك الدودة التي استحكمت بإبعاده من أكل ذلك النبات.
وقد اضطرت الحكومة الصينية من رفع شعار جديد داعية إلى إعادة الدوري إلى محاصيل الأرز، وكان هذا الشعار هو: الدوري صديق الشعب الصيني.

الكمال الاختياري: وأجلى صور هذا الكمال كان في الإنسان الذي ميّزه الله تعالى عن كل ما سبق بأن أراد له أن يسير في طريق كماله عن اختيار وليس عن قهر واضطرار قال تعالى: "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا ".

فإن نجح الإنسان في عبور طريق كماله، فإنه سيكون الكائن الأول عند الله تعالى، إنّه سيكون أفضل من كلِّ الكائنات حتى الملائكة العظام.

وهذا سرُّ ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله) في حديثه عن المعراج: "... فلما انتهيت إلى حجب النور قال لي جبرئيل: تقدّم يا محمد، وتخلّف عنّي، فقلت: يا جبرئيل، في مثل هذا الموضع تفارقني؟! فقال: يا محمد، إنّ انتهاء حدِّي الذي وضعني الله عز وجل فيه إلى هذا المكان، فإنْ تجاوزته احترقت أجنحتي"12.

لأنَّ محمداً (صلى الله عليه وآله) عبر في طريق كمال كما أراد الله تعالى توقّف الملك العظيم جبرئيل في مسيرة الكمال والقرب من الكمال المطلق وتقدّم محمد (صلى الله عليه وآله).

سماحة الشيخ د. أكرم بركات

1- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، تحقيق السيد ابراهيم الميانجي ومحمد باقر البهبودي، ط3، بيروت، دار إحياء التراث العربي، 1983م، ج84، ص199.
2- خان، وحيد الدين، الاسلام يتحدى، ط9، بيروت، مؤسسة الرسالة، 1985، ص58.
3- المصدر السابق.
4- سورة فصلت، الآية12.
5- المطهري، مرتضى، دراسات عقائدية، ط1، جمعية المعارف الإسلامية الثقافية،2010م، ص72.
6- جمع بشرة وهي ظاهر الجلد الإنساني.
7- الصدر، محرَّكاُ، الرجوع بعد الورود. وقوله بوقفها بكسر الواو أي بما يوافقها من الرزق ويلائم طبعها.
8- الجامس: الجامد.
9- الشراسيف: مقاط الأضلاع وهي أطرافها التي تشرف على البطن.
10- الإمام علي، نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، تحقيق محمد عبده، ط1، قم، دار الذخائر، ج2، ص 117.
11- سورة الأحزاب، ا لآية 72.
12- المجلسي، محمد باقر، بحار الأنوار، ج18، ص346..

قراءة 1471 مرة