
emamian
الرسائل التي حملتها زيارة رئيسي لدمشق إلى المنطقة والعالم
زيارة طوت فيها طهران صفحات الحرب القاتمة، معلنة فتح صفحة الاعمار والتعاون الشامل. تعاون هو الأول في تاريخ العلاقات الثنائية، من حيث حجمه واتساع مجالاته، حمل العديد من الابعاد والنتائج، ركزت على المجال الاقتصادي.
تم اتخاذ قرارات جيدة بشان بعض المشاكل التي تعترض التعاون بين ايران وسوريا، خصوصا تلك التي تعترض عمل الناشطين الاقتصاديين.
وتم اصدار قرارات في ايران بشان الضمانات المتعلقة بالعلاقات الاقتصادية. هذه الزيارة ستشكل منعطفا ايجابيا وجيدا لتنمية العلاقات بين البلدين.
ايران حولت الحظر المفروض عليها الى فرص، وترى أن الامكانية متاحة في سوريا لتحويل الحظر الى فرص.
انجازات اقتصادية عدة كان منها تصفير التعرفة الجمركية بين البلدين، والاتفاق على تسهيل الزيارات للزوار الايرانيين والتعامل بالعملتين الوطنيتين بعيدا عن النقد الأجنبي؛ وتعزيز التعاون التجاري في القطاع الخاص.
وتوقيع اتفاقيات كان أهمها مذكرة تفاهم لخطة التعاون الشامل الاستراتيجي طويل الأمد بين البلدين، شملت مجالات النفط والزراعة والسكك الحديد والمناطق الحرة والطيران المدني وهندسة الزلازل والاتصالات وتقانة المعلومات.
أما المجال الدفاعي، فقد تم التركيز على الاعتداءات والتحركات المعادية في المنطقة لاسيما لإيران وسوريا، والتأكيد على رسالة طهران في محورية القضية الفلسطينية في سياستها.
رسالة وحدة وثبات على المواقف، وصل فحواها إلى من يعنيه الأمر إقليميا، عبر اللقاء الذي أجراه الرئيس إبراهيم رئيسي مع علماء بلاد الشام، وقادة فصائل المقاومة الفلسطينية في دمشق، الذي أكد خلالهما على أن القضية الفلسطينية وتحرير القدس قضية رئيسة للعالم الاسلامي يجب ألا تنسى.
زيارة رئيسي إلى دمشق، وما حملته من رسائل للحلفاء والخصوم معا، تضع العلاقات الثنائية في مرحلة جديدة، مرحلة تتخطى مستوى التعاون، وترسم شكلا جديدا للتحالف، وتضخ دما جديدا في المحور؛ زيارة رسالتها الأولى انتصار محور المقاومة عبر صمود دمشق.
وزراء الخارجية العرب يبحثون أزمة السودان وعودة سوريا
وقال دبلوماسي رفيع المستوى لوكالة فرانس برس، إنه تقرر عقد دورتين غير عاديتين لمجلس جامعة الدول العربية على مستوى وزراء الخارجية العرب يوم الأحد.
وتخصص الدورة الأولى لمناقشة تطورات الأزمة السورية ومسألة إعادة سوريا لشغل مقعدها في الجامعة، في حين ستبحث الدورة الثانية الحرب الدائرة في السودان.
وسيبحث الاجتماع المخصص للسودان الوضع في هذا البلد بأبعاده كافة، السياسية والأمنية والإنسانية والاجتماعية والاقتصادية، وفق المصدر ذاته.
وبحسب المصدر نفسه، فقد تقرر عقد اجتماعات تحضيرية على مستوى المندوبين الدائمين، السبت، في مقر الأمانة العامة لجامعة الدول العربية للإعداد والتحضير لهاتين الدورتين الوزاريتين غير العاديتين.
وسيتم وفقا للمصدر عقد "اجتماع تشاوري مغلق لوزراء الخارجية العرب قبيل انعقاد الدورتين غير العاديتين.
وسيرأس هذه الاجتماعات وزير الخارجية المصري سامح شكري، الذي تتولى بلاده حاليا الرئاسة الدورية لمجلس جامعة الدول العربية.
جدير بالذكر أن اجتماعا عقدته دول مجلس التعاون في جدة في منتصف أبريل 2023 وشاركت فيه مصر والعراق والأردن للبحث في مسألة عودة سوريا إلى الجامعة العربية، حيث اتفق الوزراء في اجتماع جدة على أهمية تأدية دور قيادي عربي في الجهود الرامية لإنهاء الأزمة في سوريا.
