
emamian
ظريف يخاطب جيران ايران بهذه العبارة المهمة
اكد وزير الخارجية الايراني محمد جواد ظريف ان الدعم الاميركي الاعمى للكيان الصهيوني والسعودية خلف تداعيات سلبية على الشعبين الفلسطيني واليمني.
وقال ظريف في حوار اجرته معه قناة "روسيا اليوم" حول اهداف زيارته الأخيرة الى موسكو: ان ايران وروسيا تربطهما علاقات استراتيجية حيث ان لنا مجالات للتعاون الثنائي نرغب بالبحث حولها فضلا عن البحث في التعاون في منطقة القوقاز بما يخدم مصلحة الجميع بعد انهاء النزاع في منطقة قرة باغ.
وحول مقترح روسيا تصدير الفائض من اليورانيوم الايراني المخصب قال: لقد تباحثنا بصورة مسهبة حول الاجراءات المشتركة بين ايران وروسيا لضمان التنفيذ المناسب للاتفاق النووي بما يشمل كيفية التعاون وكذلك دور روسيا في اعادة الولايات المتحدة الى التنفيذ الكامل لالتزاماتها النووية ومسالة تبادل اليورانيوم المخصب.
وبشان كيفية التعاون العسكري مع روسيا والصين قال ظريف: انه خلال المحادثات التي اجريت مع روسيا والصين تم التاكيد على التعاون العسكري ولقد اكد المسؤولون الصينيون بانه لا يوجد اي حظر قانوني لبيع الاسلحة لايران.
وشدد ظريف على ان الدعم الاميركي الاعمى للكيان الصهيوني والسعودية خلف تداعيات سلبية للشعبين الفلسطيني واليمني وقال: ان دعم اميركا الاعمى للدول لا يخدم مصلحتها.. العالم يشهد تغييرا ولم يعد العالم يدور حول محور الغرب.. ينبغي عليهم ادراك هذه القضية وان يقبلوا هذه الحقيقة. اننا نشهد الان بان الصين تتهيأ لتتحول الى قوة اقتصادية تتخطى الولايات المتحدة. وهنالك روسيا التي تقوم بدور مهم في تسوية النزاعات. فهل يا ترى ان اميركا هي التي حلت القضية السورية؟ ايران وتركيا وروسيا تعمل الان على حل القضية السورية. هل ان اميركا حلت قضية قرة باغ ؟ روسيا ودول المنطقة هي التي تعمل على حلها الان.
وتابع ظريف قائلا: اننا لا ندعو الى قطع العلاقات بين اميركا وحلفائها في منطقة غرب اسيا بل نطلب منها (اميركا) ان تسمح لدول المنطقة بان تحل مشاكلها بنفسها من دون عقد الامل على تدخلات خارجية. اعتقد ان القضية التي تمنع اتفاق بعض دول المنطقة مع ايران تكمن في عقدها الامل على القتال ضد ايران حتى اخر جندي اميركي. مثل هذا الامر لم يتحقق في عهد ادارة ترامب ولن يتحقق كذلك في عهد سائر الادارات الاميركية ايضا. انهم الان يعقدون الامل على الكيان الصهيوني الذي لم يكن داعما لاحد ابدا بل يعمل بشق الانفس للحفاظ على نفسه، لذا فقد حان الوقت كي يعود جيراننا الى جيرتهم. نحن جميعا بحاجة الى الامن والاستقرار.
وقال ظريف في ختام تصريحه مخاطبا جيران ايران: انكم لا يمكنكم شراء الامن من خارج المنطقة. اميركا يمكنها ان تبيع لكم الكثير من الاسلحة لكنها لا يمكنها ان توفر الامن لكم
المصدر:العالم
ضبط الغضب مظهر قوّة في الإنسان
قال الله سبحانه وتعالى: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (آل عمران/ 133-143).
شعور إنساني
الغضب شعور إنساني أودعه الله في الإنسان، وهو تعبير طبيعي عن تفاعله مع ما يجول في داخله أو من محيطه. فمن الطبيعي للإنسان أن يغضب إن هو تعرّض لأذى جسدي أو معنوي أو مادّي، أو تعرّض لقهر أو إذلال أو إحباط، أو استعاد ذكريات مؤلمة، أو تعرّض لذلك مَن يرتبطون به أو مَن له هوى فيهم، أو عندما يُساء إلى دينه وقيمه، أو إلى مَن هم في موقع التقديس والإجلال عنده.
بل قد يكون من غير الطبيعي أن لا يغضب الإنسان عندما يتعرّض لمثل ذلك. فالغضب إذاً هو أمر طبيعي وصحّي، وقد يصبح واجباً عندما تستحلّ محارم الله أو تنتهك، وقد يكون أسلوباً حكيماً في الردع عن المنكر أو الانحراف. فقد ورد عن الإمام زين العابدين (ع): «قال موسى بن عِمران (ع): ياربّ! مَن أهلك الذين تظلّهم في ظلّ عرشك يوم لا ظلّ إلا ظلّك؟ فأوحى الله إليه: ... والذين يغضبون لمحارمي إذا استحلّت، مثل النمر إذا جرح».
وقد ورد عن الإمام عليّ (ع): «كان (ص) لا يغضب للدُّنيا، فإذا أغضبه الحقّ لم يعرفه أحد، ولم يقم لغضبه شيء حتى ينتصر له».
الغضب المتفلّت
نعم، هذا الغضب قد يكون مشكلة لنفس الإنسان أو لمن حوله إن فقد السيطرة على نفسه. ولذا ورد أنّ الغضب ثورة في النفس تهدر كالبركان الغاضب، فإذا لم تتوجّه بأمر العقل، ولم تخضع لأحكام الدِّين، فهي تدمّر كلّ ما يقع أمامها.
ويكفي حتى يطّلع الإنسان على آثار الغضب الكارثية على الأفراد والمجتمعات، أن يذهب إلى المقابر أو إلى المستشفيات أو السجون أو البيوت أو الشوارع والقرى والأحياء، حتى يرى أنّ الغضب هو السبب في الكثير ممّن ماتوا أو سجنوا أو دخلوا المستشفيات، أو ينظر في أسباب المشاكل والتوترات التي تحدث داخل القرى والمدن، أو بين الفئات الدينية أو الاجتماعية أو السياسية.
فالغضب إن لم يقمع ويضبط، يحوّل صاحبه إلى وحش كاسر يجرح ويقتل ويدمّر، أو إلى شعلة نار تحرق نفسها وما حولها. لهذا، نحن معنيّون بإيجاد كوابح لهذا الغضب، وقد جاء الإسلام ليوجد في الإنسان هذه الكوابح.
تحفيزٌ على ضبط الغضب
ومن هنا، دعت الآيات والأحاديث الإنسان إلى أن يضبط غضبه، وأن يكبحه ويسيطر عليه مهما كانت قوّة الغضب، بحيث لا يتملّكه، ولا تنبع مواقفه منه.
وقد حفّز الله الإنسان لبلوغ هذه القيمة، عندما اعتبر المقابل لها مغفرةً منه، وجنّة عرضها السماوات والأرض، فقال: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
وهذا التحفيز ورد في عدد من الأحاديث الشريفة. فقد ورد في الحديث: «مَن كظم غيظاً وهو يقدر على إمضائه، حشا الله قلبه أمناً وإيماناً يوم القيامة». وورد أيضاً: «ما من جَرعَةٍ أعظم أجراً عند الله تعالى مِن جَرعَة غَيظٍ كَظَمَها عبدٌ».
وقد اعتبر رسول الله (ص) أنّ ضبط هذا الانفعال، ثمّ توجيهه نحو الحقّ، يشكّل مظهراً من مظاهر قوّة الإنسان لا ضعفه، حيث ورد في سيرته، أنّه مرّ يوماً بقوم يرفعون حجراً، فقال: «ما هذا؟» قالوا: نعرف بذلك أشدّنا وأقوانا. فقال (ص): «ألا أخبركم بأشدّكم وأقواكم؟»، قالوا: بلى يا رسول الله. قال (ص): «أشدّكم وأقواكم الذي إذا رَضِي، لم يدخله رِضاه في إثم ولا باطل، وإذا سخط، لم يخرجه سخطه من قول الحقّ، وإذا قدر، لم يتعاط ما ليس له بحقّ».
فالله سبحانه يريد للإنسان أن يمسك بزمام انفعاله وتوتّره، وأن يتصرّف بوحي عقله، وبوحي إيمانه. والغضب إن هو استحكم بالإنسان، فسيفقد العقل دوره، ويوقع الإنسان فريسة غضبه وانفعاله. ففي الحديث: «مَن لم يملك غضبه لم يملك عقله». وقد ورد أنّ الحدّة ضرب من الجنون. فكما لم يرد الله للإنسان أن يتخلّى عن عقله بالخمر، ولذا حرّمه، فإنّه لم يرد ذلك بالغضب.
والغضب هو أيضاً نقيض الإيمان، فمعه تنفتح كلّ الشرور والأبواب للشيطان. فقد ورد في الحديث: «الغضب مفتاح كلّ شرّ»، «الغضب جمرة من الشيطان توقَد في قلب ابن آدم»، «بئس القرين الغضب: يبدي المعائب، ويدني الشرّ، ويباعد الخير».
وللغضب تداعيات سلبية كثيرة على مصير الإنسان وموقفه أمام ربّه، لأنّ الغضب يبدأ بالمعصية، ولا ينتهي بإلحاق الأذى والضرر بالآخرين؛ مَن سبّ لهم وشتم وضرب وظلم، وحتى قتل. وقد ورد في الحديث عن رسول الله (ص): «إنّ لجهنّم باباً لا يدخله إلّا مَن شفى غيظه بمعصية، ليكون العذاب أشدّ وأقسى».
الحاجة إلى تهذيب انفعالاتنا
إنّنا أحوج ما نكون إلى تهذيب انفعالاتنا وتوجيهها في هذه المرحلة، لأنّنا نعيش في واقعٍ يدعو إلى التوتر وفقدان الأعصاب، من القلق على الصحّة جراء الوباء، وضيق النفس بسبب العيش تحت سقف الحجر المنزلي، فضلاً عن الأعباء المعيشية التي تتفاقم وتلقي بثقلها على المواطنين.
ونحن لن نستطيع أن نعزل أنفُسنا عن هذا الواقع، أو أن نهرب منه، أو أن نتجرّد من أحاسيسنا، فلا نتوتر ولا نتفاعل مع ما يجري. فليس أمامنا في ظلّ هذه الظروف إلّا أن نبرّد التوتر في داخلنا وأن نعقلنه، ولا نتحرّك بوحيه، وأن نقنع أنفُسنا بحقيقة أنّ الغضب لا يحلّ مشكلة، بل قد يعقّدها ويزيدها، وأن نتدبّر جيِّداً في الآثار السلبية التي تترتّب على ترك الغضب يأخذ مداه، وفيما قد يؤدِّي إليه في مجال الصحّة الجسدية والنفسية، وما يؤدِّي إليه من إزهاق أرواح أو فتن لا ينفع بعد حدوثها الندم.
وليس صحيحاً ما يقوله البعض عندما تسألهم: لماذا لا تضبطون أعصابكم ولا توقفون غضبكم؟ يقولون: لسنا قادرين على ذلك. بل هم قادرون إن أرادوا، وإلّا كيف يأمر الله الإنسان بما لا يقدر عليه، والدليل، أنّهم يضبطون أعصابهم وانفعالاتهم وتوتراتهم عندما يتواجدون في محضر مَن يخشون منهم، أو عندما يكونون تحت الرقابة.
كيف نعالج الغضب؟
ويبقى أن نشير إلى أهمّ توجّهين لمعالجة الغضب؛ فقد ورد عن رسول الله (ص): «يا عليّ! لا تغضب، فإذا غضبت فاقعد وتفكّر في قدرة الربّ على العباد وحلمه عنهم، وإذا قيل لك: اتّق الله، فانبذ غضبك، وراجع حلمك». وقد ورد عن الإمام عليّ (ع): «داووا الغضب بالصمت».
ولم تكتف الآية القرآنية التي تلوناها في بداية الحديث بالدعوة إلى توقي الغضب ومنع تداعياته بكظم الغيظ، بل دعت إلى تحويله إلى فرصة إيجابية، عندما دعت الغاضب إلى العفو، وأن يبادل الإساءة بالإحسان، وهو ما أشارت إليه الآية: (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ) (فصّلت/ 34-35).
وقد ورد في ذلك أنّ أعرابياً أتى إلى رسول الله (ص)، فأمسك بتلابيب صدره، وقال: اعطني يا محمّد، فليس المال مالك، ولا مال أبيك. فقال (ص) له: «دعني»، ثمّ أمر له بعطاء.
وقد عبّر عن ذلك الإمام عليّ بن الحسين (ع)، عندما كانت جارية له تسكب الماء على يديه ليتوضّأ، وبسبب تسرّعها، وقع الإبريق على رأس الإمام فشجّه، فقالت له: والكاظمين الغيظ، قال لها: «قد كظمت غيظي»، فقالت له: والعافين عن الناس، قال «قد عفوت عنك»، قالت: والله يحبّ المحسنين، قال: «اذهبي فأنت حرّة لوجه الله».
الصبر المطلوب
إنّ الغضب مدخل لكثير ممّا نعانيه من توتر في بيوتنا وأحيائنا وقرانا وأوطاننا، وبسببه، بتنا نعاني الفتن والحروب والمشاكل على أكثر من صعيد، وفي أكثر من ساحة، فنحن انفعاليون سريعو الاشتعال.
إنّنا مسؤولون في هذه الظروف التي من الطبيعي أن يكون الإنسان فيها متوتراً، خوفاً على نفسه وعلى مَن حوله، وعندما يسمع أخباراً ومآسي تحصل في داخل الوطن أو خارجه، وعندما تضيق الأرزاق، بأن نضبط انفعالاتنا، ونمسك بزمام أنفُسنا، ولا نسمح للتوتر بأن يخترق عقولنا ويلهب مشاعرنا.. أن نعدّ دائماً، كما يقال، للعشرة، قبل أن نتّخذ موقفاً، وأن نعرض كلماتنا ومواقفنا على العقل والإيمان، وأن نذكر أنّ الله سبحانه وتعالى أمرنا بالصبر. فلنصبر رجاء الحصول على ما أعدّه الله للصابرين، ولنذكر رحمته بأن نرحم عباده، ولاسيّما الضعفاء منهم، والذين يحتاجون إلى ودّنا ومحبّتنا، لا إلى عضبنا وانفعالنا، وحتى تمرّ هذه الظروف بسلام.. وأن يكون دعاؤنا الدائم الذي يعيننا على ذلك:
«اللّهُمّ إنّي أعوذ بك من سورة الغضب، وضعف الصبر، وشكاسة الخلق، ومَلَكة الصبر وقوّة الإرادة على نفسنا الأمارة بالسوء، وعلى وسوسات الشيطان لنا، وإلحاح الشهوة، ومَلَكة الحميّة، يا أرحم الراحمين».
وفي كلّ حال، لِتبقَ ألسنتنا وقلوبنا تلهج: «ياربّ، إنّ لنا فيك أملاً طويلاً كثيراً. ياربّ، إنّ لنا فيك رجاءً عظيماً. ياربّ، ارزقنا اليقين وحُسن الظنّ بك، واقطع رجاءنا عمّن سواك، حتى لا نرجو غيرك، ولا نثق إلّا بك يا أرحم الراحمين».
