
emamian
مفاهيم الحجّ وبناء الإنسان
موسم الحجّ هو موسم الارتحال إلى الله في تصفية دائمة للقلب والعقل مما علق بهما من تأثيرات الدنيا ومظاهرها، وما أكثرها! في هذا الموسم، يعمل المؤمن المخلص على تعزيز حضور الله تعالى في عقله وقلبه، وفي كلّ ساحات الحياة، متمثّلاً لمعاني الحجّ ومفاهيمه الجليلة، سلوكاً متجذّراً يمتد معه مدى العمر، في إجابة وتلبية دائمة لنداء الله تعالى في التزام ميثاقه وحدوده.
وفي أجواء الحج، لا بدَّ لنا من أن نركّز مفاهيمه في نفوسنا، وإلى ذلك يشير سماحة المرجع السيد محمد حسين فضل الله(رض) بقوله: "لا بدَّ لنا من أن ندرس المفاهيم الَّتي يريد الله سبحانه وتعالى للإنسان أن يركّزها في عقله وقلبه، وأن يحركها في حياته من خلال الحج، لأنّ الحجّ كأيّة عبادة من العبادات، ليس مجرّد كلمات وحركات ووقوفات، ولكنّ العبادة، صلاة كانت أو صوماً أو حجاً، تستهدف بناء إنسانيَّة الإنسان للارتفاع بعناصر إنسانيَّته في انفتاحه على ربّه.
فالمطلوب من الإنسان في هذه الحياة في كلّ الرسالات، أن يتقرّب إلى الله، وأن يعيش معه، ويفكّر فيه، وأن يذكره، وأن يتعبَّد له، وأن يطيعه، وأن يجعل دنياه في كلّ معانيها تجربة لما يحياه في الآخرة، وذلك بأن تكون دنياه لله، لتكون الآخرة في جوار الله".
إذاً، الارتفاع بإنسانية الإنسان، وتقوية عناصر شخصيته وربطها بأصالة هويتها وقيمتها في انفتاحها على ربها ومواقع مرضاته، هو من الأبعاد الحقيقية والأساسية لموسم عبادة الحج.
وكتاب الله تعالى هو المحور في استنطاق العبد لنداءات ربّه في الحج وغيره من العبادات، وهذا ما يذكره سماحة المرجع السيد فضل الله(رض) بقوله: "في هذه الأجواء، نحتاج إلى أن نستنطق كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهو الأساس في العقيدة، فآياته هي التي تؤكد لنا أصالة العقيدة والمفاهيم المتصلة بالشريعة، وبالمنهج وبالحركة، وإن آياته هي التي تضيء لنا النور في كل ظلمات اختلاط المفاهيم والأفكار، لذلك، نريد أن نستنطق القرآن في مسألة الحج فيما يريد الله للإنسان أن يعيه.. فهل يكتفي الله منّا بمناسك الحج كجسد يحتوي أعضاءه، أو أن هناك روحاً للحج، فمن لم يدخلها في عقله ومن لم يدخلها في قلبه فإنه لم يحجّ؟".
وهذا كتاب الله تعالى يوضح جملة من المفاهيم على الإنسان أن يتدبرها ويعيها بعقله وقلبه {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ}[الحج: 197]. وفي تفسير الآية، يقول سماحة المرجع المفسّر السيد فضل الله(رض): "فالإحرام للحج يشرع في شوال وذي القعدة وذي الحجة... {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، فالحج هو فترة السلام، والجدال يعبّر عن خصومة وعن نزاع، فأنت تجادل فيما يغلب على الجدال الإنساني من الثأر للذات أو الثأر لما يعرض على الذات من العصبيات، ولذلك يريد الله تعالى أن تجاهد نفسك".
هنا، يعيش الإنسان معنى السلام الحقيقي في نفسه ومع الآخرين، هذه النقاط الثلاث تتصل بالإنسان الآخر [الرفث، الفسوق، الجدال]، ويتحدث سماحته(رض) عن ذلك بالقول: "ونلاحظ أنّ هذه النقاط الثلاث تتصل بالإنسان الآخر، ما يوحي بأن الله يريد لك في حركتك في الحج أن تكون الإنسان الذي يعيش مع الإنسان الآخر، بعيداً عن لذته كما مع المرأة، وبعيداً عما يؤذي الآخر فيما تمثّله المعصية من إساءة إلى الإنسان والحياة أو الجدال فيما يعبّر عنه من خصومات..
ثم أراد الله تعالى في هذا المجال أن تنفتح على الخير، فكأنه يقول لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج، وإنما الحج الخير، اعمل خيراً في كلماتك، وخيراً في علاقاتك بالناس، وفي كل ما تعبِّر به عن مسؤوليتك في الحياة {تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ} حتى لو فعلتموه في السرّ، لأن السرّ والعلانية يستويات عند الله.
والحجّ موسم يؤكّد فيه المؤمن تقواه، ويعاهد نفسه وربّه على الاستزادة منها، والتزوّد بها كسلاح يواجه بها الفرد والجماعة كل ما يعترض مسيرتهم في الوجود من تحديات.".
ويضيف سماحته(رض): "{وَتَزَوَّدُواْ}، ففكِّر وأنت في الحج أنك بحاجة إلى زاد تقدّمه يوم القيامة، حيث لا زاد إلا التقوى، ولذلك، حاول وأنت تتحرك نحو الحج وأنت تعيش داخله أن تحصل على التقوى بأن تتقي الله تعالى من موقع حبّك له وحبّ رضاه، ومن موقع خوفك منه لتبتعد من غضبه.. وحاول أن تحاسب نفسك في الحج حتى تكتشف ما في نفسك من عناصر الانحراف، وحاول أن تجاهد نفسك وتحاكمها من أجل أن تخرج إنساناً تقياً منفتحاً على الله سبحانه وتعالى.
{فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ}، فهو يريد أن يؤكد المسألة وأن يربطها بنفسه {يا أولي الألباب} يا أولي العقول، فإذا كان لك عقل تفكّر فيه، فإنَّ عقلك يقول: أيها الناس، إن نهاية المطاف عند الله،كما كانت بداية المطاف من الله، فعندما تتقوم الله في مواقع رضاه فتعملونها وتتقون الله في مواقع غضبه، فتتركونها تحرزون عقلانية الحركة وعقلانية العمل، لأن العمل يقودك إلى ما ينقذ نفسك وإلى ما يركّز مصيرك".
فالمسألة هي في العمل الصالح النافع الذي يعود خيراً وسلاماً ورحمة على الفرد والجماعة، وهو ما يكون أشدّ جلاءً ووضوحاً في ذكر الله، واستحضاره على الدوام في وجدان المرء، وفي هذا السياق، يقول المرجع السيد فضل الله: "{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ} استحضر وأنت تذكر الله تعالى كيف كنت ضالاً فهداك، وكيف كنت منحرفاً فدلّك على طريق الاستقامة، واحمد ربّك واشكره على الهداية...
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ}، استحضر دائماً نعمة الهداية، فإذا عشت معنى النعمة فيها، كان ذلك حافزاً لك بأن تحوطها من كل ضلال وتحرسها من كل سارق حتى تستمر بها، لأنَّ الإنسان إذا غفل عن نفسه وعن هداية ربه، فقد يسرقها السارقون وقد يصادرها المنحرفون من حيث لا تدرون ولا تشعرون".
ويتابع في السياق ذاته: "{وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ} أي قبل هذا الهدى، {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}، فعندما تريدون أن تتحركوا من موقع إلى موقع فكونوا مع الناس الذين يكبّرون والذين يلبّون والذين يخشعون والذين يخضعون، فإنك عندما تعبد الله في هذا الجو الجماعي الصارخ بالله، الملبي لله، الخاشع لله، المهاجر إلى الله، فإنك تزداد بذلك روحانية وتشعر بنفسك أنك جزء من أمة وجزء من مجتمع".
وذكر الآخرة من صميم حسابات المؤمن، فهو دائم الذكر لهذا الموقف، لذا هو يذكر مواقفها ويعمل لها، وحول هذه النقطة يقول سماحته(رض): "وأما الآخرة، فهو في غفلة عنها حتى في ذلك الموقف. إنه يذكر الله حتى يعطيه الدنيا، أما أن يطلب من الله الآخرة، فهذا ليس وارداً في حساباته، ولكن هناك أناساً يعرفون أن الله أراد للإنسان أن يوازن بين الدنيا والآخرة، ففي الحديث: "ليس منّا من ترك دنياه لآخرته، ومن ترك آخرته لدنياه.