وعقب الاجتماع بأيام زار وزير الخارجية السعودي دمشق، في أول زيارة رسمية سعودية إلى سوريا منذ القطيعة بين الدولتين مع بدء الأزمة في سوريا قبل 12 عاما، علما أن جامعة الدول العربية علقت عضوية سوريا لديها في نوفمبر 2011.
الحج مظهر التلاحم بين الدين والسياسة
الحديث عن الحج مهمٌ كونه أكبر اجتماع للمسلمين يحدث حول الكعبة، وهو مظهر من مظاهر التوحيد. ومناسك الحج مأخوذة من سيرة النبي إبراهيم (ع) المعروف في القرآن كبطل التوحيد. (1) لذلك يُعدّ الحج، وهو أكبر تجمّع للمسلمين، أعظم رمز ومظهر للتوحيد. وعلى هذا الأساس، فإن تحليل مراسم الحج يعتمد بشكل عام على دراسة مسألتين:
1- موضوع التوحيد
2- موضوع اجتماع المسلمين واشتراك المسلمين في أمور الحج
في هذا المقال سنتطرّق بشكل أساسي إلى موضوع الحج من البعد التوحيدي، وبعد ذلك سنشير بإيجاز إلى الموضوع الآخر.
يُطرح موضوع التوحيد بين المفكرين المسلمين عموماً على أنه عقيدة نظرية ومجرّد معرفة. معرفة ودراية الإنسان حول مبدأ الخلق. لذلك، فإن ما ينشأ بالتبعية عن قضية التوحيد هو الموضوع العام لمعارف الإنسان.
يعلم كلّ إنسان حقاً أن معارفه ليست بنفس الأهمية، بعض المعارف أكثر أهمية وبعضها الآخر بلا أهمية. إن تلك المعارف التي لا تحدث أي تغيير في مجرى حياة الإنسان؛ ليس لها أيّ أهمية عند الإنسان.
بالطبع، في هذا المقال القصير، لا يوجد مجال لتحليل كامل لهذه القضية، ولكن من الواضح أن التغيير والتطور يعتمدان أولاً على المعرفة الدقيقة، وثانياً على اختيار هذا المسار وعبوره من قبل الإنسان. على هذا الأساس، في المصادر الروائية، قُسّمَ العلم إلى نوعين من النافع وغير النافع، وفي بعض هذه الروايات يُعتبر العلم غير النافع هو العلم الذي لا يعمل به الإنسان. (2)
المعرفة التوحيدية ليست مستثناة من هذه القاعدة. إن معرفة الإنسان بوجود أصل الخلق تكون مفيدة للإنسان فقط عندما يكون هذا الهدف والطريق لتحقيقه واضحين للإنسان، وعندما تؤدي في النهاية إلى حركة الإنسان في هذا الطريق من خلال الأعمال الاختيارية. لذلك، فإن التوحيد الإسلامي هو توحيد لا ينفصل فيه المجال النظري عن المجال العملي.
هنا تُطرح هذه المسألة، ما العمل الذي تتطلبه الرؤية التوحيدية بشكل عام؟ تتحدد الإجابة على هذا السؤال من خلال دراسة مفاد التوحيد. في المجمل، إن الرؤية التوحيدية هي اعتبار أصل الخلق واحداً وأحداً. لذلك يوجد مفهومان في الرؤية التوحيدية:
الخالقية، ووحدانية الخالق. يقدّم المفهوم الأول العلاقة بين الإنسان والله علاقةً بين المخلوق والخالق. يتم تقديم هذه العلاقة عملياً في شكل عبادة الإنسان وطاعته لله، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ} (البقرة، 21). وهو ما عرّفه في القرآن على أنه الهدف من خلق الإنس والجن: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} (الذاريات، 56).
أما المفهوم الثاني، وهو أساس التوحيد الذي بدونه لا يُعرَف شأن الله – تعالى -، مسألة الوحدانية ونفي الشرك. إذا كان الإيمان بخالقية الله ينعكس عمليّاً على شكل عبودية الإنسان لله، فإن وحدانية الخالق أيضاً تنعكس في انحصار هذه العبودية والطاعة لله سبحانه وتعالى في عمل الإنسان.
