emamian

emamian

الأربعاء, 02 آب/أغسطس 2023 07:35

الحكمة من مرض السجاد (ع) يوم عاشوراء

السؤال:

هل هناك سرّ في مرض الإمام السجّاد(عليه السلام) يوم كربلاء؟ ولماذا لم يأخذ الإمام الحسين(عليه السلام) ابنته فاطمة العليلة إلى كربلاء؟

الجواب:

شاءت الإرادة الإلهية أن يكون الإمام السجّاد(عليه السلام) عليلاً يوم عاشوراء، وذلك:

أوّلاً: حتّى لا يُقتل.

ثانياً: حتّى لا تخلو الأرض من حجّة لله تعالى.

ثالثاً: حتّى يستلم الإمامة بعد أبيه الإمام الحسين(عليه السلام).

رابعاً: يسقط عنه وجوب الدفاع عن إمام زمانه، إذ لو كان سليماً ويسمع استغاثة أبيه(عليه السلام)؛ لوجب عليه إغاثته والذبّ عنه.

وأمّا السبب في عدم أخذ الإمام الحسين(عليه السلام) ابنته فاطمة العليلة فلشدّة مرضها حين الخروج، بينما الإمام السجّاد(عليه السلام) لم يكن مريضاً يوم خروجه من المدينة المنوّرة.

حول هذا المحور نتحدّث عن نقطتين مهمّتين في موقف الإمام زين العابدين (ع) من حكومة بني أميّة وعمّالهم وأعوانهم في البلاد:

أ- موقف الإمام من الخروج والثورة المسلّحة ضدّ حكّام بني أميّة وعمّالهم في البلاد.

ب- إعلان المقاطعة السياسيّة والمعارضة لحكّام بني أميّة، ونفي شرعيّة حكومة بني أميّة، والنهي عن التعاون معهم. وسوف نتحدّث عن هاتين النقطتين بإيجاز إن شاء الله.

أ- موقف الإمام (ع) من الثورة المسلّحة

لقد علم بنو أميّة أن شيعة علي (ع) هم المعارضون السياسيّون الصلبون ضدّ حكمهم.. وبإمكان هذه المعارضة أن تستقطب ثقة الناس ودعمهم ومشاركتهم ما لا تستطيعه أيّة جماعة معارضة أخرى.

وكان الخوارج يومذاك يحسبون في عداد المعارضات السياسيّة القويّة لحكّام بني أميّة، إلا أنّ المعارضة الخارجيّة كانت حركة انتحارية، انفعالية، في التعامل مع الساحة السياسيّة والأحداث كما قلنا، وهذه الحالة الانفعاليّة وغير العقلانيّة في تكفير المسلمين وقتلهم بصورة عشوائية، أدّت إلى تصفيتها من قبل حكّام بني أميّة، وعمّالهم كالحجّاج بن يوسف الثقفي، وغابت هذه الحركة عن الساحة السياسيّة في أواسط العصر الأمويّ تقريباً، ولم تعد هذه الحركة تقلق حكّام بني أميّة.

ولم يكن أمر المعارضة الشيعيّة كذلك، فقد كانت هذه المعارضة تمتلك جماعة عريضة، وخطّة سياسيّة، وقابليّة على ترحيل العمل السياسيّ، والثورات المسلّحة، وقدرة كبيرة على الاختفاء والكتمان والعمل في السرّ.

لقد اهتزّت دولة بني أميّة من أقصاها إلى أقصاها بسبب خروج الحسين (ع) ومصرعه، ولم يعد لهذه الدولة الموقع الشرعيّ الذي كان يدّعيه بعنوان خلافة رسول الله (ص)، بعد مصرع الحسين (ع) وأنصاره، في نظر عامّة المسلمين، وكانوا يتعاملون معها، كما يتعاملون مع أيّ حكومة زمنيّة ظالمة ذات قوّة وبطش.. ورغم كلّ الإعلام الأمويّ الواسع فقد دفع آل أميّة ضريبة باهظة بسبب مصرع الإمام الحسين (ع) وأنصاره على أيديهم، ولم يعد بإمكانهم جبر الكسر الذي حدث في سلطانهم في حادث الطفّ.

ومع كلّ هذا الإرهاب والتصفيات الواسعة التي مارسها بنو أميّة تجاه شيعة أهل البيت (عليهم السلام) … بقى شيعة أهل البيت معارضة سياسيّة قويّة، ومسلّحة أحياناً في وجه بني أمية، يهدّدون سلطانهم وملكهم في كلّ حين، رغم كلّ القتل والسجن والمطاردة التي مارسها بنو أميّة بحقّ آل عليّ وشيعتهم.

ولذلك كان بنو أميّة يخطّطون للقيام بتصفيّة واسعة لشيعة أهل البيت (عليهم السلام) في العراق والحجاز، والتضييق عليهم في أرزاقهم ومطاردتهم وحبسهم وقتلهم، ومن يقرأ ما حدث لشيعة الإمام علي (ع) في العراق في عهد معاوية، وبعد ذلك، وفي عهد عبد الملك وهشام، وفي ولايّة الحجّاج في العراق، لا يتردد في هذه الحقيقة، وقد قرأنا من قبل كلمة الإمام الباقر (ع) في سياسة بني أميّة في استئصال شيعة أهل البيت (عليهم السلام)، وملاحقتهم، ومطاردتهم، والتضييق عليهم.

لقد عاش الإمام زين العابدين (ع) هذه الفترة الصعبة بعد مصرع أبيه (ع) وأنصاره (رضوان الله عليهم) بكربلاء.

فكان الإمام عليّ بن الحسين (ع) يعمل ما في وسعه لئلا يعطي ذريعة لبني أميّة وعمّالهم ليمارسوا هذه التصفيّة السياسيّة الواسعة التي كان يخطّط لها بنو أميّة لشيعته.

وكان الإمام (ع) هو رأس هذا الاستهداف.. وكان بنو أميّة يعلمون جيّداً أن الإمام عليّ بن الحسين (ع) وارث عاشوراء، حضر كربلاء يوم عاشوراء، وحفظه الله تعالى من بطش الظالمين يوم عاشوراء، ليحمل ميراث الحسين (ع) سيّد الشهداء، وأنصاره الشهداء من بعدهم للمسلمين، فكان زين العابدين (ع) يحمل خطاب الشهداء في كربلاء وخطاب سيد الشهداء إلى المسلمين، وكان يشعر بثقل هذه المسؤوليّة، وكان يسعى لأداء هذا الخطاب أوسع أداء إلى الأجيال، وكان بنو أميّة يعرفون ذلك كلّه.. وقد لمسوا تأثير هذا الخطاب في مسيرة أهل البيت (عليهم السلام)، على هيئة أسرى من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشام.

الإمام زين العابدين يقيم أوّل مجلس عزاء للحسين (ع) عند مدخل المدينة:

روى بشير بن حذلم وقال: )لمّا قربنا من المدينة حطّ عليّ بن الحسين رحله وضرب فسطاطه وأنزل نساءه وقال: يا بشير رحم الله أباك لقد كان شاعراً فهل تقدر على شي ء منه؟ فقلت: بلى يا ابن رسول الله (ص) إنّي شاعر، فقال (ع): ادخل المدينة وانع أبا عبد الله. قال بشير: فركبت فرسي وركضت حتى دخلت المدينة، فلمّا بلغت مسجد النبيّ (ص) رفعت صوتي بالبكاء وأنشأت أقول:

يا أهلَ يثربَ لا مُقامَ لكم بها **  قُتِلَ الحسينُ فأدمعي مِدْرارُ

الجسمُ منهُ بكربلاءَ مضرَّج ** والرأسُ منهُ على القناةِ يدارُ

قال: ثمّ قلت: هذا عليّ بن الحسين (ع) مع عمّاته وأخواته قد حلّوا بساحتكم ونزلوا بفنائكم، وأنا رسوله إليكم أعرّفكم مكانه.

قال: فلم يبق في المدينة مخدّرة ولا محجّبة إلا برزن من خدورهن، وهنّ بين باكيّة ونائحة ولاطمة، فلم ير يوم أمرّ على أهل المدينة منه، وسألوه: من أنت؟ قال: فقلت: أنا بشير بن حذلم، وجّهني عليّ بن الحسين، وهو نازل في موضع كذا وكذا مع عيال أبي عبد الله ونسائه.

قال: فتركوني مكاني وبادروني، فضربت فرسي حتى رجعت إليهم، فوجدت الناس قد أخذوا الطرق والمواضع، فنزلت عن فرسي، وتخطّيت رقاب الناس حتى قربت من باب الفسطاط، وكان عليّ بن الحسين داخلًا فخرج وبيده خرقة يمسح بها دموعه وخادم معه كرسيّ، فوضعه وجلس وهو مغلوب على لوعته، فعزّاه الناس، فأوما إليهم أن اسكتوا، فسكنت فورتهم فقال:

الحمد لله ربّ العالمين مالك يوم الدين بارء الخلائق أجمعين، الذي بَعُدَ فارتفع في السماوات العلى، وقرب فشهد النجوى، نحمده على عظائم الأمور وفجائع الدهور وجليل الرزء وعظيم المصائب.

أيّها القوم إنّ الله وله الحمد ابتلانا بمصيبة جليلة وثلمة في الإسلام عظيمة، قُتل أبو عبد الله وعترته، وسبي نساؤه وصبيته، وداروا برأسه في البلدان من فوق عالي السنان، أيّها الناس فأيّ رجالات يسرّون بعد قتله؟ أيّة عين تحبس دمعها وتضنّ عن إنهمالها، فلقد بكت السبع الشداد لقتله، وبكت البحار والسماوات والأرض والأشجار والحيتان والملائكة المقرّبون وأهل السماوات أجمعون.

أيّها الناس أيّ قلب لا ينصدع لقتله؟ أم أيّ فؤاد لا يحنّ إليه؟ أم أيّ سمع يسمع هذه الثلمة التي ثلم في الإسلام؟

أيّها الناس أصبحنا مطرودين، مشرّدين، مذودين، شاسعين، كأنّا أولاد ترك أو كابل من غير جرم اجترمناه، ولا مكروه ارتكبناه. ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين. إن هذا إلا اختلاق، والله لو أنّ النبيّ تقدّم إليهم في قتالنا كما تقدّم إليهم في الوصاة بنا، لما زادوا على ما فعلوه، فإنّا لله وإنّا إليه راجعون.

إضطهاد وارث كربلاء

لقد كان عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) وارث عاشوراء حقّاً، وكان يحمل تراث عاشوراء، وينشره أينما يحلّ … فقد كان شاهد عاشوراء ووارثه وحامل خطابه.

ولذلك كان يخافه بنو أميّة على ملكهم وسلطانهم ويرصدونه، ويتحيّنون الفرص به للقضاء عليه وأهل بيته وشيعته، لتخلو الساحة لبني أميّة من المعارضة الشيعيّة العلويّة.

وكان عليّ بن الحسين (ع) يعي كلّ ذلك، ويحرص ألا يعطي لبني أميّة هذه الفرصة في السنوات الثلاث الأولى، على الأقلّ، من عودته إلى المدينة.

فآثر (ع) في أوّل وهلة من عودته من الشام إلى المدينة أن يغيب عنها، ويسكن البادية، ويبتعد عن الناس، ليأمن بنو أميّة جانبه، وليرسخ في نفوسهم أنّ الإمام قد اعتزل )الحَضَر( و )السياسة( و )المعارضة (ولم يعدّ الإمام تهديداً فعلياً لحكومة بني أميّة.

يروي ابن أبي قرّة في )المزار( عن الإمام الباقر (ع)، قال: كان أبي عليّ بن الحسين (ع) قد اتخذ منزله بعد مقتل أبيه الحسين (ع) بيتاً من شعر، خارج المدينة، كراهيّة لمخالطة الناس.

وكان يسير في مقامه من الباديّة إلى العراق، زائراً لأبيه وجدّه (عليهماالسلام)، ولا يُشعر بذلك مِن فِعلِه  .

لقد أبعدت هذه السياسة أنظار بني أميّة فعلًا عن الإمام زين العابدين، وأمنوا جانبه، وحفظ الإمام (ع) بذلك نفسه وأهله وشيعته من بطش بني أميّة برهة من الزمان.

ولقد كانت تلك البرهة، بعد مصرع الحسين (ع) فترة صعبة من أصعب ما مرّ على أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم، وأيّ موقف انفعاليّ في هذه الفترة كان كافياً لاستئصال أهل البيت (عليهم السلام) وشيعتهم على يد جلاوزة بني أمية.

ولم يكن لأهل البيت (عليهم السلام) أنصار في تلك الفترة الصعبة في الحرمين الشريفين، يقفون معهم وينصرونهم … وعن هذه الغربة والانفراد في الحجاز، يقول زين العابدين (ع)، كما في روايّة ابن أبي الحديد (ما بمكّة والمدينة عشرون رجلًا يحبّنا).

موقف الإمام (ع) من ثورة أهل المدينة (الحرّة):

ونقطة أخرى تلفت النظر في سيرة الإمام زين العابدين (ع) في هذه الفترة، فهي أن الإمام (ع) لم يشترك في ثورة أهل المدينة المسلّحة على بني أميّة، لأن الإمام كان يعلم مآل هذه الثورة من انتهاك حرمة حرم رسول الله (ص)، والمذابح الواسعة التي جرت على يد مسلم )مسرف( بن عقبة )لعنه الله( للصحابة وأبناء الصحابة والتابعين، وانتهاك حرمات النساء في مدينة رسول الله (ص)، ولأن هذه الثورة كان ينقصها التخطيط، ولم يكن قادة الثورة قد خططوا لهذه الثورة وأعدّوا لها عدّتها بصورة عقلانيّة.

ولسبب آخر يعادل كلّ الأسباب المتقدّمة، وهو أن الإمام كان لا يريد أن يعطي لبني أميّة ذريعة لقتله وتصفيّة من تبقّى من شيعته وأهله بعد كربلاء… ولا يمنحهم الفرصة التي كانوا يطلبونها للانقضاض على المعارضة الشيعيّة وإمامهم عليّ بن الحسين (ع).

ملاحظات على ثورة المدينة:

نحن عندما نقرأ في التاريخ ثورة أهل المدينة على يزيد بن معاويّة تستوقفنا ملاحظات جديرة بالتوقّف. لا يسعنا دراستها في هذا الموضع من البحث وانّما نشير إليها ونتجاوزها.

لم يكن يخفى على الثائرين في المدينة أن يزيد بن معاويّة لا يقف موقف المتفرّج عن إعلان أهل المدينة للانفصال عن حكومة الشام، بعد أن طردوا عامله على المدينة، وأنّه سوف يبعث إليهم بجيش من الشام، لا يطيقون مقاومته.

وكان من المعقول جدّاً أن يفكّر الثائرون في المدينة بالاتصال بالأقطار الإسلاميّة الأخرى ليزودوهم بالرجال والمقاتلين والمال كما فعل الحسين (ع) في خروجه على يزيد، ولكنّهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك. وكان واضحاً لمن يتابع سير الأحداث يومئذ في المدينة … أن الثائرين سوف يعرضون مدينة رسول الله (ص) وحرمه وقبره وأهل المدينة ومن بقي من صحابة رسول الله (ص) وأبناء الصحابة التابعين لفتك ذريع واسع من قبل جيش الشام الذي يقوده (مسرف) بن عقبة، وكان الأمر كذلك.

ونحن نحتمل أن عبد الله بن الزبير كان وراء هذه الواقعة فقد بعث أخاه منذر بن الزبير إلى المدينة ليحرِّض أهل المدينة على خلع يزيد وطرد عامله .

يقول المسعوديّ في مروج الذهب: ( إن حركة أهل المدينة واخراجهم بني أميّة وعامل يزيد من المدينة كان عن إذن ابن الزبير ) .

ويقول ابن الأعثم في الفتوح: (… إنّ أهل المدينة لمّا بلغهم مبايعة الناس لابن الزبير في مكّة والطائف وسائر مدن الحجاز، أخرجوا عامل يزيد من المدينة وبايعوا عبد الله بن الزبير، وبلغ ذلك ابن الزبير، فأرسل إلى عبد الله بن حنظلة الغسيل فولاه المدينة) .

ومهما يكن من أمر فلم يصب عبد الله بن الزبير في اشعال نار الحرب في مكّة وتعريض الحرم المكي الشريف لانتهاكات جيش الشام، كما حدث، ولم يصب الثائرون في المدينة في تعريض مدينة رسول الله (ص) للانتهاك الواسع الذي قام به جيش الشام بقيادة (مسرف) بن عقبة في الحرم النبويّ الشريف في المدينة.

كما لم يصيبوا في إعلان الخروج على يزيد من غير الإعداد الكامل لهذه المعركة غير متكافئة بين الثائرين من أهل المدينة وجيش الشام، وبين ابن الزبير وأصحابه في مكّة وجيش الشام.

ولا نعلم كيف خفي هذه المدّة الطويلة فجور يزيد وفسقه وإعلانه على أهل المدينة، حتى رجع وفدهم من الشام من عند يزيد، فقالوا: (قدمنا من عند رجل ليس له دين يشرب الخمر ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الخرابّ، فخلعوه من الخلافة) .

وكان عبد الله بن حنظلة الغسيل يقول: (جئتكم من عند رجل لو لم أجد إلا بَنيَّ هؤلاء لجاهدته بهم).

ويقول: (ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء، إنّه رجل ينكح امّهات الأولاد والبنات، والأخوات، ويشرب الخمر ويدع الصلاة) .

وكان الإمام الحسين (ع) قد كشف للمسلمين يزيد بن معاويّة وفساده وفجوره منذ حياة أبيه معاويّة عندما كان يسعى معاويّة ليأخذ البيعة من المسلمين ليزيد في حياته  .

روى ابن قتيبة الدينورىّ وغيره: لمّا قدم معاويّة المدينة حاجّاً، وأخذ البيعة ليزيد، وخطب ومدح يزيد، ووصفه بالعلم بالسنّة وقراءة القرآن والحلم الذي يرجح بالصم الصلاب. قام الحسين فحمد الله وصلى على الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم ثمّ قال: أما بعد: فلن يؤدّي القائل- وإن أطنب- في صفة الرسول (ص) من الجميع جزءا، هيهات هيهات يا معاوية! فضح الصبح فحمة الدجى، وبهرت الشمس أنوار السرج، ولقد فضلت حتى أفرطت، واستأثرت حتى أجحفت، ومنعت حتى بخلت، وجزت حتى جاوزت، ما بذلت لذي حقّ من أتم حقه بنصيب، حتى أخذ الشيطان حظّه الأوفر، ونصيبه الأكمل.

فهمت ما ذكرته عن يزيد من إكتماله وسياسته لأمّة محمّد (ص)، تريد أن توهم الناس في يزيد، كأنك تصف محجوباً أو تنعت غائباً، أو تخبر عمّا كان مما احتويته بعلم خاص، وقد دلّ يزيد من نفسه على موقع رأيه، فخذ ليزيد فيما أخذ به من استقرائه الكلاب المتهارشة عند التحارش، والحمام السبق لأترابهنّ، والقينات ذوات المعازف، وضروب الملاهي، تجده باصراً، ودع عنك ما تحاول، فما أغناك أن تلقى الله بوزر هذا الخلق أكثر مما أنت لاقيه، فوالله ما برحت تقدّم باطلًا في جور، وحنقاً في ظلم، حتى ملأت الأسقية، وما بينك وبين الموت إلا غمضة، فتقدّم على عمل محفوظ في يوم مشهود، ولات حين مناص .