والله تعالى يقول {وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا}[القصص:77]، {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ}[البقرة: 200]، لأنه لم يذكر الآخرة ولم يعش اهتمامات الآخرة، فليس له فيها نصيب، لأن نصيب الآخرة للذين يفكّرون في الآخرة ويعيشون همّها، كما قال الإمام علي(ع): "فليكن سرورك بما قدّمت وأسفُك فيما خلّفت من فرص، وهمّك فيما بعد الموت".. فمن لم يعش هم الآخرة فإنه لا يستعد ولا يعمل لها، ومن لا يعمل للآخرة، فكيف يحصل على النتائج الإيجابية فيها؟".
ومن معاني التلبية الأصيلة للإجابة الدائمة لنداء الله تعالى على المستويات كافة، وحول ذلك يتابع سماحته(رض): "وأنت تلبّي ربّك وتشهده أنك تستجيب له، تستحضر {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ}، وتستحضر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ}، وتستحضر {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ}، وتستحضر كل نداءات الله في وعيك، وتعطيه عهداً أنك من هنا تبدأ الاستجابة له، والله تعالى يقول {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ}، بأن تنطلق في هذا الاتجاه لتتحرك من جديد، ولتكون حياتك إجابة دائمة لله فيما ألزمك به وفيما حرّمه عليك".
تبقى الهجرة إلى الله، وفيها يختم سماحته(رض) بقوله: "فيا ربنا إننا في الطريق إليك، هاجرنا إليك كما قال إبراهيم(ع) {وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ}، فاجعل هجرتنا في الحياة ونحن نسير إليك هجرة عقولنا إليك، لتلتقي بالحق فيما تتحرك به، وهجرة قلوبنا إليك لتكون عاطفتها عاطفة الحق، وهجرة كل جسدنا إليك حتى يكون وقفاً على طاعتك وبعيداً عن معصيتك. وبذلك نحجّ ولا نكون كما جاء في الكلمة المأثورة "ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج".
وفي نهاية المطاف، نلتقي بقول أحد أئمة أهل الكتاب(ع): "لا يعبأ الله بمن أمّ هذا البيت إذا لم يكن فيه خصال ثلاث: ورعٌ يحجزه عن معاصي الله، وخلقٌ يداري به الناس، وحلمٌ يردُّ به جهل الجاهل".. بأن تأتي من الحج لتكون الورع الذي يحجزك ورعك عن معاصي الله فيما تستقبل، وأن تكون إنساناً تداري الناس فلا تثير حساسياتهم، وأن تكون حليماً تردّ جهل الجاهل بالعفو والمغفرة {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا}. [مصدر كلام السيد:الندوة،ج3، ص 120 وما بعدها].
وأذِّن في الناس بالحجّ
{وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}، وأعلن ذلك في كلّ نداءاتك، كتشريع تقرّره وتثبته، لا مجرد صوت تطلقه، ليشعروا ـ من خلال ذلك ـ بأنّ هناك إلزاماً إلهيّاً يدفعهم إلى الامتثال، ويقودهم إلى الطاعة، فـ {يَأْتُوكَ رِجَالاً} راجلين سائرين على أقدامهم، {وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} أي بعير مهزولٍ من شدّة التعب والجهد، {يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَميِقٍ} أي طريق بعيد، لما توحيه كلمة العمق من امتداد ضارب في المجهول، {لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ} في ما يحصلون عليه من خلال الحجّ من منافع دنيوية يحققها لهم اجتماعهم على مستوى التعارف والتبادل والتعاون والتشاور في المشاكل التي يعيشونها فكراً وواقعاً، عبر ما يثيرونه من قضايا، وما يحدّدونه من أهداف، وما ينتظرونه من حلول.
وبذلك، تسقط الحواجز المادية والنفسية التي تضعها الفواصل العرقية واللونية والقومية بين الناس، ليلتقوا على صعيد واحد، هو الإيمان بالله، والسير على منهجه، والالتزام بدينه، والجهاد في سبيله، طلباً لرضاه، ما يوفّر لهم الخروج من الدوائر الضيّقة التي يحبسون حياتهم فيها، لينطلقوا إلى الدائرة الواسعة التي تحتويهم جميعاً، مما ينقذهم من مشاكل التجزئة في حلّ القضايا العامة التي قد يستغرقون معها في خصوصياتهم، فيسيئون بذلك إلى تلك القضايا من حيث يريدون أو لا يريدون، لابتعادهم عن الأسس التي ترتكز عليها القضايا الإسلامية لجهة علاقتها ببعضها البعض، وارتباطها بالهدف الكبير الذي يتحرك فيه الإسلام في الحياة.
وهكذا، تتواصل المنافع الدنيوية في رحاب الحجّ، لتصل إلى مستوى توحيد الموقف السياسي، والتصوّر الفكري، وتحقيق التكامل الاقتصادي، والمواجهة الموحدة للقوى الطاغية وغيرها. وهذا ما يمكن الوصول إليه في هذا المؤتمر العالمي السنوي الذي يتشكل بطريقةٍ عفويةٍ، امتثالاً لأمر الله في العبادة، ليمتدّ إلى امتثال أمره في حركة الإنسان في الواقع.
أما المنافع الروحية التي تتداخل ـ في أكثر من موقع ـ مع المنافع الماديّة، فتأتي من التشريعات الإسلامية المتصلة بواجبات الحجّ المتنوّعة التي تحقّق لكلّ جانب من جوانب شخصيّة الإنسان، حركة روحيّة تغذّي فيه علاقته بالله وإخلاصه له، وشوقه للوصول إلى درجات القرب عنده في دار النعيم.
وهكذا يريد الله للناس في الحجّ أن يأتوا إلى رحاب البيت، ليشهدوا ـ من مواقع الوعي والمعاناة ـ المنافع التي يجدونها أمامهم عند الوصول، أو التي يحقّقونها بعده، {وَيَذْكُرُواْ اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَـاتٍ}، هي أيّام التشريق التي تبدأ من يوم الأضحى حتى الثالث عشر من ذي الحجة، على ما ذكر في أحاديث أئمة أهل البيت(ع)، أو هي أيام الحجّ.
{عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام} من الإبل والبقر والغنم، إذا ذبحوها أو نحروها في نسكهم، حيث جعل الله ذلك تعبّداً منهم له تعالى، لتكون قرباناً له، إذ أحلّ لهم هذه الأضحية، وجعل لها معنى يتصل بالجانب الإيماني من حياتهم، ما يوحي بهذا التزاوج في التشريع، بين ما هو روحي وما هو مادي في حياة الناس، إذ يجب أن لا يستغرقوا في حياتهم في جانب واحد، فالله هو الذي خلق الروح التي تلتقي به لتعبده، وهو الذي خلق المادّة لتكون شاهداً على سرّ الإبداع في عظمته، وهو الذي خلق الأنعام وأراد للإنسان أن يتقرّب بها إليه، تنميةً للحياة التي شاء لها أن تكون خاضعةً لقانون التضحية بحياة مخلوقة لله من أجل حياةٍ أخرى، يريد لها أن تؤكّد إرادته في دور الخلافة على الأرض.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن"، ج 16.
الحجّ من أعظم عبادات الإسلام
قال تعالى: {وَللهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}[آل عمران: 97].
الحجّ في اللّغة هو القصد، وفي المصطلح: قصدُ بيت الله الحرام والقيام بشعائر مخصوصة نصّ عليها الشّرع المقدَّس.
والحجّ من أعظم العبادات الإسلاميّة، وهو من الدعائم التي بُني عليها الإسلام، وقد أوجبَه الله على من استطاعه في العمر مرّة واحدة، وهي المسمّاة بـ "حجّة الإسلام".
وعن الصادق (ع) في قوله عزّ وجلّ: {وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً}[الإسراء: 72]، قال: «ذلك الذي يسوّف نفسه الحجّ، يعني حجّة الإسلام، حتى يأتيه الموت». وعن أحد أصحابه (ع) أنّه سأله: التّاجر يسوّف الحجّ؟ قال (ع): «ليس له عذرٌ، فإن مات فقد ترك شريعة من شرائع الإسلام». [وسائل الشيعة، 11:26، باب 6 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، ح5 و 6].