هذا المفهوم واضح تماماً في كلمة التوحيد، أي لا إله إلا الله. إن إنكار كل ما يعبد ويطاع من دون الله ورد في الجملة القصيرة «لا إله إلا الله». باختصار، إن ما يوضع في التوحيد جنباً إلى جنب من حرية وعبودية هو تحرّر الإنسان من عبودية كل شيء دون الله، وعبودية وإطاعة أمر أصل الخلق. من الضروري التأكيد هنا على أن عبودية الإنسان لأي مخلوق تتحقق من خلال طاعة الإنسان لأوامر ذلك المخلوق، وعلى النقيض من ذلك، فإن تحرّر الإنسان من عبودية مخلوق ما يتطلب عدم الطاعة له. بعبارة أخرى، العبودية لأي مخلوق تعني قبول هيمنته. لذلك فإن التوحيد النظري يتطلب طاعة الله وقبول هيمنته وإنكار طاعة غير الإله وعدم قبول هيمنتهم. وبما أن الحكومات هي أعظم مصاديق الولاية والهيمنة في المجتمعات البشرية، فإن النتيجة العملية الأبرز للتوحيد هي رفض الحكومات التي لا تمثّل هيمنة الله وحاكميته على الأرض، وفي المقابل، إنشاء أو اتّباع حكومة متشكلة على الأرض بالنيابة عن الله.
بالطبع سوف يستغرق الأمر وقتاً طويلاً للحديث عن ماهية الحكومة الإلهية والمسؤول عن تشكيلها وتنفيذ قوانينها، ولكن باختصار يمكن القول إن الحكومة الإلهية هي حكومة تنطبق قوانينها مع أوامر الله، ومستمدة من مصدر الوحي. هذه القوانين يتم تنفيذها في الدرجة الأولى من قبل الأنبياء وأوصيائهم، وفي حال غيابهم، من قبل أولئك الذين تم تحديد خصائصهم والشروط اللازمة لشرعية ممارسة حاكميتهم في المصادر الروائية. وهذه الصفات هي معرفة القوانين الإلهية بالإضافة إلى امتلاك صفات العدل والتقوى.
يؤكد القرآن الكريم صراحةً على التناقض بين العبودية لله التي هي نتيجة مباشرة للتوحيد، وقبول سيطرة القوى غير الإلهية: {وَلَقَد بَعَثْنا في كُلّ أُمّةٍ رَسُولاً أنْ اعبدُوا الله واجْتَنِبُوا الطاغُوتَ} (النحل، 36)، فإن في مقابل اجتناب حاكمية الطاغوت يُطرح الحُكم الإسلامي، ولأن وجود حكومة أمر ضروري من أجل حكم المجتمع وأنّ حكم الطاغوت غير شرعيّ، فإن الخيار الوحيد المتبقي هو حكومة دينية. طبعاً للطواغيت مستويات مختلفة، وتجنّب الطواغيت يمكن تنفيذه بطرق مختلفة حسبَ ظروف ومستوى قوة الجناح التوحيدي. يمكن تفسير مفاهيم مثل الهجرة والجهاد والثورة في هذا السياق، ويجب على كل مسلم أن يعمل في هذا الطريق بقدر استطاعته.
على أساس ما تحدّثنا به حتى الآن، فإن الترابط بين التوحيد ومسألة السلطة الحاكمة التي تحكم المجتمع واضح تماماً. من ناحية أخرى، يُشير مفهوم "السياسة" بشكل أساسي إلى قضية السلطة الحاكمة وكيفية حكم المجتمع وإدارته. وعليه فإن التوحيد الذي هو أساس الإسلام له ترابط مباشر بقضية السياسة. وقد أكد الإمام الخامنئي على هذه المسألة في أنحاء مختلفة منها: «الإسلام هو دين التوحيد، والتوحيد يعني تحرّر الإنسان من العبوديّة والطاعة والتّسليم لأيّ شيء ولأيّ أحدٍ سوى الله، وفكّ القيود عن أنظمة الهيمنة البشريّة، وكسر طلسم الخوف من القِوى الشيطانيّة والماديّة، والاتّكاء على الاقتدارات اللامتناهية التي وضعها الله في ذات الإنسان وطلب منه استخدامها كفريضة لا انفكاك عنها، والوثوق بالوعد الإلهي في انتصار المُستضعفين على الظالمين والمستكبرين شريطة القيام والكفاح والاستقامة» (3).
لذلك، فإن كلّ ما هو مظهر معرفة الله والتوحيد الإسلامي والقرآني - مع الالتفات إلى أنّ معرفة الله أساسُ الدين (4) - فهو أيضاً مظهر لعينية السياسة والدين، ومن أبرز مظاهر التوحيد هو الحج الإبراهيمي. تعود المناسك الرئيسية للحج إلى الأحداث المتعلقة بنبوة إبراهيم (ع)، وفي القرآن الكريم لم يلوّث إبراهيم (ع) نفسه بالشرك وسيطرة المشركين، بل كان يسعى أيضاً إلى تخليص الناس من الشرك وعبادة الأصنام والقضاء على الحكم غير الشرعي للنمرود.