وقد كان حريّاً بأهل الحرمين الشريفين أن يقفوا مع ابن رسول الله (ص) حين أعلن الخروج على يزيد، ولكنّهم لم يفعلوا شيئاً من ذلك حتى استشهد الحسين (ع) بكربلاء بتلك الصورة المفجعة … ولا نجد في خطاب الثائرين يومئذ في المدينة ذكراً للحسين (ع)، ومصرعه ومصرع أهل بيته وأنصاره الذين سبقوهم للخروج على يزيد.

وهذه وغيرها نقاط غامضة في ثورة أهل المدينة تحتاج إلى إجابة وبيان.

ومهما يكن من أمر، فقد كان من رأي الإمام زين العابدين (ع) ألا يدخل في هذه المواجهة المسلّحة لجيش الشام، وأن ينأى بنفسه وأهل بيته وشيعته عن هذه القضيّة، فهو يعلم أنّ بني أميّة كانوا يبحثون عن ذريعة يتمسّكون بها للقضاء على بقيّة السيف من آل محمّد (ص) وشيعتهم، ليتاح لهم القضاء الكامل على المعارضة العلويّة بعد وقعة الطف.

وكان عليّ بن الحسين (ع) يحرص ألا يعطي هو وأهل بيته وشيعته هذه الفرصة ليزيد، حتى تأتي الفرصة المناسبة للحركة الثقافيّة والسياسيّة الواسعة لأهل البيت بين المسلمين.

يقول الشيخ المفيد رحمه الله قدم (مسرف) بن عقبة المدينة، وكان يقال: (إنّه لا يريد غير عليّ بن الحسين).

ويقول المسعوديّ: نظر الناس إلى عليّ بن الحسين السجّاد، وقد لاذ بالقبر وهو يدعو، فأتي به إلى مسرف، وهو مغتاظ عليه، فتبرأ منه ومن آبائه، فلمّا رآه وقد أشرف عليه ارتعد، وقام له، وأقعده إلى جانبه، وقال له: سلني حوائجك، فلم يسأله في أحد ممن قدم إلى السيف إلا شفّعه فيه، ثمّ انصرف عنه. فقيل لعلي: رأيناك تحرك شفتيك، فما الذي قلت؟ قال: قلت: اللهم ربّ السماوات السبع وما أظللن، والأرضين وما أقللن، ربّ العرش العظيم، ربّ محمّد وآله الطاهرين، أعوذ بك من شرّه، وأدرأ بك في نحره، أسألك أن تؤتيني خيره، وتكفيني شرّه. وقيل لمسلم: رأيناك تسب هذا الغلام وسلفه، فلمّا أتى به إليك رفعت منزلته!؟ فقال: ما كان ذلك لرأي مني، لقد مُلئ قلبي منه رعبا.

الإمام السجّاد (ع) في ظروف الاضطهاد الأموي:

واستمر بنو أميّة وعمّالهم يبثّون عيونهم حول عليّ بن الحسين (ع) ليجدوا فرصة مناسبة وذريعة للقضاء عليه بعد واقعة الطفّ حتى سنتين أو ثلاث بعد هلاك يزيد، ولكن الإمام (ع)، كان يعي حساسيّة الظروف السياسيّة يومئذ بعد مصرع الإمام الحسين (ع) ويفوت عليهم الفرصة التي كانوا يتمنوّنها حتى تغيّرت الظروف السياسيّة ووجد الإمام (ع) أن الظرف مواتٍ للعمل والحركة السياسيّة والثقافيّة، فتغيّرت سياسة الإمام (ع) عندئذٍ.

يقول إسماعيل بن عليّ أبو سهل النونجتيّ عن فترة الاضطهاد السياسيّ هذه: (وقتل الحسين (ع) وخلف عليّ بن الحسين ثمّ انقبض عنه الناس فلم يلق أحداً، ولا كان يلقاه إلا خواصّ أصحابه. وكان في نهايّة العبادة، ولم يخرج عنه من العلم إلا يسير، لصعوبة الزمان وجور بني أميّة) .

أجل كان الإمام (ع) يعتزل الناس وينأى بنفسه عن عيون بني أميّة، ولذلك لم يكن يتصل به أحد خلال هذه الفترة، إلا القليل من خواصّه، ولهذا السبب لم يخرج عنه من العلم إلا اليسير، حتى إذا تجاوز ظروف الفتنة أخذ منه الناس علماً كثيراً جمّاً، وكان له مجلس في مسجد رسول الله (ص) يعظ الناس معه فيه  .

ورغم كلّ هذه الحيطة والحذر من جانب الإمام زين العابدين (ع) كان بنو أميّة وعمّالهم يسعون ويعملون للقضاء على زين العابدين (ع) بأيّة ذريعة ممكنة. وقد قرأنا قريباً كيف همَّ (مسرف) بن عقبة أن يقتل الإمام (ع) لولا أن الله حفظه من بطش هذا المسرف.

روى الراونديّ في كتابه (الخرائج والجرائح): أن الحجّاج بن يوسف كتب إلى عبد الملك بن مروان: (إن أردت أن يثبت ملكك فاقتل عليّ بن الحسين (عليه السلام) .

وأمر عبد الملك عامله على المدينة بإحضار الإمام (ع) إليه في الشام، فأُثقل الإمام بالحديد، ووكل به حُفّاظاً يحفظونه ليدخلوه على عبد الملك في الشام.

لقد كان الإمام يعلم بهذا الاستهداف، ويعرف نيّة بني أميّة تجاهه وتجاه شيعته علم اليقين، ويسعى بكلّ جهده لتفويت هذه الفرصة على بني أميّة.

أجل لم يشترك الإمام (ع) في ثورة أهل المدينة، ولكنه بذل ما في وسعه لحمايّة من تمكّن من حمايتهم من النساء والأطفال والرواة أيّام ثورة أهل المدينة على يزيد.. وقد ذكر المؤرّخون: أن الإمام (ع) آوى زهاء أربعمائة من النساء والأطفال والرجال وحماهم من فتك بني أمية.

وفي هذه الظروف أرسل المختار الثقفي (رحمه الله) إليه (ع) برؤوس قتلة الحسين (ع) وأولاده وأصحابه، فَسُرَّ الإمام (ع) بذلك وخرّ ساجداً لله ودعا له، وجزّاه خيراً  .

واحتفل أهل البيت (عليهم السلام) بهذا الانتقام الإلهيّ العاجل من قتلة الحسين (ع) وأنصاره.

وقد ورد عن الإمام الصادق (ع): (ما اختضبت هاشميّة، ولا إدّهنت، ولا دخل مرود في عين هاشميّة حتى بعث المختار برأس عبيد الله بن زياد).

ومع أن الإمام (ع) دعا للمختار وجزّاه الخير، لم يقبل منه ما أرسله إليه من الهدايا.

وكان يقول (ع) لمحمّد بن الحنفيّة: ( يا عمّ، لو أن عبداً تعصّب لنا أهل البيت لوجب على الناس مؤازرته، وقد وليتك هذا الأمر، فاصنع) .

ب- سياسة المقاطعة والمعارضة لحُكّام بني أميّة

سياسة المقاطعة والمعارضة لحُكّام بني أميّة وعمّالهم كانت من الثوابت السياسيّة لعلي بن الحسين زين العابدين (ع)، ولا نعرف في حياته وسيرته أنه عدل عن هذه السياسة في وقت من الأوقات، حتى في الأيّام الأوائل من عودته من الشام إلى المدينة، حيث كان يسعى للتغيّب عن مجتمع المدينة لم يتخلّ عن هذه السياسة.

ولم يكن من رأي الإمام (ع) أن المبرِّرات التي تبرّر عدم التصدّي للمقاومة المسلّحة تبرّر السكوت عن المعارضة والمقاطعة لحكومة بني أمية.

مع عبد الملك بن مروان:

وكان يعلن هذه المعارضة إعلاناً للناس، ويريد أن يظهر للناس أنّه لا يعترف لهذا النظام بشرعيّة واحترام.

روى المجلسيّ عن الخرائج والجرائح عن الإمام الباقر (ع) أنّه قال: كان عبد الملك يطوف بالبيت، وعليّ بن الحسين يطوف بين يديه ولا يلتفت إليه، ولم يكن عبد الملك يعرفه بوجهه. فقال: من هذا الذي يطوف بين أيدينا، ولا يلتفت إلينا؟ فقيل: هذا عليّ بن الحسين (ع)، فجلس مكانه، وقال ردّوه إليّ. فقال له: يا عليّ بن الحسين! إنّي لست قاتل أبيك، فما يمنعك من المصير إليّ؟ فقال عليّ بن الحسين (ع): ( إن قاتل أبي أفسد بما فعله دنياه عليه، وأفسد أبي عليه بذلك آخرته، فإن أحببت أن تكون هو، فكن!

وكأنمّا استشعر الإمام من كلمة عبد الملك تهديداً له، فأجابه بهذا الجواب فإن أحببت أن تكون هو فكن).

وروى المجلسيّ في البحار عن البرقيّ في (المحاسن) قال: بلغ عبد الملك أن سيف رسول الله (ص) عنده- زين العابدين (ع)-، فبعث يستوهبه منه ويسأله الحاجة، فأبى عليه.

فكتب إليه عبد الملك يهدّده وأنّه يقطع رزقه من بيت المال، فأجابه (ع): (أمّا بعد فإن الله ضمن للمتقين المخرج من حيث يكرهون، والرزق من حيث لا يحتسبون. وقال جلّ ذكره: ] إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ ]. فانظر أيّنا أولى بهذه الآية).

يقول شهاب الزهريّ: شهدت عليّ بن الحسين يوم حمله عبد الملك بن مروان من المدينة إلى الشام، فأثقله حديداً ووكل به حفاظا في عدّة وجمع، فاستأذنتهم في التسليم عليه والتوديع له، فأذنوا لي فدخلت عليه، وهو في قبّة والأقياد في رجليه والغلّ في يديه، فبكيت وقلت وددت أنيّ مكانك وأنت سالم.

فقال يا زهريّ! أتظنّ أنّ هذا مما ترى عليّ وفي عنقي يكربني؟ أما لو شئتُ ما كان، فإنّه وإن بلغ منك وبأمثالك، ليذكرني عذاب الله، ثمّ أخرج يديه من الغل ورجليه من القيد، ثمّ قال يا زهريّ لا جزت معهم على ذا منزلتين من المدينة.

قال فما لبثنا إلا أربع ليال حتى قدم الموكّلون به يطلبونه بالمدينة فما وجدوه فكنت فيمن سألهم عنه، فقال لي بعضهم: إنّا لنراه متبوعاً إنّه لنازل ونحن حوله لا ننام نرصده إذ أصبحنا فما وجدنا بين محمله إلا حديدة.

قال الزهريّ: فقدمت بعد ذلك على عبد الملك بن مروان فسألني عن عليّ ابن الحسين فأخبرته.

فقال لي: إنّه قد جاءني في يوم فَقَده الأعوان فدخل عليّ فقال ما أنا وأنت؟

فقلت: أقم عندي.

فقال: لا أحبّ.

ثمّ خرج، فوالله لقد امتلأ ثوبي منه خيفة.

قال الزهريّ: فقلت يا أمير المؤمنين! ليس عليّ بن الحسين حيث تظنّ، إنّه مشغول بنفسه. فقال: حبّذا شغل مثله، فنعم ما شغل به.

قال وكان الزهريّ إذا ذكر عليّ بن الحسين يبكي ويقول زين العابدين .

ثمّ يقول ابن حجر: ( ومن ثمّ كتب عبد الملك للحجّاج أن يجتنب دماء بني عبد المطلب وأمره بكتم ذلك، فكوشف به زين العابدين، فكتب: إليه إنكّ كتبت للحجّاج، يوم كذا، سِرّاً به إليه، فلمّا وقف عليه وجد تاريخه موافقاً لتاريخ كتابه للحجّاج، ووجد مخرج الغلام موافقا لمخرج رسوله للحجّاج، فعلم أن زين العابدين كوشف بأمره، فسر به وأرسل إليه مع غلامه بوقر راحلته دراهم وكسوة، وسأله ألا يخليه من صالح دعائه(  .

الدعاء على الظالمين:

وكان (ع) يصوغ نقمته على الظالمين، وإعلانه لرفضهم على هيئة الدعاء.

ومنه هذا الدعاء الذي يرويه السيّد عليّ بن طاووس في الإقبال، وهو من أدعيّة الصحيفة السجّاديّة الخامسة:

)اللهم إن الظلمة جحدوا حقّك، وكفروا بكتابك، وكذّبوا رسلك، واستنكفوا عن عبادتك، ورغبوا عن ملّة خليلك، وبدّلوا ما جاء به رسولك، وشرعوا غير دينك، واقتدوا بغير هداك، واستنّوا بغير سنّتك، وتعدّوا حدودك، وسعوا معاجزين في آياتك، وتعاونوا على إطفاء نورك …( إلى أخر الدعاء.

التحذير عن التعاون مع الظالمين:

كان (ع) يحذّر علماء عصره من التعاون مع الظالمين والدخول في أعمّالهم وولاياتهم، ويقول: (العامل بالظلم، والمعين له، والراضي به، شركاء ثلاثة).

هؤلاء الثلاثة شركاء للظالم في كلّ ما يتحمّل الظالم من مسؤوليّات الظلم … وقد ورد هذا المعنى في زيارة الحسين (ع) المعروفة بـ(وارث): (لعن الله أمة قتلتك، ولعن الله أمّة ظلمتك، ولعن أمّة سَمعت بذلك فرضيت به).

لقد استحقّت الأمّة الأولى اللعن بقتل سيّد الشهداء (ع).

ولم تمارس الأمّة الثانيّة والثالثة )قتلًا ولا ظلماً( وإنّما استحقّت اللعن بالسكوت عن الظلم والرضا بالظلم.

خَطب الإمام الحسين (ع) بمنزل البيضة في طريقه إلى كربلاء، فقال:

(أيّها الناس، إن رسول الله (ص) قال:( من رأى سلطاناً جائراً، مستحلًا لحرام الله ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنّة رسول الله (ص) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، ثُمّ لم يغيّر بقول ولا فعل، كان حقيقاً على الله أن يدخله مدخله ) .

ومما روي عنه (ع) في صحبة الظالمين والفاسقين: (لا يقول رجل في رجل من الخير ما لا يعلم، إلا أوشك أن يقول فيه من الشر ما لا يعلم، ولا اصطحب اثنان على غير طاعة الله، إلا أوشك أن يتفرّقا على غير طاعة الله).

وهي كلمة ذات شعبتين: في الشطر الأوّل منها يشير الإمام إلى الذين يمدحون أرباب المال والسلطة من غير علم، وبما لا يعلمون تزلفّاً إليهم،

فيذكّرهم الإمام (ع) بأن هذا التزلفّ سرعان ما يتحوّل إلى تباعد وتنافر، فيقولون فيهم يومئذٍ من الشرّ ما لا يعلمون، كما كانوا يقولون فيهم من قبل من الخير ما لا يعلمون.

وفي الشطر الثاني من الكلمة، ينذر الإمام الذين يصاحبون الظلمة والفاسقين بأنّهم كما اجتمعوا على معصيّة الله، فسوف يفترقون على معصيّة الله.

وكان (ع) يقول: (وإيّاكم وصحبة العاصين، ومعونة الظالمين، ومجاورة الفاسقين، احذروا فتنتهم، وتباعدوا من ساحتهم، واعلموا أنّه من خالف أولياء الله، ودان بغير دين الله، واستبدّ بأمره دون وليّ الله، كان في نار تلتهب).

مع الزهريّ:

كان محمّد بن مسلم الزهريّ من أبرز علماء البلاط الأمويّ في وقته، خدم بني أميّة طويلًا، وكان من أعوانهم، والذين يوطئون لهم الحكم.

قال ابن خلكان في ترجمته من وفيات الأعيان: )ولم يزل مع عبد الملك بن مروان وهشام بن عبد الملك، واستقضاه يزيد بن عبد الملك).

وقال ابن حجر: (أمره هشام أن يملي على أولاده أحاديث، فأملى لهم أربعمائة حديثٍ).

وقال ابن الحديد: (كان الزهريّ من المنحرفين عن عليّ (ع)).

وروى جرير بن عبد الحميد عن محمّد بن شيبة، قال: )شهدت مسجد المدينة، فإذا الزهريّ، وعروة بن الزبير جالسان يذكران عليّاً (ع)، فنالا منه، فبلغ ذلك عليّ بن الحسين (ع)، فجاء حتى وقف عليهما، فقال: أمّا أنت يا عروة فإن أبي حاكم أباك إلى الله، فحكم لأبي على أبيك. وأنت يا زهريّ، فلو كنت بمكّة لأريتك كير أبيك( ..

وروى الذهبيّ في ترجمة خارجة بن مصعب، قال: )قدمت على الزهريّ، وهو صاحب شرطة بني أمية، فرأيته يركب، وفي يده حربة، وبين يديه الناس .. فقلت: قبح الله ذا من عالم، فلم أسمع منه ..

يقول ابن خلكان: (ولم يزل مع عبد الملك واولاده هشام وسليمان ويزيد. وقد استقضاه الأخير).

وقيل ليحيى بن معين: )الأعمش خير أم الزهريّ؟ فقال: برئت منه ان كان مثل الزهريّ، إنّه كان يعمل لبني أميّة، والأعمش مجانب للسلطان ورع).

رسالة الإمام عليه السلام الى محمد بن مسلم الزهري:

روى ابن شعبة الحرّاني في تحف العقول: إن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) كتب إلى محمّد بن مسلم الزهريّ.

(كفانا الله وإيّاك من الفتن، ورحمك من النار، فقد أصبحت بحال ينبغي لمن عرفك بها أن يرحمك، فقد أثقلتك نعم الله بما أصحّ من بدنك، وأطال من عمرك، وقامت عليك حجج الله بما حمّلك من كتابه، وفقّهك من دينه، وعرّفك من سنّة نبيّه محمّد (ص)، فرضي لك- في كلّ نعمة أنعم بها عليك، وفي كلّ حجة احتج بها عليك- الفرض بما قضى، فما قضى إلا ابتلى شكرك في ذلك،] وأبدى فيه فضله عليك، فقال: لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ ].

فانظر: أيّ رجل تكون غداً إذا وقفت بين يدي الله! فيسألك عن نعمه عليك، كيف رعيتها؟ وعن حججه عليك، كيف قضيتها؟

ولا تحسبنّ الله قابلًا منك بالتعذير، ولا راضياً منك بالتقصير! هيهات هيهات، ليس كذلك أخذ على العلماء في كتابه إذ قال:] لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَه].

واعلم أن أدنى ما كتمت، وأخفّ ما احتملت أن آنست وحشة الظالم، وسهّلت له طريق الغيّ بدنوّك منه حين دنوت، وإجابتك له حين دُعيت. فما أخوفني أن تبوء بإثمك غداً مع الخونة، وأن تُسأل عمّا أخذت بإعانتك على ظلم الظلمة.