المرأة المسلمة والإنتماء الحضاري المعاصر
د. محمد أمين الاسماعيلي
المرأة المسلمة المكرمة في القرآن الكريم السنة، وبهما داخل المجتمع الإسلامي الأوّل، وعبر المجتمعات الإسلامية المختلفة، تعيش اليوم أزمة حضارية وسلوكية تبتعد بها عن روح الإسلام ومقوماته الثقافية والحضارية، إنها تعيش أزمة في نفسها، وفي فكرها، وفي تصورها، وفي سلوكها وفي واقعها ويدرك كذلك أن شروطاً موضوعية أخرى ساهمت في حياة العيش الذي تحياه في بلادها وبين قومها، غريبة عن قيمها الذاتية التي هي قوام حياة العزة والأنفة والكبرياء الإيجابية في أنوثتها وقاعدتها الدينية الإسلامية الإيجابية التي تعطي الوجود الإنساني للمرأة المسلمة حقه في الحياة الكريمة المتميزة عن المملكة البهيمية. فهي منذ بدأت تبتعد عن القيم الإسلامية وجدت نفسها في جحيم من الضياع داخل مجتمعها. إنّ المرأة المسلمة المعاصرة أخذت تحمل تصوراً للكون وللوجود وللحياة يحدث شرخاً واسعاً في بنيتها النفسية والفكرية: فهي تعيش واقعاً إسلامياً في الجملة يؤثر على نمط تفكيرها بمقوماته، وعاداته، وتقاليده، وأعرافه، وسمته الخاصة، وهي في ذات الحين تعيش تأثير الفكر الغربي الضاغط وتصوره الخاص للكون والحياة والإنسان. إنّ العيش والتفكير في التصور الإسلامي فرصة قل نظيرها في الأديان السماوية والوضعية الفلسفية وغيرها إنها تمنح المرأة الفرصة التي تثبت بها ذاتها وجدارتها وتبلغ حقوقها كاملة غير منقوصة، تهبها حقوقاً ليس لها مجافاة مع طبيعتها وكينونتها وتوقعها للحياة الكريمة الإنسانية، بينما القوة الضاغطة الغربية تسعى إلى التصادم الحضاري الإنساني بكل القيم التي تطمح المرأة إليها بفطرتها وتوقعها إلى العزة الكاملة. إنّ الأفكار الغربية تصادم كل المقومات وإن كانت هناك جوانب يقال إنّها تلتقي مع القيم الإسلامية بالقوة والغلبة وليس بغيرهما. إنّ الشرخ الكبير المحدث بين الإتجاهين الإسلامي والغربي في حق المرأة المسلمة قد جزأ الذات الإنسانية وجعلها في مهب الريح، حين ينعكس ذلك الإنفصام على البنية النفسية والقيمية للعلاقة الجدلية بينهما. فالمرأة المسلمة المعاصرة لم يبق لها أن أدركت على مستوى الشعور النفسي ذلك الشرخ في ذاتها وفي كينونتها وواقعها المعيش، ولم يبق لها أن أدركت إشكالية ذلك الزواج في المشروع بين حضارتين قرر علماء كل واحدة منهما التصادم وليس التعايش أو على الأقل قررت الحضارة الغربية قاعدة التصادم الحضاري مع الحضارة والقيم الإسلامية دون سواهما ومن جانب القيم مررت الحضارة وأسلوب حياتها الغربية والمحشوة بالدوافع الأيديولوجية والتي تبنتها بعض الحركات النسائية المدعومة من رواد الحركة الغربية وحصرت المشكلة بين الرجل والمرأة بل في أنّ أزمة المرأة المسلمة قائمة على محورين أساسيين هما: 1- القضايا في: أ- القمع والتحرش الجنسي. ب- عدم المساواة مع الرجل. ج- عدم إتاحة المساواة في الفرص في العمل بين الرجل والمرأة. د- حرية المرأة المطلقة كما يتطلب النظام الرأسمالي لتتاح الفرصة للإستغلال بكل أنواعه للمرأة في المعامل وغيرها. 2- التطلع للحرية فيما يلي: أ- القضاء على الأسرة. ب- مشاعية العلاقات الجنسية. ج- القضاء على نظام الوراثة أو جعله يحقق أطماع المرأة دون الإلتفات إلى حق غيرها. هذه هي العناصر وغيرها في المحورين تبين الهدف من القضايا المشار إليها والتي تهدف إلى خلق تصادم لا يقود أبداً إلى وئام، ويدفع بالمجتمع إلى الضياع وإلى وجود أطفال بدون أمهات أو آباء، ويكون بذلك مجتمعاً مفكك الأوصال لا يجمع بين أفراده جامع يسير دون هوادة نحو المجهول بعيداً عن الأخلاق والقيم الرحيمة. إنسان الآلة لا يشعر بما يشعر به الكائن البشري بل رغبات تحقق بعيداً عن هدف قيمي يضمن حياة رحيمة سليمة لكل الناس، وإنما تكوين مجتمع تتحكم فيه وسائل إعلام يحركها أناس بدون أي شعور إنساني هدفه تحقيق المصالح الآنية الدنيوية دون حساب لأي هدف آخر مهما كان نبيل. إنّ التصادم الحضاري الغربي الذي يقود العالم اليوم يسير في مخطط يسعى من ورائه إلى جعل المرأة المسلمة لا تعيش في واقع قيمها الدينية إلا من خلال ثقلها الجسمي وأزماتها المعنوية والمادية لا غير. وفي معظم البلاد الإسلامية تهيأ واقع مجتمعي مفروض ويطبق بناء مسالمة واقعية تريد تحقيق نظرية تقليد المغلوب للغالب كما قرر عبد الرحمن ابن خلدون في مقدمته وبدأ التصادم يميز كيان الأسرة المسلمة بتهيئ الفرص للفتك بالمرأة وربما بأشد مما عليه المجتمع الغربي الفارض للتصادم الحضاري فيمارس على المرأة شتى أنواع الضغوط والإغراءات المختلفة والتصورات الخاطئة لمنح المرأة وتجريدها من خصوصياتها، وتصوير ما يجري في الغرب على أنّ المنجي لها مما هي فيه مجتمعها برغم النتائج المفلسة التي شهد عقلاء الغرب على أنها تقود مجتمعه إلى الضياع لا محالة: (يجب أن يولى المربون اهتماماً شديداً للخصائص العضوية والعقلية في الذكر والأنثى. وكذلك لوظائفها الطبيعية، فهناك اختلافات بين الجنسين غير قابلة للنقص، ولذلك فلا مناص من أن نحسب حساب هذه الإختلافات ونحن نسعى لبناء عالم متمدن)[1]. فإذا كان الحال كذلك عند عقلاء الغرب فما هي الاجراءات التي اتخذها عقلاء بعض البلدان الإسلامية، غير السكوت في الغالب أو الحديث في احتشام كبير؟ هل هناك اجراءات تتخذ قصد حماية كيان المرأة المسلمة والحفاظ على مميزات الشخصية الإنسانية لها داخل المجتمع الإسلامي وفي شتى المجالات الحياتية؟ ثمّ إن نظرية التصادم الحضاري المفروضة علينا – لظروف وملابسات – قد وجدت كثيراً من الجمود يحيط بالمجتمع الإسلامي في غالبية بلدان الإسلام، دون أن يجد الماء الراكد من يحركه. فنحن إذا عرفنا في الماضي شموخاً لا يقاس، فنحن اليوم نفتقد ذلك الماضي، ونحن إليه كرمز حضاري لا كإطار زماني، بينما الشباب الغربي يشعر بالفخر في حاضره رغم – ما نقول نحن الذين من الله عليهم ببعض التعقل والالتزام – فهل نعمل بجد من أجل توعية المرأة بواقعها في بلاد الإسلام؟ إنّ التصادم الحضاري يدفع بها إلى مرارة رفض الواقع في بلاد الإسلام، فهي تتمرد عليه، وتثور على قيمه جملة وتفصيلاً، ولو فعلت ذلك بوعي لكان خيراً في قليل من الأشياء ولكن تتمرد وتثور من غير وعي مما يكرس الوضع التصادمي وتجعل من نفسها أداة من أدوات اللعب التي يحركها عدو أمتها ويقود بها حركة نشطة يثبت بها ويركز أهدافه المنحرفة التي تجرف المجتمع الإسلامي في عميق سباته وترسخ عملية الإفساد بكل أشكاله. ومن ثمّ فإن عمل الدعاة المصلحين لا يستطيع عمل أي شيء لإنقاذ الوضع المتأزم الذي تعيشه المرأة المسلمة في كثير من البلاد الإسلامية. إنّها تعيش أزمة من واقعها اقتصادياً، واجتماعياً، وثقافياً، وعقدياً دينياً، وحضارياً... فلا تلبث أن تصير هي بنفسها أزمة أخرى. فيضيع منها أي توازن من شأنه أن يجعلها قادرة على تحديد واقعها بوضوح ودقة. إنّ كثير من الدراسات تحاول تفسير أزمة المرأة المعاصرة بأزمة الواقع، بل بصفة أدق بالواقع الإقتصادي المتأزم، وترهين فكاك أزمتها بفكاك أزمته. إنّ مثل هذه التفسيرات لا تزيد على وصف جزء من الواقع بأنّه فاسد، تفهم المرأة المسلمة أن فساده خارج إرادتها، فيتحول الأمر إلى تبريرات تصب أخيراً في تكريس أزمتها بانتظار انفراج أزمة الواقع الإقتصادي بالمفتاح السحري.[2] إذا كان الواقع الاقتصادي في أزمة، والواقع الاجتماعي في أزمة فهل هذا من الأسباب الكفيلة بتخلي المرأة المسلمة المعاصرة عن وعيها كلية؟ ليس ذلك معقولاً ولا مقبولاً ولا مبرراً لاستسلام المرأة أمام هذه الأزمات وتصبح هي نفسها أزمة حقيقية، فهذا لا يبرر ضعفها وعجزها بل ينبغي أن يكون حافزاً قوياً وليس حافزاً ضعيفاً تقوم بوعي إلى الوقوف في وجه نظرية التصادم الحضاري من خلال عملها على تغيير الواقع المحلي تغييراً جذرياً لا أن تجعل من نفسها أداة لتكريسه وعنصراً من عناصر المذلة الحضارية التي يسعى الغرب إلى دفعها للوقوع فيها دون شفقة. لأنّه هيئها إلى الإستسلام وقبول موت الرحمة التي يصورها كآخر الحلول الممكنة وتسعد المرأة برمي كل مسؤولياتها على عاتق الواقع المتردي والمتأزم. وتنتظر الفرج من الله الذي تحرك ساكناً إلى جهة رحمته بتغير ما بنفسها حتى يغير الله ما بداخلها – إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. إنّ وضعية المرأة المسلمة المعاصرة في نظرية الصراع الحضاري الغربية والرأسمالية تحتاج إلى وعي كامل بدورها داخل المنظومة الإسلامية أما صانعة للأجيال ينبغي أن تنطلق من أن وضعيتها كإنسانة في منظومة التوحيد الإلهي، هذه الوضعية التي تحدد وجودها النفسي والاجتماعي والسياسي، والإقتصادي، والفكري، هذه القيم هي التي ينبغي أن تكون إطاراً مرجعياً لقياس الحضارات وليس القيم الغربية. ولما كان الإنسان المعاصر يعاني أزمته في ذاته وفي فكره وفيما يحيط به، ولما كانت الآلية الحضارية الغربية تكرس أزمته رغم أنها من صنع يده، فإن حضارة الغرب التصادمية تجد نفسها في موقف صعب لأنها تجافي الفطرة الإنسانية، فلقد أنشئت دون أي معرفة بطبيعة الإنسان الحقيقية، إذ أنها تولدت من خيالات الإكتشافات العلمية وشهوات الناس وأوهامهم ونظرياتهم ورغباتهم وإن سقوط النظام الشيوعي لينذر بسقوط النظام الرأسمالي إن عاجلاً أو آجلاً لما نراه في المجتمعات التي أصبحت تحمل في ثنياها أسباب فناءها. فإذا عرفت المرأة المسلمة المعاصرة أن دوام الأمور ليس على الإطلاق حجة البقاء وإنما مراد الله يتحقق بمشيئته، ومشيئته لها آجال تتحقق فيها. والحسابات الربانية مقرونة بمواعيدها ومربوطة بها، لذا فنحن لا نستعجل الأمور بل علينا الوعي بها. فنحن نحتاج إلى وعي المرأة المسلمة المعاصرة، وعي بواقعها ووعي بمستقبلها بين يدي الله. إنّ المقصود بوعي المرأة بمستقبلها بين يدي الله، هو قيامها بوعي الحضارة التصادمية الحديثة وتأطيرها وعدم الإنتماء إليها. لقد كان الغرب كله يستفيد من حضارة أمة الإسلام، ويرسل بعثات طلابية للأندلس والشمال الإفريقي وصقلية وغيرها من بلاد الإسلام، لكن تعامله معها لم يصل إلى حد الإنتماء إليها، سيكولوجية وفكراً وسلوكاً. فإلى هذا المستوى ينبغي للمرأة المسلمة المعاصرة أن ترتقي حفاظاً على هويتها الدينية الإسلامية. إنّ مكمن الداء، والعقبة الكأداء أمام أي تغيير على أي مستوى هو نظرية التصادم الغربية التي أفلحت الرأسمالية الحديثة في إطلاقها ومواجهة العالم الإسلامي بها، كي تحطمه وتدفع به إلى القنوط وإلى الهاوية والإنتحار. هذه النظرية التصادمية التي من خلالها تنتفي الذات والصفات كماهية والتاريخ كهوية هي التي تكرس سوء التعامل مع الآخر الأعلى حضارياً. لا شكّ أنّ عبدالرحمن ابن خلدون قد فقه فكرة (الأعلى حضارياً) حيث سعى في مقدمته مفسراً سلبيات هذه النظرية: (إنّ النفس أبدا تفتقد من غلبها وانقادت إليه: إما لنظره بالكمال بها وفر عندها من تعظيمه، أو لما لتغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب، فإذا غالطت بذلك واتصل لهما اعتقاداً، فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الإقتداء. أو لما تراه والله أعلم من أن غلب الغالب لهما ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب... ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبدا بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه، في اتخاذها وأشكالها في جميع أحواله.[3] فتقليد المغلوب للغالب استلاب للهوية، ومنع للقيم، وذهاب للإعتبار. أما إذا كان الغالب يدفع سلاح الصدام الحضاري فذلك معناه نهاية المغلوب بأي وسيلة كانت إذ لا سبيل له للإنعتاق. فإذا كانت المرأة المسلمة المعاصرة تريد أن تحيا في تاريخها وقيمها وقبل كل شيء عقيدتها فإنّها سوف تأمل البقاء أما إذا ارتمت في أحضان اليأس والقنوط فإنّ الذوبان والنهاية هما المآل. ولو كانت المرأة المسلمة تطمح إلى مكانة في العالم الإنساني بدينها فلها في رسول الله (ص) القدوة الحسنة فقد أباح لها (ص) أن تعمل عقلها وتجيل آراءها فيما يعرض لها فتتمثل الواقع بنظائره وتشبهه بأمثاله وترد بعضها إلى بعض في الأحكام، وقد رضي لنا الاجتهاد في حياته والوحي يتنزل عليه من السماء، فكيف لا نقبل ذلك، والعالم من حولنا مشتعل بالنبال والحراب والآراء المضادة لديننا ووجودنا ماذا عسانا نعمل إذا لم نحاذر الواقع ونعمل للمستقبل، والمرأة أما وزوجة وقاعدة أساسية فليس لنا من مصير غير الذي ترضعه فمتى تراها ترضع العزة والمنعة والعقيدة السليمة لأجيال الغد؟ أمّا إذا بقيت المرأة المسلمة المعاصرة تعظم الغرب وكل ما هو غربي، وتعتقد فيه الكمال، وتتوهم أن تقليده عبر الإنتماء إليه تصوّراً وسلوكاً وقيماً هو التحرر والتقدم وهو الحضارة التي تنقذها من الصدام الحضاري والهروب من الجمود والانتماء إلى الحضارة الإسلامية فهي تقع حيث تريد الهروب والنجاة فتسقط في الإستيلاب، حيث لم تبحث عن ذاتها، إلا في ذات الآخر وفي قيمه وهبوطه الأخلاقي ومسخه الإنسانية الداخلية عليه واحتقاره لهم وما هي النتيجة التي حققت؟ لا شكّ أنها فقدت كل شيء وسقطت فريسة في يد الآخر.
إنّ المسؤولية الحضارية تقتضي من المرأة المعاصرة وعى ذاتها ووعي الآخر، وتحديد العلاقة بين الأنا والهو، وبين الأنا والواقع بشكل يضمن للذات تحقيق تلك المسؤولية المتمثلة أساساً في المساهمة وبفاعلية في بناء حضارة إسلامية جديدة على قواعد الماضي الإيجابي، وآمال المستقبل، ولتعلم المرأة المسلمة المعاصرة أنّ المهادنة مع الآخر لن تنفعها فحتى لو هادنته من طرفها فسوف لن يترك لها الفرصة للإنعتاق، في قضية لا مهادنة فيها إنّه صدام الحضارات الرأسمالي بكل ما أوتي من ميكيافلية قاتلة لا تعرف الرحمة، والمرأة المسلمة إذا عادت لوعيها فسوف تصون النفس والعقيدة وترضع الأجيال القادمة العزة والكرامة والأنفة وكلها إسلام.
الهوامش:
[1]- ألكسيس كاريل، الإنسان ذلك المجهول، ص116. [2]- المرأة العربية المعاصرة، عزالدين البوشيخي، ص64، مطبعة مكاتب مكناس، الحزب.
[3]- عبدالرحمن ابن خلدون، المقدمة، ص112.
المصدر: مجلة الطاهرة/ العدد 180 لسنة 2007م
المحيط الأسري مكان للتربية والبناء
أ. مظاهري
المحيط الأسري مكان، وموقع متقدم تربوي ينبغي لنا أن لا نضيعه من أيدينا وهو مصداق للحديث الذي يقول:
"إلا أنّ في أيام دهركم نفحات ألا فتعرضوا لها".
هذه النفحات هي من أجل بناء أنفسنا وبناء أولادنا، فيجب أن نسعى جاهدين لنيل ما نرقى به إلى خلافة الله – تعالى – في أرضه التي غمرها بالخيرات حباً لنا ورحمة.
ثمرة النصح العملي:
يمكن للرجل أن ينجز أعماله على أكمل وجه برحابة صدر، فبالموعظة الحسنة والنصح العاطفي يمكن أن تتأثر المرأة سريعاً وتنقاد إذا أحسن إليها وخوطبت خطاباً ليناً.
وإذا كانت هذه النصيحة مقرونةً بالعمل كان لها آثار إيجابية بنّاءة ضعف ما نحصل عليه في إبداء النصيحة باللسان فقط.