حقاً، إذا كانت المُحاجّة التوحيدية لإبراهيم مع النمرود وكفاحه ضد الجهل المسمى عبادة الأصنام من أجل التطبيع مع سلطة النمرود والنماردة فكيف يمكن تبرير إشعال النيران من قبل النماردة ضد إبراهيم؟ وهل يُعتبر هذا الفعل لإبراهيم (ع) سوى السعي من أجل تحويل المجتمع ونظام الطاغوت المشرك إلى نظام منبثق من التوحيد، وهو من أبرز الأعمال السياسية.
العلاقة بين موضوع الحج والسياسة وتبيين هذه العلاقة على أساس التوحيد من كلام الإمام الخامنئي هي كما يلي: «الحجّ هو مركز المعارف الإسلاميّة والمبيّن لسياسة الإسلام العامّة في إدارة حياة الإنسان. الحجّ مظهر التوحيد، ورفض الشيطان ورميه، وتكرار لشعار إبراهيم (ع) الذي قال إنّي بريء من المشركين. هو مشهد الاتّحاد العظيم للأمّة الإسلاميّة حول محور التوحيد والبراءة من المشركين ورفض كلّ الأصنام ونفيهم. والصنم هو كلّ شيء يأخذ مكان الله، ويستبدل ولايته بالولاية الإلهيّة، ويجعل طاقات أفراد البشر وإرادتهم في تصرّفه، سواءً أكان حجراً أم خشباً، أم قوى شيطانيّة مهيمنة ومتجبّرة، أم عصبيّات جاهليّة غير محقّة؛ {فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ} (يونس، 32). الحجّ الإبراهيمي هو ذاك الذي يكون فيه التوجّه إلى الله والالتجاء إلى حاكميّته وقدرته مترافقاً مع الإعراض عن حاكميّة الطواغيت والجبّارين» (5).
وما يميّز الحج عن غيره من الشعائر العبادية عند المسلمين هو موضوع الاجتماع العظيم الذي يحدث في الحج، وهذه المسألة كما ذكرنا في البداية مهمة أيضاً. إن الاجتماع العظيم للمسلمين واتحادهم حول المحور المشترك للتوحيد هو في حد ذاته مصدر قوة وعظمة المسلمين. ويؤكد الإمام الخامنئي في كلامه حول موضوع الحج على هذه النقطة أيضاً: «فمن الّذي يلاحظ التوحيد في الحج، وهو شعار المعنويّة والوحدة بين المسلمين، ثمّ لا يفهم أنّ هذا الاجتماع العظيم هو من أجل إظهار الإسلام والتوحيد في وجه الكفر وبعكس ما يريده الأعداء اليوم؟ ففي الحج، يتصدّى التوحيد للشرك» (6).
«الحج مظهر حضور لعظمة الأمة الإسلامية، والحج مظهر الوحدة، والحج الاتحاد، والحج مظهر قوة للأمة الإسلامية. أكبر اجتماع للأمة يحدث كل عام، دون انقطاع، مع ظروف وأحوال معينة، وفي نقطة معينة. أي تستعرض الأمة الإسلامية قوامها بالحج، وتُظهر نفسها» (7).
وكما هو واضح، فإن القوة الحاصلة من الوحدة والاجتماع تعتبر مسألة سياسية: «ما نحتاجه في الحج من الشؤون السياسية هو العين في تعاليم الإسلام. تحقيق الوحدة شأن سياسي وهو أمر الإسلام وهو عبادة؛ {وَاعتَصِموا بِحَبلِ اللهِ جَميعًا وَلا تَفَرَّقوا} (آل عمران، 103)» (8).
وبناء على ذلك، فإن الحج يتشابك مع السياسة من حيث المضمون والشكل. يشير محتواه التوحيدي إلى إنكار الطاغوت وضرورة اتباع الحكم الإلهي، كما أن شكله يسبب قوة سياسية من حيث اجتماع ووحدة المسلمين. وبالطبع إذا كان تأثير هذا الاتحاد والاجتماع مصحوباً بمعرفة الحقيقة السياسية للتوحيد؛ فسيكون له أثر مضاعف في عزة واقتدار المسلمين.
1- البقرة: 258، الأنعام: 74 إلى 81، إبراهيم: 25، مريم: 42 إلى 45، الأنبياء: 52 إلى 67، الشعراء: 70 إلى 82، العنكبوت: 17، الزخرف: 26 و27، الممتحنة: 4.
2- تحف العقول، ص 70. نهج البلاغة (صبحي صالح)، الرسالة 31. كنز الفوائد، ج 1 ص 385. عيون الحكم والمواعظ، ص 341. غرر الحكم ودرر الكلم، ص 463 و793.