إنّك أخذت ما ليس لك ممّن أعطاك، ودنوت ممن لم يردّ على أحد حقّاً، ولم ترد باطلًا حين أدناك، وأحببت من حادّ الله.

أوليس بدعائه إيّاك، حين دعاك، جعلوك قطباً أداروا بك رحى مظالمهم، وجسراً يعبرون عليك إلى بلاياهم، وسلّماً إلى ضلالتهم. داعياً إلى غيّهم، سالكاً سبيلهم، يُدخِلون بك الشكّ على العلماء، ويقتادون بك قلوب الجهّال إليهم؟

فلم يبلغ أخصّ وزرائهم، ولا أقوى أعوانهم إلا دون ما بلغت من إصلاح فسادهم، واختلاف الخاصّة والعامّة إليهم. فما أقلّ ما أعطوك في قدر ما أخذوا منك، وما أيسر ما عمّروا لك في جنب ما خرّبوا عليك. فانظر لنفسك، فإنّه لا ينظر لها غيرك، وحاسبها حساب رجل مسؤول.

وانظر كيف شكرك لمن غذّاك بنعمه صغيراً وكبيراً؟ فما أخوفني أن تكون كما قال الله في كتابه:( فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا ).

إنك لست في دار مقام، أنت في دار آذنت برحيل، فما بقاء المرء بعد قرنائه؟

طوبى لمن كان في الدنيا على وجل. يا بؤس من يموت وتبقى ذنوبه من بعده. إحذر فقد نُبِّئت، وبادر فقد اجّلت.

إنّك تعامل من لا يجهل، وإن الذي يحفظ عليك لا يغفل. تجهّز فقد دنا منك سفر بعيد، وداوِ دينك فقد دخله سقم شديد.

ولا تحسب أنّي أردت توبيخك وتعنيفك وتعييرك، لكنّي أردت أن ينعش الله ما فات من رأيك، ويردّ إليك ما عزب من دينك، وذكرت قول الله تعالى في كتابه: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِين.

أغفلت ذكر من مضى من أسنانك وأقرانك، وبقيت بعدهم كقرن أعضب.

انظر: هل ابتلوا بمثل ما ابتليت به؟ أم هل وقعوا في مثل ما وقعت فيه؟ أم هل تراهم ذكرت خيراً أهملوه، وعلمت شيئاً جهلوه؟ بل حظيت بما حلّ من حالك في صدور العامّة، وكَلَفَهم بك، إذ صاروا يقتدون برأيك، ويعملون بأمرك، إن أحللت أحلّوا، وإن حرّمت حرّموا، وليس ذلك عندك، ولكن أظهرهم عليك رغّبتهم فيما لديك ذهاب علمائهم، وغلبة الجهل عليك وعليهم، وحبّ الرئاسة، وطلب الدنيا منك ومنهم.

أما ترى ما أنت فيه من الجهل والغرّة؟ وما الناس فيه من البلاء والفتنة؟ قد ابتليتهم، وفتنتهم بالشغل عن مكاسبهم مما رأوا، فتاقت نفوسهم إلى أن يبلغوا من العلم ما بلغت، أو يدركوا به مثل الذي أدركت، فوقعوا منك في بحر لا يدرك عمقه، وفي بلاء لا يقدّر قدره. فالله لنا ولك، وهو المستعان.

أمّا بعد: فأعرض عن كلّ ما أنت فيه حتى تلحق بالصالحين الذين دفنوا في أسمالهم، لاصقةً بطونهم بظهورهم، ليس بينهم وبين الله حجاب، ولا تفتنهم الدنيا، ولا يفتنون بها.

رغبوا فطلبوا، فما لبثوا أن لحقوا. فإن كانت الدنيا تبلغ من مثلك هذا المبلغ، مع كبر سنّك، ورسوخ علمك، وحضور أجلك، فكيف يسلم الحدث في سنّه، الجاهل في علمه، المأفون في رأيه، المدخول في عقله؟ إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

على من المعوّل؟ وعند من المستعتب؟ نشكو إلى الله بثّنا، وما نرى فيك، ونحتسب عند الله مصيبتنا بك.

فانظر: كيف شكرك لمن غذّاك بنعمه صغيراً وكبيراً، وكيف إعظامك لمن جعلك بدينه في الناس جميلًا، وكيف صيانتك لكسوة من جعلك بكسوته في الناس ستيراً، وكيف قربك أو بعدك ممن أمرك أن تكون منه قريباً ذليلًا؟

ما لك لا تنتبه من نعستك؟ وتستقيل من عثرتك؟ فتقول: والله ما قمتُ لله مقاماً واحداً أحييتُ به له ديناً، أو أَمَتُ له فيه باطلًا، فهذا شكرك من استحملك؟! ما أخوفني أن تكون كما قال الله تعالى في كتابه : (أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا ).

استحملك كتابه، واستودعك علمه، فأضعتهما! فنحمد الله الذي عافانا مما ابتلاك به. والسلام.

حوار مع الزهريّ:

وروي أن الزهري قال لعليّ بن الحسين (ع): كان معاويّة يسكته الحلم، وينطقه العلم.. فقال (ع): كذبت يا زهريّ، كان يسكته الحصر، وينطقه البطر.

حوار الإمام مع عباد البصريّ:

وفي طريق الحجّ يلقى عباد البصريّ الإمام زين العابدين (ع) وهو مقبل على الحجّ على طريق مكّة، فيقول للإمام: تركت الجهاد وصعوبته، وأقبلت على الحجّ ولينه؟ ثمّ قرأ عبّاد قوله تعالى:( إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ ….).

فقال له الإمام (ع): اقرأ بعدها: فقرأ: )التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِين (.

فقال زين العابدين (ع): إذا ظهر هؤلاء لم نؤثر على الجهاد شيئاً  .

والإمام (ع) يُعرِّض بالقيادة الأمويّة الظالمة التي كانت تتصدى يومئذ للقيادة والخلافة في العالم الإسلاميّ … ويقول لعباد البصري: إنَّ القيادة الحاضرة المتصدّية لا تصلح للإمامة والقيادة، ولا يجوز الركون إليها، لقوله تعالى: (وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ).

وكيف يصلح لإمامة المسلمين (رجل، فاسق، شارب الخمر، قاتل النفس المحترمه، معلن الفسق).

(رجل ينكح امّهات الأولاد والبنات والأخوات، ويشرب الخمر، ويدع الصلاة).

وعلى هذا النهج كان عليّ بن الحسين زين العابدين (ع) يُعرِّضُ بخلفاء بني أميّة الفاسدين ويطعن فيهم، وينفي صلاحيتهم لإمامة أمّة رسول الله (ص)، وينكر على المتعاونين معهم تعاونهم معهم وركونهم إليهم.

وقبل أن تدخل في الموضوعات الكونية والفلكية التي وردت في متن الصحيفة السجادية الكريمة، وهي موضوعات علمية وفكرية متينة لا يمتلكها أي فرد دون أن يمتلك مقومات العلم والفكر والمؤهلات اللازمة، لابد من أن نتحدث ولو باختصار عن أهمية الإمام السجاد وقدراته العلمية والفكرية وقابلياته الأدبية والبلاغية، ولابد أيضا أن نذكر أو نتحدث عن طبيعة وأهمية صحيفته السجادية الكريمة المليئة بالعطاء والعلم والفكر…

لذا سنتحدث باختصار عن نقطتين:

١- الإمام السجاد عليه السلام والعلم والمعرفة.

۲- الفكر العلمي والفلكي في الصحيفة السجادية.

١- الإمام السجاد عليه السلام والعلم والمعرفة.

الذي يقرأ عن الإمام السجاد عالية فهو يقرأ شخصية كبيرة ومهمة، كاملة متكاملة تجمع بين الدين والعلم والفكر والأدب ومميزات فريدة ومهمة ومتنوعة.

فهو إمام ابن إمام ابن إمام، وينتسب إلى أشرف بیت في الوجود، ينتسب إلى بيت النبي الأكرم محمد بن عبد الله رسول الله .

فأبوه الإمام أبو عبد الله الحسين بن علي سيد الشهداء وسيد شباب أهل الجنة، وعمه الإمام الحسن المجتبی سبط رسول الله، وجده الإمام الهمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وصي رسول الله، وجدته فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين )سلام الله عليهم أجمعين).

إنه الإمام علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهم السلام جميعا) الملقب بالسجاد و زین العابدين، لكثرة سجوده وعبادته لربه تعالی.

ولد الإمام السجاد عالية في الكوفة وقيل في يثرب كما يرجح الشيخ باقر القرشي، ولد سنة 38 هجرية وتوفي سنة 94 هجرية ودفن في البقيع بالمدينة المنورة.

ولست هنا في صدد الحديث عن تفاصيل حياة هذا الإمام الكريم وسيرته العطرة، وإنما أردت أن استعرض أهمية الإمام العلمية والفكرية والاجتماعية والأدبية في عصره ومرحلته الزمنية الصعبة، وقدرته الكبيرة على أداء واجبه الديني والإنساني أكمل أداء، من خلال منهجه الفذ وقدرته الفائقة والناجحة في التعامل مع عصر ووضع صعبين للغاية.

وفي ظروفه الصعبة هذه اتجه الإمام السجاد عليه إلى القيام بشؤون الإمامة الروحية كالعبادة ونشر الأحكام والأخلاق وتفقد الفقراء والمساكين وما إلى ذلك، وأسس مدرسة الفقه والحديث التي كانت تضم الكثير من الموالي والتابعين، وقد أحصى الشيخ الطوسي في رجاله وغيره من المؤلفين في الرجال أكثر من مائة وستين شخصا من التابعين والموالي كانوا ينهلون من معينه ویروون عنه في مختلف المواضيع، وعدوا منهم سعيد بن المسيب وابن جبير وجبير بن مطعم والقاسم بن محمد بن أبي بكر وجابر بن عبد الله الأنصاري ويحيى بن أم الطويل وأمثال هذه الطبقة من أعلام التابعين .

وإذا أردنا أن نذكر الذين اثنوا عليه وذكروا علمه وفقهه وأهميته والأقوال الكثيرة في ذلك فسنخرج من الموضوع، ولكن يكفي أن نذكر:

– ابن سعد في طبقاته حيث قال: «وكان علي بن الحسين ثقة مأمونة كثير الحديث عالية رفيعة ورعا».

– حتی مخالفوه اعترفوا بدينه وعلمه، فهذا عبد الملك بن مروان المعاصر للإمام قال له بالحرف الواحد: «ولقد أوتيت من العلم والدين والورع مالم يؤته أحد مثلك قبلك إلا من مضى من سلفك».

ويمكن أن نعرف أهمية الإمام السجاد والقيمة الاجتماعية والشعبية والدينية له من خلال مناسبة حج الإمام وطوافه الذي صادف مع حج و طواف هشام بن عبد الملك، وكيف انفرجت الجماهير لاستلام الإمام الحجر الأسود، وعدم قدرة هشام بن عبد الملك على استلامه (الحجر) والقصيدة العصماء المعروفة التي قالها الشاعر الفرزدق في ذلك الموقف بحق الإمام السجاد، وهي:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته                  والبيت يعرفه والحل والحرم

والقصة مذكورة في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني .

ومن خلال تلك القصيدة العصماء نعرف الكثيرعن أهمية الإمام وقيمته العلمية والدينية والاجتماعية.

وحول أهمية الإمام السجاد علي وقيمته العلمية والدينية يقول الشهيد محمد باقر الصدر: «وعاش حوالي سبعة وخمسين عاما، قضي بضع سنين منها في كنف جده الإمام علي عليه ثم نشأ في مدرسة عمه الحسن وأبيه الحسين عن سبطي الرسول، و تغذى من نمیر علوم النبوة واستقى من مصادر آبائه الطاهرين.

وبرز على الصعيد العلمي والديني إماما في الدين ومنارة في العلم ومرجعا في الحلال والحرام ومثلا أعلى في الورع والعبادة والتقوى، وآمن المسلمون جميعا بعلمه واستقامته وأفضليته، وانقاد الواعون منهم إلى زعامته وفقهه ومرجعيته .

ومن كان منبع علمه النبوة والإمامة، فأي علم سيضم صدره»!

۲الفكر العلمي والفلكي في الصحيفة السجادية.

خلف لنا الإمام السجاد عالية تراثا كبيرة من خطب ورسائل ووصايا، وغيرها، ومن بين ما خلف أثرين مهمين وأساسيين هما (رسالة الحقوق) المشهورة، وقد ضمنها الحقوق المترتبة على المسلمين، وهي خمسون حقا، ورسالة أخرى هي الصحيفة السجادية) الشهيرة وهي مجموعة أدعية للإمام.

والذي يهمنا في موضوعنا هذا هو (الصحيفة السجادية) الكريمة.

لكن هذه الصحيفة ليست مجرد مجموعة أدعية إلهية تقرب بين الإنسان وربه، وإنما هي إضافة إلى ذلك: مادة علمية وفكرية قيمة.

أو هي مجموعة من العلوم والأفكار والمعارف والمعاني السامية، قل نظيرها في عالم الأدعية والنصوص العلمية والفكرية في التراث الإسلامي.

ومن يقرأ عناوين الصحيفة السجادية يجدها سلسلة من الأفكار والمعلومات القيمة والمتنوعة تشمل أفكار التوحيد والرسل والعرفان والمواعظ والأدب والعلم و مسائل دینية وحياتية متنوعة.

فمثلا هناك عناوین (التحمید لله عز وجل) و(الصلاة على محمد وآله) والصلاة على حملة العرش) و (الصلاة على مصدقي الرسل). وهناك : (الدعاء في طلب الحوائج) و(الدعاء في الظلامات) و(الدعاء عند المرض) و(الدعاء في الاستسقاء) و(الدعاء في مكارم الأخلاق). وهناك أيضا: (الدعاء إذا نظر إلى الهلال) و(الدعاء لدخول شهر رمضان) و(الدعاء لوداع شهر رمضان) و(الدعاء لعيد الفطر).

وهناك (الدعاء في يوم عرفة) و(الدعاء في يوم عيد الأضحى والجمعة) وهناك أخرى غيرها، راجع محتويات الصحيفة السجادية على اختلاف طبعاتها وفي كل تلك الأدعية والمعاني تجد مادة علمية وفكرية متنوعة قيمة جدا.

وعلى أساس القيمة الإلهية والدينية للصحيفة والتنوع في موضوعاتها والمادة العلمية والفكرية المختلفة، أكب العلماء والباحثون والأدباء والفقهاء على دراسة موضوعاتها بالبحث والشرح والتقصي لاستخراج مكنوناتها العلمية والفكرية المتنوعة.

ومن بين ما حملت الصحيفة السجادية الكريمة من مادة علمية ومعرفية حملت مادة كونية وفلكية وآفاقية ليست قليلة، حملتها بمعانيها العامة الإجمالية، وضمن الأسلوب الأدبي والبلاغي الذي نهجه الإمام السجاد عليه في أدعيته الإلهية المتنوعة.

وأول ما يطالعك من الصحيفة، هو الحديث عن الخالق المبدع الذي لا أول له ولا آخر، والذي خلق الكون ومعه كل شيء. أبدعه وأبدع كل شيء على غير مثال سابق.

وإذا تسلسلت مع الصحيفة السجادية ستجد الحديث عن السماء والسماوات وعن سكان السماوات، والحديث عن الأرض والأرضين والليل والنهار والقمر والهلال وما يتعلق بهذه الأمور من معان مناسبة.

إضافة إلى ذلك ستجد بين ثنايا الصحيفة . إضافة إلى المواد الكونية والفلكية المذكورة آنفا – مواد أو مصطلحات كونية وفلكية منها: محاق، سعد، نحس انسلاخ، شهور، أيام، هواء، فلك، منازل، طلوع، أفول، کسوف، جبال، برق، رعد، وغيرها مما يتعلق بالسماء والفلك والكون.

وعلى هذا الأساس سیکون بحثنا في الصحيفة، بالأخص البحث حول المواد الفلكية الأساسية الواردة في هذه الصحيفة الكريمة.

الامين العام لحزب الله تطرق في بداية كلمته بمناسبة ذكرى عاشوراء حول ما تعرض له القرآن الكريم من مهانة وطالب بالرد باعتباره تعدٍ على الاسلام نفسه.

 

ويرى المستشار في العلاقات الدولية د. قاسم حدرج، ان عاشوراء لم تعد مدرسة عزاء بل اصبحت مدرسة فداء. وقال:ان الشباب المؤمن خرج خلال الظروف المناخية القاسية، باعداد تفوق اعداد كل سنة، ليدل على ان الانتساب لهذه لمدرسة عاشوراء يزيد كل سنة، رغم شدة الحصار وتكاتف الاعداء وفتح كل الجبهات على هذه المدرسة، كالثقافية والاجتماعية والدينية وصولاً الى المساس بالمقدسات الاسلامية.

واوضح، ان ثورة الامام الحسين "عليه السلام" لم تكن ثورته دنيوية ولم تكن له مطالب، وانما كانت من اجل الاصلاح في امة جده، وقال "ألا ترون كتاب الله لا يعمل به" وبالتالي خرج دفاعاً عن القرآن، مشيراً الى ان الجموع التي خرجت في مسيرات عاشوراء ورفعت القرآن الكريم رداً على الاساءة اليه، جاءت لتؤكد للامام الحسين "عليه السلام" بانها مستعدة للدفاع عن الاساءة للقرآن، ولان وراء هذا الفعل المهين هي خلفية استكبارية "امريكية اسرائيلية" لزرع الشقاق مجدداً ما بين المسيحية والاسلام وادخال الدول في اتون صراعات كبرى.

من جانبه، اكد الخبير في الشؤون الاسرائيلية نهاد ابوغوش، ان كيان الاحتلال الاسرائيلي بطبيعته العنصرية معادي للانسانية وللآخر ان كان مختلفاً قومياً او دينياً او عرقياً، ولذا فهو لا يتورع عن تدنيس مقدساته

وقال: ان الاسرائيليين خلال مسيراتهم كانوا يسبون النبي "صلى الله عليه وآله" ويدنسون المسجد الاقصى، ولذلك كان هذا الرد الخلاّق الذي اوجده سماحة السيد حسن نصرالله بان الرد يجب ان يكون وطنيا وقوميا واسلاميا وحتى انسانيا ايضاً بمعنى ان المساس بمقدسات المسلمين سواء القرآن الكريم او ذكر النبي او تدنيس المسجد الاقصى، هذا يمس مشاعر ووجدان وعقيدة ملياري مسلم على مستوى العالم، وان هذا ليس شأناً فردياً خاصاً كي يصنف تحت خانة التعبير.

واوضح، ان الجميع يعلم ان بعض الدول الاوروبية تحاكم من ينتقد "اسرائيل" باعتباره معادياً للسامية وتقول ان هذا لا يندرج تحت حرية التعبير وهي جريمة ضد السامية، فعلى سبيل المثال يحاكمون من يعيد النظر في موضوع المحرقة او يشكك بها واسبابها، ولذلك وضع سماحة السيد نصرالله الامور في نصابها ورد خلال كلمته في ذكرى عاشوراء على الاساءة للقرآن الكريم، ودعا دول منظمة التعاون الاسلامية لاتخاذ الموقف الحاسم، واذا لم تقوم بواجباتها والرد بمستوى الاعتداء، فليقم الشباب المسلم بمسؤوليته ويعاقب المعتدين.