ومثلاً نتطرق له هنا، إنّ الرجل، ربّ الأسرة عندما يكون متهجداً قائماً ليله، سوف تماثله زوجته في عمله هذا وستقع تحت تأثير هذا العمل الصالح، فتكون من اللواتي يقمن الليل تهجداً.
تأثر المرأة بسلوك الرجل:
إذا استنكر الزوج الغيبة على زوجته وردها عنها بلطف حكيم وبيان رحيم، فتحت قلبها لنصحه وتأثرت بفعله.
وكان ذلك مدعاة لطهارة الأسرة من هذا الوباء.
وإذا كان الرجل غير صادق في تعامله، محتالاً، ماكراً كانت زوجته كذلك، حتى لو كانت من الصادقات قبل اقترانها به.
وكذلك إذا ما كان البنت تأتم بأبيها في صلاتها أوّل الوقت فستكبر طاهرة نقية، ولكن الزوجة التي ترى زوجها لا يعير أيّة أهمية للصلاة أو باقي العبادات، لا يمضي وقت طويل حتى تنصبغ بنفس اللون الذي عليه زوجها.
وكذلك في الغالب تنصبغ بباقي القضايا التي عليها ربّ الأسرة، وإذا رأت المرأة من زوجها عفة إزدادت عفة، وإذا رأت منه عدم الالتزام – لا سمح الله – بالعفة أو بغيرها تبعته في سلوكه المنحرف.
وقد أيدت التجارب ما دعانا إليه القرآن الكريم وأهل البيت، فما من امرأة تزوجت مؤمناً رشيداً إلا التزمت مبادئ الشريعة وأخلاقها.
وعلى العكس من ذلك تتدنى وتنحط أخلاق الفتيات العفيفات اللائي يرتبطن بأسر وضعية لا تعير أهمية للمقاييس الإسلامية ولا تلتفت إلى حلال الله وحرامه.
ضرورة الصدق في الأسرة:
هكذا، ترد أعمال وأفعال الرجل والمرأة في الدنيا والآخرة ويضيق بهم المجتمع ذرعاً إذا لم يتعاملا بصدق وعاطفة في المحيط الأسري.
وإذا كان الزوج قليل التعاطف مع زوجته فقدت عاطفتها نحوه، وانجرت لما يكرهه.
عليكم أن تسعوا حثيثاً بالابتعاد عن الكذب، حتى لو كان لمصلحة.
صورة واحدة عن جواز الغيبة:
جاء في حكاية أنّ شخصاً ذهب إلى الرسول محمّد (ص) وقال له: "يا رسول الله إنّ جاري يؤذيني فقال له: اصبر، الجار الصالح ليس فقط ذلك الذي لا يؤذي جاره، بل الجار الصالح ذاك الذي يصبر على أذى جاره".
وشكا ذلك الرجل جاره إلى الرسول (ص) ثانية فأمره بالصبر وبشره بالأجر.
وشكاه إليه ثالثة، فأجاز له أن يشكوه وقال له: إذا كان يوم الجمعة أخرج ما في دارك من متاع واطرحه خارجاً، واجلس زوجتك وأبناءك عليه لأنّ يوم الجمعة يغص بالمارة من الناس أكثر من بقية الأيام، وإذا سؤلت عن السبب فقل: "آه من ظلم الجار".
وعمل الرجل ذلك، فعرف الجار المؤذي أنّه يشكوه، فأسرع إليه يسترضيه نادماً وبهذه الطريقة آل أمر الجار إلى الصلاح.
جاء في القرآن المجيد:
(لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا) (النساء/ 148).
معنى الغيبة:
سُئل رسول الله (ص) عن الغيبة فأجاب: الغيبة كشف العورة المستورة في ظهر أخيك المسلم.
وهذا الذنب من الكبائر التي وعد مرتكبها بنار جهنم الماء الحميم.
ومن المأسوف عليه أنّ الغيبة أصبحت زينة مجالسنا على الرغم من معرفة العقاب عليها.
حقيقة الغيبة وحدّها:
قالت عائشة يوماً لرسول الله (ص): "إن فلاناً قصير".
فتغير لونه (ص) تغيراً مفاجئاً وقال: "يا عائشة لماذا اغتبت فلاناً؟ انهضي واستفرغي ما في جوفك".
وعندما استفرغت خرج مع ما خرج من جوفها لحم متعفن؛ تعجبت! وقالت: "يا رسول الله (ص)، ما أكلت لحماً! قال رسول الله (ص): ألم تقرأي القرآن حين يقول:
(وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ) (الحجرات/ 12).
فلا يختلف المغتابون عن أكلة الأموات.
تأثر الأسرة بالغيبة:
إخواني الأعزّاء، لا تغتابوا لكي لا يتلوث محيط الأسرة بهذا الذنب، فإنّ الزوج والأبناء يعتقدون برب الأسرة فيما يفعل ويقول.
وما يشهد لذلك ما شاع بين الناس من أن فعل الولد هو فعل أبيه.
فالأبناء عندما يرحبون بك بحرارة، اعلم أنّ الأب والأُم يودونك؛ وإذا ما كان عكس ذلك، فاعلم أنّ أباهم وأمهم لا يودونك، بل يتظاهرون بالتودد إليك.
ذنب الوالدين المضاعف:
هكذا كررنا وأكدنا لمرات أنّ محيط الأسرة مدرسة، لذا فإنّ وظيفة الرجال بحقِّ أبنائهم هي تربيتهم في هذه المدرسة، وإذا نشأ الابن بسبب أعمالكم كاذباً، مغتاباً، مرتكباً لقبائح أخرى، فإن آثامه تسجل في سجل أعمالكم أيضاً مصداقاُ للحديث القائل:
من سنّ سنة حسنة، فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سنّ سنةً سيئةً فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً.
فإذا عمل الأبناء أعمالاً من مثل الغيبة وقول الكذب، فسيحظى الآباء والأُمّهات بنفس العذاب المكتوب على أبنائهم يوم القيامة.
التقليد عند الأطفال:
إنّ دماغ الأطفال يشبه إلى حدٍ ما آلة التصوير، فيرسم كلّ ما يواجهه فمن المستحب أن يؤذن في أذن الطفل الرضيع اليمنى، ويقام في أذنه اليسرى حتى يتأثر من يوم ولادته بالتكبير والتهليل ليتعرف التوحيد، وبالشهادتين ليتعرف النبوة والولاية لأهل البيت (عليهم السلام).
المصدر: كتاب الأسرة في الإسلام
اللبنانيون بين مطرقة الأزمة الاقتصاديّة وسندان كورونا.. إلى متى يستمر العجز الحكوميّ؟
مع استمرار حظر التجول في لبنان بسبب الإجراءات الاحترازيّة في ظل انتشار فيروس كورونا المستجد، عادت الاحتجاجات الشعبيّة إلى الشارع اللبنانيّ، اعتراضاً على تمديد قرار الإغلاق العام الذي أعلنته الحكومة حتى 8 شباط القادم، ورغم وعود الحكومة بتعويض العاملين المياومين ودعم العائلات الأكثر فقراً بمخصصات ماليّة، شهدت 3 مدن رئيسة تحركات احتجاجيّة رفضا للتدهور الاقتصاديّ والمعيشيّ في لبنان.
غضب شعبيّ
بسبب الغضب الشعبيّ العارم إزاء الأوضاع المعيشيّة الصعبة في ظل الإغلاق، انطلقت الاحتجاجات الشعبيّة الأكبر في مدينة طرابلس شمالي البلاد، قبل أن تمتد إلى معظم المناطق اللبنانيّة، بدءاً من صيدا جنوبا التي أقدم المحتجون فيها على إغلاق دوار "إيليا" وسط المدينة تضامناً مع طرابلس واحتجاجاً على ما وصفوها "سياسات التجويع" الحكوميّة، وليس انتهاء بالعاصمة بيروت، حيث خرج عدد من المتظاهرين بمظاهرة وسط المدينة، رفعوا خلالها شعارات تُحمّل الطبقة السياسيّة مسؤولية الانهيار الاقتصاديّ.
وفي هذا الصدد، شهدت مناطق لبنانيّة كثيرة قطعاً للطرق الرئيسة، بينها شتورة وتعلبايا، وسعدنايل والمرج في منطقة البقاع، وطريق المنية الدوليّ شمالاً، وفي منطقة الجية، وبرجا، على الأوتوستراد الساحليّ جنوباً، فيما قطع محتجون جسر الرينغ وطريق الصيفي في بيروت، إضافة إلى ذلك شهدت الاحتجاجات قطع طرقات في منطقة كورنيش المزرعة وعلى جسر سليم سلام والدورة، احتجاجاً على الأوضاع المعيشيّة الصعبة وتضامناً مع مدينة طرابلس والموقوفين فيها، وأقدم المتظاهرون اللبنانيون على قطع طريق "جسر الرينغ" الحيويّ في العاصمة لنحو نصف ساعة، قبل أن يعاد فتحه وسط حضور مكثف لعناصر قوى الأمن الداخلي، ولم تسفر الاحتجاجات الغاضبة عن وقوع أيّ مواجهات حادة، لكن الشرطة استخدمت قنابل الغاز المسيل للدموع، في حين قام بعض المحتجين برشقهم بالحجارة.
ومنذ أيام على إعلان الحكومة اللبنانيّة تمديد الإغلاق الكامل، ضمن تدابير مواجهة كورونا، والتي تتضمن إغلاق المؤسسات والمحلات التجاريّة، ضج الشارع اللبنانيّ الذي يعيش أزمة اقتصاديّة خانقة، وقام محتجون برشق مكثف للحجارة على مبنى سرايا طرابلس الحكوميّ، احتجاجاً على الإقفال العام ومحاضر الضبط التي تنظم بحق المخالفين، والأزمة الاقتصاديّة الخانقة ما أدى إلى تضرر عدد من السيارات.
يشار إلى أنّ أزمة فيروس كورونا زادت طين الأزمة الاقتصاديّة بلة في البلاد، التي يمر بأسوأ أزمة اقتصادية منذ انتهاء الحرب الأهليّة بين عامي 1975 و 1990، ما أفرز تراجعاً غير مسبوق في قيمة الليرة اللبنانيّة مقابل الدولار ودمر قدرتها الشرائيّة، في ظل الوضع الاقتصاديّ المأساويّ الذي يعيشه معظم المواطنين اللبنانيين.
قرار حكوميّ
جاء القرار الحكوميّ اللبنانيّ، للتخفيف من آثار فيروس كورونا، لكنه انعكس سلباً على هذا الموضوع، الذي فجر التحركات الشعبيّة للبنانيين الذين يعيشون التزاماً لا بأس به من ناحية الإغلاق العام المفروض من قبل السلطات، بسبب الانتشار الكثيف لكورونا وبلوغ القدرة الاستيعابيّة للمستشفيات حدها الأقصى، وإنّ الاحتجاجات خرجت من طرابلس مدينة التجار والمياومين، التي تعتبر من أكثر مدن لبنان فقراً، وفق مواقع إخباريّة.
وأقدم المحتجون الغاضبون بقطع طرق رئيسية في عاصمة الشمال بالإطارات المشتعلة والعوائق، في حين جابت المظاهرات أحياء عدة من المدينة بينها القبة وساحة عبد الحميد كرامي، مطلقة شعارات تندد بالإقفال العام والسياسات الحكوميّة التي لم تعوض عليهم أو تقدم لهم أيّ مساعدات خلال الأيام والأشهر الماضيّة التي شهدت إغلاقاً عاماً.
وفي هذا الخصوص، استقدم الجيش والقوى الأمنيّة اللبنانيّة، تعزيزات إضافية، وقد تعرض عدد من المحتجين للاعتقال في حين تم تفريق الباقين بالقوة، الأمر الذي رفع من حدة التوتر في طرابلس، حيث استمرت التظاهرات حتى ساعات متأخرة بعدما أعلن المحتجون بقاءهم في الشارع إلى حين النظر في أوضاعهم الاقتصاديّة المزرية.
من ناحية أخرى، أعلن الصليب الأحمر اللبنانيّ، أنّ 6 فرق إسعافيّة قامت بمهمة إسعاف الجرحى في ساحة النور وعمدت إلى نقل 12 منهم لمستشفيات المنطقة إضافة إلى إسعاف 29 حالة في موقع الاحتجاجات، فيما أشارت الوكالة الوطنيّة للإعلام إلى سقوط عدد من الجرحى في صفوف القوى الأمنيّة من حرس السرايا وقوات مكافحة الشغب.
وتأتي تلك التطورات، بعد 10 أيام من الإقفال التام سجل خلاله الأهالي التزاماً بالقوانين، وانتظروا على أساسه تعويضات وعدت بها الحكومة اللبنانيّة للعائلات الأكثر فقراً لكنها لم تنفذ على أرض الواقع، وهذا ما جعل الأمور تتجه إلى التصعيد، إضافة إلى أنّ الحالة المعيشيّة وصلت إلى وضع مأساويّ غير قابل للتحمل بالنسبة للمواطنين بمختلف مجالاتهم وخاصة أصحاب المحال التجاريّة أو بسطات بيع الألبسة أو سائقين عموميين أو أصحاب الأفران وغيرهم، إضافة إلى عدد هائل من الشبان العاطلين عن العمل.
ويؤكّد المحتجون أنّ الدولة كانت على علم مُسبق بالظرف الشعبيّ في المدينة خلال الأيام الماضية، وهددوا السلطات بخرق الإقفال العام وقوانين حظر التجول، كما صدرت تقارير أمنيّة متعلقة بالمزاج السائد هناك، ومع ذلك لم يتحرك أحد لضبط الوضع أو تهدئة الناس عبر إرشادهم لحقوقهم أو تعويضهم عليها، بل آثر المسؤولون على الصمت المعتاد تجاه المدينة وأهلها إلى أن انفلت الشارع، بحسب مصادر إعلاميّة.
ختاماً، لا يبدو أنّ الأمور في لبنان متجهة نحو الأفضل، زخاصة في ظل الأزمة الاقتصاديّة الخانقة وانتشار كورونا، ما يعني مزيداً من التصعيد والتظاهرات في الشارع اللبنانيّ الذي يعيش الأمرين نتيجة لذلك، في ظل شلل حكوميّ عن انقاذ لبنان من المشكلات الاقتصاديّة الكبيرة وعجز المسؤولين عن مساعدة الشعب الذي لم يعد يهمه انتشار الفيروس ومخاطره أكثر من كونهم يموتون جوعاً، وبرأيهم فإنّ هذا المرض لن يكون أسوأ من معاناتهم بسبب الإهمال الرسميّ، والتدخلات الأجنبيّة، وخاصة السعودية منها، حيث إنّ الرياض تشكل حجر الزاوية في فشل تشكيل الحكومة اللبنانيّة.
الحجّ ودوره المهم في حياة الإنسان
عندما نريد استعراض بعض معطيات الحجّ إلى بيت الله الحرام ينبغي لنا أن ننظر إليه كمجموعة كاملة أوّلاً، ثمّ نلاحط المعطيات التفصيلية لكلّ منسك منس
النظرة العامّة...
ويمكننا أن نذكر ـ هنا ـ أهم هذه المعطيات بصورة نقاط هي:
1 ـ تعميق الارتباط بالله: بالتركيز على ذكر الله المتواصل في أيّام الحجّ... فهي الأيّام التي يردد الحاج فيها كثيراً ذكر الله، ويحس بالرابطة بينه وبين الله إحساساً عميقاً. وهذا الترديد المركز سوف يترك أثره على حياة الحاجّ العامّة ليرتبط في كلّ آن بالله تعالى يلهج بذكره، ويستشعر عظمته عند كلّ عمل يقوم به.
2 ـ الشعور بالعمل في سبيل الله: فالإنسان الحاجّ في أيّام الحجّ متفرغ لهذه الناحية... قد أسلم نفسه وحياته بكلّ لحظاتها لله تعالى يأمره فيأتمر، وينهاه فينتهي، كلّ لحظة من هذه الأيّام تُصرف في سبيل الله وقُربة إليه. فهو إذن يتدرّب على أن يصوغ حياته كلّها وفق هدى الله وأوامره، ويبتعد عن كلّ ما يصرفه عن العمل في سبيل الله. قال الصادق (ع): «إذا أردت الحجّ فجرّد قلبك لله عزّوجلّ ـ من قبل عزمك ـ من كلّ شاغل وحجاب حاجب، وفوض أُمورك كلّها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلّم لقضائه وحكمه وقدره، ودع الدنيا والراحة»[1]، بمثل هذا التجريد القلبي والتسليم يدخل الحاج أيّام الحجّ، وبمثله يخرج ليستقبل الحياة.
ولهذا فإنّ للحجّ إشعاعاً على عمل الإنسان بعد الحجّ، ففي المحاسن عن عبدالله الحجال رفعه قال: «لا يزال على الحاجّ نور الحجّ ما لم يذنب»[2]. وقد وصف الحجّ بأنّه فرار إلى الله. فعن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى: (فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) (الذاريات/50) قال: «حجّوا إلى اللهِ»[3].