وقد وعد الله عزّ وجلّ على الحجّ ثواباً عظيماً، فقد ورد في الأحاديث الشّريفة أنّ «من حجّ فلم يرفث ولم يفسق، رجع كهيئته يوم ولدته أمّه» [مسند أحمد، 2 : 229]، وورد أنَّ الحجّةِ المبرورة ليس لها جزاء إلّا الجنّة (سنن النسائي، 5: 112).
على أنّه لا بدّ أن يكون معلوماً، أنَّ الحجّ وسائر العبادات، لا ينالُ العبدَ منها إلا ما أقبل بقلبه عليه، فليس الحجّ مجرّد شعائر يقوم بها الحاجّ من دون توجّه روحيّ، يتحسّس معانيها، ويعيش أجواءها، وإن كان يسقط الواجب بذلك، بل هو رحلةٌ روحيّة تختصر حياة الإنسان، التي تبدأ من الله، وتسير في خطِّ الله، وتنتهي إليه سبحانه وتعالى، ليتزوّد منها الحاجّ لحياته ما يعينه على لزوم الطاعة واجتناب المعصية.
كما أنَّ الحجّ مؤتمر إسلاميّ عالمي، يجتمع فيه المسلمون من أنحاء العالم على اسم الله، حيث ينبغي أن يستفيدوا منه ما يغني إسلامهم، وينفع قضاياهم، وقد قال تعالى: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ...}[الحجّ: 27 - 28]. وقد ورد عن الصادق (ع) مبيّناً بعض علل الحجّ، قوله: «فجعل فيه الاجتماع من الشّرق والغرب ليتعارفوا». [وسائل الشّيعة، 11:14، باب 1 من أبواب وجوب الحجّ وشرائطه، ح 18].
أمّا في الجانب الشرعيّ، فقد شرّع الله للحجّ أحكاماً متعدِّدة يجب على الحاجّ أن يعرفها حتى يأمن على عمله من الخطأ الموجب لبطلان العبادة.
*من كتاب "دليل مناسك الحجّ".
فريضة الحجّ
نسأله جلّ شأنه أن يهب لنا من لدنه في سائر أحوالنا رحمةً تضيء لنا الظلمات، وتعصمنا من الشبهات والنزعات، وتهدينا إلى صراطه المستقيم، كما نسأله جلّت قدرته أن ينشر رحمته، ويتمّ نعمته، على وفده الأبرار الّذين تجرّدوا من كلّ شيء في هذه الدنيا ليفدوا إليه في بيته، يدفعهم الإيمان، ويحدوهم الشّوق، ويملأهم اليقين، وترتفع أصواتهم عند كلّ شرف من الأرض أو منحدر بنداء صادر من الأعماق تخشع له القلوب، وتدمع منه العيون: لبيك إللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. فاللّهم أكرم وفادتهم، وأحسن مثواهم، وأغدق عليهم من سحائب فضلك ورضوانك ما تشرح به صدورهم، وتغفر به ذنوبهم، وارددهم إلى أوطانهم وأهليهم سالمين. ربنا إنهم زوّارك، وعمّار بيتك، وإنّك لأنت الكريم الرّحيم.
بعد هذا الدعاء الذي أتوجّه به إلى الله، والذي أعمّ به جميع إخواننا المسلمين في البلاد المقدَّسة أو على أبوابها، أقول: لا نعرف عبادةً من العبادات عنى بها القرآن الكريم على وجه التفصيل، وبينها بنصوصه أكمل بيان، وعرض لكلّ ما يلابسها أو يتصل بها من أحكام وشعائر، وأبرزها في صورة رائعة تملأ النفوس، وتهزّ القلوب، وتشعر المؤمنين بعظمة الله، ونعمة الله، كعبادة الحجّ؛ أنبأنا الله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}، وأنبأنا أنّه اختار لبناء هذا البيت نبيّاً كريماً، هو خليله إبراهيم الذي جاهد الشّرك وحطّم الأوثان، وهاجر إلى ربّه في واد غير ذي زرع، وأنبأنا بأنّه هو الذي بوّأ لإبراهيم مكان هذا البيت، أي هيّأ له موضعه بإرشاد منه ووحي، وعيَّن له سمته، وهداه إليه، ثم عهد في بنائه ورفع قواعده إلى هذا النبيّ الكريم وابنه إسماعيل، وصوّر لنا موقفهما الرائع، موقف شيخ كبير، وابن له فتى صغير، يرفعان القواعد، ويبتهلان إلى الله في حرارة الإيمان، وقوّة اليقين، راجيين القبول، مفكّرين في أمر الأمّة حاضرها ومستقبلها، حريصين على هداها وتوفيقها {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ}، وأنبأنا، جلّ شأنه، أنّه جعل هذا البيت مثابة للنّاس وأمناً، لا يجوز فيه قتال.
ولا يجوز من حوله قتال، فمكّن لهم بذلك حرماً آمناً في بلاد مضطربة لا ضابط لشؤونها، والناس من حوله يتخطّفون كما يتخطَّف الطير، وأنبأنا أنّه أكرم جيرانه، فجعل أفئدة من الناس تهوى إليهم، ورزقهم من الطيّبات، وجبى إليهم ثمرات كلّ شيء، وأنبأنا أنّه أكرم رسوله حين استجاب له وهو يقلب وجهه في السماء، فولاه قبلة يرضاها هي هذا المسجد الحرام، ثم جعل شعائره شعائر الله، ففرض على الناس تعظيمها وحرّم عليهم انتهاكها، وإرادة الإلحاد أو الظلم فيها، وأوجب حجّه على كل مستطيع، وجعل ذلك حقّاً "لله" على الناس من استطاع إليه سبيلاً، وأشعر بأنَّ رفضه أو التّكاسل عنه لغير عذر كفر وجحود {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}، وجعل هذا الحج في أشهر معلومات {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ}، وعرض لتفاصيل أحكامة، فذكر الطّواف والسَّعي، وأمر من أحصر بما استيسر من الهدي، ونهى عن حلق الرّؤوس قبل أن يبلغ الهدي محلّه، وجعل لمن كان مريضاً أو به أذى من رأسه فدية من صيام أو صدقة أو نسك، وأوجب على من أمن وكان متمتّعاً بالعمرة إلى الحجّ، أن يقدم هديا، فإن لم يستطيع فصيام أيام بعضها في الحج وبعضها إذا رجع إن كان من غير حاضري المسجد الحرام، وأمر الحجيج إذا أفاضوا من عرفات أن يذكروا اسم الله عند المشعر الحرام، وأن يذكروه كما هداهم، وأن يفيضوا من حيث أفاض الناس، وأن يذكروا الله في أيام معدودات، وجعل البدن التي تذبح فيه من شعائر الله، ولفت إلى ما فيها للنّاس من خير ومنافع، وأمر بإطعام القانع منها والمعترّ، وأمر بعد تمام النّسك بقضاء التفث، ووفاء النّذر، والطواف بالبيت العتيق، إلى غير ذلك من أفعاله وتفاصيل أحكامه.
ما هو السرّ في عناية القرآن الكريم بتلك الفريضة على هذا النّحو؟ وهل الحجّ إلا ركن من أركان الإسلام كسائر أركانه الخمسة التي ذكرت في الحديث المعروف، بل كان آخر هذه الأركان ذكراً؟ فلم خصّ عن بعضها بهذه العناية التفصيليّة؟ ولمَ لم يكن كالصّلاة وهي عماد الدين، أو الزكاة وهي نظام التأمين الاجتماعي في الإسلام، كما يسميها بعض العلماء، لم لم يكن كالصّلاة أو الزكاة حيث فرضهما الله على المؤمنين إجمالاً، ولم يعرض في كتابه لسائر تفاصيلهما؟ أجل إنّه لسرّ عظيم.