ووصف ابوغوش، ربط السيد نصرالله ما بين استفزاز مشاعر المسلمين وبين استفزاز وجودهم وكرامتهم ومقدساتهم وحتى حقوقهم الانسانية، بانه مبدع.

بدوره، اشار الباحث والاكاديمي الدكتور حامد الكعبي، الى ان الجماهير في مسيراتها العاشورائية ان كانت العراق او في ايران او في لبنان او في البحرين عبرت عن تعبير ورسالة واضحة للامام الحسين "عليه السلام" بأنها سائرة على خط نهجه.

واوضح، انه رغم ارتفاع درجة الحرارة الشديد في العراق، الا انه لم يكن عائقاً امام خروج الجماهير في المسيرات العاشورائية واعلان الولاء المطلق للامام الحسين "عليه السلام" واستعدادها التام والجهوزية الرائعة من اجل الاستشهاد على نفس المنهج الذي سار عليه الامام الحسين "عليه السلام" ولخط اهل البيت "عليهم السلام" من اجل تحقيق العدل وازالة الظلم.

أنهى الرئيس التونسي، قيس سعيّد، قُبيل منتصف ليل الثلاثاء مهمّات رئيسة الوزراء نجلاء بودن وعيّن خلفاً لها مسؤولاً سابقاً في البنك المركزي هو أحمد الحشاني، طالباً منه مواجهة "تحدّيات كبيرة".

ولم يُعطِ أيّ سبب رسمي لقرار سعيّد إنهاء مهمّات بودن، لكنّ عدداً من وسائل الإعلام المحلية سلّط الضوء على استياء سعيّد من نقص في عدد من المواد في البلاد، ولا سيّما نقص الخبز في المخابز المدعومة من الدولة.

وجاء في مقطع فيديو وبيان نشرتهما الرئاسة أنّ سعيّد "قرّر مساء اليوم.. إنهاء مهام السيّدة نجلاء بودن رمضان" التي كانت أوّل امرأة تقود حكومة في تونس.

وكان الحشاني يعمل في البنك المركزي التونسي ودرس في كلّية الحقوق في جامعة تونس حيث كان سعيّد مدرّساً، حسبما قال رئيس الحكومة الجديد في صفحته بموقع "فيسبوك".

وعلى الفور، أدّى رئيس الحكومة الجديد، اليمين الدستوريّة أمام سعيّد، حسبما أظهر مقطع الفيديو الذي نشرته الرئاسة.

 وفي أعقاب تأديته اليمين، تمنّى له سعيّد "التوفيق في هذه المسؤوليّة التي سيتحمّلها في هذا الظرف بالذّات".

وقال سعيّد إنّ هناك "تحدّيات كبيرة لا بدّ أن نرفعها بعزيمة صلبة وبإرادة قويّة للحفاظ على وطننا وعلى دولتنا وعلى السلم الأهلي". 

في الأيام الأخيرة، عُقِدت اجتماعات عدّة داخل الحكومة، وبين الرئيس والوزراء، بشأن مشاكل نقص الخبز المدعوم في مناطق عدّة.

وذكرت وسائل إعلام أنّ سعيّد قال في الآونة الأخيرة إنّ "الخبز خطّ أحمر بالنسبة إلى التونسيّين"، وأنه يخشى تكرار أحداث الخبز التي أودت بحياة 150 شخصاً عام 1984 في عهد الحبيب بورقيبة.

يشار إلى أنّ الرئيس كلّف نجلاء بودن، في 29 أيلول/سبتمبر 2021، بتشكيل الحكومة الجديدة، لتكون بذلك أول امرأة تتولى هذا المنصب الرفيع في تاريخ تونس الحديث.

لقد تنازل الحسن بن علي لمعاوية وسالمه ، في وقت كان يجتمع عنده من الأنصار والجيوش ما يمكنه من مواصلة القتال. وفي المقابل خرج أخوه الحسين ـ رضي الله عنه ـ على يزيد في قلة من أصحابه، في وقت كان يمكنه فيه الموادعة والمسالمة.

فلا يخلو أن يكون أحدهما على حق، والآخر على باطل؛ لأنه إن كان تنازل الحسن مع تمكنه من الحرب (حقاً) كان خروج الحسين مجرداً من القوة مع تمكنه من المسالمة (باطلاً)، وإن كان خروج الحسين مع ضعفه (حقاً) كان تنازل الحسن مع ( قوته) باطلاً!

وهذا يضع الشيعة في موقف لا يحسدون عليه؛ لأنهم إن قالوا : إنهما جميعا على حق، جمعوا بين النقيضين، وهذا القول يهدم أصولهم. وإن قالوا ببطلان فعل الحسن لزمهم أن يقولوا ببطلان إمامته، وبطلان إمامته يبطل إمامة أبيه وعصمته؛ لأنه أوصى إليه، والإمام المعصوم لا يوصي إلا إلى إمام معصوم مثله حسب مذهبهم.

وإن قالوا ببطلان فعل الحسين لزمهم أن يقولوا ببطلان إمامته وعصمته، وبطلان إمامته وعصمته يبطل إمامة وعصمة جميع أبنائه وذريته؛ لأنه أصل إمامتهم وعن طريقه تسلسلت الإمامة، وإذا بطل الأصل بطل ما يتفرع عنه(۱).

والجواب عن هذا الكلام من خلال المراجعة والقراءة لما دار بين الامام الحسن عليه السلام وبين معاوية.

واول شيء يرد في الكلام أن معاوية بن ابي سفيان ليس خليفة حتى يبايعه الحسن عليه السلام او يتنازل له عن الخلافة بل هو ملك بنص حديث النبي صلى الله عليه واله وسلم حيث قال:” الخلافة ثلاثون عاما ثم يكون بعد ذلك الملك” يقول سفينة راوي الحديث:” أمسك خلافة أبي بكر سنتين وخلافة عمر عشر سنين وخلافة عثمان اثنتي عشر سنة وخلافة علي ست سنين”(۲).

وفي حديث حذيفة عن النبي صلى الله عليه واله وسلم انه قال:” تكون النبوة فيكم ما شاء الله أن تكون ثم يرفعها اذا شاء ان يرفعها ثم تكون خلافة على منهاج النبوة فتكون ما شاء الله ان تكون ثم يرفعها اذا شاء ان يرفعها ثم تكون ملكا عاضا..”(۳).

وفي حديث اخر عن النبي صلى الله عليه واله وسلم أنه قال:” خلافة النبوة ثلاثون سنة ثم يؤتي الله الملك أو ملكه من يشاء”(۴).

قال الزمخشري:” الملك العضوض: الذي فيه عسف وظلم للرعية كأنه يعضهم عضا. ومنه قولهم: عضتهم الحرب وعضهم السلاح”(۵).

وقال ابن منظور :” ملك عضوض: شديد فيه عسف وعنف. وفي الحديث: ثم يكون ملك عضوض ، اي يصيب الرعية فيه عسف وظلم ، كأنهم يعضون فيه عضا.

والعضوض من ابنية المبالغة. وفي رواية: ثم يكون ملك عضوض ، وهوجمع عض بالكسر ، وهو الخبيث الشرس. وفي حديث أبي بكر: وسترون بعدي ملكا عضوضا”(۶).

وقد ذكر العلماء أن بني أمية ملوك وأن أول الملوك معاوية بن أبي سفيان، ففي مسند الطيالسي عن سفينة قال:” فمعاوية كان أول الملوك”(۷).

وفي مصنف ابن أبي شيبة:” قال معاوية: أنا أول الملوك”(۸).

وفي البداية والنهاية:” حدثنا أبو نعيم حدثنا ابن أبي عتيبه عن شيخ من أهل المدينة قال: قال معاوية: أنا أول الملوك.

وقال ابن ابي خيثمة: حدثنا هارون. . عن ابن شوذب قال: كان معاوية يقول: أنا أول الملوك واخر خليفة.

قلت والسنة أن يقال لمعاوية ملك ولا يقال له خليفة لحديث سفينة”(۹).

وفي مصنف ابن ابي شيبة عن سعيد بن جمهان قلت لسفينة:” ان بني امية يزعمون أن الخلافة فيهم.

قال: كذب بنو الزرقاء بل هم ملوك من شر الملوك ، وأول الملوك معاوية”(۱۰).

وقالوا:” كان عمر اذا نظر الى معاوية قال: هذا كسرى العرب”(۱۱).

ومن جانب اخر نرى أن الخلافة لا تصح في الطلقاء كما أخبر بذلك عمر بن الخطاب وقرره حيث قال:” هذا الامر في اهل بدر ما بقي منهم احد ثم في اهل احد ما بقي منهم احد ثم في كذا وكذا وليس فيها لطليق ولا لولد طليق ولا لمسلمة الفتح شيء”(۱۲).

وعن عمر أنه قال لاهل الشورى:” لا تختلفوا فانكم ان اختلفتم جاءكم معاوية من الشام وعبد الله بن أبي ربيعة من اليمن فلا يريان لكم فضلا لسابقتكم ، وان الامر هذا لا يصلح للطلقاء ولا لابناء الطلقاء”(۱۳).

فالخلاصة فيما قدمناه هي:

۱- ان النبي صلى الله عليه واله وسلم حدد خلافة النبوة بثلاثين سنة وما بعدها يكون الملك.

۲- ان الملك الذي يحكم الامة بعد الثلاثين هو ملك عضوض.

۳- ان الملك العضوض هو الملك الذي تسفك فيه الدماء وتهتك فيه الاعراض ويتعدى فيه على حدود الله تعالى.

۴- ان معاوية بن ابي سفيان من الطلقاء ، والطلقاء لا تحل لهم الخلافة كما شهد بذلك الصحابة وعلى راسهم عمر بن الخطاب.

۵- ان معاوية بن ابي سفيان شهد على نفسه انه ما قاتلهم على الصيام والصلاة واقامتها وانما قاتل من اجل ان يتامر عليهم حيث خطب فقال:” ما قاتلنا لتصوموا ولا

تصلوا ولا لتحجوا او تزكوا قد عرفت انكم تفعلون ذلك ، ولكن انما قاتلناكم لاتامر عليكم ، وقد اعطاني الله ذلك وانتم كارهون”(۱۴).

وفي هذا الساق يقول ابو الاعلى المودودي:” كان امتلاك معاوية لاعنة الحكم مرحلة انتقالية على طريق تحول الدولة الاسلامية من الخلافة الى الملك ، ولقد فهم أهل البصيرة تلك المرحلة فقالوا: نحن على ابواب الملك ، لذلك نجد سعد بن أبي وقاص يخاطب معاوية بعد البيعة فيقول له:” السلام عليك ايها الملك.

قال: وما عليك ان قلت يا امير المؤمنين؟

قال: والله ما احب اني وليتها بما وليتها به”(۱۵).

وكان معاوية نفسه يفهم هذه الحقيقة فقال ذات مرة: انا اول الملوك. بل ان ابن كثير يقول: انها لسنة ان يلقب بالملك بدل تلقيبه بالخليفة ، لان النبي صلى الله عليه واله وسلم تنبا بذلك فقال:” الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثم تكون ملكا”. وهذه المدة انتهت في ربيع الاول عام ۴۱ هجرية حين تنازل الحسن رضي الله عنه عن الخلافة لمعاوية.

هنا بقيت الفرصة الاخيرة امام عودة الخلافة على منهاج النبوة مرهونة بطريقة تعيين من سياتي بعد معاوية ، فاما أن يترك معاوية للناس اختيار من يرونه بتشاورهم ورضاهم فيما بينهم ، واما ان يرى أن تعيين خليفته في حياته امرا ضروريا لسد باب النزاع ، فيجمه أهل العلم والخير من المسلمين ليقرروا أن معاوية عهد لابنه يزيد بولاية العهد…

وأول من هذا على معاوية المغيرة بن شعبة ، وكان معاوية يريد عزله من على الكوفة ، فلما علم بذلك سافر الى دمشق وقابل يزيد وقال له:” انه قد ذهب أعيان أصحاب النبي صلى الله عليه واله وسلم وكبراء قريش وذووا اسنانهم ، وانما بقي ابناؤهم ، وأنت من أفضلهم وأحسنهم رأيا واعلمهم بالسنة والسياسة ، ولا أدري ما يمنع أمير المؤمنين من ان يعقد لك البيعة”.

فحدث يزيد اباه بذلك فدعا المغيرة وسأله ما هذا الذي قلت ليزيد؟

قال: يا امير المؤمنين قد رأيت ما كان من سفك الدماء والاختلاف بعد عثمان وفي يزيد منك خلف فاعقد له فان حدث بك حادث كان كهفا للناس وخلفا منك ولا تسفك الدماء ولا تكون هناك فتنة.

فسأله معاوية: ومن لي بهذا؟

قال: اكفيك أهل الكوفة ويكفيك زياد أهل البصرة وليس بعد هذين المصرين أحد يخالفك.

ثم رجع المغيرة الى الكوفة واسترضى عشرة رجال بثلاثين الف درهم على ان يذهبوا في شكل وفد يكلم معاوية في امر يزيد ، وذهب هذا الوفد وعلى رأسه موسى بن المغيرة بن شعبة الى دمشق وادى مهمته على خير وجه ، فاستدعى معاوية موسى بعد ذلك وسأله: بكم اشترى أبوك من هؤلاء دينهم؟

قال: بثلاثين الف درهم.

قال معاوية: لقد هان عليهم دينهم”(۱۶).

وعلى هذا فلا يمكن ان نقول بان معاوية خليفة لان الحسن عليه السلام صالحه وتنازل له عن الخلافة ، لانه ليس بخليفة كما دل على ذلك حديث سفينة من ان الخلافة ثلاثون سنة ، بل معاوية ممن اخرج الخلافة من كونها خلافة الى ملك عضوض كما يدل عليه حديث سفينة ايضا ، ومعاوية طليق لايمكن ان يكون خليفة كما شهد بذلك الصحابة ومنهم عمر بن الخطاب ، ومعاوية لم ينازع الامام علي عليه السلام والحسن عليه السلام من اجل احقاق الحق واقامة شعائر الدي بل نازعهم من اجل الملك والتسلط على رقاب المسلمين كما اقر واعترف بذلك معاوية نفسه.

فلا يمكن بعد هذا ان نقول ان الحسن عليه السلام تنازل له عن الخلافة واصبح خليفة للمسلمين.

على ان الحسن عليه السلام هو الخليفة كما دل على ذلك حديث سفينة وكما شهد له الموافق والمخالف انه الذي بويع بالخلافة بعد ابيه علي بن ابي طالب عليه السلام ، فمن ينازعه بعد ذلك يكون معاندا مخالفا باغيا يجب عليه الرجوع الى الحق ، وان لم يرجع قوتل حتى يجبر على الحق ، فلايمكن بعد ذلك ان نحكم بان هذا الباغي الواجب المقاتلة هو الخليفة.

واذا رجعنا الى شروط المصالحة بين الحسن عليه السلام ومعاوية ونظرنا فيها نلاحظ الامور التالية.

۱- ان يسلم اليه ولاية امير المؤمنين على ان يعمل فيه بكتاب الله وسنة نبيه محمد صلى الله عليه واله وسلم وسيرة الخلفاء الصالحين.

۲- وليس لمعاوية بن ابي سفيان ان يعهد لاحد من بعده عهدا ، بل يكون الامر من بعده شورى بين المسلمين.

۳- وعلى ان الناس امنون حيث كانوا من ارض الله في شامهم وعراقهم وتهامهم وحجازهم.

۴- وعلى ان اصحاب علي وشيعته امنون على انفسهم واموالهم ونسائهم واولادهم.

وعلى معاوية بن ابي سفيان بذلك عهد الله وميثاقه وما اخذ على احد من خلقه بالوفاء بما اعطى الله من نفسه.

۵- وعلى انه لا يبغي للحسن بن علي ولا لاخيه الحسين ولا لاحد من اهل بيت النبي صلى الله عليه واله وسلم غائلة سرا وعلانية ولا يخيف احدا منهم في افق من الافاق(۱۷) .

وفي رواية ابن المطهر المقدسي قال:” فكتب اليه معاوية: اما بعد فانت اولى بهذا الامر واحق به لقرابتك وكذا وكذا ، ولو علمت انك اضبط له واحوط على حريم هذه الامة واكيد للعدو لبايعتك ، فاسال ما شئت. وبعث اليه بصحيفة بيضاء مختومة في اسفلها ان اكتب فيها ما شئت ، فكتب الحسن اموالا وضياعا وامانا لشيعة علي ، واشهد على ذلك شهودا من الصحابة.

وكتب في تسلم الامر كتابا على ان يعمل بكتاب الله وسنة نبيه وسيرة الخلفاء الماضين ، وان لا يعهد بعده الى احد ويكون الامر شورى واصحاب علي امنين حيثما كانوا” (۱۸) .

واذا رجعنا الى الشرط الاول نرى معاوية خارج منه اصلا لان كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه واله وسلم وسيرة الخلفاء ترفض الخلافة ان تكون عند الطلقاء ، بل راينا النبي صلى الله عليه واله وسلم يحكم بان معاوية من الملوك وليس من الخلفاء وشهد بذلك معاوية نفسه.

فالشرط الاول منتف اصلا ولا يمكن لمعاوية تطبيقه لانه لا تحل له الخلافة حسب ما تقدم.

وبالنسبة للتعرض للحسن عليه السلام ، فقد ذكر المؤرخون والمحدثون ان:” سبب موته ان زوجته جعدة بنت الاشعث بن قيس سقته السم”(۱۹).

وقال العظيم ابادي:” وكان وفاة الحسن رضي الله عنه مسموما ، سمته زوجته باشارة يزيد بن معاوية سنة تسع واربعين أو خمسين”(۲۰).

وقال ابن كثير:” وقد سمعت بعض من يقول: وكان معاوية قد تلطف لبعض خدمه ان يسقيه سما… وروى بعضهم ان يزيد ين معاوية بعث الى جعدة بنت الاشعث ان سمي حسنا وأنا بعده ، ففعلت”(۲۱).

ومن هنا هيا معاوية بن ابي سفيان الارضية لاستخلاف ابنه يزيد شارب الخمور واللاعب بالقرود والمبيح لدماء المسلمين قال ابن سعد:”قال ابو وائل: أترى معاوية يرى أنه يرجع الى يزيد بعد الموت فيراه في ملكه”(۲۲).

وعند ابن اعثم:” فارسل مروان الى وجوه اهل المدينة فجمعهم في المسجد الاعظم ، ثم صعد المنبر فحمد الله واثنى عليه وذكر الطاعة وحض عليها وذكر الفتنة وحذر منها.

ثم قال في بعض كلامه: ايها الناس ان امير المؤمنين قد كبر سنه ، ورق جللده وعظمه ، وخشي الفتنة من بعده ، وقد أراه الله رأيا حسنا ، وقد أراد أن يختار لكم ولي عهد يكون من بعده لكم مفزعا ، يجمع به الالفة ويحقن به الدماء ، وأراد أن ذلك من مشورة منكم وتراض فماذا تقولون؟

فقال الناس من كل جانب: انا لا نكره ذلك اذا كان لله فيه رضا.

فقال مروان: انه قد اختار لكم الرضا الذي يسير فيكم بسيرة الخلفاء الراشدين المهديين وهو ابنه يزيد.