3- بيان الإمام الخامنئي بمناسبة الذكرى الأولى لرحيل الإمام الخميني (قده)، 31/5/1990.
4- نهج البلاغة، الخطبة الأولى: أو الدين معرفته.
5- نداء إلى حجاج بيت الله الحرام، 5/7/1989.
6- كلمة في لقاء مع القائمين على شؤون الحج، 5/4/1995.
البعد الإجتماعي للحج
إنّ إحدى الفلسفات الاجتماعيّة لهذا التجمّع العظيم توثيق الوحدة بين أتباع نبيّ الإسلام.
الإمام الخميني قدس سره
الوحدة من فلسفة الحجّ
ينبغي على جميع الإخوة والأخوات المسلمين والمسلمات الانتباه إلى أنّ إحدى مهمّات فلسفة الحجّ إيجاد التفاهم وتوثيق عُرى الأخوّة بين المسلمين، وينبغي على المفكّرين والمعمّمين طرح مسائلهم الأساسيّة؛ السياسيّة والاجتماعيّة مع الآخرين من إخوانهم، وتقديم الاقتراحات من أجل رفعها وحلّها ووضعها بتصرّف وتحت نظر العلماء وأصحاب الرأي عند عودتهم إلى بلادهم.
يجب أن نعلم أنّ إحدى الفلسفات الاجتماعيّة لهذا التجمّع العظيم من جميع أنحاء العالم توثيق عُرى الوحدة بين أتباع نبيّ الإسلام أتباع القرآن الكريم في مقابل طواغيت العالم، وإذا لا سمح الله أوجد بعض الحجّاج من خلال أعمالهم خللاً في هذه الوحدة أدّت إلى التفرقة، فذلك سيوجب سخط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعذاب الله القادر الجبار.
الحجّاج المحترمون الموجودون في جوار بيت الله ومحلّ رحمته، تعاطُوا برفق ومروءة وأخوّة إسلاميّة مع جميع عباد الله، واعتبروا الجميع ـ ودون النظر إلى اللون واللسان والمنطقة والمحيط ـ منكم، وكونوا جميعاً يداً قرآنيّة واحدة حتّى تسيطروا على أعداء الإسلام والإنسانيّة.
الحجّ مركز التعارف
إنّ الحجّ هو أفضل مكان لتعارف الشعوب الإسلاميّة حيث يتعرّف المسلمون على إخوانهم وأخواتهم في دين الإسلام من جميع أنحاء العالم، ويجتمعون في ذلك البيت المتعلّق بجميع المجتمعات الإسلاميّة، وباتّباع دين إبراهيم الحنيف وبعد أن يضعوا جانباً المفردات والألوان والعرقيّة والقوميّة، يرجعون إلى أرضهم وبيتهم الأوّل.
ومع مراعاة الأخلاق الكريمة الإسلاميّة واجتناب الجدال والتجمّلات يتجلّى ويتمظهر صفاء الأخوّة الإسلاميّة وأبعاد تنظيم الأمّة المحمّديّة في جميع أنحاء العالم.
اتحدوا في رجم الشياطين
وينبغي على الحجّاج المحترمين لبيت الله الحرام لأي دين أو قوميّة انتموا أن يرضخوا لأحكام القرآن الكريم، ويقفوا في مواجهة سيل الشياطين ـ الّذين يُريدون اقتلاع الإسلام الّذي طهّر الشرق والغرب ـ وعملاءهم الّذين لا إرادة لهم، ويمدّوا يد الأخوّة الإسلاميّة لبعضهم البعض وينتبهوا للآيات الكريمة الّتي تدعوهم إلى الاعتصام بحبل الله، وتنهاهم عن الاختلاف والتفرقة، وينبغي الاستفادة أكثر عضويّاً وسياسيّاً من هذه الفريضة العباديّة السياسيّة الإسلاميّة، في تلك الأمكنة الشريفة الّتي شُيّدت بحقّ لأجل مصالح الموحّدين والمسلمين في العالم، والالتفات إلى سرّ التضحية والفداء الإبراهيميّ ـ الإسماعيليّ، حيث يجب الوقوف في سبيل الله إلى حدّ التضحية
والفداء بأعزّ وأغلى ثمرة في وجوده، والدفاع عن الأهداف الإلهيّة.
يجب طرد الشياطين الكبيرة والصغيرة والوسطى عن حرم الإسلام المقدّس والكعبة والحرم، ويجب قطع أيادي الشياطين عن الكعبة، وحُرم الدول الإسلاميّة الّتي هي من حرمة الكعبة، ويجب تلبية دعوة الله المتعال "لبّيك اللّهمّ لبّيك".