لقد ذكر الحجّ بين أركان الإسلام الخمسة التي جاء ذكرها في الحديث الشَّريف، وجاء ذكره في آخرها، ولكن ليس ذلك لأنّه آخر هذه الأركان منزلة، وأقلّها شأناً، بل لأنّه أعلاها في مراتب الترقي والوصول إلى الكمال، فإنّ أركان الإسلام الأربعة التي تقدّمته كلّها تمهيد له وإعداد بالتطهير والتزكية، حتى إذا أقبل المرء إليه، كان صافي النفس، مطمئنّ القلب، راسخ الإيمان، ولذلك كان الحج المقبول عند الله بمثابة خلق الله لصاحبة من جديد، وفي ذلك يقول رسول الله (ص): "من حجّ البيت فلم يرفث ولم يفسق، خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمّه"، فشهادة أن لا إله الا الله، وأنّ محمداً رسول الله، هي الخطوة الأولى التي يتقدَّم بها الإنسان، فيعترف بأصل العلاقة بينه وبين ربّه ورسول ربّه، ومع ما لهذا الاعتراف من قيمة في ذاته، فهو لا يكلف صاحبه بذلاً ولا تضحية، ولا يستغرق منه جهداً ولا وقتاً، بل إنّ فيه لذوي البصائر وأولي الألباب لذّة هي لذّة العرفان، وجمالاً هو جمال الإدراك للحقّ، فإذا آمن قلبه، كانت الخطوة التالية لهذا الإيمان أن يتوجّه إلى هذا الإله الذي آمن به، واعترف بوحدانيّته، خاشعاً مناجياً، في صلاة رسمها له، وحدد له أركانها وورسائلها وشرع له قبلتها، وهذه عبادة مع سموّها وجلالة شأنها، لا تكلّف صاحبها جهداً كبيراً، ولا تأخذ منه وقتاً طويلاً، فإن أدنى ما تصحّ به صلاة الفريضة، لا يتجاوز بضع دقائق، وما زاد على ذلك فهو كمال.
ثم تأتي بعد ذلك الخطوة الثالثة، وفيها شيء من التضحية والبذل، ذلك أن يؤدي زكاة ماله، فيقتطع جزءاً معيناً طيبة به نفسه ليعطيه الفقراء والمساكين، وبهذا الركن الثالث، تكون أول تربية إيجابية، وتزكية نفسية من الشحّ والاستئثار يطهّر الله بها القلوب، فإنّه ما من شيء يتميز به الإيمان الصادق من التظاهر الزائف، كالتضحية المالية، ولقد نرى كثيراً من الناس يصلون ويقومون ويصومون، حتى إذا وقفوا أمام عقبة الشحّ والضنّ بالمال على البذل لم يقتحموها، وفي ذلك يقول الله عزّ وجلّ مصوّراً طبيعة الإنسان: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ * يَتِيماً ذَا مَقْرَبَةٍ * أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ}. ولكن الزكاة على ذلك ليست إلا تضحية مالية بنسبة ضئيلة تقلّ عن أصغر ضريبة أهل الأموال على أدائها في أيّ بلد من بلاد الله وهم لا يشعرون.
ثم تأتي بعد ذلك الخطوة الرابعة، وهي صوم شهر كامل متتابعة أيّامه، يتخلى فيه المؤمن عن طعامه وشرابه وشهوته، إيماناً بالله، واحتساباً لثوابه، ويصبر فيه على كثير مما يقاسي، وتلك منزلة من التضحية أعلى من التضحية في الزّكاة، لأنّ التضحية بشيء من النفس أعزّ وأغلى من التضحية بشيء من المال.
أما الفريضة الخامسة، وهي الحجّ، ففيها ذلك كلّه على أبلغ وجه، وأكمل صورة: فيها الاعتراف بالله، والإيمان برسوله إلى حدّ التّرك لكلّ ما سواهما من المال والأهل والولد، فيها التوجّه إلى الله، لا بواسطة قبلة بينه وبينها آلاف الأميال، ولكن بالرّحيل إلى هذه القبلة نفسها، فيها بذل الكثير من المال عن رضى وسخاء، فيها التضحية بالنّفس، واحتمال مشاق السفر والاغتراب، والتحلّل من سلطان العادة في متع العيش ولذّاته، فيها الخلع والعمل والكدح وارتداء ثياب التطهر والإحرام والتسليم، وفيها إلى ذلك كلّه زيارة الله في بيته، والمثول بين يديه في المكان الذي قدسه، والزمان الذي قدسه.
هكذا شأن فريضة الحجّ: كلّ ما قبلها بمثابة التمهيد لها، مثل العبد فيها كمثل امرئ أحبّ ملكاً عظيماً، ودان له وهو في طرف من أطراف ملكه بالخضوع والولاء، ينفّذ أوامره، ويخلص في خدمته، ويقوم بكلّ ما عليه من واجبات في سبيله، ثم يدعوه هذا الملك العظيم، فيهرول إليه مسرعاً، ويخلع نفسه من كلّ ما هو فيه، ويأخذ لهذه الزّيارة التي ستتمّ في بيت الملك أهبتها، فيتزيّن ويتطيّب، ويقطع المراحل الطّوال حتى يصل إلى غايته، ويحظى بأمنيته! {وَللهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}.
* مجلّة "رسالة الإسلام"، العدد 4.
في عرفات.. والمشعر الحرام
{فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ}.
من أعمال الحجّ أن يقف النّاس في عرفات من الزوال إلى الغروب وقفة خاشعة فيها الكثير من العبادة والتأمّل والنفاذ إلى أعماق الروح في لحظة صفاء ونقاء... إنها وقفة الحياة أمام الله، تستلهمه وتستهديه وتفتح قلبها أمامه في آلامها وآمالها، من أجل أن يلهمها الصواب في ما تفكر، ويهديها الصراط المستقيم، ويجعل لها من أمرها يسراً، فيكشف عنها آلامها، ويحقّق لها أحلامها...
وقد نستوحي كلّ ذلك من ملاحظة أنَّ النُّسك هنا هو الوقوف في عرفات، تماماً كما لو أنَّ الإنسان يعيش في رحلة طويلة تجهده، وتتعبه، وتكلّفه الكثير من الخسائر، وتواجهه بالكثير مما يقوم به من أعمال ومشاريع، فيشعر بالحاجة إلى وقفة يتخفّف فيها من متاعبه، ويراجع فيها حساباته، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرّحلة وما مضى منها، ليبدأ من موقع التجدّد الرّوحي الذي يملأ كيانه، في رحلة جديدة واعية لكلّ أوضاع الحاضر والمستقبل.
ويفيض الحاج من عرفات بعد أن يستكمل هذا الموقف الروحي في التأمّل الخاشع، والدعاء المنفتح على الله، والصلاة السابحة في آفاقه، لينتقل إلى فريضة أخرى مماثلة، ولكن في مكان آخر: {فَاذْكُرُواْ الله عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} الذي يجب فيه الوقوف من جديد من طلوع الفجر إلى طلوع الشّمس ـ على مذهب الإمامية ـ وفي ما بين الطلوعين ـ على رأي الآخرين ـ وهي وقفة جديدة في وقت جديد، يعيش الإنسان فيها ذكر الله الذي هدانا إلى طريق الحقّ بعد أن كنّا من قبله من الضالين.
{وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّآلِّينَ}، فنعرف بذلك نعمة الهدى ونتلمس فيه معنى النعمة في ما يوحيه للإنسان من معاني الرّضى والروح والطمأنينة، ويبعده عن نوازع الشكّ والقلق والضياع، ويوجّهه إلى الحياة الرحبة الطاهرة الخالية من كلّ دنس أو رجس أو التواء، والقريبة إلى الحبّ والخير والسَّلام، أو يؤدّي به ـ في نهاية المطاف ـ إلى عفو الله ورضوانه، في جنّة عرضها السَّماء والأرض أعدّت للمتقين، ما يضمن له خير الدنيا والآخرة، وينطلق ليتعرّف ـ في مقابل ذلك ـ النتائج السلبيّة للضلال في داخل النفس وخارجها، في الحياة الفردية والاجتماعية في الدنيا وفي الآخرة...
وبذلك يحسّ بالشكر العميق لنعمة الهدى، ويعيش الشعور بالامتنان لله الذي وهبه هذه النعمة، بأكثر مما يحسّ به إزاء النعم المادية التي وهبها له في هذه الحياة.
ولعلّ في التذكير بحالة الضلال دعوة إلى أن يدخل الإنسان في عملية مقارنة بين حياته في داخل أجواء الضلال، وبين حياته في أجواء الهدى، ليعرف نعمة الهدى من مواقع حياته الطبيعيّة، لا من مواقع الفكر والنظرية فحسب.
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس}. يُقال إن قريش كانت لا تفيض من حيث يفيض النّاس، لأنها تشعر بموقعها المميَّز الذي يختلف عن مواقع النّاس، من حيث العلوّ والرفعة والكبرياء، فكانت لا تقف بعرفات.
وقد جاء في ما رواه ابن جرير الطبري عن ابن عباس: «كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النّاس}».