قال: فسكت الناس وتكلم عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق وقال: كذبت والله يا مروان وكذب من أمرك بهذا ، والله ما يزيد برضا ولكن يزيد ورأيه هرقلية”(۲۳).

وقال يزيد الكندي:” ايها الناس ان امير المؤمنين هذا ، واشار بيده الى معاوية ، قاد الملك ، فاذا مات فوارث الملك هذا واشار بيده الى يزيد فمن ابى فهذا واشار بيده الى السيف.

فقال له: اجلس فأنت سيد الخطباء.

ثم قام الحصين بن نمير السكوني فقال: يا معاوية والله لئن لقيت الله ولم تبايع ليزيد لتكونن مضيعا للامة.

فالتفت الى الاحنف بن قيس معاوية وقال: يا ابا بحر ما يمنعك من الكلام؟

فقال: يا امير المؤمنين أنت أعلمنا بيزيد في ليله ونهاره ومدخله وخرجه وسره وعلانيته ، فان كنت تعلمه لله عز وجل ولهذه الامة رضا فلا تشاور فيه أحدا من الناس ، وان كنت تعلم لله غير ذلك فلا تزوده الدنيا وأنت ماض الى الاخرة ، فان قلنا ما علينا أن نقول وسمعنا وأطعنا..”(۲۴).

واما ابند الاخر وهو الامان لشيعة علي بن ابي طالب فايضا لم يلتز به معاوية بن ابي سفيان كما هو مسطور في التاريخ فقد قتل حجر بن عدي واصحابه (۲۵) ، وقتل عمرو بن الحمق الخزاعي(۲۶) ، وقتل عبد الرحمن بن عديس البلوي ، والحضرميين(۲۷).

فصدق كلام النبي صلى الله عليه واله وسلم في معاوية حينما قال:” ويل لهذه الامة من معاوية ذي الاستاة”(۲۸).

فالحسن عليه السلام تنازل لمعاوية عن الخلافة ، لكنه لم يرض به خليفة لانه لا تصح فيه الخلافة ولا تجوز، وشرط عليه شروط المصالحة التي لم يف معاوية بواحد منها البته ، بل ضرب بها عرض الجدارپف واخذ يحكم امة الاسلام بالحديد والنار، من قتل الصحابة الاخيار وتتبع شيعة علي الكرار، وقطع الارزاق واموال بيت المال عن اهلها وبذلها لانصاره من أهل الشام.

بل اخذ يدفع الاموال الى الروم قال سعيد بن عبد العزيز:” ان الروم صالحت معاوية على ان يؤدي اليهم مالا..”(۲۹).

فهو يقاتل الامام علي والحسن عليهما السلام ، وينازعهم امرا ليس له ، وفي مقابل ذلك يدفع للروم الاموال والجزية.

ومن جانب اخر استطاع معاوية أن يجمع حوله طلاب الدنيا والمرتزقة وجيرهم في خدمته وطاعته قال الذهبي:” وخلف معاوية خلق كثير يحبونه ويتغالون فيه ويفضلون ، اما قد ملكهم بالكرم والحلم والعطاء ، واما قد ولدوا في الشام على حبه ، وتربى أولادهم على ذلك . وفيهم جماعة يسيرة من الصحابة وعدد كثير من التابعين والفضلاء ، وحاربوا معه أهل العراق ، ونشاوا على النصب ، نعوذ بالله من الهوى”(۳۰).

وجيش الحسن عليه السلام لم يكن بتلك الالفة والاجتماع ، قال الشيخ المفيد:” وورد على الحسن عليه السلام كتاب قيس بن سعد يخبره بما صنع عبيد الله بن العباس ، فازدادت بصيرة الحسن عليه السلام بخذلان القوم له ، وفساد نيات المحكمة فيه بما اظهروه له من السب والتكفير واستحلال دمه ونهب أمواله ، ولم يبق معه من يأمن غوائله الا خاصة من شيعته وشيعة أبيه أمير المؤمنين عليه السلام ، وهم جماعة لا تقوم لاجناد الشام. فكتب اليه معاوية في الهدنة والصلح ، وأنفذ اليه بكتاب أصحابه التي ضمنوا له فيها الفتك به وتسليمه اليه ، واشترط على نفسه في اجابته الى صلحه شروطا كثيرة وعقد له عقودا كان الوفاء بها مصالح شاملة ، فلم يثق به الحسن عليه السلام وعلم احتياله بذلك واغتياله ، غير أنه لم يجد بدا من اجابته الى ما التمس من ترك الحرب وانفاذ الهدنة ، لما كان عليه أصحابه مما وصفناه من ضعف البصائر في حقه والفساد عليه والخلف منهم له ، وما انطوى كثير منهم عليه في استحلال دمه وتسليمه الى خصمه ، وما كان في خذلان ابن عمه له ومصيره الى عدوه ، وميل الجمهور منهم الى العاجلة وزهدهم في الاجلة”(۳۱).

وذكر ابن الاثير عن ابن دريد قال:” قام الحسن بعد موت أبيه أمير المؤمنين فقال بعد حمد الله عز وجل: انا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم وانما كنا نقاتل أهل الشام بالسلامة والصبر ، فسلبت السلامة بالعداوة والصبر بالجزع ، وكنتم في منتدبكم الى صفين ودينكم أمام دنياكم فأصبحتم اليوم ودنياكم أمام دينكم ، ألا وانا لكم كما كنا ولستم لنا كما كنتم ألا وقد أصبحتم بين قتيلين: قتيل بصفين تبكون له ، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره ، فأما الباقي فخاذل ، وأما الباكي فثائر ألا وان معاوية دعانا الى أمر ليس فيه عز ولا نصفه ، فان أردتم الموت رددناه عليه ، وحاكمناه الى الله عز وجل بظباء السيوف ، وان أردتم الحياة قبلناه وأخذنا لكم الرضاء. فناده القوم من كل جانب: البقية البقية ، فلما أفردوه أمضى الصلح”(۳۲).

وقال سبط بن الجوزي:” لم يصالح الحسن معاوية رغبة في الدنيا وانما صالحه لما رأى أهل العراق يريدون الغدر به ، وفعلوا معه ما فعلوا ، فخاف منهم أن يسلموه الى معاوية.

والدليل على أنه خطب بالنخيلة قبل الصلح فقال: أيها الناس ان هذا الامر الذي اختلفت فيه انا ومعاوية انما هو حق أتركه ارادة لاصلاح الامة ، وحقنا لدمائها ، وان أدري لعله فتنة لكم ومتاع الى حين”(۳۳).

وصرح الامام الحسن عليه السلام برأيه مرات عدة أمام أهل الكوفة قبل الصلح فقال من جملة كلام له عليه السلام:” والله ما سلمت الامر اليه الا أني لم أجد أنصارا ، ولو وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه ، ولكني عرفت أهل الكوفة وبلوتهم ولا يصلح لي منهم من كان فاسدا ، وانهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل ، انهم لمختلفون ويقولون لنا ان قلوبهم معنا ، وان سيوفهم لمشهورة علينا”(۳۴).

وغير ذلك الكثير المسطور في صحفات التاريخ ، فهؤلاء الذين سرقوا متاع الحسن عليه السلام الذي يعد بدراهم معدودة كيف يكون حالهم اذا وضع الذهب في طريقهم ، وأذن لهم أن يأخذوه ، نظير خدمة ما يقدمونها الى جهاز معين.

والحسن عليه السلام حينما بويع بالخلافة اشترط عليهم ان يسمعوا ويطيعوا ، فيحاربوا اذا حارب ويسالموا اذا سالم ، لكنهم سالموا قبل ان تبدأ الحرب وخذلوه حينما اراد النهوض الى قتال معاوية.

والصلح جائز ومباح مع الكفار فضلا عن البغاة الذين شهدوا الشهادتين لكنهم يحاربون اولياء الله تعالى من أجل دنيا يردونها.

واما نهضة الحسين عليه السلام فهي لاتعارض صلح الامام الحسن عليه السلام ، لان معاوية نقض شروط الصلح فيمكن للحسين القيام ومنابذة معاوية بن ابي سفيان. هذا من جانب ، ومن جانب اخر فان الظروف التي اكتنفت الحسين عليه السلام تختلف عما اكتنفت الحسن عليه السلام ، حيث رأينا فيما تقدم أن معاوية عرض الصلح على الحسن عليه السلام فاختبر الحسن اصحابه فراهم ليسوا أهل حرب وناجزة ، فرضي بعرض معاوية ، لانه الاحسن من الدخول في امر لا فائدة منه الا انتصار معاوية ومقتل خلص صحابة الامام علي عليه السلام والشيعة.

وهذا ما يدل عليه كلام الامام الحسين عليه السلام حينما قدم عليه المسيب بن عتبة الفزاري في جماعة بعد وفاة الحسن ودعوه الى خلع معاوية وقالوا له:” قد علمنا رأيك ورأي أخيك فقال: اني لارجو أن يعطي الله أخي على نيته في حبه الكف ، وأن يعطيني على نيتي في حبي جهاد الظالمين.

وكتب مروان الى معاوية: اني لست امن أن يكون حسين مرصدا للفتنة ، واظن يومكم من حسين طويلا.

فكتب معاوية الى الحسين: ان من أعطى الله صفقة يمينه وعهده لجدير بالوفاء ، وقد أنبئت أن قوما من أهل الكوفة قد دعوك الى الشقاق ، وأهل العراق من قد جربت قد أفسدوا على أبيك واخيك ، فاتق الله واذكر الميثاق ، فانك متى تكدني أكدك. فكتب اليه الحسن: أتاني كتابك وأنا بغير الذي بلغك عني جدير ، والحسنات لا يهدي لها الا الله ، وما أردت محاربة ولا عليك خلافا ، وما أظن لي عند الله عذرا في ترك جهادك ، وما أعلم فتنة أعظم من ولايتك أمر هذه الامة”(۳۵).

بينما في نهضة الحسين عليه السلام فان يزيد اراد من الحسين عليه السلام البيعة وان يتبعه ويؤمن بخلافته ، فقد أرسل يزيد كتابا الى والي المدينة يذكر فيه:” اما بعد فان معاوية كان عبد الله من عباده أكرمه الله واستخلفه وخوله ومكن له ثم قبضه الى روحه وريحانه ورحمته وغفرانه ،عاش بقدر ومات بأجل.. وقد كان عهد الي عهدا وجعلني له خليفة من بعده ، وأوصاني أن أحدث ال ابي تراب بال ابي سفيان ، لانهم أنصار الحق وطلاب العدل ، فأذا ورد عليك كتابي هذا فخذ البيعة على أهل المدينة.

ثم كتب في صحيفة صغيرة كأنها أذن فأرة: أما بعد فخذ الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير وعبد الله بن عمر بن الخطاب أخذا عنيفا ليست فيه رخصة ، فمن أبى عليك منهم فاضرب عنقه وابعث الي برأسه.

فلما ورد كتاب يزيد على الوليد بن عتبة وقرأه قال: انا لله وانا اليه راجعون ، يا ويح الوليد بن عتبة من أدخله في هذه الامارة ، ما لي وللحسين بن فاطمة. ثم بعث الى مروان بن الحكم فأراه الكتاب فقرأه واسترجع ، ثم قال: يرحم الله أمير المؤمنين معاوية ، فقال الوليد: أشر علي برأيك في هؤلاء القوم كيف ترى أن أصنع؟

فقال مروان: ابعث اليهم في هذه الساعة فتدعوهم الى البيعة والدخول في طاعة يزيد ، فان فعلوا قبلت ذلك منهم ، وان أبوا قدمهم واضرب أعناقهم قبل أن يدروا بموت معاوية فانهم ان علموا ذلك وثب كل رجل منهم فأظهر الخلاف ودعا الى نفسه ، فعند ذلك أخاف أن يأتيك من قبلهم ما لا قبل لك به وما لا يقوم له الا عبد الله بن عمر ، فاني لا أراه ينازع في هذا الامر أحدا الا أن تأتيه الخلافة فيأخذها عفوا ، فذر عنك ابن عمر وابعث الى الحسين بن علي وعبد الرحمن بن أبي بكر وعبد الله بن الزبير فادعهم الى البيعة مع أني لأعلم أن الحسين بن علي خاصة لا يجيبك الى بيعة يزيد أبدا ولا يرى له عليه طاعة ، ووالله لو كنت في موضعك لم أراجع الحسين بكلمة واحدة حتى أرضرب رقبته كائنا في ذلك ما كان.

قال: فأطرق الوليد بن عتبة الى الارض ساعة ثم رفع رأسه وقال: يا ليت الوليد لم يولد ولم يكن شيئا مذكورا.

قال: ثم دمعت عيناه فقال له عدو الله مروان: أوه أيها الامير لا تجزع مما قلت لك فان ال ابي تراب هم الاعداء في الدهر لم يزالوا ، وهم الذين قتلوا الخليفة عثمان بن عفان ، ثم سار الى أمير المؤمنين فحاربوه ، وبعد فاني لست امن يا امير المؤمنين انك ان لم تعاجل الحسين بن علي خاصة ان تسقط منزلتك عند أمير المؤمنين يزيد..”(۳۶).

فالحسن عليه السلام لم يكن عنده انصارا واعوانا والا فما توانا عن جهاد معاوية كما صرح بذلك فيما قدمناه ، بينما الحسين عليه السلام وجد انصارا واعوانا على حرب يزيد فلذلك قام باحياء شعيرة الجهاد ومقارعة الظالمين.

والنقطة الاخرى أن يزيد يختلف عن معاوية من ناحيتين:

الناحية الاولى: وجود الصحابة في عصر معاوية وهم حملة الدين والمحافظين على السيرة الصحيحة للامة ، فلا يستطيع معاوية اظهار الزيغ والانحراف بشكل علني بل كانت يده مبسوطة في الشام اما المدينة والعراق فلا يستطيع التغيير فيهما لوجود بعض الصحابة الاخيار. اما في زمن يزيد فالصحابة قد قل وجودهم اما بسبب القتل أو الموت ، ودخلنا في عصر جديد كثر فيه التابعين.

الناحية الثانية: أن يزيد مستهترا تماما خصوصا وأنه تربى عند المسيحين أخواله ، وكان يتحامل على اتباع علي بن أبي طالب كثيرا بحيث طلب من كعب بن جعيل ان يهجو الانصار ، لان الانصار كان اغلبهم يميلون الى علي بن ابي طالب عليه السلام ، وخرجوا معه لحرب معاوية في صفين ، فرفض كعب وارشده الى الاخطل الشاعر النصراني ، فاغدق عليه بالاموال وأخذ يهجو الانصار(۳۷).

وكان مشتهرا بالفجور والفسوق كما قدمناه حتى ان ابيه اوصاه بالتستر فلم يستطع.

والشهادة الاخرى هي شهادة الصحابة من أهل المدينة الذين خرجوا على يزيد حيث قال عبد بن حنظلة الذي بايعوه اهل المدينة على خلع وحرب يزيد قال:” فوالله ما خرجنا على يزيد حتى خفنا أن نرمى بالحجارة من السماء ان رجلا ينكح الامهات والبنات والاخوات ، ويشرب الخمر ويدع الصلاة. والله لو لم يكن معي أحد من الناس لابليت لله فيه بلاء حسنا ، فتولاثب الناس يومئذ يبايعون من كل النواحي..”(۳۸).

وقال البلاذري في وصف مجون يزيد:” كان يزيد بن معاوية اول من أظهر شرب الشراب والاستهتار بالغناء والصيد واتخاذ القيان والغلمان ، والتفكه بما يضحك منه المترفون من القرود والمعاقرة بالكلاب والديكة”(۳۹).

وقال المسعودي:” وكان يزيد صاحب طرب وجوارح وكلاب وقرود وفهود ومنادمة على الشراب ، وجلس ذات يوم على شرابه وعن يمينه ابن زياد ، وذلك بعد قتل الحسين فأقبل على ساقيه فقال:

اسقني شربة تسقي مشاشي ثم مل فاسق فاسق مثلها ابن زياد.

صاحب السر والامانة عندي ولتسديد مغنمي وجهادي.

ثم أمر المغنين فغنوا به. وغلب على أصحا بيزيد وعماله ما كان يفعله من الفسوق.

وفي أيامه ظهر الغناء بمكة والمدينة ، واستعملت الملاهي ، وأظهر الناس شرب الشراب. وكان له قرد يكنى بأبي قيس يحضره مجلس منادمته ويطرح له متكئا ، وكان قردا خبيثا وكان يحمله على أتان وحشية قد ريضت وذللت لذلك بسرج ولجام ، ويسابق بها الخيل يوم الحلبة. .”(۴۰).

فالحسن والحسين عليهما السلام كلاهما ينبعان من منبع واحد ، ومتربان على قواعد الدين والسرع الحنيف ، واخذا من جدهم الرسول الاكرم وامهم فاطمة الصديقة وابيهم الفارق علي عليهما السلام ، ونهجهم رافض للظلم والبغي بشتى أنواعه ، الا ان الظروف لم توات الحسن عليه السلام واتت الحسين عليه السلام.

لكن الذين اشريوا حب الامويين لابد لهم من ان يناقشوا حتى في الواضحات ، بل وابده البديهات.

وعجبا لامة تدافع عن معاوية الذي حارب عليا والحسن عليهما السلام ، وتبكي على يزيد الذي قتل الحسين عليه السلام.

__________________

۱- الشبهة منقولة من كتاب( اسئلة قادت شباب الشيعة الى الحق) رقم الشبهة ۸۴٫

۲ – راجع الحديث في المصادر التالية: مسند احمد۲۲۰:۵ ،كتاب السنة:۵۴۹ ، صحيح ابن حبان۳۶:۱۵٫

۳ – مسند احمد۲۷۳:۴ ، وعنه الهيثمي في مجمع الزوائد۱۸۹:۵ وقال:” رواه احمد في ترجمة النعمان والبزار اتم منه والطبراني ببعضه في الاوسط ورجاله ثقات”.

۴ – سنن ابي داود۴۰۱:۲ ، كتاب السنة: ۵۵۰ وصححه محقق الكتاب الشيخ الالباني.

۵ – الفائق في غريب الحديث۳۷۴:۲٫

۶ – لسان العرب۱۹۱:۷ فصل العين المهملة.