اتحدوا لتُعيدوا المجد
ويجب عليكم الاتكال على الله العظيم في تلك المواقف العظيمة، وعقد معاهدة الوحدة والاتفاق في مقابل جنود الشرك والشيطان، وأن ترتفعوا عن الفرقة والتنازع ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُم﴾1 إنّ لون ورائحة الإيمان والإسلام اللّذين هما أساس الانتصار والقوّة، يجب أن يقضيا على التنازع والتفرقة اللّذين أساسهما الأهواء النفسانيّة ومخالفة أحكام الحقّ تعالى.
ولنصل إلى النصر من خلال الاجتماع على الحقّ، وتوحيد الكلمة وكلمة التوحيد الّتي هي أساس ومنبع عظمة الأمّة الإسلاميّة.
يا مسلمي العالم، ماذا جرى لكم؟
في صدر الإسلام على قلّتكم هزمتم القوى العظمى، وحقّقتم وجود الأمّة الإسلاميّة الإنسانيّة الكبرى، وأنتم اليوم تُعدّون بما يقارب المليار نسمة وتملكون الثروات الكبيرة الّتي تُعتبر رأس الحريّة، وتُعانون إلى
هذا الحد من الضعف والانسحاق في مقابل الأعداء. هل تعلمون أنّ كلّ المصائب الّتي تُعانون منها هي نتيجة التفرّق والاختلاف بين رؤساء بلدانكم، وبالتالي فيما بينكم؟
انهضوا من أماكنكم واحملوا القرآن الكريم واستلهموا أوامر الله تعالى حتّى تُعيدوا مجدكم وعظمة الإسلام العزيز. تعالوا واستمعوا إلى موعظة واحدة من الله حيث يقول:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى﴾2 انهضوا جميعاً وقوموا لله. قوموا فرادى على جنود وشياطين أنفسكم الباطنيّة وقوموا جماعات على القوى الشيطانيّة، إذا كانت الثورة والنهضة إلهيّة ولأجل الله فهي منتصرة.
أيّها المسلمون ويا مستضعفي العالم، مدّوا أياديكم لبعضكم البعض وسيروا في سبيل الله، والجأوا إلى الإسلام وثوروا على المستكبرين الظالمين والمعتدين على حقوق الشعوب حجّاج بيت الله الحرام، اتّحدوا في المواقف والمشاعر الإلهيّة واطلبوا من الله العليّ القدير أن ينصر الإسلام والمسلمين ومستضعفي العالم.
الوحدة هي الحلّ
أيّها الحجّاج المحترمون لقد اجتمع العالم حول بعضه البعض، ويتبادل الآراء في مصالح الإسلام ومشاكل المسلمين، فيجب أن تتّخذوا
إجراءات ضروريّة لحلّ هذه المشاكل والوصول إلى الأهداف الإسلاميّة المقدّسة، وابحثوا في طرق وسبل الوحدة بين جميع الطوائف والمذاهب الإسلاميّة، وابحثوا في المسائل السياسيّة المشتركة بين جميع الطوائف الإسلاميّة وابحثوا لإيجاد حلّ للمشاكل الّتي أوجدها أعداء الإسلام لمسلمي العالم، والّتي يُعتبر أهمّها تفرقة صفوف المسلمين.
اليوم ما هو الحلّ؟ ولأجل تحطيم هذه الأصنام ما هو تكليف المسلمين والمستضعفين في العالم؟
طريق واحد (هو الدعوة إلى الوحدة) هو أساسٌ لكلّ السبل ويقتلع جذور هذه المآسي ويقطع دابر الفساد ويُعيد وحدة المسلمين بل وحدة جميع المستضعفين وكلّ المستضعفين والمكبّلين بالسلاسل في العالم؛ هذه الوحدة الّتي يؤكّدها ويكرّرها الإسلام الشريف والقرآن الكريم، ويجب تحقيقها في الواقع من خلال الدعوة والتبليغ بها بشكل واسع، ومركز هذه الدعوة مكّة المعظّمة عندما يجتمع المسلمون لأداء فريضة الحجّ والّتي بدأها إبراهيم خليل الله ومحمّد حبيب الله ويكمّلها في آخر الزمان حضرة بقيّة الله أرواحنا لمقدمه الفدا.