لقد جاءت هذه الآية لتلغي من نفوسهم كلّ هذه النّوازع الطبقية التي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين، ولا سيّما في مثل هذا الموقف الذي أراده الله من أجل إلغاء كلّ الفوارق التي تميّزهم عن بعضهم البعض، ليشعروا بالصّفة الواحدة التي تجمعهم أمام الله، وهي أنهم عباد الله الواحد الأحد؛ فلا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى، فلا معنى ـ بعد ذلك ـ لأن يميّز أحد نفسه عن أخيه في موقع أو في ظرف انطلاقاً من الشعور بالتفوّق والكبرياء.
وهناك تفسير آخر للآية: وهو «أنَّ المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشّمس للرمي والنحر عن الجبائي. قال: والآية تدلّ عليه، لأنه قال: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ} ثُمَّ قال: {ثُمَّ أَفِيضُوا}، فوجب أن يكون إفاضة ثانية، فدلّ ذلك على أنَّ الإفاضتين واجبتان، والنّاس المراد به إبراهيم، كما أنه في قوله: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النّاس} نعيم بن مسعود الأشجعي».
ولعلّ الوجه الأوّل أقرب وأظهر، لأنَّ إرادة شخص واحد من النّاس خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلا بدليل. ولا دليل هنا على ذلك، كما لا دليل فيها على أنَّ هناك إفاضتين، لأنَّ كلمة الإفاضة من عرفات ذكرت لبيان التشريع. أمّا الآية الثانية، فربما وردت لبيان الطريق الذي يسلكه الحجاج في الإفاضة، وهو الطريق العام.
{وَاسْتَغْفِرُواْ الله}، ودعاهم بعد ذلك إلى أن يستغفروه من كلّ ما يمكن أن يحدث في أنفسهم من المشاعر السلبيّة البعيدة عن خطّ الإيمان وروحيّته، ووعدهم بالمغفرة والرحمة، {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}، لأنَّ الرحمة والمغفرة من صفاته الذاتية التي امتنّ بها على عباده ليدخلهم في رحمته ورضوانه.
*من كتاب "تفسير من وحي القرآن".
الخردل قد يخفض سكر الدم ولكنه لا يلائم مرضى خمول الغدة الدرقية
الخردل من البهارات المعروفة وله فوائد، ولكن أيضا له محاذير ولا يلائم مرضى الغدة الدرقية إذا تم تناوله بكمية كبيرة، نستعرض تأثيراته الصحية ومحاذيره في هذا التقرير.
ونؤكد هنا أن الخردل ليس علاجا لأي مرض أو حالة صحية، ولا ينبغي استخدامه بديلا عن الدواء أو مراجعة الطبيب، واسأل طبيبك عما إذا كان تناول الخردل قد يفيدك في التعامل مع مشاكل صحية معينة.
بذور نبات الخردل
الخردل هو بهار مصنوع من بذور نبات الخردل، وأوراقه وبذوره صالحة للأكل، مما يجعلها إضافة متعددة الاستخدامات لأطباقك وفقا لتقرير لموقع "هيلث لاين" (Healthline).
مكونات الخردل
تحتوي أوراق الخردل على كميات من الكالسيوم والنحاس والفيتامينات "سي" (C) و"إيه" (A) و"كيه" (K)، فيما بذوره غنية بالألياف والسيلينيوم والمغنيسيوم والمنغنيز.
ووفقا لتقرير في موقع "ويب ميد" (Webmd) تحتوي 20 غراما من بذور الخردل على:
- السعرات الحرارية: 101.6 كالوري
- الألياف الغذائية: 2.44 غرام
- البروتين: 5.22 غرامات
- الدهون: 7.24 غرامات
- فيتامين "سي": 1.42 مليغرام
- فيتامين "كيه": 1.08 ميكروغرام
- الثيامين: 0.16 مليغرام
- الريبوفلافين: 0.05 مليغرام
- النياسين: 0.95 مليغرام
- حمض الفوليك: 32.4 ميكروغراما
- الكالسيوم: 53.2 مليغراما
- حديد: 1.84 مليغرام
- الزنك: 1.22 مليغرام
- النحاس: 0.13 مليغرام
- المغنيسيوم: 74 مليغراما
- الفوسفور: 165.6 مليغراما
- البوتاسيوم: 147.6 مليغراما
- صوديوم: 2.6 مليغرام
- المنغنيز: 0.49 مليغرام
- السيلينيوم: 41.6 ميكروغراما
يمكن أن تؤكل أوراق الخردل نيئة أو مطبوخة، مما يجعلها إضافة متعددة الاستخدامات للسلطات والشوربات واليخنات.
ويمكن نقع بذور الخردل في الحليب الدافئ أو خفقها في تتبيلات السلطة، أو طحنها، أو رشها في وجبات دافئة، أو نقعها واستخدامها في صنع عجينة الخردل.
فوائد الخردل
- الخردل مصدر لمضادات الأكسدة المفيدة: يحتوي الخردل على مضادات الأكسدة ومركبات نباتية مفيدة أخرى يعتقد أنها تساعد في حماية الجسم من الأمراض.
وعلى سبيل المثال الخردل مصدر كبير للغلوكوزينات (Glucosinolates)، وهي مجموعة من المركبات المحتوية على الكبريت الموجود في جميع الخضروات الصليبية، بما في ذلك القرنبيط والملفوف والخردل.
ويعتقد أن الغلوكوزينات تحفز دفاعات الجسم المضادة للأكسدة للحماية من الأمراض.
والخردل غني أيضا بالكاروتينات (carotenoids) والأيزورهامنتين (isorhamnetin) والكامبفيرول (kaempferol).
وتربط الأبحاث مضادات الأكسدة الفلافونويدية هذه بالحماية من حالات، مثل مرض السكري من النوع الثاني، وأمراض القلب، وربما بعض أنواع السرطان.
- الخردل قد يوفر الحماية من السرطان: تشير الأبحاث التي أجريت على حيوانات في المختبر إلى أن الغلوكوزينات الموجودة في الخردل قد تساعد على قتل الخلايا السرطانية أو منعها من الانتشار، ومع ذلك فإن هناك حاجة إلى مزيد من البحوث البشرية.
- الخردل قد يخفض مستويات السكر في الدم: تشير إحدى الدراسات البشرية الصغيرة إلى أن تناول دواء لخفض السكر في الدم مع مغلي الخردل الأخضر قد يخفضه لدى الأشخاص المصابين بداء السكري من النوع الثاني بشكل أكثر فعالية من الدواء وحده.
- الخردل قد يساعد مرضى الصدفية: تشير الدراسات التي أجريت على الحيوانات إلى أن اتباع نظام غذائي غني ببذور الخردل قد يساعد في تقليل الالتهاب وتعزيز التئام الآفات التي تسببها الصدفية.
هل الخردل آمن؟
يعتبر تناول بذور أو أوراق أو عجينة الخردل آمنا بشكل عام لمعظم الأشخاص، خاصة عند تناولها بكميات موجودة عادة في النظام الغذائي للشخص العادي.
ومع ذلك، فإن استهلاك كميات كبيرة مثل تلك الموجودة عادة في مستخلصات الخردل قد يؤدي إلى آلام في البطن وإسهال والتهاب الأمعاء.
أيضا تحتوي بذور وأوراق الخردل غير المطبوخة على كمية كبيرة من "الغيتروجين" (Goitrogens)، وهذه مركبات يمكن أن تتداخل مع الوظيفة الطبيعية للغدة الدرقية، وهي الغدة المسؤولة عن تنظيم عملية الأيض.
ومن غير المحتمل أن يسبب هذا مشكلة لدى الأشخاص الذين وظائف الغدة الدرقية لديهم طبيعية.
ومع ذلك، قد يرغب الأشخاص الذين يعانون من خمول أو ضعف في وظائف الغدة الدرقية في نقع بذور وأوراق الخردل أو غليها أو طهيها قبل تناولها أو الحد من تناولها بشكل عام.
وعلى الرغم من أن تناول بذور الخردل آمن نسبيا فإن أبحاثا أظهرت آثارا سيئة لحمض الأيروسيك (Erucic Acid)، وهو مركب موجود في الخردل يضر بإنزيمات الكبد ويمكن أن يؤثر أيضا على الخصوبة، لذلك يجب عدم تناوله بكثرة.
حساسية الخردل
ومن ناحية أخرى، أشار المركز الاتحادي الألماني للتغذية إلى أن بعض الأشخاص يعانون من حساسية تجاه الخردل، موضحا أن أعراض الحساسية من الخردل تتمثل في آلام في البطن وغثيان وقيء وإسهال وصعوبات البلع وحكة في الفم والحلق وطفح جلدي وتورم الشفاه واللسان.