۷ – مسند الطيالسي:۱۵۱

۸ – المصنف لابن ابي شيبة ۲۸۰:۷ ، الاستيعاب ۱۴۲۰:۳ ، سير أعلام النبلاء ۱۵۷:۳٫

۹ – البداية والنهاية۱۴۴:۸٫

۱۰ – المصنف لابن أبي شيبة ۳۵۵:۸٫

۱۱ – راجع الاستيعاب۳۸۶:۴ ، سير أعلام النبلاء۱۳۴:۳ ، تاريخ الاسلام۳۱۱:۴٫

۱۲ – أسد الغابة۳۸۸:۴ ، الطبقات الكبرى۳۴۲:۳ ، فتح الباري۱۷۸:۱۳٫

۱۳ – الاصابة في تمييز الصحابة۷۰:۴٫

۱۴ – سير اعلام النبلاء۱۴۶:۳ ، البداية والنهاية۱۳۱:۸٫

۱۵ – الكامل في التاريخ۴۰۹:۳٫

۱۶ – الخلافة والملك: ۹۳-۹۴٫

۱۷ – كتاب الفتوح۲۹۱:۴٫

۱۸ – البدء والتاريخ ۲۳۶:۵٫

۱۹ – الاستيعاب ۱۴:۲٫

۲۰ – عون المعبود ۱۲۷:۱۱٫

۲۱ – البداية والنهاية ۴۷:۸٫

۲۲ – الطبقات الكبرى ۹۷:۶٫

۲۳ – كتاب الفتوح ۳۳۵:۴٫

۲۴ – كتاب الفتوح۳۳۴:۴ ، الكامل في التاريخ۵۰۸:۳٫

۲۵ – المصنف لابن ابي شيبة ۴۱۱:۲٫

۲۶ – الطبقات الكبرى ۲۵:۶٫

۲۷ – كتاب المحبر:۴۷۹٫

۲۸ – المعجم الكبير۱۷۶:۱۷٫

۲۹ – فتوح البلدان ۱۸۸:۱٫

۳۰ – سير أعلام النبلاء۱۲۸:۳٫

۳۱ – الارشاد۱۴:۳٫

۳۲ – أسد الغابة۱۳:۲ ، الكامل في التاريخ۴۰۶:۳٫

۳۳ – أعيان الشيعة ۵۷۰:۱٫

۳۴ – الاحتجاج ۱۳:۲٫

۳۵ – البداية والنهاية ۱۷۴:۸ ، تهذيب الكمال ۴۱۳:۶٫

۳۶ – كتاب الفتوح ۱۱:۵٫

۳۷ – أسد الغابة ۲۸۶:۳٫

۳۸ – الطبقات الكبرى ۶۶:۵٫

۳۹ – انساب الاشراف: ۱۲۷۷٫

۴۰ – مروج الذهب ۶۷:۳٫ ۲۰۱۰-۰۵-۰۱ ۱۴:۱۸:۰۲٫

الأربعاء, 02 آب/أغسطس 2023 07:01

لماذا البكاء على الإمام الحسين (ع)

الملخص

لقد جسدت ملحمة عاشوراء أروع سلسلة من الأحداث البطولية التي مرت عبر التاريخ والعصور؛ جمعت فيها أسمى الأثر الإنسانية في التضحية، والشجاعة، والعطاء في هذه النهضة الحسينية، ومما لا شك فيه أن الشيعة الامامية أصحاب مذهب أهل البيت (عليهم السلام) متهمين بالتمادي والإفراط في حب الإمام الحسين (عليه السلام) وعلى كثرة إقامة التعازي ومجالس الذكر لمصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) كل عام .

والسؤال يفرض نفسه هنا : لماذا نبكي حسينا؟

– ولماذا البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) بالذات دون غيره من الأئمة الأطهار(عليهم السلام)؟

– ما كل هذا التعظيم، مع ان هنالك شخصيات إسلامية كثيرة، لها دور وشأن كبير عبر مرور التاريخ، ولهم دروس وعبر، فما هي الخصوصية؟

– هل نحن نبكي حسينا كشخص؛ أو نبكي على ضياع الحكومة الإسلامية؟

– هل نبكي على الحسين كالمظلوم الوحيد في العالم – وهناك ملايين أمام اعيننا – أم نبكي الظلم ، والجور، والهوان بشكل عام والحسين ليس إلا أبرز نموذج لكل ذلك؟

هذا ما نود بيانه في هذا المقال مع بيان الأسباب الحقيقية، والمغزى من البكاء على الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) بالذات، والاستمرار بتخليد هذه الذكرى، ورفع الاتهامات التي طرحها المخالفين  لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وإجلاء الصورة الحفية عن هذه الحقيقة بصورة جديدة، لتبلور لنا محور الواقعة، والأسباب التي جعلت منها ذكرى خالدة بين أهل الأرض والسماء.

الكلمات الرئيسية: الإمام الحسين(عليه السلام)، البكاء، الشرك، المشروعية، عاشوراء

المقدمة

عاشوراء يطلق على اليوم العاشر من محرم في السنة الهجرية الإسلامية، ويطلق أيضا على واقعة شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) في كربلاء، في السنة الواحدة والستين الهجرية، وما يرتبط بهذه الأيام التسعة الأولى من شهر محرم – فهي أيام حزن تقام فيها مراسيم الحزن والعزاء – تذرة بتلك الواقعة الأليمة، وتطل علينا هذه الذكرى الخالدة عاما بعد عام.

عندما يتذكر المسلم ما جرى في ذلك اليوم من مصائب على ذرية رسول الله (عليه السلام) من عطش الحسين (عليه السلام) وأهله وأصحابه، ورؤية الحسين(عليه السلام) لأهله وأحباه صرعى أمامه وبقائه وحيدا، وذبح الحسين كما يذبح الكبش وهو سبط النبي (صلى الله عليه واله) وريحانته وسيد شباب أهل الجنة… ورفع رأس الحسين ورؤوس القتلى على الرماح… وحرق الخيام وإيذاء النساء والأطفال وسبيهم وكأنهم ليسوا ذرية رسول الله (صلى الله عليه واله)… عندما يتذكر المؤمنون كل ذلك، فإنه من الطبيعي أن ينبعث من قلوبهم ما لا يتمالكون أنفسهم… فتحترق قلوبهم ألما وتسيل دموعهم حزنا على هذا المصاب الجليل الذي لم يشهد التاريخ مثله…

البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام)

لقد جسدت ملحمة عاشوراء أروع سلسلة من الأحداث البطولية التي مرت عبر التأريخ والعصور؛ جمعت فيها أسمى المآثر الإنسانية في التضحية، والشجاعة، والعطاء في هذه النهضة الحسينية، وهو ما أشار اليه الإمام الحسين(عليه السلام) بقوله:

( إني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي علي بن أبي طالب ).

يقول الإمام الحسين (عليه السلام) : مخاطبا أعدائه: ” لا والله لا أعطيكم بيدي ُعطاء الذليل ولا أفر فرار العبيد”.

وقال الحسين (عليه السلام) في موقف آخر:

الموت أولى من ركوب العار              والعار أولى من دخول النار

فعندما تتمزق الأمة عن مسارها، والسلطان عن منهج الحق، والنظام السياسي عن الطريق السوي؛ حينئذ لا بد على الأنسان المسؤول أن ينهض بواجبه ليصحح الانحراف، ويدعو الأمة الى الصراط المستقيم.

ومما لا شك فيه ولا ريب؛ أن الشيعة الإمامية أصحاب مذهب أهل البيت (عليهم السلام)

متهمين بالتمادي والإفراط في حب الإمام الحسين، وعلى كثرة إقامة التعازي ومجالس الذكر لمصيبة الإمام الحسين (عليه السلام) كل عام.

والسؤال  يفرض نفسه: لماذا نبكي حسينا؟!

وهل أن البكاء مشروع في الإسلام؟

البكاء على الإمام الحسين(عليه السلام) بالذات دون غيره من الأئمة الأطهار(عليهم السلام). يثير التسائل عن شأن هذا التعظيم، وهذه الخصوصية المحصورة في هذه الشخصية العظيمة دون غيره.

علما ان أباه علي بن أبي طالب(عليه السلام) أعظم شأنا، وأفضل درجة منه، ومن غيره.

وماذا يجدي البكاء والحزن طول هذه السنين المريرة، ولماذا هذا التمادي والإفراط، مع أن هنالك شخصيات ُسلامية كثيرة، لها دور وشأن كبير عبر مرور التاريخ، ولهم دروس وعبر فما هي الخصوصية؟

هذا ما نود بيانه وتوجيه كلامنا نحوه، والتعرض اليه بشيء من التفصيل. وكذلك بيان الأسباب الحقيقية، أو المغزى من البكاء على الإمام الحسين(عليه السلام) بالذات، والاستمرار بتخليد هذه الذكرى، ورفع الاتهامات التي طرحها المخالفين لمذهب أهل البيت(عليهم السلام) وجلاء الصورة الخفية عن هذه الحقيقة، بصورة جديدة، تبلور لنا محور الواقعة، والأسباب التي جعلت منها ذكرى خالدة بين أهل الأرض والسماء.

حرمة البكاء على الميت

في البدء نود أن نسلط الضوء على المزاعم التي طرحت من قبل المخالفين، والمعادين لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) وتوجيه التهم والافتراءات، أو تأويل الآيات القرآنية، والأحاديث وتوجيهها بشكل يؤيد مزاعمهم، وصدق ادعائاتهم الباطلة كما هي العادة.

ذهب بعض المسلمين الى أن البكاء على الميت حرام، وغير مشروع؛ لأن الخليفة عمر بن الخطاب روى عن رسول الله(صلى الله عليه وآله) : “إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه” .

وروى مسلم عن عبد الله بن عمر أن حفصة بكت على عمر، فقالت: مهلا يا بنية! ألم تعلمي أن رسول الله قال: “إن الميت يعذب ببكاء أهله عليه” .

وروى البخاري ومسلم عن ابن أبي مليكة قال: توفيت ابنة لعثمان بمكة، وجئنا لنشهدها، وحضرها ابن عمر وابن عباس  وإني لجالس بينهما فاذا صوت من الدار.

فقال عبد الله بن عمر لعمرة بن عثمان: ألا تنتهي عن البكاء؟ فإن رسول الله قال: “إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه:

فقال ابن عباس: قد كان عمر يقول بعض ذلك. ثم حدث قال: لما أصيب عمر دخل صهيب يبكي يقول: وا أخاه وا صلحباه! فقال عمر: يا صهيب ! لا تبكي علي! وقد قال رسول الله :”إن الميت يعذب ببعض بكاء أهله عليه” .

وقد أنكرت عائشة أن يكون النبي قال هذه الأحاديث، لظنها أنها تتعارض مع قوله تعالى: قوله تعالى: ” ولا تزر وازرة وزر أخرى” .

وقالوا وهذه بعض الأحاديث الواردة في هذا، مع بيان معناها الصحيح الذي لا يتعارض مع هذه الآية، وجواب العلماء على اعتراض أم المؤمنين عائشة.

قال النووي: وأجمعوا كلهم على اختلاف مذاهبهم على أن المراد بالبكاء هنا بصوت ونياحة لا مجرد دمع العين. أما رد عائشة رضي الله عنها هذه الأحاديث، فهو اجتهاد منها، حيث ظنت أن عمر وابنه قد وهما وأخطأ، وأن هذه الأحاديث معارضة لقول الله تعالى:” ولا تزر وازرة وزر أخرى” .

قال القرطبي: إنكار عائشة ذلك وحكمها على الراوي بالتخطئة أو النسيان أو أنه سمع بعضا ولم يسمع بعضا بعيد، لأن الرواة لهذا المعنى من الصحابة كثيرون وهم جازمون فلا وجه للنفي مع أمكان حمله على محمل صحيح.

فأن قيل: كيف حلفت بناء على غلبة ظنها أن عمر وابنه عبد الله وهما، والحلف على غلبة الظن جائز. قاله النوري رحمه الله بمعناه.

فقالوا بعدم جواز البكاء على الميت والنياحة ورفع الصوت إلى غير ذلك من الأحاديث.

مشروعية البكاء على الميت في الإسلام

إن الحزن والبكاء ليسا أمرين اختياريين؛ يستطيع الإنسان الاتيان بهما ساعة يشاء، ويمتنع عنهما ساعة يشاء؛ بل هما أمران خارجان عن الإرادة المباشرة للإنسان. فإذا أردناهما كان عليه أن يهيأ نفسه لهما باستذكار ما يولد في قلبه من مشاعر الحزن ودواعي البكاء.

والبكاء ظاهرة إنسانية ينفس الإنسان مما يختزنه من هموم وأحزان ومشاعر، وما يساوره من انفعالات تملك أحاسيسه ومشاعره؛ فيعبر عنها بالدموع، وهذه الدموع قد تكون فرح، أو خوف، أو حزن، أو خشية والاسباب كثيرة.

هنالك روايات ذكرت ضمن كتب المخالفين، وفي الصحاح، والتي يقرون بصحتها، وروايات كثيرة؛ روايات تبين مشروعية البكاء على الميت، منها:

ذكر النسائي في سننه في كتاب الجنائز قوله: أن رسول الله زار قبر أمه آمنة بنت وهب فبكى عند القبر وأبكى من حوله.

أقول: إذا كان رسول الله قد بكى على الموتى فكيف يكون البكاء على الميت محرما، وغير مشروع؟

وقد صنعه الرسول بنفسه، وفعل الرسول(صلى الله عليه وآله) يعتبر إقرارا، والإقرار سنه؛ لأن فعل الرسول، أو حتى سكوته عن الفعل إقرار منه وسنة فعلية.

روي في صحيح البخاري في كتاب فضائل الصحابة قال: صعد رسول الله (ص) المنبرـ وذكر واقعة مؤته، وقال: “لقد أخذ الراية زيد بن حارثة وأصيب، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب وأصيب، ثم أخذ الراية عبد الله بن رواحه وأصيب، ثم بكى رسول الله ودموعه تذرف على خديه”.

السؤال هو:

-إذا كان البكاء على الميت غير مشروع أو حرام فلماذا بكى رسول الله(صلى الله عليه وآله)؟

روى البخاري في “كتاب الجنائز” عن عبد الله بن عوف أنه قال: أدخلنا على رسول الله وولده إبراهيم يجود بنفسه، فرأينا رسول الله يبكي، قلنا: ما يبكيك يا رسول الله؟

قال: إنها رحمة العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا، وإنا لفرقك يا إبراهيم لمحزونون.

فالرسول في هذه الرواية يبكي على ولده إبراهيم، واما الحديث الذي رواه الخليفة عمر بن الخطاب، فإن السيدة عائشة ترفض هذا الحديث كما بينا.

وفي رواية أخرى في صحيح البخاري، في كتاب الجنائز إنه قال: لما أصيب الخليفة عمر بن الخطاب، دخل صهيب يبكي فقال الخليفة: يا صهيب لا تبك، فاني سمعت رسول الله يقول:” إن الميت ليعذب ببكاء أهله عليه”، فلما مات عمر بلغ كلامه عائشة، فقالت: لا، ما هكذا قال رسول الله، وإنما قال رسول الله: “إن الكافر ليزيده الله عذابا ببكاء أهله عليه” .

ثم قالت عائشة: حسبنا كتاب الله، القرآن يقول: “ولا تزر وازرة وزر أخرى”

فالبكاء على الميت مشروع، وهنالك روايات كثيرة وردت في بكاء الرسول(صلى الله عليه وآله) على فاطمة بنت أسد، أم أمير المؤمنين.

والدليل على مشروعية البكاء، والحزن ما ورد في القرآن الكريم قوله تعالى: وتولى عنهم وقال يا أسفي على يوسف وأبيضت عيناه من الحزن فهو كظيم قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف حتى تكون خرضا أو تكون من الهالكين” .

روى الزمخشري عن رسول الله(ص) أنه سأل جبرائيل: “ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟

قال: وجد سبعين ثكلى.

قال: فما كان له من الأجر؟

قال: أجر مائة شهيد وما ساء ظنه بالله ساعة قط” .

وعلق الزمخشري على الحديث قائلا: فإن قلت كيف جاز لنبي الله أن يبلغ به الجزع ذلك المبلغ؟

قلت: إن الإنسان مجبول على أن لا يملك نفسه عند الشدائد من الحزن، ولذلك حمد صبره، وان يضبط نفسه حتى لا يخرج الى ما لا يحسن، ولقد بكى رسول الله على ولده إبراهيم.

وقال: القلب يجزع، والعين تدمع، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا عليك يا إبراهيم لمحزونون.

كذلك قوله تعالى: “قل لا اسئلكم عليه أجرا إلا المودة في القربى”

وإن أبرز مصاديق مودة قربى النبي (صلى الله عليه وآله) هو البكاء والحزن على ما أصابهم من ظلم وغدر وأذى.

قال السيد الديباجي: ” وقد ورد في الأخبار عن النبي وعن الأئمة الأطهار انه يستحب في تسلية المصاب أن يظهروا عند صاحب المصيبة الحزن والكآبة، حيث أن ذلك من السنة المؤكدة.

فكيف إذا أردنا أن نسلي صاحب الرسالة وهو شاهد علينا بنص القرآن، ونعزيه في مصاب قرة عينه وفلذة كبده في مصابه الجلل التي ما أتت مصيبة كمثلها من أول الدنيا ولا تأتي إلى آخر الدهر، وهي مصيبة ما أعظمها وأعظم رزيتها في الإسلام وفي السماء والأرض.

لم بكاء وليس الضحك إذا كان الحسين قد نال سعادته؟

ردا على السؤال، لا بد من القول بأن البكاء-على الرغم من ظاهره- أساسا تلميع لمشاعر الإنسانية والسيطرة على القلوب.

فمن السهل جدا أن تضحك الناس الملايين برسالة نصية غضون ثوان، لكن الإبكاء أمر شاق ويحتاج إلى تمهيدات معينية، لأن البكاء يكمن في طبقات أعمق من القلب والتي لا يمكن التوغل فيها بسهولة. الناس لا يبكون لأحد إلا إذا تأثرت قلوبهم من حاله بشدة، فيبكي الرجل في وفاة أمه أو طفله ليس إلا، ولكن مثل وفاة ابن عم صديق فلا.

فإذا كان مؤسسة ما قادرة على السيطرة على عبرات شعب، فهي في الواقع، أستلمت مفاتيح قلوبهم وأنفسهم. وبالتالي فمن أفضل الطرق للحفاظ على مأساة عاشوراء في أعماق قلوب الأمة الاسلامية وإحياء قيمها هو البكاء، فلا يمكن تحقيق أي شيء من هذا القبيل بواسطة الضحك والسرور.

بالإضافة إلى ذلك، انه لأمر جيد التنويه إلى أننا حتى لو نظرنا من وجهة السعادة والسرور، فإن البكاء لا يعني الشعور باليأس والاكتئاب. وخلافا لظاهر البكاء فإن تأثيره الإيجابي والمتفائل، ودوره في التوسع والانبساط الروحي أعمق بكثير من الضحك والدعابة، وربما هذا هو السبب انه يشعر الإنسان بعد البكاء بخفة وتوسع روحيا، بخلاف الضحك والتنكيت حيث يثير الملل والكآبة أخيرا.

لماذا نبكي حسينا؟

-أولا:

إن الشيعة عندما يظهرون العزاء ويجددون هذه الفجيعة، فإنهم أيضا يتعلمون منها دروسا جمة. فمن كربلاء تعلمنا اباء الضيم والظلم، والشهامة والشجاعة، وحرية الرأي والفكر، والتنفر من الأخلاق الدنيئة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والوقوف مع الحق والتضحية بكل شيء من أجله، ولإيثار… وغيرها من الدروس والعبر.

-ثانيا:

البكاء على الإمام الحسين (عليه السلام) وتجديد مصابه يعتبر نوع من التأييد لنهضته والإقرار بهدفه.

يقول الإمام الحميني (قدس سره): إن البكاء على الشهيد يعد إيفاء على اتقاد جذوة الثورة وتأججها، وما ورد في الروايات من أن من بكى أو تباكى أو تظاهر بالحزن فأن أجره الجنة، إنما يفسر بكون هذا الشخص يساهم في صيانة نهضة الإمام الحسين (عليه السلام).