يُخاطب الله إبراهيم خليل الله ليدعوا الناس إلى الحجّ، فيأتون من جميع الأقطار ليشهدوا منافع لهم ومنافع للمجتمع؛ منافع سياسيّة، ومنافع اقتصاديّة، ومنافع اجتماعيّة وثقافيّة. ليأتوا ويروا نبيّهمعليه السلام الّذي قدّم أغلى وأعزّ ثمرة في حياته في سبيل الله.
ويجب على ذريّة آدم كلّها أن تتأسّى بك فلينظروا كيف حطّمت
الأصنام، وكيف أبعدت ورميتَ جانباً كلّ ما عدا الله؛ شمساً كان أم قمراً، هياكل، حيوانات أو بشراً وقلت في كنه الحقيقة: ﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾3.
ويجب على الجميع التأسّي بأبي التوحيد، وسيّد الأنبياء عظماء الشأن صلى الله عليه وآله وسلم ونقرأ في سورة التوبة، الأمر الّذي قرأه في مكّة على مسمع الناس عامّة، فقرأ:﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾4.
شكِّلوا جبهةً للمستضعفين
ومن جملة الوظائف في هذا الاجتماع العظيم، دعوة الناس والمجتمعات الإسلاميّة لوحدة الكلمة ورفع الاختلافات بين فئات المسلمين، حيث ينبغي على الخطباء والعلماء والمفكّرين أن يُبادروا إلى هذا الأمر الحياتيّ، ويسعوا في سبيل إيجاد وتشكيل جبهة للمستضعفين. حيث إنّهم يستطيعون بوحدة الجبهة، ووحدة الكلمة، وشعار لا إله إلّا الله أن يتحرّروا من أسر القوى الشيطانيّة للأجانب والمستعمرين والمستثمرين، ويتغلّبوا على المشاكل بوحدتهم وأخوّتهم.
احترزوا من التفرقة
ليسمع الجميع هذه الحقيقة، إنّ أعداء الإسلام يسعون بكلّ قوّتهم
لإيجاد التفرقة والاختلاف بين المجتمعات الإسلاميّة ويسعون بأيّ وسيلةٍ وتحت أيّ عنوان لإيجاد النزاعات بين المسلمين، والّتي بتحقيقها تتهيّأ الأرضيّة الصالحة لتسلّطهم الكامل من جديد على جميع الدول الإسلاميّة، ويُساعدهم على ذلك هجومهم لنهب الثروات، ومن هذه الجهة يجب الاحتراز عن أيّ عملٍ يؤدّي إلى التفرقة وهذا تكليف شرعيّ وإلهيّ.
سرُّ الانتصار وسبب الهزيمة
يا مسلمي العالم، يا أتباع عقيدة التوحيد، إنّ سرّ كلّ هذه المصاعب والمتاعب في الدول الإسلاميّة، هو اختلاف الكلمة وعدم التنسيق. وإنّ سرّ الانتصار هو وحدة الكلمة ووجود التعاون والتنسيق حيث بيّن الله ذلك في جملة واحدة: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾5.
الاعتصام بحبل الله بيانُ تعاون جميع المسلمين، في سبيل الإسلام ولأجل مصالح المسلمين وللابتعاد عن التفرقة والانفصال والتحزّب الّذي هو أساس جميع المصائب والتخلّف. أطلب من الله العليّ القدير وحدة كلمة مسلمي العالم وعظمة الإسلام والمسلمين.
واجهوا المثقّفين المأجورين
يا مسلمي العالم الّذين آمنتم بحقيقة الإسلام، انهضوا واتّحدوا تحت رايّة التوحيد، وفي ظل تعاليم الإسلام، وكفّوا أيادي القوى العظمى
الخائنة عن بلادكم وثرواتها العظيمة، وأعيدوا مجد الإسلام، واحترزوا من الخلافات والأهواء النفسانيّة لأنّكم تملكون كلّ شيء، اعتمدوا على حضارة الإسلام، وحاربوا الغرب والمتغرّبين، وقفوا على أقدامكم، وناهضوا المثقّفين المتغرّبين والمستشرقين، وحقّقوا هويّتكم لأنّ المثقّفين المأجورين قد جلبوا الكثير من البلايا والمصائب لشعوبهم وبلدانهم لضرب وحدتكم والحيلولة دون اعتمادكم على الإسلام. وما لم تتّحدوا، وبالدقّة ما لم تعتمدوا على الإسلام المستقيم ستواجهون ما واجهتموه حتّى يومنا هذا.
اليوم هو زمن ينبغي على الشعوب أن تُنير درب مثقّفيها ومفكّريها لإنقاذهم من حالة الانسحاق والضعف أمام الشرق والغرب. اليوم هو يوم حركة الشعوب الّتي كانت وما زالت تعتبر حتّى اليوم قبلة للهداة.