3 ـ التضحية في سبيل الله: إذ أنّ الحجّ غالباً ما يرافقه بذل الجهد الكبير خصوصاً إذ كان الحاجّ يقصده من أماكن بعيدة، ولكنّ الحاجّ يبذل هذه الجهود مربياً نفسه على أساس أنّ في هذا البذل ربحاً لأنّه بذل «في طريق الجنّة» على حد تعبير الرواية[4]، وهذا البذل سيترك أثره بلاريب على نفس الحاجّ ليسترخص الجهد في كلّ مجال يريد الله أن يكون فيه الإنسان العامل حتى ولو تطلب ذلك الجهد الكبير. فعن الإمام الصادق (ع): «مَن اتّخذ محملاً للحجّ كان كمن ارتبط فرساً في سبيل الله».
4 ـ الغفران والتوبة: فإنّ الحجّ فرصة كبرى للعفو، وجوّ مفعم بطلب التوبة والاستغفار والرجوع إلى الصراط المستقيم.
وقد رُوِي في ثواب الأعمال عن ابن حازم قال: «قلت لأبي عبدالله (ع) ما يصنع الله بالحاجّ؟ قال: مغفور والله لهم لا أستثني فيه». وعن الصادق (ع): «في سؤال موسى (ع) جبرئيل (ع) ما لمن حجّ البيت بنيّة صادقة ونفقة طيِّبة؟ قال: فرجع إلى الله عزّوجلّ فأوحى إليه: قل له أجعله في الرفيق الأعلى مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحُسن أُولئك رفيقاً».
وفي الرواية عن النبيّ (ص) قال رسول الله (ص): «للحاجّ والمعتمر إحدى ثلاث خصال: إمّا يُقال له: قد غفر لك ما مضى، وإمّا أن يُقال له: قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل، وإمّا أن يُقال له: قد حُفِظتَ في أهلك وولدك وهي أخسّهن».
وواضح ما لجوّ التوبة من تأثير على رسوخها في النفس والتزام النفس بمقتضياتها.
5 ـ تمثّل التاريخ الإسلامي المشرق: حيث يعيش الحاجّ منطلق الدعوة الإسلامية للدول، ويمر بخطواتها وأحداثها الكبرى لتبقى مرتسمة في أعماقه تشده إليها وتدفعه لاستعادة أمجادها وبطولاتها وحمل أمانتها في كلّ عصر.
6 ـ الشعور بعظمة الإسلام: إنّ مَن يعيش عملية الحجّ يدرك حساً الدور العالمي العظيم الذي يستطيع الإسلام القيام به فيتأصل في نفسه الشعور بعظمة الإسلام. ويمكننا أن نقول إنّ هذا هو ما يشير إليه وصف الحجّ بأنّه (عِلم الإسلام) حيث يقول أمير المؤمنين (ع): «وجعلَهُ سبحانه وتعالى للإسلام عِلماً».
7 ـ الشعور بالوحدة والأُخوّة مع الحجّاج الذين لا تجمعهم لغة واحدة ولا تقاليد ولا حدود ولا مستوى ولا لون، وإنّما تجمعهم العقيدة. هذا يركّز الوحدة العقائدية التي يجب أن يحمل لواءها كلّ مسلم. منطلق واحد لكلّ الحجّاج، ومسير واحد، وهدف واحد هو التضحية في سبيل الله تعالى.
8 ـ الفرصة المغتنمة: فالحجّ أكبر فرصة تُتاح كي تلتقي فيها كلّ أجنحة العالم الإسلامي؛ فتتقارب مستوياتها الثقافية، ويتعرّف كلّ جناح على مشاكل الأجنحة الأُخرى، وتعقد المحادثات والمداولات بينهم، فالحجّ أكبر مؤتمر إسلامي عام.
كما أنّ الحجّ فرصة مغتنمة جدّاً لتوعية المسلمين على إسلامهم ونُظمه وقوانينه وفضح شبهات أعدائه ومخططاتهم العامّة.
وهكذا نجد بعد هذا أنّ الحجّ:
دورة تدريبية كبرى للبشرية لتدريبها على العمل بأوامر الله، والتخلق بأخلاقه، والتصديق بكلمته، والسير على منهج أنبيائه، وإحراز الأرباح في متجر عبادته.
يقول الإمام أمير المؤمنين (ع) في نهج البلاغة، ص 45: «وفَرَضَ عليكم حَجَّ بيتِهِ الحَرَامِ، الذي جعلَهُ قِبلَةً للأنامِ، يَرِدُونَهُ وُرُودَ الأنعامِ، ويأْلهُونَ إليه وُلُوهَ الحَمَامِ. جعلَهُ سبحانهُ علامةً لتواضُعِهم لعظمتِهِ، وإذعَانِهم لعزَّتِهِ.
واختارَ من خَلقِهِ سُمّاعاً أجابُوا إليه دعوتَهُ، وصَدَّقُوا كلمتَهُ، ووَقفُوا مواقِفَ أنبيائِهِ، وتَشَبَّهُوا بملائكتِهِ المُطيفين بعرشِهِ، يُحرِزُونَ الأرباحَ في مَتجَرِ عبادتِهِ، ويتبادرون عنده موعِدَ مغفرتِهِ. - جعلَهُ سبحانه للإسلامِ عَلَماً، وللعائذين حَرَماً. فَرَضَ حَجَّهُ، وأوجَبَ حقَّهُ، وكَتَبَ عليكم وِفَادَتَهُ، فقال سبحانه: (وَلِلهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) (آل عمران/ 97)».
وتتميز هذه الدورة التدريبية الكبرى بميزات فريدة، فهي:
أوّلاً ـ دورة عالمية تشترك فيها كلّ الشعوب.
ثانياً ـ تتناول أهم القضايا في حياة الإنسان وسيرته الحضارية فتركزها.
ثالثاً ـ دورة يقوم بها الناس بإرادتهم واختيارهم بأداء شعائر خُطِّطَ لها تخطيطاً دقيقاً.
رابعاً ـ تشترك في إنجاحها الدوافع النفسية والذكريات التاريخية المتمثّلة بالأمكنة المقدّسة، والزمان المقدّس لأنّها تقع في الشهر الحرام.
وما أن يتم الناس القيام بشؤون هذه الدورة حتى يعلن العيد... عيد الانتصار على كلّ نوازع الظلم، والفوز بكلّ محقّقات الكمال.
والأمر الملاحظ بوضوح في الأعياد الإسلامية أنّها تأتي بعد دورة، إمّا تربوية كعيدي الفطر والأضحى أو حياتية كبرى كعيد الغدير؛ لتؤكد الفرحة البشرية الصحيحة بالانتصار على الشهوات والشيطان، وبقطع مرحلة مهمّة من الحياد وبدء مرحلة أُخرى منها تشكّل تطوّراً لها لتثير مشاعر المسلمين جميعاً للاتصال الدائم المجموعي بالله، وذلك لما فيها من تشريع للصلوات الواجبة والمستحبة وما إلى ذلك من موحيات.
النظرة التفصيلية:
أمّا إذا القينا على الحجّ نظرة تفصيلية تتناول واجباته ومحرماته وشرائطه فيمكننا أن نسير معه عموماً على النحو التالي:
1 ـ الإحرام:
روايات في الإحرام:
روى الكليني بإسناده عن جابر عن أبي جعفر (ع) قال: «أحرم موسى من رملة مصر، قال: ومر بصفائح الروحاء محرماً يقود ناقة بخطام من ليف عليه عباءتان قطوانيتان، يلبي وتجبيه الجبال»[5] وروى الصدوق إنّه وجب الإحرام لعلة الحرم.
وفي العلل وعيون الأخبار عن الرضا (ع) قال: «وإنّما أُمروا بالإحرام ليخشعوا قبل دخولهم حرم الله وأمنه، ولئلّا يلهوا ويشتغلوا بشيء من أُمور الدنيا وزينتها ولذّاتها، ويكونوا جادين فيما هم فيه قاصدين نحوه مقبلين عليه بكلّيتهم، مع ما فيه من التعظيم لله عزّوجلّ ولبيته، والتذليل لأنفُسهم عند قصدهم إلى الله عزّوجلّ، ووفادتهم إليه راجين ثوابه راهبين من عقابه، ماضين نحوه، مقبلين إليه بالذلّ والاستكانة والخضوع».
على ضوء من هذه الروايات الشريفة وغيرها وبملاحظة روح العملية وشرائعها ومستحباتها يمكن القول بأنّ الإحرام يوحي:
أ ـ بالإخلاص لله تعالى والخشوع له غاية الخشوع، ورفض كلّ المطلقات الوهمية، ونزع كلّ هوى بها تماماً كما ينزع الإنسان ملابسه، وغسل النفس عن كلّ دنس معنوي، كما يغتسل الإنسان للإحرام والتلبس بالحسنات والصالحات كما يلبس الإنسان ثوبي الإحرام الطاهرين، كلّ هذا يجري باختيار الإنسان وتدريباً له على أن يكون كذلك في كلّ حالات حياته.
ب ـ بالرجوع إلى الفطرة ورفض المقاييس الوهمية التي تفصل بين أبناء الإنسانية. ويبدو ذلك بوضوح عندما يلبس الجميع ثوبين بهيأة واحدة فتتمثّل لهم حقيقة التساوي بين الأفراد من الوجهة المادّية ويبدأ التسابق في المجال المعنوي، ويتأكد هذا عندما نلاحظ اشتراط أن لا يكون اللباس مخيطاً، وأن لا تلبس المرأة الزينة.
ج ـ بتذكّر حالات الموقف العظيم يوم القيامة حيث يخرج الناس إلى الله (وَبَرَزُوا لِلهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ) (إبراهيم/ 48) وهذا ما يوحي له شبه الثوبين بالكفن.
د ـ بالشعور بعظمة النِّعمة التي أنعم الله بها على الإنسانية بتعريفها بالواقع الذي يمثّله هذا الحرم المقدّس، فتقديس الحرم لما يمثّله من واقع.
لعلّه بكلّ هذا وغيره كان الإحرام سُنّة كبرى يفعلها الأنبياء فتزيده خشوعاً وخضوعاً في محراب الله تعالى.
2 ـ التلبية:
بعض الروايات فيها:
روى الكليني بإسناده عن الحلبي قال ـ سألته لِمَ جعلت التلبية؟ فقال: «إنّ الله عزّوجلّ أوحى إلى إبراهيم أنّ: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ). فنادى فأُجيب من كلّ وجه يلبّون»[6].
وروى بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (ع) قال: «التلبية لبيك اللّهُمّ لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إنّ الحمد والنِّعمة لك والملك، لا شريك لك لبيك ذا المعارج، لبيك ـ وقال في آخره ـ واعلم أنّه لابدّ من التلبيات الأربع في أوّل الكلام وهي الفريضة، وهي التوحيد وبها لبّى المرسلون»[7]
وروى الصدوق عن سليمان بن جعفر قال: «سألت أبا الحسن (ع) عن التلبية وعلتها، فقال: إنّ الناس إذا أحرموا ناداهم الله تعالى ذِكره، فقال: يا عبادي وإمائي لأُحرّمنكم على النّار كما أحرمتم لي، فقولهم لبيك اللّهُمّ لبيك إجابة لله عزّوجلّ على ندائه لهم»[8].
ورُوِي عن عاصم بن حميد قال: سمعت أبا عبدالله يقول: «إنّ رسول الله (ص) لمّا انتهى إلى البيداء حيث الميل قربت له ناقة فركبها، فلمّا انبعثت به لبّى بالأربع... ثمّ قال: هاهنا يخسف بالأخابث»[9].
ورُوِي عن الإمام الباقر (ع) قال: «قال أمير المؤمنين (ع) ما من مهلّ يهلّ بالتلبية إلّا أهلّ من عن يمينه من شيء إلى مقطع التراب، ومن عن يساره إلى مقطع التراب، وقال له المَلَكان: أبشر يا عبد الله وما يبشّرُ الله عبداً إلّا بالجنّة»[10].
ورُوِي عنه (ع) قال: قال رسول الله (ص): «ما من حاجّ يضحي ملبياً حتى تزول الشمس إلّا غابت ذنوبه معها».
وأكثر الروايات تؤكّد أنّ التلبية تعبّر عن استجابة بشرية كبرى لنداء تاريخي عظيم طلب من إبراهيم شيخ الموحدين أن يعلنه في الأرض، وأُعطي وعداً بأن يستجيب له المؤمنون.
إنّ المسلم إذ يلبي ليشعر:
أ ـ بأنّه أهل لأن يكون في عداد أُولئك الذين أجابوا دعوة إبراهيم (ع) التاريخية، ممّا يبعثه لأن ينظر لارتباطه بالإسلام كمهمّة كبرى أُلقيت تاريخياً على عاتق هده الأُمّة، وعليها أن تحمل هذه الأمانة بجدارة.
ب ـ بأنّه يرتبط بحركة التوحيد الخالص الذي ينزّه الله تعالى عن كلّ سخافات أهل الكتاب، وكلّ مفتريات المشركين بكلّ ما يعنيه هذا الارتباط من تحكيم التوحيد في كلّ شؤون الحياة.
ج ـ بأنّ عليه أن يستجيب لكلّ نداء إصلاحي حقيقي (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ) (الزّمر/ 18) فيلبي قبل كلّ شيء نداء الإسلام للعمل الصالح، ثم يتَّبع سبيل المؤمنين والقادة.
د ـ بأنّه ـ وهو يلبي ـ ينسجم مع الكون كلّه الذي يلبي معه نداء الله (اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) (فصّلت/ 11).
ومن هنا تركّز الروايات أنّ الجبال وما حواليه تردد تكبيره، وأنّه إذا انفصل عن مسيرة التلبية في قول أو عمل؛ فقد أصبح نشازاً في بناء الكون. ويتأكد هذا المعنى عندما تتردّد أصداء تلبية الحجيج في البيداء.
هـ ـ بأنّه سيغفر له فيعود طاهراً من الذنوب، ولذا فعليه أن يُحاذر من تفويت فرصة الطهارة هذه.
3 ـ محرمات الإحرام:
قال تعالى: (لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ) (المائدة/ 94)، وقال تعالى: (فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ) (البقرة/ 197).
بعض الروايات في هذا الصدد:
عن الإمام الصادق (ع) في تفسير الآية الكريمة المتقدمة: «حشرَ عليهم الصيد من كلّ وجه حتى دنا منهم ليبلون به»[11].
وعن الإمام الصادق (ع) قال: «إنّ المحرم إذا تزوج وهو محرم فرق بينهما، ثمّ لا يتعاودان أبداً»[12].
وعن الإمام الباقر (ع): «لا ينبغي للمحرم أن يأكل شيئاً فيه زعفران، ولا يطعم شيئاً من الطيب»[13]. وعن الصادق (ع) في هذا الصدد «اتقِ المفاخرة، وعليك بورع يحجزك عن معاصي الله»[14].
والملاحظ: في هذه المحرمات أنّها تزيد على المحرمات الاعتيادية من جهة وتركّز التنفر من تلك المحرمات الاعتيادية من جهة أُخرى.
وباستقرائنا لبعض مشاعر المسلم وما يتركه هذا التحريم في نفسه نلاحظ:
1 ـ التربية الأصيلة لعنصر مراقبة النفس: فبعد أن يدخل الإنسان المسلم في جوّ الإحرام يحسّ بأنّه صار تحت حماية الله ومراقبته الأشد، أو أنّه قد دخل دورة تدريبية خاصّة عليه فيها أن يتنبه ويكون واعياً لئلّا يقوم بعمل من هذه الأعمال المحرّمة ـ وبعضها أمر يعتاده ويعيش معه في أوقاته العادية ـ فيُطلب إليه أن لا يقتل هوام البدن، وأن لا يشم الطيب، وأن لا ينظر في المرآة، وأن لا يتدهن، وأن لا يلمس المرأة، وأن لا يقطع شعرة من بدنه، وهكذا باقي المحرمات الأُخرى. وكلّ هذا يحتاج إلى مراقبة دقيقة تبقى ذكراها مذكرة النفس بلزوم الدقة والوعي في كلّ سلوك يسلكه الحاج بعد ذلك.
2 ـ التربية الأصيلة لعنصر الإرادة: وهنا يحرم الجنس والصيد ـ وهو في متناول الأيدي ـ لتمتحن إرادتهم في مقدار استجابتها لأوامر الله عزّوجلّ، وسيطرتها على النوازع والغرائز، وليشعروا مع ذلك بعظمة نِعم الله عزّوجلّ فيشكروه شُكراً يتناسب مع ما رسمه لهم.
وتبدو ـ أكثر ما تبدو ـ هذه التربية للإرادة في تحريم لمس المرأة فضلاً عن تحريم الجماع، وكذلك تحريم العقد عليها، وكذلك تبدو واضحة في مسألة كشف الرأس وعدم التظليل بشيء وتحمل ذلك في سبيل الله، إذ له معطيات إرادية كبرى في الإنسان.
3 ـ الزُّهد: بالمتع الدنيوية والشعور بالتحرّر من ربقتها خصوصاً إذا كان الإنسان في سبيل تحقيق أوامر الله تعالى.
4 ـ التدريب العملي على الكلام الحسن والمنطقية في الحديث وتعظيم وجه الله تعالى وحُرماته... والموضوعية. وهو جانب مهم جدّاً. فمع أنّ الكذب شيء حرام في الحالات الاعتيادية، والجدال وغيره أمر مرفوض عموماً، إلّا أنّه هنا يتأكد رفض هذه الأُمور مع جعل أنواع من الجزاء عليها للتأكيد على لزوم نفيها من حياة المسلم. هذا إلى جانب الحِكم الخاصّة في كلّ محرم.