والسر في تكرار هذا الحداد كل عام انه ملحمة تنتمي للبشرية جمعاء، ويجب أن تتكرر كل عام لتكون محفوظة للناس من جميع الأعمار والأعصار؛ لأن الشعارات والأهداف والدروس التي يمكن استخراجها من قيام أبي عبد الله (عليه السلام) تستهدف جميع الشعوب والطوائف والأعراق من المسلمين وغير المسلمين، فإن شعارات وأهداف الإمام الحسين (عليه السلام) في ملحمة عاشوراء هي ما يتفق مع طبيعة كل إنسان خر في وجه هذه المعمورة.

أورد الشيخ محمد جواد مغنية في كلمة قيمة للسيد محسن الأمين العاملي حيث قال: أما الحسين فقدم نفسه وأبناءه حتى ولده الرضيع، وقدم إخوته وأبناء أخيه وأبناء عمه قدمهم جميعا للقتل، وقدم أمواله للنهب وعياله للأسر ليفدي دين جده.

إن الحسين معظم، حتى عند الخوارج أعداء أبيه، فأنهم يقيمون له مراسم الذكرى والحزن يوم عاشوراء في كل عام. ولو أنصف المسلمون ما عدوا طريقة الشيعة في إقامة الذكرى لسيد الشهداء.

فهل كان الحسين دون جاك دارك التي يقيم لها الفرنسية الذكرى في كل عام؟ وهل عملت جان دارك لفرنسا ما عمله الحسين لأمة جده؟

فلقد سن لهم نهج الحرية والاستقلال، ومقاومة الظلم، ومعاندة الجور، وطلب العز، ونبذ الجور، وعدم المبالاة بالموت في سبيل الغايات السامية.

هذا، الى ما يرجوه المسلم من الثواب يوم الحساب على الحزن والبكاء لقتل الحسين، فلقد نعاه جده لأصحابه، وبكى لقتله قبل وقوعه، وبكى معه أصحابه، وفيهم أبو بكر وعمر، فيما رواه الماوردي الشافعي في ” أعلام النبوة” .

وقد حث أئمة أهل البيت الطاهر شيعتهم وأتباعهم على البكاء وإقامة الذكرى والعزاء لهذه الفاجعة الأليمة في كل عام، وهم نعم القدوة، وخير من اتبع، وأفضل من اقتفى أثره، وأخذت منه سنة رسول الله(صلى الله عليه وآله) لأنهم أحد الثقلين، وباب حطة الذي من دخله كان آمنا، ومفتاح باب مدينة العلم الذي لا يؤتى إلا منه.

-ثالثا:

إننا لا نبكي حسينا، بل نبكي الإسلام

إن الإمام الحسين (عليه السلام) ليس هو الإمام الحسين بن علي (عليه السلام) لشخصه بل إنه يتمثل بالإسلام ذاته.

إنه نور الله في أرضه؛ لأنه تبارك وتعالى أعزنا بنوره بالإسلام دينا، وهذا الدين الذي حمله جده المصطفى محمد  (صلى الله عليه وآله) وأدى أمانة التبليغ، وأتمها بولاية أمير المؤمنين (عليه السلام).

إذ لا يعقل أن يترك الدين سدى بعد وفاة النبي محمد(صلى الله عليه وآله) فلا بد من خليفة وإمام بعده، والإمامة تتطلب العصمة، والعصمة تقتضي النص، وهي أمر خفي لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى، فيجب أن يكون تنصيبه من قبل الله سبحانه، لأنه العالم بأفعال الإنسان، وعصمته من الخطأ دون غيره، لذلك أنزلت آية الولاية: “إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون”.

 الاستنتاج

نحن أساسا لا نحزن ولا نأسف لقيام الإمام الحسين (عليه السلام) وشهادته في سبيل الله، لأننا نعتقد انه قد حقق مهمته الإلهية بأحسن وجه، وحصل على أعلى المقامات الإنسانية. فلم يكن هنالك خسران للإمام الحسين (عليه السلام)، ولكن المجتمع الإسلامي تكبد خسائر كبيرة في هذا الصدد.

في الواقع، نحن نقيم حدادا على أنفسنا قبل أن نقيم حدادا على الحسين. لماذا آل أمر المسلمين إلى مثل هذه الكارثة في المجتمع الإسلامي؟

إذن استشهاد الإمام الحسين (عليه السلام) على الرغم من انه سعادة فردية له ولأصحابه الكرام، إلا أنه كارثة بالنسبة للمجتمع الإسلامي، ومأساة بالنسبة للإنسان بما هو إنسان.

ويحق لنا أن نسال ماذا كان هدف الحسين(عليه السلام) وماذا كانت القضية التي يعمل من اجلها؟

أما لو كان هدفه شخصيا يتمثل في رغبته في إسقاط يزيد ليتولى هو بنفسه الخلافة التي كان يطمع اليها، ما وجدنا فيه هذا الإصرار على التقدم نحو الكوفة رغم وضوح تفرق الناس من حوله، واستسلامهم لابن زياد، وحملهم السلاح في أعداد كثيرة لمواجهته والقضاء عليه.

إن أقصر الناس نظرا كان يدرك أن مصيره لن يختلف عما آل إليه فعله، ولو كان الحسين بهذه المكانة من قصر النظر لعاد إلى مكة ليعمل من جديد للوصول إلى منصب الخلافة.

فالهدف إذن ليس هدفا شخصيا، وإنما الأمر أمر الأمة، والقضية كانت للحق، والإقدام إقدام الفدائي الذي أراد أن يضرب المثل بنفسه في البذل والتضحية، ولم يكن إصرار الحسين على التقدم نحو الكوفة بعد ما علم من تخاذل أهلها ونكوصهم عن الجهاد إلا ليجعل من استشهاده علما تلتف حوله القلة التي كانت لا تزال تؤمن بالمثل وتلتمس في القادة من ينير لها طريق الجد في الكفاح، وتحريكا لضمائر المتخاذلين القاعدين عن صيانة حقوقهم ورعاية صوالحهم.

فنحن نبكي الظلم، والجور، والهوان، نبكي ونذكر دائما جور الحكام وتسلطهم في حكم الجاهلية، والأحكام العرفية وإهمال الناس لحكم الله في الأرض. لم يمنع الإمام الحسين(عليه السلام) عن إقامة حكومة الله في الأرض فحسب، بل قيل له: يا حسين اخضع لأمر الخليفة أمير المؤمنين يزيد بن معاوية !!!

هذه هي المأساة، وهذه هي الأزمة التي مرت بها الأمة الإسلامية.

إنما أراد الإمام الحسين(عليه السلام) إقامة حكومة جده رسول الله (صلى الله عليه وآله) إقامة نور الله في الأرض، فمنع من هذا الحق. فكانت شهادته خالدة، وكان انتصار الدم على السيف، وانتصار الفضيلة على الرذيلة، وغلبة الإسلام الأصيل على الإسلام المزور.

حقا إن الدماء الطاهرة التي روت أرض كربلاء قد أنبتت منارا للشرفاء الذين يؤمنون بالإسلام منهجا وعقيدة.

الأربعاء, 02 آب/أغسطس 2023 06:58

تأثير الصلح الحسني في الجهاد الحسيني

لقد جاهد الإمام علي أمير المؤمنين ( عليه السلام ) الناكثين ، و المارقين و القاسطين . . ثم كان ما يسمى بـ ” صلح ” أو عقد و عهد الإمام الحسن عليه السلام ، الذي ألجأته الظروف إلى عقده مع معاوية .

و اللافت : أن هذا العهد قد حقق إنجازا عظيما على صعيد تأكيد الحق ، و ترسيخ الشرعية فيما يرتبط بإمامة أهل البيت عليهم السلام ، و سلب ذلك عن الطرف الآخر ، و انتزاع اعتراف خطي منه بأنه باغ و متغلب ، حين أكدت بنوده على :

1- أن الحق لا بُدَّ أن يعود للإمام الحسن عليه السلام ، ثم من بعده للإمام الحسين عليه السلام .

2- أن ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده .

3- أن لا يقيم الإمام الحسن عليه السلام شهادة عند معاوية .

4- أن لا يسميه أمير المؤمنين . .

5- أن يعمل بكتاب الله و سنة نبيه .

6- أن لا يذكر علياً إلا بخير .

7- أن يكون أصحاب علي و شيعته آمنين حيث كانوا من أرض الله .

8- أن يكون الناس جميعاً آمنين حيث كانوا من أرض الله .

و ثمة شروط أخرى ذكرها المؤرخون أيضاً .

و قد كان معاوية يعلم أن نقض أي بند من هذه البنود سيحرمه من صفة الشرعية ، و سيظهر وفقا لما تعهد به من أهلية الإستمرار في ذلك الموقع .

و قد أعطى معاوية هذه الشروط ، و هو يرى نفسه أنه الأقوى ، و أنه هو المنتصر ، و خزائن الأموال بيده ، و الجيوش تحت أمرته ، و الناس رهن إشارته . . و معه و من ورائه الأخطبوط الأموي المنتشر في طول البلاد و عرضها ، الذي ما فتئ لم يزل يعمل على هدم ما يبنيه علي و ولده ، و على تثبيت أمر معاوية و ترسيخه .

و في مقابل ذلك فإن جيش الإمام الحسن عليه السلام كان مفكك العرى ، متفرق الأهواء ، يضم حتى فلول الخوارج ، الموتورين على يد أبيه أمير المؤمنين عليه السلام . . و قد ظهرت في هذا الجيش الخيانات الكبرى حتى من أقرب الناس إلى الإمام الحسن عليه السلام نسباً ، و هو عبيد الله بن العباس الذي ذبح له عمال و أنصار معاوية طفلين ، و لكن ذلك لم يمنعه من بيع دينه لمعاوية بمليون درهم فقط ، حيث نسي ولديه ، بعد أن نسي ربه ، و خان إمامه .

و اللافت أن بنود هذا العهد لتبطل أمر معاوية حتى قبل أن يبدأ ، إذ أننا لو أخذنا بنداً واحداً من هذه البنود ، و هو البند الذي يشترط أن لا يقيم الإمام الحسن عليه السلام شهادة عند معاوية ، فإن هذا البند الذي لا يخطر على بال أحد أن يذكر في صلح بهذه الخطورة ، تحقن به دماء ألوف من المسلمين ، و لا يخطر على بال أحد أن يكون هناك حديث عن إقامة شهادة عند قاض ، قد لا يحتاج إليها على مدى عمر الإنسان كله ، و لو لمرة واحدة ، فضلا عن أن يسجل ذلك في هذا الصلح الخطير .

نعم إننا لو لاحظنا ذلك لرأينا : أن معاوية يقبل بأن لا يقيم الإمام الحسن عليه السلام عنده حتى الشهادة ، مع أنه يعلم : أن الشهادة قد لا تزيد على حفظ حق إنسان مّا في أرض أو فرس ، أو الاقتصاص للطمة أو جرح .

و ذلك الشرط إنما يعني إبطال أمر معاوية من أساسه ، حتى قبل أن يتصدى و يمارس أمور الحكم ، لأن معنى هذا الشرط أن معاوية :

إما غير قادر على معرفة أحكام الله ، و لو في مثل هذه الأمور الجزئية و البسيطة ، فكيف يتصدى إذن لموقع خلافة الرسول صلى الله عليه و آله ، الذي يعني لزوم أداء مهماته صلى الله عليه و آله في تعليم الدين ، و بيان شرائعه و أحكامه ، و في التصدي للشبهات ، و حل المعضلات ؟

و إما أن معاوية كان يعرف كيف يقضي بين الناس ـ لكنه لم يكن مأموناً على القضاء بالحق .

فمن لا يؤمن على القضاء في فرس ، أو دار ، أو لطمة أو نحو ذلك ، فهل يؤمن على دماء الأمة ، و أعراضها و أموالها ، و على دينها و مستقبلها ؟

و إذا كان معاوية لا يستطيع أولا يؤتمن على القضاء بهذا المستوى فيكف يفي بتعهداته بالعمل بالكتاب و السنة ؟

و إذا كان هو المؤسس و الأساس لدولة بني أمية ، فقد اتضح أن هذا الأساس لا يملك ما يؤهله لهذا الموقع باعتراف منه ، و بتوقيع عهد و عقد مع من ينكر له أي حق فيما يدعيه . . ثم إنه يسجل ذلك و يوقع عليه في مقام لا بُدَّ له فيه من وضع النقاط على الحروف بكل دقة و حرص . . و حيث لا مجال للتغاضي ، و لا للغفلة و لا للتسامح .

فإذا كان هذا البند يعطينا ذلك كله فما بالك بسائر البنود ؟ ! مثل أن لا يسميه الإمام الحسن عليه السلام بأمير المؤمنين ، فمن كان رأس أهل الإيمان ، لا يرضاه أميرا للمؤمنين ، فهل يرضاه أميراً له ؟ ! .

كما أنه هو بنفسه يسجل : أن ليس لأحد من ولده ، و لا من قومه أي حق في هذا الأمر . . بل الأمر يرجع إلى الحسن ، ثم للحسين عليهما السلام .

و بعدما تقدم يتضح : أن إمامة الإمامين الحسن و الحسين عليهما السلام تصبح مفروضة و لازمة ، بمقتضى جميع الأعراف ، و عند سائر الأمم .

فالحسنان عليهما السلام بنظر المسلم الملتزم إمامان: قاما أو قعدا ، بمقتضى نص رسول الله صلى الله عليه و آله.

و الحسن عليه السلام هو وصي أبيه سلام الله عليه ، كما سجله لنا التاريخ أيضاً ( راجع الحياة السياسية للإمام الحسن عليه السلام ) و ذلك يكفي حجة على من يرى لزوم العهد من الخليفة السابق للاحق .

أضف إلى ما تقدم : أن هذا العقد الذي تم بين الإمام الحسن عليه السلام و معاوية لا بُدَّ من الوفاء به حتى عند أهل الجاهلية .

بل إن كل المجتمعات الإنسانية حتى التي لا تدين بدين اصلاً تحتم الإلتزام به ، و لا تجيز نقضه .

و ذلك لأن المجتمعات الإنسانية تعتبر الوفاء بالالتزامات والعهود والعقود أساسا لبناء حياتهم في مختلف المجالات ، حتى السياسية والإجتماعية منها ، وعلى وفق هذه الرؤية ومن هذا المنطلق تنظم علاقاتها بالأمم و الشعوب ، و الجماعات .

و لا تجد أحدا يجيز لأحد الطرفين نقض العهد و العقد إلا بالتراضي و التوافق ، و الاتفاق مع سائر الأطراف .

يزيد هو الباغي :

و بذلك يتضح لكل أحد وفق هذا المنطق الشرعي ، و العقلي ، و العقلاني ، و الإنساني ، أن يزيد بن معاوية هو الباغي على الحسين عليه السلام ، و هو الخارج عليه ، حتى لو أعلن أبوه معاوية نقضه للعهد . فإن العهد لا ينتقض بذلك .

بل إن العهد نفسه قد سلب معاوية حق نقض العهد لو توهم جاهل أن له أي حق في ذلك .

و ذلك حين صرح بقوله : و لا يحق لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده .

فترة تأسيس الدين :

و من جهة أخرى نقول :

لقد كانت الفترة التي تلت وفاة رسول الله صلى الله عليه و آله . . هي فترة تأسيس الدين ، و ترسيخ دعائمه ، و تقرير أحكامه و شرائعه ، و سياساته و قيمه .

فكل ما يقال و يمارس في هذه الفترة سوف يصبح جزءً من الدين ، و ستتداوله الأجيال ، حقا كان أو باطلا .

و حتى لا يبقى الباطل وحده هو سيد الموقف ، و المطروح للتداول ، كان لا بُدَّ لأمير المؤمنين عليه السلام و الخلص من أصحابه من أن يشاركوا في هذا التأسيس ، و أن يطرحوا للناس الحق الذي يسعى الآخرون ، إما لتجاهله و الابتعاد عنه ، أو للعبث و التلاعب به .

و لذلك دخل عمار ، و سلمان ، و حذيفة ، و مالك الأشتر ، و أضرابهم في مناصب الدولة ، فتولى عمار الكوفة ، و سلمان المدائن ، و حذيفة كان قائداً للجيوش الفاتحة ، في فتوح نهاوند المعروف بفتح الفتوح ، و كان هو السبب في زوال ملك الأكاسرة .

و شارك الأشتر في الحروب معهم ، وشترت عينه فيها فقيل له الأشتر ـ و لا شك في أن ذلك كان برضى من أمير المؤمنين عليه السلام ، أو بتوجيه منه .

و قد كان عليه السلام يسعى لحفظ التوازن و الهدوء في العلاقة مع الخلفاء .

و كان يحضر مجالسهم ، و يشارك في بيان مسائل الدين ، و حل معضلات الأمور ، حتى لقد كثر قول عمر : لولا علي لهلك عمر .

و لكن الأمر كان أعظم من ذلك أيضاً .

فقد كان الخلفاء يدّعون : أن لهم ما للرسول صلى الله عليه و آله ، و أنهم يقومون بما يقوم به ، فلهم القضاء ، و الحكم ، و قيادة الجيوش ، و تعليم الناس أحكام دينهم ، و تربيتهم ، و سياستهم و تدبير أمورهم .

تماماً كما كان ذلك لرسول الله صلى الله عليه و آله . بل لقد زعموا أن لهم حق التشريع في الدين ، و الفتوى بآرائهم فيه

و قد مارسوا ذلك بالفعل ، و منعوا الناس من رواية حديث رسول الله صلى الله عليه و آله ، و من كتابته و تدوينه ، و حبسوا كبار الصحابة بالمدينة ، و استعاضوا عن سنة الرسول صلى الله عليه و آله ، و أقواله و سيره ، بثقافات أهل الكتاب ، و ملأوا عقول الناس بها ، و منعوا الناس من السؤال عن معاني القرآن ، و من كتابة تفسيره .

ثم إنهم قد عملوا على أن يضفوا على أنفسهم هالة من القداسة ، لا مجال لاختراقها ، فكان من آثار هذه القداسة أن أصبحت سياسات الخلفاء هذه دينا يدان به و شرعاً يتبع .

و كانت النتيجة هي ما ذكرنا من أنه لم يبق من الدين إلا رسمه ، و من الإسلام إلا اسمه .

فكان لا بُدَّ من إسقاط هذه الهالة ، و إسقاط قناع الزيف عن وجوه أولئك المجرمين .

و قد قام أمير المؤمنين عليه السلام بما كان يمكن القيام به في هذا السبيل ، فأعاد التأكيد على الخطوط العامة ، و أصحر للناس بالعقائد الحقة ، و بين سياسات الإسلام تجاه كل هذا الواقع الذي يواجهه . . و حارب الناكثين و المارقين و القاسطين .

و جاء الإمام الحسن عليه السلام ليخطوا الخطوات التي أتيح له أن يخطوها أيضاً في نفس هذا الإتجاه ، فأنجز الصلح الذي تحدثنا عنه آنفاً .

و لم يبق إلا أن يحدث الزلزال الذي فرض على الأمة أن تراجع حساباتها ، بعد أن سقط القناع المزيّف الذي حاول الغاصبون و الطامعون أن يستروا به حقيقتهم .