وفي الحالات الشديدة يمكن أيضا أن يعاني المرء من ضيق في التنفس، وفي أسوأ الحالات قد يصاب المريض بصدمة تحسسية قد تشكل خطرا على الحياة.
مِنْ علاماتِ اليقين
عَنِ الإمامِ الصادقِ (عليه السلام): «إِنَّ مِنْ صِحَّةِ يَقِينِ اَلْمَرْءِ اَلْمُسْلِمِ أَلَّا يُرْضِيَ اَلنَّاسَ بِسَخَطِ اَللَّهِ، وَلاَ يَحْمَدَهُمْ عَلَى مَا رَزَقَ اَللَّهُ، وَلاَ يَلُومَهُمْ عَلَى مَا لَمْ يُؤْتِهِ اَللَّهُ؛ فَإِنَّ رِزْقَ اَللَّهِ لاَ يَسُوقُهُ حِرْصُ حَرِيصٍ، وَلاَ يَرُدُّهُ كُرْهُ كَارِهٍ؛ وَلَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ فَرَّ مِنْ رِزْقِهِ كَمَا يَفِرُّ مِنَ اَلْمَوْتِ، لَأَدْرَكَهُ رِزْقُهُ قَبْلَ مَوْتِهِ، كَمَا يُدْرِكُهُ اَلْمَوْتُ»[1].
ترتبطُ درجاتُ الإيمانِ بدرجاتِ اليقينِ باللهِ عزَّ وجلّ، فكلَّما زادَ يقينُ الإنسانِ باللهِ، زادَ إيمانُه به، ويَظهرُ أثرُ ذلكَ في سلوكِ الإنسانِ وتصرُّفاتِه. ويتعرَّضُ الإمامُ الصادقُ (عليه السلام) في الحديثِ لعلاماتٍ ثلاثٍ لصاحبِ اليقينِ باللهِ عزَّ وجلّ، فمَنْ ينعمُ بالطمأنينةِ والوثوقِ بما عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، لا يقعُ في هذهِ الثلاث:
1ـ رضا الناسِ بما يُسخِطُ الله: تعدّدتِ الرواياتُ التي وردَ فيها التحذيرُ مِنْ أنْ يكونَ همُّ المؤمنِ رضا الناس، ولا سيَّما إذا كانَ ذلكَ بسخطِ الله عزَّ وجلّ، ويرتبط ذلك بالاعتقاد التامِّ بأنّ الأمور بيَد الله عزّ وجلّ، لا بيَد غيره، وإنّ الله يعوّض على الإنسان أيَّ مكروهٍ أو ضرر يحصل بسبب سخط الناس ما دام في سبيل رضا الله عزّ وجلّ، فعَنِ الإمامِ عليٍّ (عليه السلام) في وصيَّةٍ له: «إنِ استطعتَ أنْ لا تُسخِطَ ربَّكَ برضا أحدٍ مِنْ خلقِهِ فافعلْ، فإنَّ في اللهِ عزَّ وجلَّ خَلَفاً مِنْ غيرِه، وليس في شيءٍ سواهُ خَلَفٌ منه»[2]. وعَنِ الإمامِ الحسينِ (عليه السلام): «مَنْ طلبَ رضى اللهِ بسخطِ الناسِ، كفَاهُ اللهُ أمورَ الناس؛ ومَن طلبَ رضى الناسِ بسخطِ الله، وكَلَهُ اللهُ إلى الناس، والسلام»[3].
2ـ ذمُّ الناسِ على الحرمان: يتوقَّعُ الإنسانُ في حياتِه، وبملاحظةِ علاقاتِه الاجتماعيّة، أنْ يصلَ الخيرُ مِنْ أحدِ خلْقِ اللهِ عزَّ وجلّ، منْ مديحٍ على عمل، أو مالٍ يتفضَّلُ بهِ عليه، فإذا لمْ يصِلْهُ ذلك، يحرِّكُ لسانَه بالحديثِ عَنِ الناسِ بأنَّها تبخَلُ عليه، وتمنَعُه ما ينبغي، وهذا مِن ضعفِ يقينِ الإنسانِ بأنَّ الأمورَ بيدِ اللهِ عزَّ وجلّ، وأنَّ المعطيَ والمانعَ هو اللهُ عزَّ وجلّ، وأنَّه ليسَ مِنَ الرزقِ المقسومِ له.
3ـ مدْحُ الناسِ على العطاءِ، مَعَ الغفلةِ عنْ ذكرِ اللهِ عزَّ وجلّ: مِنْ فطرةِ الإنسانِ أنْ يتَّجِهَ بالشكرِ لمَنْ أحسنَ إليه، ولكنْ عليه أنْ يرى كلَّ مُحسنٍ مِنَ الناسِ واسطةً في عطاءِ اللهِ عزَّ وجلّ، فلا يتَّجهُ بالحمدِ على عطائِهم غافلاً عنْ أنَّه مِنْ رزقِ اللهِ عزَّ وجلّ، بل يكونُ شكرُهُ لهم كما وصفَهُ الإمامُ زينُ العابدينَ (عليه السلام) في رسالةِ الحقوق: «أمّا حَقُّ ذِي المَعروفِ علَيكَ، فأنْ تَشكُرَهُ، وتَذكُرَ مَعروفَهُ، وتُكسِبَهُ المَقالَةَ الحَسَنَةَ، وتُخلِصَ لَهُ الدعاءَ فيما بينَكَ وبينَ اللَّهِ عَزَّ وجلَّ؛ فإذا فَعَلتَ ذلكَ كنتَ قد شَكَرتَهُ سِرّاً وعَلانِيَةً، ثُمّ إنْ قَدَرْتَ على مُكافَأتِهِ يَوماً كافَيتَهُ»[4].
ختاماً، نتوجَّهُ بآياتِ العزاءِ لصاحبِ العصرِ والزمانِ (عجَّلَ اللهُ تعالى فرجَه) ولوليِّ أمرِ المسلمينَ، وللمجاهدينَ جميعاً، بذكرى شهادةِ الإمامِ الصادقِ (صلواتُ اللهِ عليه) في الخامسِ والعشرينَ مِنْ شوّال.
وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين
[1] ابن همام الإسكافي، التمحيص، ص52.
[2] العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج68، ص371.
[3] الشيخ الصدوق، الأمالي، ص201.
[4] الشيخ الحرّاني، تحف العقول عن آل الرسول (ص)، ص265.
شهادة الصادق (عليه السلام) والوصية العظيمة
حول شهادة الإمام الصادق (عليه السلام) فقد قيل إنها في الخامس والعشرين من شّوال. وقيل: في النصف من رجب، والأوّل هو المشهور، واتّفق المؤرّخون من الفريقين على أنها كانت عام 148 هـ.
كما اتّفق مؤلفو الشيعة على أن المنصور اغتاله بالسمّ على يد عامله بالمدينة، وقيل إن السّم كان في عنب كما ذكر ذلك الكفعمي في المصباح.
وذكر بعض أهل السنّة أيضاً موته بالسمّ، كما في "إِسعاف الراغبين" و"نور الأبصار" و"تذكرة الخواص" و"الصواعق المحرقة" وغيرها.
ولمّا كاد (عليه السلام) أن يلفظ النفس الأخير من حياته أمر أن يجمعوا له كلّ مَن بينه وبينهم قرابة، وبعد أن اجتمعوا عنده فتح عينيه في وجوههم فقال مخاطباً لهم: إِن شفاعتنا لا تنال مستخفّاً بالصلاة([1]).
وهذا يدلّنا على عظم اهتمام الشارع الأقدس بالصلاة، فلم تشغل إِمامنا عليه السلام ساعة الموت عن هذه الوصيّة، وما ذاك إِلا لأنه الإمام الذي يهمّه أمر الأُمة وإِرشادها إلى الصلاح حتّى آخر نفس من حياته، وكانت الصلاة أهم ما يوصي به ويلفت إليه.
وأحسب إِنما خصّ أقرباءه بهذه الوصيّة، لأن الناس ترتقب منهم الإصلاح والإرشاد فيكون تبليغ هذه الوصيّة على ألسنتهم أنفذ، ولأنهم عترة الرسول فعسى أن يتوهّموا أن قربهم من النبي وسيلة للشفاعة بهم وإِن تسامحوا في بعض أحكام الشريعة، فأراد الصادق أن يلفتهم إلى أن القرب لا ينفعهم ما لم يكونوا قائمين بفرائض اللّه.