4 ـ الطواف بالبيت:
قال تعالى: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا) (البقرة/ 125)، وقال تعالى: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) (آل عمران/ 96).
بعض الروايات في ذلك:
1 ـ الكليني بإسناده إلى معاوية بن عمار عن الصادق (ع): «إذا دخلت المسجد الحرام فادخله حافياً على السكينة والوقار والخشوع، وقال: مَن دخله بخشوع غفر الله له إن شاء الله. قلت ما الخشوع؟ قال السكينة، لا تدخل بتكبر، فإذا انتهيت إلى باب المسجد فقم وقل: (السلام عليك أيّها النبيّ ورحمة الله وبركاته، بسم الله وبالله ومن الله، وما شاء الله والسلام على أنبياء الله ورُسُله، والسلام على رسول الله (ص) والسلام على إبراهيم خليل الله والحمد لله ربّ العالمين)، فإذا دخلت المسجد فارفع يديك واستقبل البيت وقل: (اللّهمّ إنّي أسألك في مقامي هذا في أوّل مناسكي أن تقبل توبتي وأن تتجاوز عن خطيئتي، وتضع عني وزري، الحمد لله الذي بلغني بيته الحرام، اللّهُمّ إنّي أشهد أنّ هذا بيتك الحرام الذي جعلته مثابة للناس وأمناً ومباركاً وهدى للعالمين، اللّهُمّ إنّي عبدك، والبلد بلدك، والبيت بيتك، جئت أطلب رحمتك وأؤم طاعتك، مطيعاً لأمرك، راضياً بقدرك، أسألك مسألة المضطر إليك، الخائف لعقوبتك، اللّهُمّ افتح لي أبواب رحمتك واستعملني بطاعتك ومرضاتك)»[15].
2 ـ يظهر من بعض الروايات إنّ جبرئيل هو أوّل مَن بنى البيت، وأنّ الملائكة هي أوّل مَن طاف بالبيت. وهكذا كان الطواف حوله سُنّة الأنبياء وأوّلهم آدم (ع) لكن المعمر الأساسي بعد ذلك كان هو ابراهيم وابنه إسماعيل، وفي رواية أُخرى إنّ الملائكة بُنِي لها بيت في السماء يُسمّى الضراح بأزاء العرش فهي تطوف به، وإنّ هذا البيت بناه آدم بأزاء ذلك[16].
3 ـ وعن الرضا (ع) ـ في علة الطواف ـ إنّ الله تعالى قال للملائكة: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ) (البقرة/ 30)، «فرَدّوا على الله فندموا فلاذوا بالعرش واستغفروا، فأحب الله أن يتعبّد العباد بمثل ذلك»[17].
4 ـ وعن أبي جعفر (ع): «إذا دخلت المسجد الحرام وحاذيت الحجر الأسود فقل: (أشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله، آمنت بالله وكفرت بالطاغوت وباللات والعزى، وبعبادة الشيطان، وبعبادة كل نِدٍّ يُدعى من دون الله). ثمّ ادنُ من الحجر واستلمه بيمينك، ثمّ قل: (بسم الله وبالله والله أكبر، اللّهُمّ أمانتي أديتها، وميثاقي تعاهدته لتشهد لي بالموافاة)»[18].
5ـ وعلّل الإمام الصادق (عليه السلام) وضع الحجر في الركن الذي هو فيه قائلاً: «لعلة الميثاق»... وأمّا القبلة والاستلام فلعلة العهد تجديداً لذلك العهد والميثاق[19].
وبمراجعة الروايات الواردة في الطواف، وكذلك المشاعر التي يشعر بها الحاجّ الواعي نجد أنّ الطواف واستسلام الحجر يمثِّلان أرقى حالات:
أ ـ التسامي الإنساني وذلك لأنّ من الواضح أنّ الملائكة في التصوّر الإسلامي يمثِّلون الموجودات الطاهرة تماماً، العابدة تماماً. والإنسان الطائف يشعر ـ وهو يطوف ـ بأنّه يقلّد الملائكة الطائفين حول (الضراح) وهو البيت الذي يقوم في السماء بإزاء هذا البيت أو حول (العرش) وهو مطاف الكون كلّه. فما أروع إكرام الله للإنسان، وما أروع شعور الإنسان بهذه الكرامة الإلهيّة. خصوصاً وإنّ بعض الروايات تؤكّد أنّ مسألة طواف الملائكة جاء بعد سؤالها الذي ذكره القرآن (أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا) (البقرة/ 30) ثمّ ندمها، فطوافها حول العرش استغفار.
ب ـ التعلُّق بعالم الغيب: تبعاً لذلك التسامي وتأكيداً لنزع الإنسان من التعلُّق بالمادّة لا غير إلى التعلُّق بعالم الغيب عن طريق موجود محسوس جعل رمزاً لعالم الغيب، ومحلاً للاتصال بينه وبين عالم الشهادة، وإنّ من الواضح أنّ الإيمان بالغيب يشكّل أحد أهم مقومات الشخصية المسلمة (يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ) (البقرة/ 3).
ج ـ الغفران المؤكّد: وهذه الحالة الفريدة التي يوجدها الطواف أمر لا يمكن أن يُوصف، بل هو حالة نفسية يدركها مَن يعيشها... موقف خاشع كلّ الخشوع تظلله الرحمة الإلهيّة والعناية الخاصّة، ثمّ ميثاق يمنحه الإنسان للحجر الأسود تلك القطعة التي نزلت من الجنّة فتجسّدت أمام الإنسان تذكره بفطرته وبالميثاق الذي أعطاه بها لله بالإيمان والتسليم... فبالاستلام والتقبيل يتأكد العهد ويتجدّد كما يُعبِّر الإمام (ع). إنّ كلّ عناصر الموقف تشترك في تركيز التوبة وتعميقها خصوصاً إذا تصوّر الحاجّ أنّه يسلك صراط الملائكة في توبتها وإنابتها إلى الله.
د ـ الاتباع لسُنّة الأنبياء: وإذا قيل سُنّة الأنبياء فلا يعني ذلك إلّا الأسلوب الوحيد الذي وضعه الله لتكامل الإنسان، وهذا الاتّباع الحسي والشعوري لابدّ وأن يركّز الاتباع الحياتي بمجموع ما في الحياة من نشاط، ويتم تركيز هذا الشعور عند الطائف بأُمور: منها شعوره وهو يطوف حول الكعبة بأنّه يطأ موطئ الأنبياء جميعاً والأئمّة والصالحين عبر التاريخ... يضع قدماً حيث وضعوا، ويتّجه حيث اتجهوا، ومنها الأدعية التي يستحب له قراءتها آنذاك وقبله حيث استحبّ له التسليم على النبيّ (ص) قبل كلّ شيء، ثمّ التسليم على جميع الأنبياء مع التركيز على سلام خاص بإبراهيم (ع) رمز الحنيفية الصافية، التي لم تلوثها مبتدعات اليهود والنصارى. ومنها هذا المقام الذي يصلي عنده ركعتي الطواف، وحجر إسماعيل الذي يدخله بعد، فيصلّي ويدعو وغير ذلك.
هـ ـ تركيز التوحيد وتعظيمه باعتبار البيت الواحد رمزاً لله الواحد القهار، وباعتبار أنّ الأرض كلّها مكلّفة بالطواف حول هذا المركز الواحد الذي خصّه الله بذلك ليعمّق الإيمان الخالص به تعالى، ويبدو هذا واضحاً من خلال ما يدعو به الطائف عند الطواف من أدعية.
و ـ العمل الجاد في سبيل نشر أضواء الإسلام على العالم: وذلك يمكن أن يستفاد من الروايات التي تجعل الكعبة منار الإسلام وعلمه. فالطائف حول الكعبة جندي يطوف حول العلم ويتمسك به ويعمل على رفعته وتقدّمه، كما يظهر من الروايات التي تشبه الطائفين بالملائكة المطيفين بعرش الله، ومن ملاحظة وجه الشبه وهو كون العرش محور حركة الكون، والكعبة محور حركة الأرض ينطلق المسلم ليحقّق هذا المعنى في الأرض، فينزل أمله في جعل الكعبة محور حركة الأرض إلى واقع التطبيق.
ويرى محمّد أسد (ليو بولد فايس) المستشرق النمساوي المعروف في كتابه (في الطريق إلى مكّة) أنّ الكعبة هي رمز الوحدة الإلهيّة، وإنّ حركة الحاجّ هي التعبير الرمزي عن نشاط الإنسان. وهنا تنسجم المشاعر مع الألفاظ حيث يدعو الطائف (اللّهُمّ افتح لي أبواب رحمتك، واستعملني بطاعتك).
5 ـ السعي بين الصفا والمروة: قال تعالى: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة/ 158). وعن أبي بصير قال: سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: «ما من بقعة أحبّ إلى الله من السعي لأنّه يذلّ فيها كلّ جبّار».
وهناك رواية في (العلل) تربط السعي بسعي أُمّ إسماعيل بين الصفا والمروة لجلب الماء لإسماعيل. وأُخرى تربطه بسعي إبراهيم لطرد إبليس. ومن المناسب التذكير بأنّ الجبلين كانا موضعين لبعض الأصنام وقد تأثم البعض من السعي لذلك فنزلت (فَلا جُنَاحَ).
وروى بعض الأصحاب أنّه قال: «كنت في ظهر أبي الحسن موسى (ع) على الصفا والمروة وهو لا يزيد على حرفين: اللّهُمّ إنّي أسألك حُسن الظنّ بك على كلّ حال، وصِدق النيّة في التوكل عليك».
وإذا لاحظنا هذا تأكد في أنفُسنا أنّ السعي بين الصفا والمروة يعني فيما يعني:
أ ـ ذلة الجبارين، ونزع صفة التجبر والتكبر عن الإنسان لأنّهما رداء الله ولا يمكن أن يلبسهما غيره، وبهذا تفيض كلّ معاني الاستسلام لله الجبار استسلاماً كاملاً. فيصحو الإنسان على واقعه، ويتجاوز كلّ الخيالات الباطلة التي تدور في ذهنه نتيجة للترسبات الجاهلية الخداعة. وما أروع أن نجد المتحكمين يُطلب منهم أن يسعوا، بل ويرملوا في بعض المواضع مكشوفي الرأس لابسين بردي الإحرام فقط ليشعروا حساً بعدم الفرق بينهم وبين غيرهم وبأنّهم عبيد خاضعون له تعالى.
ب ـ السعي ضمن حدود الله: وهذا المعنى يتوجه إليه الحاجّ بوضوح، فيدرك أنّ الفعالية والنشاط، ورفض الكسل والجمود والخمول، والتوكل على الله أمر أصيل في الإسلام؛ ولكن على أن يكون ذلك السعي ضمن الحدود التي وضعها الله على ضوء من المصالح البشرية التي هو أعلم بها.
ج ـ الارتباط اكثر فأكثر بتلك العائلة المقدّسة، عائلة إبراهيم (ع) التي شكّلت حلقة الوصل الحسي بينه وبين النبيّ الأكرم (ص) والذي يؤكّد التلاحم الهدفي بينهما.
فالسعي بين الصفا والمروة تقليد واعٍ لسعي بينهما قامت به هاجر لتجد الماء لابنها إسماعيل جد النبيّ (ص)، فهو شعور بآلام هذه العائلة وآمالها، وهو تحرك لتحركها ووقوف لوقوفها. وكأنّ الجميع عائلة واحدة أبوها إبراهيم (ع) (مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ) (الحج/ 78) وهي الأُمّة التي دعا لها إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان قواعد الكعبة. يقول تعالى في ذلك: (وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَاً وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ). (البقرة/ 125-129).
فيستجيب الله هذا الدعاء ويبعث النبيّ الأكرم (ص) ويقول تعالى في القرآن الكريم: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ) (الجمعة/ 2).
والملاحظ في كلّ هذه الآيات أنّها تطوف حول محور أصيل، وهو التسليم لله تعالى. ولذا تحمّلت هذه العائلة كلّ المشاق تسليماً لله، فكلّ مسلم عاش حياة السلم كان من ضمن هذه العائلة المقدّسة الموحّدة... عائلة خليل الله.
6 ـ الوقوف بعرفة والمزدلفة: قال تعالى: (لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ) (البقرة/ 198).
1 ـ ورد أنّه يوم دعاء ومسألة[20].
2 ـ وجاء عنهم (ع) أنّه «وتعوذ بالله من الشيطان الرجيم فان الشيطان لن يذهلك في موطن قط أحب إليه من أن يذهلك في ذلك الموطن، واياك ان تشتغل بالنظر إلى الناس، وأقبل قِبَلَ نفسك»[21].
3 ـ وتواترت الأخبار في أدعية عرفة ومنها رواية دعاء الحسين (ع) يوم عرفة.
4 ـ وجاء في خبر عن النبيّ (ص) أنّ علة إيجاب الوقوف بعرفات بعد الظهر، والانصراف بعد المغرب، هي كون الوقت الأوّل يناسب وقت عصيان آدم والآخر وقت التوبة عليه[22].
5 ـ وعن معاوية بن عمار عن أبي عبدالله (ع) قال: «أصبح على طهر بعد ما تصلي الفجر فقف إن شئت قريباً من الجبل، وإن شئت حيث شئت، فإذا وقفت فاحمد الله عزّوجلّ، وأثن عليه، واذكر من آلائه وبلائه ما قدرت عليه، وصلّ على النبيّ (ص) ثمّ ليكن من قولك: (اللّهُمّ ربّ المشعر الحرام فك رقبتي من النار، وأوسع عليَّ من رزقك الحلال)»[23].
إلى ما هناك من الأخبار الكثيرة في هذا الصدد. وإذا أردنا أن نتحدّث عن بعض المشاعر التي يشعر بها الحاجّ في هذا الموقف الجليل استطعنا أن نذكر منها ما يلي:
أ ـ فرصة الدُّعاء: فقد رأينا بعض الأخبار التي تؤكّد على الدُّعاء، كما أنّ الروايات الواردة فيما يقرأ آنذاك كثيرة، وكلّها جاءت تشبع رغبة الإنسان في الدُّعاء والتضرع في هذا الموقف الرائع. ولن نحاول هنا التعرّض إلى دور الدُّعاء في حياة الإنسان، وإنّما نشير إليه باعتباره عاملاً مهماً في نفسه لتركيز عبودية الإنسان لربّه خصوصاً، بل ولتركيز كلّ المفاهيم والأخلاق الإسلامية إذا كانت له مضامين عالية كالذي ورد عن الأئمّة (ع) من ثروة دعائية لا تُقدَّر بثمن فإنّها كانت أدعية ركّزت العقيدة الصحيحة، والمفاهيم الحقّة والأخلاق الإسلامية في المسلم، ولنختر بهذه المناسبة أحد أروع الأدعية وهو دعاء الحسين (ع) الوارد في يوم عرفة ونقرأه لنجد الدليل الواضح على ذلك. وهذه فقرات منه:
(اللّهُمّ إنّي أرغب إليك، وأشهد بالربوبية لك، مقراً بأنّك ربّي وإليك مردّي، ابتدأتني بنِعمتك قبل أن أكون شيئاً مذكوراً.. فابتدعت خلقي من مني يمنى، وأسكنتني في ظُلمات ثلاث بين لحم ودم وجلد، لم تشهدني خلقي، ولم تجعل لي شيئاً من أمري، ثمّ أخرجتني للذي سبق لي من الهدى... حتى إذا اكتملت فطرتي واعتدلت مرتي (قوّتي) أوجبت عليَّ حجّتك بأن ألهمتني معرفتك...). (اللّهُمّ اجعلني أخشاك كأنّي أراك، وأسعدني بتقواك، ولا تشقني بمعصيتك، وأخر لي في قضائك، وبارك لي في قدرك، حتى لا أُحبّ تعجيل ما أخرت، ولا تأخير ما عجلت، اللّهُمّ اجعل غناي في نفسي، واليقين في قلبي، والإخلاص في عملي، والنور في بصري، والبصيرة في ديني، ومتعني بجوارحي، واجعل سمعي وبصري الوارِثَينِ مني، وانصرني على من ظلمني.(
ب ـ تذكّر القيامة: وتجسمها بمثل هذا الموقف الرهيب حيث تمتلئ الصحراء بالحجيج في ثيابهم البيض التي تشبه الأكفان، تصهرهم أشعة الشمس، والوجوه كلّها تعنو للحيّ القيوم... إنّ الدُّعاء ليكتسب له معنىً خاصاً في مثل هذا الجو المفعم بالخشوع.
ج ـ التوبة: فقد حدّثتنا بعض الروايات أنّ هذا الوقت يشكّل ببُعديه وقت عصيان آدم ووقت توبته، وهي التجربة البشرية الأُولى التي مرّ بها آدم فندم عليها وتاب الله عليه، وهذا الجوّ الذي أوحت به الروايات وهو القيامة وجو الدُّعاء كلّها تشترك لتركّز مفعول التوبة في النفس، لتكون توبة نصوحاً.