و أفاق الناس على واقعهم المرير ، ليجدوا أن ثقافة أهل الكتاب هي التي تهيمن عليهم ، بعد أن سلبت منهم معارف الإسلام ، و ليجدوا أنهم يقدسون أشد الناس انحرافاً عن الله .

أو أعظمهم طغياناً عليه .

و ليجدوا أن الذين يقدسونهم ليسوا هم الأمناء على وحي الله سبحانه و تعالى ، و لا هم العالمون بشرايعه سبحانه.

و ليجدوا . . و ليجدوا . . إلى ما لا نهاية . .

و قد جاءت حركة الإمام الحسين عليه السلام الجهادية بصورة لا تقبل التأويل ، و لا مجال فيها لإثارة أية شبهة أو لبس ، فأسقطت هالة القداسة ، و فرضت على الناس أن يعيدوا النظر في كل شيء ، و أن يبحثوا عن الإسلام و أهله ، و أن يميزوا بين مصادر المعرفة فيه من جديد . . و أصبح هذا الأمر هو الوظيفة المفروضة على كل إنسان إلى يوم القيامة .

لماذا الحسين و لماذا على يزيد بالذات :

هذا ، و لقد كان الناس يعرفون الكثير الكثير مما أخبر به النبي صلى الله عليه و آله عن مصير أبي عبد الله الحسين عليه السلام ، و كانوا قد عرفوا أيضا الحسين عليه السلام ، و أخاه و أباه سلام الله عليهم أجمعين . . عرفوهم في ممارساتهم ، و في توجهاتهم ، و في كل حالاتهم .

و عرفوا في مقابل ذلك : رموز الشجرة الملعونة و أهدافها ، و سيرتها ، و وقفوا على حالاتها .

و كذلك على حالات و سير و أخلاق خصوم أهل البيت عليهم السلام بصورة عامة ، الذين يريدون أن يكونوا ملوكاً جبارين .

و الناس أيضا . . قد عرفوا بنود صلح الإمام الحسن عليه السلام مع معاوية .

و قرأوا على صفحات الواقع و التجربة ، و المعايشة القريبة ، خصائص الشخصية العلوية ، و الحسنية، و الحسينية.

و هم أهل بيت النبوة سلام الله عليهم .

ثم إن الناس قد قرأوا أيضاً على صفحات الواقع و التجربة ، و المعايشة القريبة خصائص خصوم أهل البيت عليهم السلام ، من أمثال معاوية و يزيد و غيرهما .

ثم إن الناس كذلك . . قد رأوا بأم أعينهم كيف أن هذا الباغي و المعتدي ، و المدعي لمقام خلافة الرسول صلى الله عليه و آله لا يتحمل حتى أن يرفض إنسان واحد الإنقياد له مع أنه هو المعتدي على حق هذا الإنسان ، و مع أن أباه بالذات قد سجل أن لا حق له ، و لا لأحد من ولده في هذا الأمر ، و أنه الحسين بالذات هو صاحب الحق .

نعم . . إن يزيد لم يتحمل حتى أن يرفض هذا الإنسان بالذات و الإنقياد له . فراح يلاحقه بثلاثين ألف مقاتل إلى قلب الصحراء ، ليقتله مع أهل بيته ، و ثلة يسيرة جدا من أصحابه ، و يسبي نساءه و أطفاله .

رغم أنه من أهل بيت النبوة ، و سيد شباب أهل الجنة الحسين عليه السلام بالذات ، فكيف ـ يا ترى ـ سيتعامل مع سائر الناس ، لو بدرت منهم أية بادرة مهما كانت تافهة و صغيرة ؟ ! .

المعايير هي الأقوى و الأبقى في الأمة :

ثم إن الإمام الحسين عليه السلام قد أعطى للمعايير الفطرية و العقلية ، و الإنسانية قوتها و فاعليتها ، حين قال للناس في بداية حركته الجهادية :

“إنا أهل بيت النبوة ، و معدن الرسالة ، و مختلف الملائكة ، بنا فتح الله و بنا يختم .

و يزيد رجل شارب الخمور ، و قاتل النفس المحترمة ، معلن بالفسق ، و مثلي لا يبايع مثله ” .

و لتوضيح هذه الكلمة الشريفة نقول :

إنه لا ريب في أن قاتل النفس المحترمة لا يمكن أن يكون هو الأمين على دماء الناس ، فهل يؤمن على أعراضهم و أموالهم ؟ !.

ثم على مصيرهم و مستقبلهم ، و يصبح هو الحاكم المتصرف في ذلك كله ؟ ! .

و هو لا يملك ـ بسبب معاقرته للخمر ـ في أوقات كثيرة ، حتى التوازن العقلي ، الذي يحمي قراره من الضعف و الرعونة ، و من أن يكون قرارا مدمرا للأمة ، أو ملحقاً بها و بمستقبلها أضرارا فادحة على أقل تقدير .

هذا فضلا عن أن شارب الخمور ، لا يمكن أن يحفظ الأسرار الخطيرة التي منها ما يلامس مستقبل الأمة و حياتها ، حيث لا يجد الذي يتعاطى المسكرات أي وازع و رادع ، من عقل أو دين عن البوح بها لغير أهلها .

ثم إنه إذا كان معلناً بالفسق أيضاً ، و لا يخجل بفسقه و فجوره ، فإنه لا يعتبر المنكر منكراً ، ليتصدى لدفعه و إزالته من الواقع العام ، كما أن من يكون كذلك لا يتوقع منه أن يربي الأمة على مكارم الأخلاق .

و يغرس فيها خصال الخير و الصلاح و يقودها إلى مواقع العزة و الكرامة و السؤود .

و في الطرف المقابل نجد : أن الحسين عليه السلام هو من أهل بيت النبوة ، على حد هذا التعبير المنقول عنه عليه السلام.

و اختيار كلمة النبوة قد جاء ليشير إلى الوحي الإلهي ، الذي هو مصدر المعارف و العلوم الغيبية ، و لم يقل : ” أهل بيت النبي ” حتى لا يتوهم أن المراد الإشارة إلى الارتباط به كشخص ، لأجل نسب ، أو سبب عادي قد يناله أناس آخرون .

فإذا كان يزيد أو غير يزيد يدّعي أنه خليفة لرسول الله صلى الله عليه و آله ، و له صلاحياته ، فمن أين يمكنه أن يثبت لنفسه هذا المقام إلا من طريق الوحي و النبوة ؟ و أهل بيت النبوة عليهم السلام ينكرون عليه ذلك .

و الحسين عليه السلام هو المصدر و المرجع للناس كلهم ، و هو الذي لا بُدَّ أن يؤخذ منه التشريع و الأحكام الإلهية . . لأنه معدن الرسالة . . أي الأصل و المنشأ الذي تؤخذ منه سنن و أحكام الرسالة و مضامينها خالصة من الأغيار ، و صافية من الشوائب ، فلا يستطيع يزيد و لا غير يزيد أن يرد عليه ما يخبر به من أحكام الله سبحانه و تعالى و شرائعه ، لأنه أعرف الناس بما يوافق الشرع أو يخالفه .

و الحسين عليه السلام أيضا هو من نشأ في بيت الطهارة ، و القداسة ، و الإيمان ، البالغ أعلى الدرجات في ذلك ، حتى صار بيته مختلف الملائكة .

و لا يستطيع أحد أن يدّعي لنفسه أو لبيته هذا المستوى من الطهارة أبداً ، فهل يستطيع أن يدّعي ذلك يزيد الذي نشأ في بني كلب ، حيث لا دين ، و لا هدى ، بل مفاهيم الجاهلية و أحكامها ، هي المهيمنة ، و الطاغية . و الأهواء و الشهوات و المآثم هي السلوك العام ، و هي القائد و السائق في مختلف الحالات ، و في شتى المجالات ؟ ! .

بنا فتح الله و بنا ختم :

و يستمر الإمام الحسين في كلماته الهادية تلك فيؤكد على أن الله سبحانه قد فتح أبواب الهداية و الصلاح و الإصلاح للأمة بالحسين ، و بأهل بيت النبوة عليهم السلام .

و سيختم بهم عليهم السلام على يد ولي الله الأعظم الحجة القائم المهدي صلوات الله و سلامه عليه ، فما معنى أن ينازع يزيد ، أو غير يزيد هؤلاء الصفوة الذين يمثلون خط الهداية الإلهية للبشرية ؟ ! .

و إذا كان يزيد و غيره ممن سبقه أو لحقه من غير أهل البيت يستطيع أن يدّعي للناس أنهم ليسوا أولى بالنبي صلى الله عليه و آله منه ، و لا أعرف بشرائعه ، و لا أليق بمقامه ، و لا أجمع للصفات و المزايا المطلوبة في من يفترض فيه أن يأخذ موقع الرسول ( صلى الله عليه و آله ) ، و يضطلع بمهماته ، فقد يجد من يصدقه في ذلك .

و لكن هل يستطيع أن يدّعي هؤلاء ذلك في مقابل الحسين عليه السلام ، و لاسيما بملاحظة كل هذا الذي ذكرناه ، و بملاحظة : ما ذكرناه من دلالات صلح الإمام الحسن عليه السلام ؟ .

وفي ليلة عاشوراء التي حَفلت بعظيمِ المكاره والمصائب والأرزاء ، والتي لا يُعهد لها مثيل في تاريخ البشرية ، نرىٰ وقد برزَ الصبرُ فيها ، وصار أحدَ سِماتها ، وصفةً قد تحلىٰ بها أصحابُها ، حتىٰ أصبحَ كلُ واحد منهم كالجبل الأصم لا تهزه العواصف و مِنْ بينهم سيدُ شباب أهل الجنة ـ صلوات الله عليه ـ الذي كُلما ازداد الموقف شدةً ازداد صبراً و إشراقةً.

يقول الأربلي : شجاعةُ الحسين عليه السلام يُضربُ بها المثل ، وَ صبرُه في مأقط الحرب أعجزَ والاواخر الأوائلَ والأواخر(1).

وكما قيل : إن في بشاشة وَجه الرئيس أثراً كبيراً في قوُة آمال الأتباع و نشاط أعصابهم ، فكان أصحابه كلما نظروا إليه عليه السلام ازدادوا نَشاطاً و صمُوداً ، هَذا مع ما هو فيه ـ صلوات الله عليه ـ من البلاء العظيم والخطب الجسيم في ليلة لم تمر عليه بأعَظمَ منها ، حيث يرَى الأعداءَ قد اجتمعوا لقتاله و قتال أهل بيته ، و هو يَرىٰ أهلهَ يرقبونَ نزولَ البلاء العظيم مع ما هُم فيه من العطش الشديد ، بلا زادٍ ولا ماء حتىٰ ذَبُلت شِفاهُهُم و غارت عيونُهم ، و بُحّت أصواتهم ، و ذعُرتْ أطفالهم ، وارتاعت قلوبهم ، في وَجَل شديد علىٰ فراق الأحبة وفقد الأعزة ، و مَنْ يرىٰ ذلك كيف لا ينهار ولا يضعُف ولا تقل عزيمته و هو يرىٰ ما يَبعثُ على الالم و يُحطِّم القُوىٰ !!

إلا أن الحسين عليه السلام الذي كان يَلحظ ذلك بعينه ، لا تجد أثراً من ذلك في نفسه بل كان يزدادُ صبراً و عزيمةً ، و تحمل تلك الأعباء الثقيلة ، و تسلح بالصبر على الأذىٰ في سبيل الله تعالىٰ و هو القائل : و مَنْ رَدَّ عليَّ هذا أصبرُ حتى يقضي الله بيني و بين القوم بالحق و هو خير الحاكمين (2) فكان عليه السلام نعم الصابر المحتسب عند الله تعالىٰ.

وقد جاء في الزيارة عن الإمام الصادق عليه السلام : و صَبرتَ على الأذىٰ في جنبه محتسباً حتىٰ أتاك اليقين (3).

و ناهيك تعجب ملائكة السماء من صبره كما جاء في الزيارة : وقد عجبت من صبرك ملائكةُ السموات (4).

وكان يقول عليه السلام في أوقاتِ الشدة يوم عاشواء و هو متشحّط بدمه : صَبراً علىٰ قضائك يا رب لا إلهَ سِواكَ ، يا غِياثَ المستغيثين (5) ما لي ربٌّ سواك ولا معبود غيرك صبراً علىٰ حكمك (6) و ناهيك عن موقفه المرير و هو يُشاهد مقتلَ رضيعه الصغير و هو يقول : اللهم صبراً و احتساباً فيك (7).

و كيف لا يكونُ صابراً محتسباً و هو من الذين عناهم الله تعالىٰ في قوله : ( وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ) (8) و قوله : ( وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا ) (9).

فالحسين عليه السلام شخصيةٌ منفردةٌ بجميع صفات الكمال ، و تجسدت فيه كلُ صور الأخلاق ، وقد أراد عليه السلام أن يضفي من كماله علىٰ أصحابه و أهل بيته بوصاياه لهم بالصبر الجميل ، و توطين النفس ، و احتمال المكاره ، ليستعينوا بذلك في تحمُّل الأعباء و مكابدة الآلام ، وليحوزوا علىٰ منازل الصابرين و ما أعَداللهُ لهم.

فأما أصحابه فقد أوصاهم 7 مراراً بالصبر والتسلُّح به في مواجهة النوائب والمحن ، والصبر علىٰ حدِّ السيف وطعن الأسنَّة و علىٰ أهوال الحرب.

وكما لا يخفىٰ أن هذا ليس بالأمر السهل إذ أن مواجهة ذلك يحتاج إلى التدرُّع بالصبر والحزم ، و عدم الجزع من أهوال المعركة والثبات عند القتال ، و عدم الاستسلام أو الانهزام ، فإذا ما تسلح المقاتل بالصبر كان في قمة المواجهة ، لا يبالي بما يلاقيه و ما يتعرَّض إليه من ألم السنان و جرح الطعان.

ولذا نادى ـ صلوات الله عليه ـ فيمن تبعه من الناس ـ في بعض المنازل ـ قائلاً لهم : أيها الناسُ فمَنْ كان منكم يصبر على حدِّ السيف وطعن الأسنة فليقُمْ معنا و إلا فلينصرف عنَّا (10).

فإذا كان المقاتل لا صبر له علىٰ ذلك كيف يثبت في ساحة القتال حينما يرى أهوال المعركة إنّ هذا و أمثاله لا يؤمن منه الجزع ، فإما أن ينهزمَ أو يستسلم للأعداء.

وهنا لا ننسى تأكيد القرآنُ الكريم في هذا الجانب إذ حثّ المجاهدين في سبيل الله تعالى علىٰ التحلَّي بالصبر والثبات في ساحة القتال قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا ) (11) ، وقال تعالىٰ : ( إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ) (12) ، وقال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ) (13).

و من الواضح أن نجد الحسين عليه السلام في هذه الليلة ـ استعداداً للمواجهة ـ أن يوصي أصحابه بذلك ويرغبهم في احتمال المكاره قائلاً لهم : فإن كنتُم قد وطأتم أنفسكم علىٰ قد وطّأتُ عليه نفسي ، فاعلمُوا أن الله إنما يَهبُ المنازلَ الشريفةَ لعبادة باحتمال المكاره ، و إن الله و إن كان قد خَصَّني مع مَنْ مضىٰ من أهلي الذين أنا آخِرهُم بَقاءً في الدُنيا من الكرامات ، بما سَهّل معها علىٰ احتمال الكريهات ، فإنَّ لكم شطرَ ذلك من كرامات الله ، واعلموا أن الدُنيا حُلوها مرٌ ، و مرُّها حُلوٌ ، والانتباه في الاخرة ، والفائزُ من فاز فيها والشقي من يشقىٰ فيها (14).

الأمر الذي أثَّر في نفُوسهم وزاد في تَحمُّلهم ، حتىٰ أوقفهم علىٰ غامض القضاء ، وكَشف عن أبصارهم فرأوا منازلهم من الجنة و ما حباهُم الله تعالىٰ من النعيم.

كما أوصاهم عليه السلام بهذا أيضاً و نحوه بعد ما صلَّىٰ بهم الغداةً قائلاً لهم : إن الله تعالىٰ أذنَ في قتلكم و قتلي في هذا اليوم ، فعليكم بالصبر والقتال (15).

و كذلك لما رآهم وقد تناوشتهم السيوف وقف عليه السلام قائلاً لهم : صَبراً يا بَني عُمومتي صبراً يا أهل بيتي ، لا رأيتُم هَواناً بعد هذا اليوم أبداً (16).

و كذا يوصي غلاماً له وقد قُطعت يده ، فضَمّهُ إليه قائلاً له : يا بن أخي اصبرعلىٰ ما نَزلَ بك واحتسب في ذلك الخير (17).

وفي رواية أنه يقول  بعد ما يُقتل طفله الرضيع و يضع كفيه تحتَ نحره : يا نفس اصبري ، واحتسبي فيما أصابَكِ (18).

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- كشف الغمة للإربلي : ج 2 ص 2ظ .

2- بحار الأنوار : ج 44 ، ص 33ظ .

3- بحار الأنوار : ج 98 ، ص 293 و ج 98 ، ص 256.

4- بحار الأنوار : ج 98 ، ص 24ظ .

5- أسرار الشهادة : ج 3 ، ص 68.

6- مقتل الحسين للمقرم : ص 283.

7- معالي السبطين : ج 1 ، ص 343.

8- سورة السجدة : الآية 24.

9- سورة الإنسان : الآية 12.

10- ينابيع المودة : ص 338 ، كلمات الإمام الحسين : ص 348.

11- سورة آل عمران : الآية 2ظ ظ .

12- سورة الأنفال : الآية 65.

13- سورة الأنفال : الآية 45.

14- أسرار الشهادة للدربندي : ج 2 ، ص 223.

15- كامل الزيارات لابن قولويه : ص 73 ، بحار الأنوار : ج 45 ، ص 86.

16- مقتل الحسين للخوارزمي : ج 2 ، ص 27 ، بحار الأنوار : ج 45 ، ص 36.

17- وقعة الطف : ص 254 ، الإرشاد للشيخ المفيد : ص 241.

18- تظلم الزهراء : ص 2ظ 3 ، معالي السبطين : ج 1 ، ص 423.

إنّ الإمام زين العابدين(عليه السلام) هو من فرع تلك الشجرة الطاهرة، ومن سلالة الأنبياء والأوصياء، وهنا يشير الإمام(عليه السلام) إلى أهمّ المعالم الإسلامية التي هي: «مكّة ومنى ومروة والصفا»، وهذه هي المقدّسات للمسلمين، ولمّا عبّر عن كونه ابنها، فهو يريد أن يُشير إلى أنّه المصداق الأكمل لها، فهي معالم صامتة، والإمام حجّة الله الناطق، كما أنّ القرآن الكتاب الصامت، والإمام هو الكتاب الناطق.

فأشار الإمام(عليه السلام) بعباراته هذه، وفي جمعٍ من الناس الذين كانوا يتصوّرون أنّهم خوارج، فبيّن أنّه هو الأصل لهذه المعالم التي يقدّسها المسلمون، ليعرّف شخصه لهم ومَن هو، وبذلك فاق أهل الشام من غفلتهم، وعرفوا أنّهم ليسوا بخوارج(۱).

__________________

۱ـ  مناقب آل أبي طالب ۳/ ۳۰۵، لواعج الأشجان: ۲۳۴.