وكانت زوجته أُمّ حميدة([2]) تعجب من تلك الحال وأن الموت كيف لم يشغله عن الاهتمام بشأن هذه الوصيّة، فكانت تبكي إذا تذكّرت حالته تلك([3]).
وأمر أيضاً وهو بتلك الحال لكلّ واحد من ذوي رحمه بصلة، وللحسن الأفطس([4]) بسبعين ديناراً، فقالت له مولاته سالمة: أتعطي رجلاً حمل عليك بالشفرة يريد أن يقتلك؟ قال: تريدين ألا أكون من الذين قال اللّه عزّ وجل فيهم: "والذين يصلون ما أمر اللّه به أن يوصل ويخشون ربّهم ويخافون سوء الحساب"([5]) نعم يا سالمة إِن اللّه خلق الجنّة فطيّب ريحها، وإِن ريحها ليوجد من مسيرة ألفي عام، ولا يجد ريحها عاقّ ولا قاطع رحم([6]).
وهذا أيضاً يرشدنا إلى أهميّة صِلة الأرحام بعد الصلاة وقد كشف في بيانه عن أثر القطيعة.
وما اكتفى عليه السلام بصِلة رحمه فقط بل وصل من قطعه منهم بل مَن همّ بقتله، تلك الأخلاق النبويّة العالية.
ولمّا قُبض عليه السلام كفّنه ولده الكاظم عليه السلام في ثوبين شطويين([7]) كان يحرم فيهما، وفي قميص من قمصه، وفي عمامة كانت لعلي بن الحسين عليه السلام، وفي بُرد اشتراه بأربعين ديناراً([8]).
وأمر بالسراج في البيت الذي كان يسكنه أبو عبد اللّه عليه السلام إلى أن اُخرج إلى العراق كما فعل أبو عبد اللّه عليه السلام من قبل في البيت الذي كان يسكنه أبوه الباقر عليه السلام([9]).
وقال أبو هريرة([10]) لمّا حُمل الصادق عليه السلام على سريره وأُخرج إلى البقيع ليُدفن:
أقول وقد راحوا به يحملونه * على كاهل من حامليه وعاتق
أتدرون ماذا تحملون إلى الثرى * ثبير ثوى([11]) من رأس علياء شاهق
غداة حثا الحاثون فوق ضريحه * تراباً وأولى كان فوق المفارق
أيا صادق ابن الصادقين إِليه * بآبائك الأطهار حلفة صادق
لحّقاً بكم ذو العرش أقسم في الورى * فقال تعالى اللّه رب المشارق
نجوم هي اثنا عشرة كن سبقا * إلى اللّه في علم من اللّه سابق
ودُفن عليه السلام في البقيع مع جدّه لاُمّه الحسن وجده لأبيه زين العابدين، وأبيه الباقر عليهم جميعاً صلوات اللّه، وهو آخر من دُفن من الأئمة في البقيع، فإن أولاده دُفنوا بالعراق إِلا الرضا في خراسان.
الإمام الصادق (ع)، ج ٢ – بتصرف، الشيخ محمد حسن المظفر
([1]) بحار الأنوار: 47 / 2 / 5، محاسن البرقي: 1 / 80.
([2]) هي أُمّ الكاظم عليه السلام.
([3]) محاسن البرقي: 1 / 80 / 6.
([4]) أشرنا إلى شيء من حاله في تعليقة ج 1 229.
([5]) الرعد: 21.
([6]) المناقب: 4 / 273، والغيبة للشيخ الطوسي: 128.
([7]) شطا: اسم قرية في مصر تنسب إليها الثياب الشطويّة.
([8]) الكافي، باب مولد الصادق عليه السلام: 1 / 475 / 8.
([9]) نفس المصدر.
([10]) الظاهر أنه العجلي وقد عدّه ابن شهرآشوب في شعراء أهل البيت المجاهدين، وروي أن الصادق عليه السلام ترحّم عليه، وهذا يقتضي أن يكون موته قبل الصادق، إِلا أن يكون الترحّم عليه وهو حي، أو أن الكاظم هو المترحّم ونسب إلى الصادق خطأً.
([11]) الأنسب أن يكون - هوى - ولعلّ الخطأ من النسّاخ.
كليجدار أوغلو ضد إردوغان.. هل اقتربت النهاية؟
بعد نحو 5 سنوات على تشكيل تحالف الأمة في 5 أيار/مايو 2018، يستعد الرئيس إردوغان لمواجهة "نارية" مع عدوه التقليدي كمال كليجدار أوغلو المدعوم من رئيس وزراء إردوغان السابق أحمد داوود أوغلو ووزير اقتصاده السابق علي باباجان، اللذين انضما إلى تحالف الأمة في كانون الثاني/يناير 2022، بصفتهما زعيمين لحزب المستقبل وحزب الديمقراطية والتقدم، ومعهما في تحالف الأمة الشعب الجمهوري والسعادة والديمقراطي والحزب الجيد.
وقد اختار التحالف، يوم الاثنين الماضي، كمال كليجدار أوغلو ليكون مرشحه لانتخابات الرئاسة، لينافس الرئيس إردوغان الذي أعلن 14 أيار/مايو موعداً رسمياً لهذه الانتخابات التي ستتم الانتخابات التشريعية معها أيضاً.
جاءت المفاجأة الأولى لإردوغان عندما توقع آخر استطلاع للرأي أُجري الثلاثاء أن ينتصر كليجدار أوغلو عليه في الجولة الأولى من الانتخابات بنسبة 55.1% في مقابل 45.9% للرئيس إردوغان.
جاء هذا الانتصار المحتمل بعد اتفاق زعماء تحالف الأمة على ترشيح كليجدار أوغلو لرئاسة للجمهورية، على أن يقوم بتعيين زعماء الأحزاب الخمسة الأخرى نواباً للرئيس، وأن يضيف إليهم لاحقاً رئيسي بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو وبلدية أنقرة منصور ياواش، وذلك بعد الانتخابات البلدية في آذار/مارس 2024.
وقد أعلن إمام أوغلو وياواش أنّهما سيساهمان بشكل فعال في الحملة الانتخابية إلى جانب زعيمهم كليجدار أوغلو، الذي سيحكم البلاد لمدة 7 سنوات بصلاحيات مطلقة، إلى أن يتم تعديل الدستور وتعود البلاد إلى النظام البرلماني خلال فترة أقصاها 3 سنوات، سيتم خلالها "إعادة الأمور إلى وضعها الطبيعي في جميع مؤسسات وأجهزة الدولة التي دمرها إردوغان"، بحسب كلام المعارضة.
من المتوقع أن تؤثر مساهمة إمام أوغلو وياواش في قرار الناخب التركي، بعدما أثبتت استطلاعات الرأي خلال العامين الماضيين أن الأول يحظى بدعم 58%، فيما يحظى الآخر بنسبة 56%.
وقد حققا انتصارهما في الانتخابات البلدية في آذار/مارس 2019، بفضل الدعم الذي حظيا به من الناخبين الكرد الذين ساهموا في فوز مرشحي الشعب الجمهوري في العديد من المدن الرئيسية الأخرى، وأهمها أضنة ومرسين وإنطاليا.
الحملة الانتخابية التي يتوقع أن تبدأ الأسبوع المقبل، سبقها نقاش مثير حول تصريحات قادة حزب الشعوب الديمقراطي، الجناح السياسي لحزب العمال الكردستاني، فيما يتعلق بدعمهم كليجدار أوغلو، إذ تبين استطلاعات الرأي أن هذا الحزب سيحظى بدعم نحو 11%-13% من مجموع أصوات الناخبين، أي نحو 7 ملايين ناخب. ومن دونهم، لن يحالف الحظ كليجدار أوغلو بالفوز في الانتخابات.
وقد جاءت تصريحات كليجدار أوغلو الذي قال إنه سيزور قيادات الشعوب الديمقراطي في 12 آذار/مارس، في إطار زياراته الأحزاب السياسية، لتكسب ود الكرد الذين سيقررون مصير الانتخابات، وخصوصاً بعدما أعلن الرئيس المشترك السابق لحزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دميرطاش، المعتقل منذ 7 سنوات، تأييده لكليجدار أوغلو من دون أي مقابل، أي أنهم لن يطلبوا أي حقيبة وزارية أو مناصب حكومية أخرى منه، شرط أن يزور مقر الحزب ويلتقي قياداته ويتفق معهم على صيغة ما للنضال المشترك من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان والحل السياسي للمشكلة الكردية.