د ـ الحياة الخالصة لله: وهذا المعنى يحسّ به المسلم تماماً حين يجد نفسه وقد ترك كلّ مشاغله ليعيش لله مطهراً نفسه من أدرانها ومعاهداً الله على أن يحوّل حياته بعد الموقف كلّها حياة مرضية له تعالى.
هذا إلى ما هنالك من المشاعر، ومنها شعور الإنسان بعظمة الإسلام الذي يستطيع أن يجمع القلوب والأجسام على صعيد واحد وتذوى حينذاك كلّ التفرقة الوهمية، وشعوره بأنّ هؤلاء جميعاً أينما وجدوا وكانوا هم أخوة له يقفون موقفه، ويدعون بدعائه، ويستهدفون هدفه، وغير ذلك.
7 ـ رمي الجمار: روى الصدوق عن النبيّ (ص) والأئمّة (ع) إنّما أُمر برمي الجمار لأنّ إبليس اللعين كان يتراءى لإبراهيم في موضع الجمار فيرجمه إبراهيم (ع) فجرت بذلك السنة[24].
قال: وقال (ع): الحاجّ إذا رمى خرج من ذنوبه[25]. وروى الكليني عن أبي عبدالله (ع) قال: قلت: ما أقول إذا رميت؟ قال: «كبّر مع كلّ حصاة».
وأهم ما يبدو للإنسان في هذا المنسك الرائع هو هذا الرمي المجموعي لرموز الشيطان واحداً بعد الآخر تعبيراً حسياً عن لزوم نفي الشرّ من الأرض بعد اتّباع طريق الخير، والطواف حول رمز الخير الكعبة. والجميل في الأمر أنّ المسلم يشعر إذ يطوف حول مركز واحد، ويرمي رموزاً للشرّثلاثة، بأنّ طريق الله واحد في حين أنّ طُرق الشيطان متعدّدة.
وباستحباب التكبير له عند كلّ رمية يشترك اللفظ في الموقف ليؤكّد في شعور الإنسان عهده لله تعالى بأن يرمي الشرّ والشيطان ولا يتبعهما، ويبقى وفياً لعقيدته بأنّ الله خالق كلّ شيء وفوق كلّ قوّة.
8 ـ الذبح: وهو جانب مهم من مناسك الحجّ، ويؤكّد على الوجه الاجتماعي للعبادات. إذ أنّ الذبح في كلّ عام يوفِّر للفقراء مقداراً كبيراً من الطعام ـ وإن لم يعمل المسلمون على الاستفادة منه بشكل أحسن ـ على أنّ الحاجّ إذ يقوم بهذا المنسك يتأكد في نفسه عنصر مواساة الفقراء وإطعامهم، وتخليص المجتمع من مآسي الجوع. وهنا يتجلّى أيضاً معنى التضحية العملية التي قام بها إبراهيم (ع) بتقديم وُلده العظيم إسماعيل. وتتوارد خواطر التسليم المطلق لأمر الله، وتتردّد صرخة إسماعيل المسلم (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ) (الصافات/ 102) ممّا يُوجد شعوراً لدى المسلمين بقيمة الأوامر الإلهية، ولزوم التسليم لها حتى لو لم تعلم الحكمة فيها، لأنّها قد صدرت من لدن حكيم خبير.
9 ـ الحلق: في الرواية عن أبي عبدالله (ع) أنّه سُئِل: كيف صار الحلق على الصرورة واجباً دون من قد حجّ؟
قال: «ليصير بذلك موسوماً بسمة الآمنين، ألا تسمع قول الله عزّوجلّ: (لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ) (الفتح/ 27)»[26]، وكأنّ الحلق أصبح علامة للمسلمين تميزهم عن غيرهم. ومن هنا يحلق الحجاج لينضموا إلى الرعيل المؤمن المسلم عبر التاريخ.
وهكذا:
فقد رأينا كيف أنّ الحجّ بنظرة إجمالية، وبنظرة تفصيلية يشكّل أروع الأساليب التربوية التي قام بها الإسلام لتهذيب النفوس وتأكيد سيرها على خطّ التكامل.
[1]- سفينة البحار، عبّاس القمي، ج1، ص211.
[2]- المصدر السابق نفسه.
[3]- المصدر السابق نفسه.
[4]- المصدر السابق نفسه، ص210.
[5]- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج9، ص3.
[6]- المصدر السابق نفسه، ص47.
[7]- المصدر نفسه، ص48.
[8]- المصدر السابق نفسه.
[9]- المصدر نفسه، ص49.
[10]- المصدر نفسه، ص50.
[11]- المصدر السابق نفسه، ص76.
[12]- المصدر نفسه، ص91.
[13]- المصدر السابق نفسه، ص93.
[14]- المصدر نفسه، ص321.
[15]- المصدر السابق نفسه، ص325.
[16]- المصدر نفسه، ص386.
[17]- المصدر نفسه، ص388.
[18]- المصدر نفسه، ص401.
[19]- المصدر نفسه، ص403.
[20]- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 10.
[21]- المصدر نفسه، ج 10، ص15-16.
[22]- المصدر نفسه، ص 24.
[23]- المصدر نفسه، ص 45.
[24]- المصدر نفسه، ص 69.
[25]- المصدر نفسه، ج10، ص68.
[26]- المصدر نفسه، ج10، ص188.
الحج في موكب التاريخ
أحمد الواسطي
الحج – عند البشر جميعاً – هو زيارة جماعية لمكانٍ مقدس، في وقتٍ معلوم، بقصد الشعور باقتراب خاص من المعبود الذي يؤمن به القوم. ويربطون هذه الزيارة بذكريات معيّنة موغِلة في القِدم، تتصل بالمكان الذي يفِدون إليه. هكذا كان الحجّ ولا يزال، فقد قدّس الناس الأشجار والغابات والجبال، والأنهار، والآبار وجعلوا منها أماكن يزورونها جماعات، فيشعرون بالقوّة التي يبعثها في نفوسهم العدد الكثير، وبالطمأنينة لوجودهم معاً في موقف عبادة ذات شعائر خاصة، ونظام دقيق. ومن المؤكد أنّ الإنسان في العصور السحيقة قبل التاريخ، كان يرتاد بقاعاً من الأرض يجد لها رهبة، أو راحة نفسية، أو شفافية روحانية، يحلّق بها في آفاق أسمى من المطالب المادية التي تحاصره، ثمّ تبلور هذا الشعور في العصور التاريخية القديمة: فالمصريون القدماء كانوا يعتقدون أنّ آلهتهم الفرعونية تجتمع في معبد "أوزيريس" بمدينة "أبيدوس" في عيد هذا المعبود، فكانوا يحجّون إليه بهذه المناسبة. وكان الهنود يحجّون إلى المعابد الضخمة بجبال الهملايا، أو على ضفاف نهر الكنج، في "جُمنا"، أو "برندابان" أو في مدينة "بَنارِس" الجليلة القدر عندهم. وفي الصين كانت الجبال المقدسة التي يَؤمّونها للحج كثيرة، خاصة جبال "تاي – تِشان". وفي اليابان حيث تلتقي عبادة أرواح الأسلاف بالطقوس البوذية، في تعايش سلمي منسجم، تقوم معابد (الشِنْتو) – أي تقديس الأسلاف – مستقلة عند المعبد البوذي ومجاورة له: الأولى تسمى في لغتهم "جِنْجا" والثانية "أوتيرا". وأماكن حجّهم على الجبال العالية، ولا سيما جبل "فُوجي ياما". كما يؤمّون المعابد البوذية في مدينة "نارا" حيث أقسم أسلافهم القدماء على تحرير وطنهم من التبعية لامبراطور الصين فأصبح معبدها البوذي مكاناً للحجّ. وفي العراق القديم، كانت كلّ إمارة سومرية أو أكادية في (الألف الرابع قبل الميلاد) تتخذ لها عاصمة: تل العُبيد – الوَرْكاء – أُور – إريدُو – تل خَلَف – نينوى – بال – خفاجي – أرْبِل – كِرْكوك... إلخ، وكان تخطيط العاصمة يبدأ بمعبد مركزي، يمنح المدينة قدسيتها، إذْ يصبح حرماً ومكاناً للحج. وكان هذا المعبد إما مربعاً، إشارة إلى أنّ الله هو المهيمن على الجهات الأربع للعالم: الشرق والغرب والشمال والجنوب، وإما بيضاوياً، يذكر بأنّ الله خالق للحياة، بإرادته تخرج الدجاجة، لتبيض بدورها بمشيئته، فتستمر الحياة. وفي كلّ معبد برج شامخ يسمّونه "زقُّورة" شكله مربع في المعباد المربّعة، ومستدير في المعابد البيضاوية، ينتهي من أعلى بشرفة يرصد منها الكهنة النجوم – وكانوا يعبدونها – ويعلنون بدايات الطقوس الدينية للحجاج. وهكذا كان الحج في إيران القديمة وبلاد الحيثيين في آسيا الصغرى وغيرها من بلدان العالم القديم. وإذا كان إبراهيم الخليل (ع) قد رفع القواعد من بيت الله في مكة المكرّمة، فإنّه لم يَرِد عنه، حتى في المرويّات اليهودية، أنه بنى لله – تعالى – بيتاً آخر في فلسطين، بل يقولون: إنّه مرّ ببلدة "سالم" وهو الاسم الفلسطيني القديم للقدس فنزل ومن معه ضيوفاً على ملكيصادق (ملك الفلسطينيين) وقدّم ملكيصادق ملك (سالم) خبراً ونبيذاً؛ لأنّه كان كاهناً لله العليّ، ثمّ باركه وقال: "مبارك أبرام من الله العلي مالك السماوات والأرض، وتبارك الله العلي الذي دفع أعداءك إلى يديك"[1]. أمّا الساميون فقد كانوا على اختلاف عشائرهم يحجّون إلى أماكن معيّنة في أوقات معلومة. وكان أهم هذه البقاع المباركة عندهم، الجبال والأشجار والآبار وعيون الماء، فنقرأ مثلاً في التوراة: "وهذه هي الرسوم والأحكام التي أعطاك الرب إله آبائك، لتملكها كلّ الأيام، التي تحيونها على الأرض، تقوّضون جميع المواضع التي كانت الأُمم التي ترثونها تعبد فيها آلهتها: على الجبال الشامخة، والتلال، وتحت كل شجرة وارفة، وتُهدّمون مذابحهم، وتكسّرون أنصابهم، وتحرّقون غاباتهم بالنار، وتحطّمون زخارفهم لآلهتهم، وتمحون أسماءهم من ذلك الموضع، حتى لا تصنعوا هكذا نحو الرب إلهكم. بل الموضع الذي يختاره الربّ إلهكم من جميع أسباطكم، ليحلّ فيه اسمه ويسكن فيه، فتؤمونه، وإلى هناك تسيرون، حاملين إليه محرقاتكم وذبائحكم وأعشاركم وتقدمات أيديكم ونذوركم ونوافلكم وبكور بقركم وغنمكم. وتأكلون هناك أمام الرب إلهكم وتفرحون بجميع ما تمتد إليه أيديكم أنتم وبيوتكم، مما بارككم فيه الرب إلهكم"[2]. ولم ينصّ الرب – لا هنا ولا في أي نصّ من كتابهم – على هذا الموضع! أمّا "أورشليم" فلم يكن اسمها قد أُطلق عليها بعد، بل كانت تحمل اسم "سالم" الفلسطيني، ثمّ سميت "يبوس" باسم العشيرة الفلسطينية التي كانت تسكنها، أما "أورشليم" فقد بدأ بناءَها داودُ وأتمّها سليمان، كلّ ذلك بعد موسى بخمسمائة سنة، وهما عند اليهود من الملوك وليسا من الأنبياء، ولا الكهنة! وكان اليهود – أو بنو إسرائيل – يجعلون من الأشجار والجبال والتلال وعيون الماء والآبار مزارات يحجّون إليها ويتبرّكون بها، ويبنون عندها معابدهم[3]. ولا يفوتنا أن نذكر "بئر الحيّ الرائي" بالقرب من الخليل، وقبالة سنديانة قمراً، وكثير من اليهود يحجّون إليها حتى اليوم، لما جاء في التوراة: "وكان بعد موت إبراهيم أنّ الله بارك إسحق ابنه، وأقام إسحق عند بئر الحيّ الرائي..."[4]. كما سبق ذكر التبرك بهذه البئر، إذ تزوج عندها إسحق من رفقة، قبل موت أبويه إبراهيم وسارة[5]. أما معبد "بيت إيل" الذي أقامه يعقوب في أرض كنعان بالقرب من نابلس، فقد كان المكان الأول الذي يحج إليه بنو إسرائيل حتى بعد أن شيّد سليمان الهيكل في القدس، ولم يفقد منزلته هذه إلا بعد انشطار مملكة سليمان نصفين بعد وفاته: السامرة شمالاً وكانت مملكة معادية لأُسرة داود وسليمان في الجنوب، وتسمّي نفسها إسرائيل! واستمرّت في الحجّ إلى "بيت إيل". أمّا أُسرة يهوذا المنحدرة من داود وسليمان فكانت تحج إلى "الهيكل" في أُورشليم، وهو الاسم الذي اشتهرت به منذ سليمان. - الحج قبل الإسلام وبعده: تعدُّ أيام الحج وما بعدها أعياداً تقام بها الأفراح لإدخال السرور إلى قلب الأرباب. ويكون الحج بالدعاء وبمخاطبة الآلهة، غير أنّ بعض الجاهليين كان يحجّ صامتاً أي من دون كلام. وقد تميّز الشهر الذي يقع فيه الحج عن الأشهر الأخرى بتسميته بشهر ذي الحجة وبشهر الحج. وهذه التسمية المعروفة حتى الآن في التقويم الهجري هي تسمية قديمة، كانت معروفة عند العرب قبل الإسلام[6]. وكان هناك عدد من الآلهة يحج الناس إليها في الجاهلية؛ لذلك تعددت بيوت الأرباب. ومعنى هذا أنّ حجّ أهل الجاهلية لم يكن إلى مكة وحدها، بل كان إلى محجّات عديدة أخرى، بحيث حجّ كلّ قوم إلى البيت الذي قدّسوه، والصنم الذي عبدوه وطافوا حوله وتقرّبوا إليه ولبّوا له. وكانت "قريش" تتعبّد لأصنامها في الكعبة، ولكنها كانت تزور "العزّى" وتهدي لها وتتقرّب لها بالذبائح، كما كانت "قُضاعة" و"لَخْم" و"جَذام" و"أهل الشام" يحجّون إلى "الأُقيصر" ويحلقون رؤوسهم عنده. وكانت "مُذْحِج" تحج إلى "يَغوث" كما كانت "طَي" تعبد "الغَلَس" وتهدي إليه. وكانت "ثقيف" تعبد "اللّات" في الطائف. وحجّ الجاهليون إلى بيوت أخرى مثل "بيت نجران" و"بيت ذي الخِلْصة" و"بيت مناة" و"بيت جَهار" و"سُواع شمس"، و"مَحرِق" و"مَرحَب" و"ذُريح"[7]. ولم تكن طقوس الحج إلى مكة واحدة عند كلّ القبائل، بل كانوا يختلفون ويصنّفهم المؤرخون في صنفين عامين هما "الحُمْس" أو "الأحماس" و"الحُلّة" ويضيف البعض صنفاً ثالثاً هم "الطُلْس" أو "الأطلاس". و"الحُمْس" من العرب، وهم قريش كلّها و"خُزاعة" لنزولها مكة، وكلّ من ولدت قريش من العرب، وكل من نزل مكة من قبائل العرب. أمّا "الطُلْس" فهم سائر أهل "اليمن" وأهل "حضرموت" و"عك أياد". أمّا "الحُلّة" فالمفروض أنهم بقية القبائل. والأخباريون يذكرون أنّ الطائفين بالبيت كان صنف منهم يطوف عرياناً، وصنف يطوف في ثيابه، ويعرف من يطوف بالبيت عرياناً بـ"الحلّة". أمّا الذين يطوفون بثيابهم فيعرفون بـ"الحُمْس". وكان "الطُلْس" لا يتعرّون حول الكعبة ولا يستعيرون ثياباً، ويدخلون البيوت من أبوابها ولا يئدون بناتهم. وكان "الحلّة" يقصدون من نزع الثياب طرح ذنوبهم معها ويقولون: إنّهم لا يطوفون في الثياب التي فارقوا فيها الذنوب، ولا يعبدون الله في ثياب أذنبوا بها. وذكر أنّ "الحُلّة" إذا أتمّوا طوافهم تركوا ملابسهم عند الباب ولبسوا ملابس جديدة[8]. وقد منع الإسلام طواف العري في أي وقت، وحتّم على جميع قريش وغيرهم لبس الإحرام. والإحرام قديم عرف عند غير العرب أيضاً. ويظهر أنّ أهل مكة وقريشاً كانوا يلبسون الإحرام أو يعيرونه لغيرهم من العرب إن كانوا من حلفائهم. ومن المحتمل أن "المَعينيين" و"السَبيئيين" و"القَتْبانيين" و"الحَضْرميين" كانوا يطوفون حول معابدهم على نحو ما كان يفعله أهل الحجاز؛ لأنّ الطواف حول بيوت الأصنام من السنن الشائعة بين العرب وعند بني "أرم" و"النبط". وكان الطواف حول البيت الحرام بمكة سبعة أشواط[9]. ومن مناسك الحج: التلبية وهي إجابة الملبّي ربّه وقولهم: لبّيك اللّهمّ لبّيك معناه: إجابتي لك يا رب. وكان الجاهليون يلبّون تلبيات مختلفة، فتلبية قريش كانت: "لبيك اللّهمّ لبيك. لبيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه وما ملك". وتلبية من نسك للعزّى كانت: "لبيك اللّهمّ لبيك، لبيك وسعديك ما أحبنا إليك". وتلبية من عبد اللات كانت: "لبيك اللّهمّ لبيك كفى ببيتنا بنيه ليس بمهجور ولا بلية، لكنه من تربة زكية أربابه من صالحي البرية". وكانت تلبية من عبد "هبل": "لبيك اللّهمّ لبيك إننا لقاح حرمتنا على أسنّة الرماح يحسدنا الناس على النجاح". والتلبية هي من الشعائر الدينية التي أبقاها الإسلام ولكنّه غيّر صيغها القديمة بما يتّفق مع عقيدة التوحيد، فصارت على هذا النحو: "لبيك اللّهمّ لبيك لبيك لا شريك لك لبيك. إنّ الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك لبيك". كما جعلها جزءاً من حجّ مكة بعد أن كانت تتم خارج مكة، إذْ كانت كلّ قبيلة تقف عند صنمها وتصلّي عنده ثمّ تلبّي قبل أنْ تأتي إلى مكة، وذلك بالنسبة لمن كان يحج مكة فأبطل ذلك الإسلام[10]. ومن مناسك الحج السعي بين الصفا والمروة وكان بهما صنمان هما لـ"أساف" و"نائلة" وطواف الحجاج بهما قدر طوافهم بالكعبة أي سبعة أشواط وكانت قريش تقوم بذلك. أمّا غيرهم فلم يطوفوا بهما. وبين "الصفا" و"المروة" يكون المسعى وكان "أساف" بالصفا و"نائلة" بالمروة. وكان أهل مكة يطوفون بـ"أساف" أوّلاً ويلمسونه كلّ شوط ثمّ ينتهون بـ"نائلة" ويلبّون لها. وذُكر أنّ قوماً من المسلمين قالوا: يا رسول الله! لا نطوف بين "الصفا" و"المروة"، فإنّه شرك كنّا نصنعه في الجاهلية، ولما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين، فأنزل الله في كتابه الكريم: (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ) (البقرة/ 158). ويتّضح من الأخبار أنّ الذين كانوا يطوفون بالصنمين ويسعون بينهما هم قريش خاصة؛ لأنها كانت تعبد الصنمين، وليس كلّ من كان يحج من العرب. وقد استبدل الإسلام الطواف بالسعي بين الموضعين. وذُكر أنّ السعي بين "الصفا" و"المروة" شعار قديم من عهد هاجر أُمِّ إسماعيل[11]. ومن مناسك حج أهل الجاهلية الوقوف بـ"عرفة" ويكون ذلك في اليوم التاسع من ذي الحجة ويسمى ذلك اليوم "يوم عرفة". ومن "عرفة" تكون الإفاضة إلى "المزدلفة" ومن "المزدلفة" إلى "منى". وكان الجاهليون من غير قريش يفيضون في "عرفة" عند غروب الشمس وفي "المزدلفة" عند شروقها. ولم يكن "الحَمس" يحضرون "عرفة" وإنما كانوا يقفون "بالمزدلفة"، وقد بدّلَ الإسلام ذلك وأخضع الجميع للوقوف بـ"عرفة". قال تعالى: (ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (البقرة/ 199)، يعني من "عرفة". و"عرفة" موضع على مسافة غير بعيدة عن "مكة". ولابدّ من أنّه كان من المواضع التي قدّسها الجاهليون، وربما كان له ارتباط بصنم من الأصنام. ويقف الحجاج المسلمون موقف "عرفة" من الظهر إلى وقت الغروب. وقد يكون وقوف الجاهليين في "عرفة" وقت الغروب له علاقة بعبادة الشمس، فإذا غربت الشمس اتّجه الناس إلى "المزدلفة" وهي على منتصف الطريق بين "عرفة" و"منى". وفيها يبيت الحجاج ليلة العاشر من ذي الحجة، وقد وصفت في القرآن الكريم بالمشعر الحرام. وكانت الإفاضة منها عند شروق الشمس إلى "منى". وفيها يبيت الحجاج ليلة العاشر من ذي الحجة، وقد وصفت في القرآن الكريم بالمشعر الحرام. وكانت الإفاضة منها عند شروق الشمس إلى "منى". ومن المحتمل أنّ "المزدلفة" كانت من مواضع الجاهلية المقدّسة التي لها صلة بالأصنام[12]. وذُكر جبل بـ"المزدلفة" اسمه "قُزَح"، وهناك صنم يقال له: "قُزَح" وقد تكون له صلة بهذا الموضع. ويذكر أنّه كانت على قُزَح اسطوانة من حجارة مدوّرة محيطها (24) ذراعاً وارتفاعها (12) ذراعاً كانت توقد عليها النيران منذ زمن قصيّ ليلة الجمعة. وعند طلوع شمس اليوم العاشر من ذي الحجة كان الحجاج في الجاهلية يفيضون من "المزدلفة" إلى منى لرمي الجمرات ولنحر العتائر، وإفاضة الجاهليين عند طلوع الشمس له دلالة على عبادة الشمس عندهم[13]. ورمي الجمرات بمنى من مناسك الحج، وهو من شعائر الحج المعروفة في المحجات الأخرى في جزيرة العرب، وكان معروفاً عند غير العرب أيضاً. ويرجع أهل الأخبار مبدأ رمي الجمرات إلى "عمرو بن لحي" وترمى الجمرات على مكان عرف بموضع الجمار بمنى، تتجمع وتتكوّم عنده الحصى، وهي جمرات ثلاث: الجمرة الأولى، وهي جمرات ثلاث: الجمرة الأولى، والجمرة الوسطى وجمرة العقبة. ويرمي المسلمون كلّاً منها بسبع حصي[14]. ومن الشعائر المتعلقة بمنى نحر الذبائح وهي "العتائر" في الجاهلية، والأضاحي أو الهدْي في الإسلام ولذلك عرف هذا العيد بعيد الأضحى. وكان الجاهليون يقلّدون "عتائرهم" بقلادة أو بنعلين يعلّقان على رقبة الحيوان إشعاراً للناس بأنّه للذبح. ولا يحلّ للحجاج في الجاهلية حلق شعرهم أو تقصيره طيلة حجّهم وإلّا بطل حجّهم. ويلاحظ أنّ غير العرب من "الجزيريين" كانوا يفعلون ذلك في المناسبات الدينية. وكانت القبائل لا تحلق شعرها إلا عند أصنامها وذلك بعد النحر مباشرة ولا يجوز أن يتمّ قبله. ولا يقتصر ذلك على الحج إلى مكة، بل يمتد إلى بقية الآلهة فكان الأوس يحلقون شعرهم عند مناة، وكانت "قضاعة" و"لخم" و"جذام" تقصّ شعرها عند "الأُقيصر". ويجوز للحجاج مغادرة "منى" في اليوم العاشر من ذي الحجة، أي في اليوم الأول من العيد، ففي هذا اليوم يكمل الحجاج حجهم، ولكن فيهم من يبقى في هذا المكان حتى اليوم الثالث عشر وذلك إبتهاجاً بأيام العيد[15]. والجدير بالذكر أنّ الإسلام خطا بالضمير الإنساني شوطاً بعيداً في جميع هذه المناسك والعبادات. فالمسلم لا يحج إلى الكعبة ليعزّز فيها سلطان الكهّان أو ليقدّم إليهم القرابين والاتاوات، وإنّما هي فريضة "عبادية – سياسية" للأُمّة وفي مصلحة الأُمّة، وعلى شريعة المساواة بين أبناء الأُمّة، وهي بهذه المثابة فريضة اجتماعية تعلن فيها الأُمم الإسلامية وحدتها، والمساواة بين الكبير والصغير أمام الله وعند بيت الله. وليس المقصود بالضحية في الإسلام أنها طعام للكهان، أو طعام للإله، ولكنها سخاء من النفس في سبيل العبادة، يشير بها الإنسان إلى واجب التضحية بشيء من الدنيا في سبيل الدين، متجشماً لذلك مشقة الرحلة وتكاليفها جهد المستطيع. ويمتاز الحج في الإسلام بدلالته الروحية التي تناسب مقصدها الأسمى من تحقيق الرابطة بين الأُمم، التي تدين بعقيدة واحدة في أرجاء الكرة الأرضية على تباعد مواقعها واختلاف أجوائها وفصولها، فهو رابطة من روابط السماء تؤمن بها أُمم وحدتها العقيدةُ السماوية، وإن فرّقت بينها شتّى المطارح والبقاع. فالحجّ الإسلامي في عصرنا هذا هو الفريضة الوحيدة الباقية من قبيلها في جميع الأديان الكتابية. فهيكل بيت المقدس قد تهدّم منذ القرن الأوّل للميلاد، ولم يرد في الأناجيل المسيحية نصّ على مكان مقدس مفروض على المسيحيين أن يحجوا إليه، وكلّ ما عرف بعد القرون الأولى فإنما اتّبع فيه الخَلْق سُنّة الملكة "هيلانة" أُمّ الامبراطور قسطنطين التي قيل: إنها وجدت الصليب الأصيل في فلسطين عندما توجّهت إليها لزيارة آثار السيد المسيح، وهي قصة يكفي للدلالة على قيمتها التاريخية أنّ رواتها جميعاً نقلوها بعد عصر الملكة "هيلانة" وأنّ مؤرخ العصر الأكبر يوسيبيوس Eusebius لم يشر إليها بكثير أو قليل على شدّة اهتمامه باستقصاء الأخبار التي لا تذكر بالقياس إلى هذا الخبر العظيم. ثمّ تتابعت القرون والدول – المنتسبة إلى المسيحية – وهي تتذرع بالأماكن المقدسة لترويج مطامعها السياسية، فروسيا القيصرية تدّعي حمايتها على مذهب الكنيسة الشرقية، وملوك فرنسا يدّعون حمايتها على مذهب الكنيسة الغربية. ولما ذهب هؤلاء الملوك وتبعتهم دولة الجمهورية "اللاتينية" كانت الغيرة على الحج في عهدها على أشدّها وأقواها، ونشأت في أيامها صحيفة الحاج Pelerin التي بلغ المطبوع من أعدادها مئات الألوف، وامتلأت صفحاتها بأنباء المعجزات والكرامات التي تشاهد في أرض الميلاد، وتظافرت الدولة والكنيسة على ترويجها خدمة لمطامع الاستعمار. ثمّ تقلّبت الأيام حتى رأينا دعاة الاستعمار يسلّمون الأماكن المقدسة إلى أيدي الصهيونيين! أما فريضة الحج الإسلامي فقد بقيت لها رسالتها التي لا عبث فيها ولا موضع للمكر والدسيسة من ورائها، وإنّ رسالتها اليوم في العالم الإسلامي لأعظم وألزم من رسالاتها في جميع الأزمنة؛ لأنها العهد المجدّد في كل عام بين شعوب الإسلام إلى الوفاق والوئام. الهوامش:
[1]- التوراة، سفر التكوين 14: 18-20. [2]- سفر التثنية 12: 1-7. [3]- سفر التكوين 18: 1-14. [4]- التكوين 25: 11. [5]- التكوين 24: 62. [6]- د. جواد علي، مفصل تاريخ العرب قبل الإسلام 6: 190. [7]- المصدر نفسه، ودراسة مستقلة حول أصنام العرب. [8]- المصدر نفسه 198:6. [9]- المصدر نفسه [10]- د. جواد علي، مفصل تاريخ العرب قبل الإسلام 201:6. [11]- د. صالح العلي، محاضرات في تاريخ العرب 75:1. [12]- د. صالح العلي، محاضرات في تاريخ العرب 1: 80-81. [13]- المصدر نفسه.
[14]- المصدر نفسه: 86.
[15]- المصدر نفسه: 86.
الإسلام يركز على النصيحة
يركِّز الإسلام في أخلاقياته، في علاقة المسلم بالله وبالناس وبالحياة كلّها وبالقيادات الشرعية، على النصيحة، وهي أن يبذل الإنسان كلّ جهده ليقدّم النصيحة التي ترفع مستواه، وتربطه بالله وبسلامة المصير، وتبعده عن كلّ ما يُسقط إنسانيته ويبتعد به عن الخطّ المستقيم. وقد كان شعار الأنبياء لشعوبهم وأُممهم، أنّهم يقدّمون إليهم النصيحة، وقدّموا أنفُسهم على أنّهم الناصحون لهم، الأُمناء على إبلاغهم رسالات الله التي تنقذهم وترفع مستواهم.
فنحن نقرأ في كلمات الأنبياء التي نقلها الله تعالى: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ) (الأعراف/ 62). فالنبيّ (ص) لم يأتِ من أجل أن يستغلّ موقعه ليجلب لنفسه نفعاً أو ليحصل على ثروة وما إلى ذلك، وإنما جاء مبلّغاً للرسالة، وناصحاً للأُمّة، حتى تسير في الخطّ الذي يحقّق لها سلامة المصير. ونقرأ أيضاً: (أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ) (الأعراف/ 68). وفي آية أُخرى، عندما بلّغ الرسول (ص) كلّ ما عنده من الرسالة، وقدّم لهم كلّ ما عنده من النصح، ولكنّهم تولّوا عنه، قال: (يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ) (الأعراف/ 79).
وفي حديث رسول الله (ص): «قال الله عزّوجلّ: أحبّ ما تعبّد لي به عبدي النصح لي»، أي أن تكون علاقتك بالله علاقة النصح له. والله لا يحتاج إليك لترشده وتنصحه، ولكنّ النصح لله هو الانفتاح على مسؤولياتك أمامه، في توحيدك له سبحانه في العقيدة والألوهيّة والعبادة والطاعة.
وعن رسول الله (ص): «مَن أصبح لا يهتمّ بأُمور المسلمين فليس منهم ـ بحيث يكون همّ المسلمين همّه، ومشاكلهم مشاكله، فإذا لم يهتمّ بأُمورهم، وعاش الفردية في ذلك، فليس منهم مسلماً ـ ومَن لم يصبح ويمس ناصحاً لله ـ في الإخلاص لمسؤولياته أمام الله ـ ولرسوله ـ في السير على خطّ رسالته ـ ولكتابه ـ للقرآن في العمل به ـ ولإمامه ـ الذي يمثّل القيادة الشرعية ـ ولعامّة المسلمين ـ كلّ المسلمين في كلّ قضاياهم الثقافية والسياسية والاقتصادية والأمنية ـ فليس منهم». فمن لا ينصح المسلمين في ذلك، فإنّه يكون خارجاً عن الأُمّة، ولا يمثّل عضواً صالحاً في مجتمعهم.
وعنه (ص) أنّه قال لأصحابه: «الدّين النصيحة»، فالدين تختصره كلمة النصيحة التي يحملها المسلم المتديّن في عقله وفكره وحركته في الحياة، فقال الأصحاب: «لمن؟»، قال (ص): «لله ولكتابه ولرسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم».
ويقول الإمام الصادق (ع) وهو يتحدّث عن الإمام عليّ (ع) في انفتاحه على واقع المسلمين واهتمامه بسلامتهم واستقامتهم وعزّتهم وكرامتهم: «إنّ عليّاً كان عبداً ناصحاً لله عزّوجلّ فنصحه، وأحبّ الله عزّوجلّ فأحبّه».
وتلك كانت قيمة الإمام عليّ (ع)، أنّه عاش مع الله في كلّ كيانه، فلم يكن في عليّ شيء لنفسه، بل كان بكلّه لله، وقد باع نفسه لله، فأحبّه الله تعالى وأحبّه رسول الله، ولذلك كانت كلمة النبيّ (ص) في واقعة خيبر: «لأعطينّ الراية غداً رجلاً يحبّ الله ورسوله، ويحبّه الله ورسوله». وتلك كانت ميزة عليّ في المسلمين، فلم يكن بين الصحابة ـ كلّ الصحابة ـ مَن ارتفع إلى هذا المستوى من الإخلاص لله ولرسوله وللمؤمنين.
وعن النبيّ (ص): «إنّ أعظم الناس منزلةً عند الله يوم القيامة، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه». هذه المرتبة العليا عند الله، لا يمنحها إلّا لمن تكون حركته في كلّ الأُمور في خطّ النصيحة لخلق الله تعالى، بحيث يدرس كلّ أوضاعهم ويلاحق كلّ حالاتهم، وكلّ ما يمكن أن يرتفع بهم إلى الدرجات العليا في دينهم ودنياهم. وعن النبيّ (ص): «مَن يضمن لي خمساً أضمن له الجنّة: النصيحة لله عزّوجلّ ـ وذلك بأن يخلص لله في كلّ مسؤولياته أمامه ـ والنصيحة لرسوله ـ في السير على سنّته والاقتداء بسيرته والدعوة إلى رسالته ـ والنصيحة لكتاب الله ـ بالعمل بكتاب الله ـ والنصيحة لدين الله ـ بحيث يتحمّل الإنسان الذي يعيش رسالية الدِّين، مسؤوليته في خطّ الدعوة إلى الله ومسؤولية تعليم الناس والسير بهم في الخطّ المستقيم ـ والنصيحة لجماعة المسلمين»، بحيث يعيش الاهتمام بأُمورهم ويواجه واقعهم بمسؤولية.