أتى ذلك في الوقت الذي تراهن بعض الأوساط السياسية على رد فعل الرئيس إردوغان على الدعم الكردي المحتمل لكليجدار أوغلو، الذي سوف يتهمه ويتهم شركاءه في تحالف الأمة بالتعاون مع "الإرهاب" (المقصود به حزب العمال الكردستاني).
ويهدف إردوغان من خلال هذه الحملة إلى التأثير في قرار أنصار الأحزاب اليمينية داخل تحالف الأمة، وأهمها الحزب الجيد بزعامة مارال أكشانار، التي انشقت عن حزب الحركة القومية العنصري المعروف بعدائه للكرد.
ولم يهمل اتهام كليجدار أوغلو وحلفائه بالتآمر على الأمة والدولة التركية، من خلال الحصول على دعم "الدول والقوى المعادية لتركيا"، التي يقصد بها واشنطن والعواصم الغربية التي لا ترتاح له بسبب علاقاته مع موسكو وسياساته الإقليمية والدولية ومقولاته القومية والدينية.
وبات واضحاً أن المهاترات الكلامية العنيفة، التي تفتقد أدنى المعايير الأخلاقية والسياسية، ستكون سمة الحملة الانتخابية المقبلة، التي سيقول إردوغان خلالها للناخبين إنّ البديل هو تحالف من 6 أحزاب غير متجانسة، ناسياً أن تحالف الجمهور الذي يتزعمه يضم أيضاً 7 أحزاب سياسية، مع التذكير بعلوية كليجدار أوغلو.
ومع انتظار قرار المفوضية العليا للانتخابات التي تسعى لصياغة الجداول الانتخابية من جديد بعد وفاة عشرات الآلاف من المواطنين ونزوح أكثر من مليوني مواطن من المدن التي تضررت بفعل الزلزال، فالمعلومات تتوقع لأحزاب تحالف الأمة أن تحصل على الأغلبية في البرلمان أيضاً، بعد اتفاقها على قائمات مشتركة ستخوض بها الانتخابات.
وستتفق هذه الأحزاب على تقاسم الحقائب الوزارية وفق الأصوات التي سيحصل عليها كل حزب في الانتخابات، فقد توقع آخر استطلاع للرأي أجري الثلاثاء أن يحصل حزب الشعب الجمهوري على 31.8% من الأصوات، في مقابل 8.9% للحزب الجيد، ونحو 2% لكلٍّ من السعادة والمستقبل والديمقراطية والتقدم، ونحو 1% للديمقراطي. كما توقع الاستطلاع لحزب الشعوب الديمقراطي الكردي أن يحصل على 11.3%، في مقابل 31% للعدالة والتنمية، و6.5% للحركة القومية؛ شريكة إردوغان.
وسيكون أكبر رهان وتحدٍ بالنسبة إلى إردوغان هو استنفار كلّ إمكانياته لتغيير هذا الواقع الذي يتوقع أن يزداد سوءاً لسببين أساسيين، هما الفشل الذريع في التعامل مع أزمة الزلزال، وقبل ذلك إيصال البلاد إلى حافة الإفلاس الخطر، مع قصص لا يمكن أن يصدقها العقل عن تورطه وأفراد عائلته والمقربين منه في قضايا فساد خطرة.
يُضاف إلى كل ذلك فشل إردوغان في سياساته الخارجية والداخلية، فقد قضى على أبسط معايير الديمقراطية والحريات الفردية والسياسية وحرية الإعلام، ويتوقع الكثيرون أن يدمر ما تبقى منها قبيل الانتخابات، حتى لا يسمع المواطنون أو يشاهدوا أو يقرأوا عن حقائق السنوات العشرين من حكمه.
وقد بات واضحاً أنه على وشك أن ينتهي مع استمرار الأحاديث عن مشاريع ومخططات وسيناريوهات مثيرة يعد لها إردوغان لمنع وقوع هذه الحقيقة المرة، مهما كلفه ذلك، ومهما كلف الدولة والأمة التركية، وهي الآن أمام أكبر تحدياتها قبل أن تحتفل في تشرين الأول/أكتوبر القادم بالذكرى المئوية لقيام جمهورية أتاتورك العلمانية عام 1923، التي حكمها الإسلامي إردوغان 20 عاماً.
السودان: تجدد الاشتباكات بين الجيش والدعم السريع في الخرطوم
أكّد الجيش السوداني، أمس الثلاثاء، اندلاع اشتباكات مع قوات "الدعم السريع" في مناطق شمال بحري ووسط العاصمة الخرطوم.
وأفاد الجيش السوداني، في بيان، بتوجيهه "ضربات مركزة على عدد من أماكن تمركزات الدعم السريع، نتج عنها خسائر كبيرة في القوات والأسلحة والمركبات".
وأشار البيان العسكري إلى أنّ "عناصر من قواته نصبوا كمائن ناجحة ضد متحركات للدعم السريع في شمال بحري، ودمرت 4 عربات مسلحة واستولت على 6، فيما تم القبض والقضاء على عدد من القناصين".
وأكّد الجيش السوداني أنّ "الموقف العملياتي مستقر بعموم السودان، عدا أجزاء من العاصمة القومية".
وفي بيان سابق للجيش السوداني، جدد "الدعوة لأفراد الدعم السريع بعدم جدوى التمادي في مغامرة التمرد الخاسرة، والإستفادة من عفو القائد العام بالتبليغ لأقرب قيادة أو وحدة عسكرية بجميع أنحاء البلاد".
ويتركز القتال بين الجيش وقوات الدعم السريع في العاصمة، لكنه أثار اضطرابات في أنحاء أخرى من السودان، وخصوصاً في إقليم دارفور غرب البلاد.
وقال سكان في العاصمة السودانية الخرطوم إنّ الضربات الجوية والقصف المدفعي يتصاعدان بشدة في العاصمة، أمس الثلاثاء، مع سعي الجيش لطرد قوات الدعم السريع شبه العسكرية التي يحاربها منذ أكثر من شهر.
وذكر شهود أنهم سمعوا أصوات ضربات جوية واشتباكات وانفجارات في جنوب الخرطوم، وكان هناك قصف عنيف أثناء الليل في أجزاء من مدينتي بحري وأم درمان المجاورتين.
كذلك، اتّهمت القوات المسلحة السودانية قوات الدعم السريع باقتحام مقار سفارات السعودية والأردن وجنوب السودان والصومال، "في مخالفة لحرمة البعثات الدولية"، فيما نفت قوات الدعم السريع ذلك.
وتسببت المعارك الدائرة في السودان منذ 15 نيسان/أبريل الماضي في مقتل المئات وإصابة آلاف آخرين، ودفعت عشرات الآلاف من السودانيين إلى النزوح من مناطق الاشتباكات نحو ولايات أخرى أو في اتجاه تشاد ومصر، فيما أجلى عدد من الدول رعاياه من السودان.
ويأتي ذلك مع غياب أي دلائل على استعداد الطرفين - رغم محادثات وقف إطلاق النار في السعودية - لإيقاف المعارك.
واتفق الطرفان في إعلان جدة الذي تم توقيعه بالتعاون مع السعودية والولايات المتحدة على الالتزام بسيادة السودان والحفاظ على وحدته.
كذلك، اتفقا على أنّ مصالح الشعب السوداني وسلامته أولوية رئيسية، وأكّدا الالتزام بحماية المدنيين في جميع الأوقات، وتسهيل المرور الآمن لهم لمغادرة مناطق الأعمال العدائية، إضافةً إلى الامتناع عن أي هجوم من المتوقع أن يتسبب بأضرار مدنية، واتخاذ جميع الاحتياطات الممكنة لتجنب الضرر الذي يلحق بالمدنيين.
وتضمن إعلان جدة التزام الطرفين باحترام المرافق الخاصة والعامة كافة وحمايتها، مثل المرافق الطبية ومنشآت المياه والكهرباء والامتناع عن الانخراط في عمليات الإخفاء القسري والاحتجاز التعسفي للمدنيين وعدم اتخاذ المدنيين دروعاً بشرية، إضافةً إلى ضمان عدم استخدام نقاط التفتيش في انتهاك مبدأ حرية تنقل المدنيين.