ونقرأ في حديث الإمام الصادق (ع): «يجب للمؤمن على المؤمن ـ كتكليف شرعي ملزم ـ النصيحة له في المشهد والمغيب». وعنه (ع): «عليكم بالنصح لله في خلقه ـ لأنّك إذا نصحت خلق الله وعباده، فقد نصحت لله، لأنّ الله يريد لك أن تكون الناصح لعباده بما يقرّبهم إليه ويرفع مستواهم عنده، وبما يحقّق لهم النتائج الكبرى في سلامة المصير ـ فلن تلقاه بعمل أفضل منه»، فإنّ النصح لله في خلقه، هو العمل الأفضل الذي لا عمل فوقه في حركة الإنسان في الواقع. وعن النبيّ (ص): «أنسك الناس نسكاً، أنصحهم جيباً ـ بأن يكون صدره مفتوحاً بالنصيحة للمسلمين ـ وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين»، فلا يحمل في قلبه أيّ حقد عليهم في أيّ أمر من الأُمور.
وقد كان الإمام عليّ (ع) يخاطب المسلمين في خلافته، فيؤكّد لهم ما هو حقّ الإمام على الأُمّة، وما هو حقّ الأُمّة على الإمام: «أيّها الناس، إنّ لي عليكم حقّاً ولكم عليّ حقّ، فأمّا حقّكم عليّ فالنصيحة لكم... ـ أن أنصح لكم وأرشدكم وأنفتح على كلّ قضاياكم، بما يمكن أن يحقّق لكم الخير والسعادة والسلامة ـ وأمّا حقي عليكم، فالوفاء بالبيعة والنصيحة في المشهد والمغيب».
ونقرأ في كلمته (ع) وهو يتحدّث عن الصالحين من أصحابه: «أنتم الأنصار على الحقّ، والإخوان في الدِّين، فاعينوني بمناصحة جليّة لا غشّ فيها».
ويقول (ع) وهو يوجّه الناس إلى الارتباط بالقرآن، والانفتاح على آياته واتّباع كلّ تعاليمه: «اتّعظوا بمواعظ الله، واقبلوا نصيحة الله، واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغشّ، فاستنصحوه على أنفُسكم، واتّهموا عليه آراءكم، واستغشوا فيه أهواءكم».
إنّ كلّ هذه الكلمات الواردة في الكتاب والسنّة، تريد من مجتمعنا أن يكون مجتمعاً يعيش المسؤولية تجاه كلّ أفراد المجتمع، بحيث يعمل كلّ إنسان على تحريك فكره ليدرس ما يحتاجه المسلمون، ممّا يمكن أن يحقّق لهم الخير والقوّة والسلامة، ولاسيّما في المواقع التي يواجهون فيها التحدّيات الكبرى من قبل المستكبرين، الذين يكيدون لهم، ويعملون على مصادرة كلّ واقعهم. إنّ القضية أنّ كلّ واحد من المسلمين مسؤول عن كلّ المسلمين: «كلّكم راع، وكلّ راع مسؤول عن رعيته». إنّ الأُمّة الإسلامية تمثّل وحدة في المصير والمسير، وعلينا أن نرتفع إلى مستوى هذه الوحدة لنعيش همّ المسلمين، لنؤكّد القوّة في كلِّ واقعهم.
آداب الحجّ في كلام الإمام السجّاد (ع)
محمّد عبدالله فضل الله
الحجّ وفادة طيِّبة ومباركة على ربّ العالمين، حيث يتجلّى التوحيد في هذه العبادة مزيداً من التوجّه الصادق والتطهّر المخلص والسموّ بالروح، وعقد العزم على مواصلة العمل الصالح.
فالحجّ عبادة متعدِّدة الدروس والأبعاد، تنفتح بعقل الإنسان ومداركه على كلّ خير وعدل ورحمة وموقف حقّ، وعلى كلّ ما يبني الروح الجماعة المتضامنة التي تحسّ ببعضها البعض، وتعمل على تأكيد التكافل بينها كأُمّة متوحِّدة بالله مستفيدة من كلّ طاقاتها.
ولهذه العبادة آثارها الروحية والمعنوية والأخلاقية الكبيرة في حياة الفرد والجماعة. قال أمير المؤمنين عليّ (ع): «والحجّ تقوية للدِّين»، عندما يعيش الفرد والجماعة روح التسامح والوحدة والانفتاح والتواصل.
وفي الحديث عن الإمام الرضا (ع) قال: «إنّما أُمِروا بالحجّ لِعِلَّةِ الوِفادة إلى الله عزوجل»، إلى أن قال: «وَحَظْرِ النفس عن اللَّذّات».
وفي رواية طويلة معروفة برواية الشبلي، يشير الإمام السجاد (ع) إلى الآداب المعنوية للحجّ.
قال الإمام السجاد (ع) لأحد أصحابه الشبلي: «حجّجت يا شبلي؟»، قال: نعم، يابن رسول الله. فقال (ع): «أَنَزلْتَ الميقات وتجرّدت عن مخيط الثياب واغتسلت؟». قال: نعم. قال (ع): «فحين نزلت الميقات، نويت أنّك خلعت ثوب المعصية، ولبست ثوب الطاعة؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين تجرّدت عن مخيط ثيابك، نويت أنّك تجرّدت من الرياء والنفاق والدخول في الشبهات؟»، قال: لا.
قال (ع): «فحين اغتسلت، نويت أنّك اغتسلت من الخطايا والذنوب؟»، قال: لا. قال (ع): «فما نزلت الميقات، ولا تجرّدت عن مخيط الثياب، ولا اغتسلت!».
قال الإمام السجاد (ع): «تنظّفت وأحرمت وعقدت بالحجّ؟». قال: نعم. قال (عليه السلام): «فحين تنظّفت وأحرمت وعقدت الحجّ، نويت أنّك تنظّفت بنور التوبة الخالصة لله تعالى؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين أحرمت، نويت أنّك حرّمت على نفسك كلّ محرّم حرّمه الله عزّوجلّ؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين عقدت الحجّ، نويت أنّك قد حللت كلّ عقد لغير الله؟»، قال: لا. قال (ع) له: «ما تنظّفت ولا أحرمت ولا عقدت الحجّ!».
قال الإمام السجاد (ع) للشبلي: «أدخلت الميقات وصلّيت ركعتي الإحرام ولبّيت؟»، قال: نعم. قال (ع): «فحين دخلت الميقات، نويت أنّك بنيّة الزيارة؟»، قال: لا. قال (ع): «فحين لبّيت، نويت أنّك نطقت لله سبحانه بكلّ طاعة، وصمتَ عن كلّ معصية؟»، قال: لا. قال (ع) له: «ما دخلت الميقات... ولا لبّيت!».
ممّا قاله أيضاً الإمام السجاد (ع) للشبلي: «طفت بالبيت ومسست الأركان وسعيت؟»، قال: نعم. قال (ع): «فحين سعيت، نويت أنّك هربت إلى الله، وعرف منك ذلك علّام الغيوب؟»، قال: لا. قال (ع): «فما طفت بالبيت ولا مسست الأركان ولا سعيت!». قال (ع) له: «أسعيت بين الصفا والمروة، ومشيت وتردّدت بينهما؟»، قال: نعم. قال (ع) له: «نويت أنّك بين الرجاء والخوف؟»، قال: لا. قال (ع): «فما سعيت ولا مشيت، ولا تردَّدت بين الصفا والمروة!».
وقال الإمام السجاد (ع) للشبلي: «هل عرفت بموقفك بعرفة معرفة الله سبحانه أمر المعارف والعلوم، وعرفت قبض الله على صحيفتك واطّلاعه على سريرتك وقلبك؟»، قال: لا. قال (ع): «فما وقفت بعرفة!».
وممّا قاله (ع) للشبلي أيضاً: «فنويت عندما وصلت منى ورميت الجمار أنّك بلغت إلى مطلبك، وقد قضى ربّك لك كلّ حاجتك؟» قال: لا. قال (ع): «فعندما رميت الجمار، نويت أنّك رميت عدوّك إبليس وغضبته بتمام حجّك النفيس؟»، قال: لا. قال (ع): «فعندما حلقت رأسك، نويت أنّك تطهّرت من الأدناس ومن تبعة بني آدم، وخرجت من الذنوب كما ولدتك أُمّك؟»، قال: لا.
قال (ع): «فعندما ذبحت هديك، نويت أنّك ذبحت حنجرة الطمع بما تمسّكت به من حقيقة الورع، وأنّك اتّبعت سنّة إبراهيم (ع) بذبح وُلده وثمرة فؤاده وريحان قلبه، وأحييت سنّته لمن بعده، وقربه إلى الله تعالى لمن خلقه؟»، قال: لا.
قال له الإمام زين العابدين (ع): «فما وصلت منى، ولا رميت الجمار، ولا حلقت رأسك، ولا أدّيت نسكك... ولا تقرّبت، ارجع فإنّك لم تحجّ!». فطفق الشبلي يبكي على ما فرّطه في حجّه، ومازال يتعلّم حتى حجّ من قابل بمعرفة ويقين.
نتعلّم من فحوى ما ورد عن الإمام السجاد (ع)، ونحن في زمن الحجّ إلى الله، أن نفد عليه ونحن مطهَّرون من كلّ ما اكتسبناه من آثام، وأن نعقد العزم على عدم العودة إلى ارتكاب المعاصي عبر التوبة الخالصة النصوح، وأن نلبس ثوب الطاعة الحقيقية لله في السرّ والعلن، فنبتعد حقيقةً عن الرياء والعصبية والنفاق، ونبتعد عن الشبهات في مواقفنا وعيشنا وعقيدتنا، وأن نعاهد الله على التزام ما أمر والانتهاء عمّا نهى، وأن نهاجر إلى الله ونهرب إليه من كلّ ما يلوّث نفوسنا ويسقط عزّتنا، وأن نرجو دوماً رحمة الله، فنسعى إليها بأفعالنا وأقوالنا، وأن نخاف الله، فنراقب أنفُسنا ونحاسبها، وأن نعي حقيقة وقوف الله على كتاب أعمالنا في السرّ والعلانية.
نتعلّم أيضاً التطهّر من الذنوب، ورجم كلّ تصرف شيطاني يمكن أن يصدر عنّا، وأن نرمي أعداء الله بكلّ ما نستطيعه من قوّة، ونتمسّك بالورع والتقوى وهجران الذنب والأطماع والأهواء، عندها قد نحقّق بعضاً من معنويات عبادة الحجّ التي تعدّ من أهمّ العبادات في الإسلام.
هذه من جملة وصايا الإمام زين العابدين (ع)، حيث يدعونا أئمّتنا كي نتربى على القيم والمفاهيم العبادية السليمة التي تفتح قلوبنا وعقولنا على الخير كلّه، والبركة كلّها، وعلى فضل الله ورضوانه في الدُّنيا والآخرة.►
في ذكري وفاة السيدة ام البنين
نسب ام البنين
أم البنين هي فاطمة بنت حزام ، بن خالد ، بن ربيعة ، بن عامر ، بن كلاب ، بن ربيعة ، بن عامر ، بن صعصعة الكلابيّة ، فهي تنحدر من بيت عريق في العروبة و الشجاعة ، و قال عنها عقيل بن أبي طالب : ليس في العرب أشجع من آبائها و لا أفرس .
زواجها
تزوَّجها سيّدنا و مولانا الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السَّلام ) ، بإشارة من أخيه عقيل بن أبي طالب لكونه عالماً بأخبار العرب و أنسابهم ، حيث كان قد طلب منه الإمام ( عليه السَّلام ) أن يختار له امرأةً قد ولدتها الفحولة من العرب ليتزوّجها فتلد له غلاماً فارساً ، فاختارها له و قال الطبري : ثم تزوّج ـ أي علي ( عليه السَّلام ) بعد فاطمة ( عليها السلام ) ـ أم البنين بنت حزام ، و هو ـ أي حزام ـ أبو المجل بن خالد ، بن ربيعة ، بن الوحيد ، بن كعب ، بن عامر ، بن كلاب ، فولدها لها منه : العباس و جعفر و عبد الله و عثمان ، قتلوا مع الحسين ( عليه السلام ) بكربلاء ، و لا بقية لهم غير العباس 1 .
أم البنين و الشعر
كانت اُم البنين شاعرة فصيحة ، تخرج بعد مقتل الحسين ( عليه السَّلام ) و مقتل أولادها الأربعة كلّ يوم إلى البقيع و معها عبيد الله ولد ولدها العباس ، فتندب أولادها ـ خصوصاً العباس ـ أشجى ندبة ، فيجتمع الناس فيسمعون بكاءها و ندبتها ، و كان مروان بن الحكم على شدّة عداوته لبني هاشم يجيء في مَن يجيء ، فلا يزال يسمع ندبتها و يبكي .
من جملة رثائها
يا مَن رأى العباسَ كَرَّ *** على جمـاهيرِ النَقد
و وراه مِن أبناءِ حيدر *** كـلّ لـيثٍ ذي لبـد
أُنبئتُ أنّ ابني اُصيبَب *** برأسـهِ مـقطوع يد
ويلي على شبلي آمالَ *** برأسه ضَـربُ العَمد
لو كان سيفُكَ في يدك *** لمـا دنـا منك أحـد
و من مراثيها أيضاً
لا تَدعـونِّي ويـكِ اُم ّ البنين *** تُـذكّرينـي بليـوث العَرين
كانت بنـون لـي اُدعى بهم *** و اليوم أصبحتُ و لا من بنين
أربعـةُ مـثل نسـور الرُبـى *** قد واصلوا الموت بقطع الوتين
تُنـازع الخرصـان 2 أشـلاءَهم *** فكلُّهـم أمـسى صريعاً طعين
يـا ليت شعـري أ كما أخبروا *** بـأن عبّـاساً قطيـع اليميـن
موقفها البطولي الرائع
لم تحضر أم البنين واقعة الطف ، إلاّ أنّها واست أهل البيت ( عليهم السلام ) و ضحَّت من أجل الدفاع عن الدين الإسلامي بتقديم أولادها الأبطال الأربعة فداءً للحسين ( عليه السَّلام ) و لأهدافه السامية .
ثم واصلت جهادها الإعلامي بعد مقتل سيد الشهداء و وصول أهل البيت ( عليهم السلام ) إلى المدينة المنورة ، فكانت تخرج كل يوم إلى مقبرة البقيع و معها عبيد الله ولد ولدها العباس ، فتندب أبناءها الأربعة أشجى ندبة ، فيجتمع الناس إليها فيسمعون بكاءها و ندبتها و يشاركوها العزاء ، كما كانت تقيم مجالس العزاء في بيتها فتنوح و تبكي على الحسين ( عليه السَّلام ) و على أبنائها الشهداء الأربعة ، و لم تزل حالتها هذه حتى التحقت بالرفيق الأعلى .
وفاتها
تُوفيت هذه السيدة الجليلة في الثالث عشر مِن جمادى الآخرة سنة : 64 هـجرية في المدينة المنورة و دُفنت بالجانب الغربي من جنة البقيع حيث يتوافد الزائرون لزيارة مرقدها الطاهر.
ولائها للإمام الحسين ( عليه السَّلام )
كانت أم البنين تحب الحسين ( عليه السَّلام ) و تتولاه إلى حدّ كبير يفوق المألوف ، و مما يدلّ على ذلك موقفها البطولي لدى وصول خبر إستشهاد الإمام الحسين ( عليه السَّلام ) إلى المدينة ، الموقف الذي لا ينمحي من ذاكرة التاريخ أبداً ، هذا الموقف الذي رفع من شأنها و منحها منزلة رفيعة في قلوب المؤمنين .
يقول المامقاني في تنقيح المقال : و يستفاد قوّة إيمانها و تشيّعها من أنّ بشراً بعد وروده المدينة نعى إليها أحد أولادها الأربعة .
فقالت ما معناه : أخبرني عن أبي عبد الله الحسين ( عليه السَّلام ) ، فلمّا نعى إليها الأربعة .
قالت : قطّعت نياط قلبي ، أولادي و مَن تحت الخضراء كلّهم فداء لأبي عبد الله الحسين ( عليه السَّلام ) ، فإنّ عُلْقَتِها بالحسين ليس إلاّ لإمامته ( عليه السَّلام ) ، و تهوينها على نفسها موت مثل هؤلاء الأشبال الأربعة إن سَلِمَ الحسين ( عليه السَّلام ) يكشف عن مرتبة في الديانة رفيعة ،
- تاريخ الطبري : 5 / 153 .
- الخرص من الرماح : رمح قصير يتخذ من خشب منحوت ، و قد يقال لدقاق القناة و قصارها : خرصان ، انظر : العين : 4 / 184 ، للخليل بن أحمد الفراهيدي البصري ، المولود سنة : 100 هجرية بالبصرة ، الطبعة الثانية ، سنة : 1410 هجرية ، دار الهجرة ، قم / إيران .