اعلموا أنّ قدرتكم المعنويّة مسيطرة على جميع القوى الأخرى، وأنتم تشكّلون نحو المليار نسمة مع ما عندكم من ثروات لا تنضب، تستطيعون القضاء على كلّ القوى.
انصروا الله ينصركم، أيّها المحيط الإسلاميّ الكبير المارد، انهض وحطّم أعداء الإنسانيّة، وإذا ما سلكتم طريق الله والتزمتم تعاليم السماء فإنّ الله وجنوده معكم.
المشاركة في صلاة الجماعة للإخوة أهل السنّة
طوفوا حول الكعبة بالطواف المتعارف على النحو الّذي يقوم به جميع الحجّاج. واحترزوا من الأعمال الّتي يفعلها الأشخاص
الجاهلون، واحترزوا من مطلق من الأعمال الّتي تكون موجبة لوهن المذهب، وفي الوقوفين إنّ اتباع حكم قُضاة أهل السنّة لازم ومُبرىء ما لم يُقطع بالخلاف.
ويجب على الأخوة الإيرانيّين وشيعة سائر الدول الاحتراز من الأعمال الجاهلة الّتي تؤدّي لتفرقة المسلمين، وينبغي الحضور بين جماعات أهل السنّة. واجتناب الصلاة جماعة في المنازل، والاحتراز من وضع مكبّرات الصوت خلاف المتعارف، واجتناب الارتماء على القبور المطهّرة، والأعمال الّتي تكون أحياناً مخالفة للشرع الحنيف.
* أبعاد الحج في كلام الإمام الخميني، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.
1- سورة الأنفال، الآية: 46.
2- سورة سبأ، الآية: 46.
3- سورة الأنعام، الآية: 79.
4- سورة التوبة، الآية: 3.
5- سورة آل عمران، الآية: 103.
البُعد المعنويّ للحجّ
"إنّ البُعد السياسيّ والاجتماعيّ للحجّ لا يتحقّق إلّا بعد أن يتحقّق البُعد المعنويّ"
الإمام الخمينيّ قدس سره
مكّة: مدينة جهاد النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم
من النقاط المهمّة الّتي ينبغي على الحجّاج الكرام الالتفات إليها، أنّ مكّة المكرّمة والمشاهد المشرّفة مرآة لنهضة الأنبياء والإسلام ورسالة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، وهي مكان نزل فيه الأنبياء وجبريل الأمين عليهم السلام، هذا المكان الّذي يذكّرنا بالمصائب والصعوبات الّتي تحمَّلها النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم في سبيل الإسلام والبشريّة لعدد من السنين، وأنّ التواجد في هذه المشاهد المشرّفة والأماكن المقدّسة. وإذا ما أخذنا بعين الإعتبار الشروط الصعبة لبعثة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، عرفنا أكثر مسؤوليّة الحفاظ على إنجازات هذه النهضة وهذه الرسالة الإلهيّة، وكم عانى النبيّ الأكرم وأئمّة الهُدى من الغربة لأجل دين الحقّ وإزهاق الباطل. لقد استقاموا ووقفوا ولم يهابوا أو يجزعوا من التهم والإهانات وجراحات ألسنة أمثال أبي لهب وأبي جهل وأبي سفيان. وفي نفس الوقت استمرّوا وأكملوا طريقهم رغم الحصار الإقتصاديّ في شعب أبي طالب، ولم يستسلموا ولم يهنوا، ومن بعدها تحمّلوا الهجرات والمرارات في سبيل دعوة الخلق، وتبليغ رسالة الله، وتواجدوا في
الحروب المتتاليّة والغير متكافئة وهم رغم الآلاف من المؤامرات ورغم كثرة المنافقين، قاموا بهداية وإرشاد الناس بهمّة عالية وصلبة حيث تشهد صخور مكّة والمدينة وصحاريها وجبالها وأزقّتها وأسواقها على آثار تبليغ رسالتهم. وإذا ما رفعنا الستار وكشفنا النقاب عنهم في الكلام وعن سرّ ورمز تحقّق: ﴿فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ﴾1. لعرف وعلم زوّار بيت الله الحرام كم سعى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجل هدايتنا وحصول المسلمين على الجنّة، وكم أنّ مسؤوليّة أتباعه ثقيلة، ويقيناً إنّ حجم الظلم والعذاب والصعوبات الّتي مرّت على أئمّتنا كانت أكبر وأكثر بمراتب من مسائلنا نحن.
الكعبة مركز التولّي والتبرّي
إنّ الكعبة المعظّمة هي المركز الأوحد لتحطيم الأصنام، لقد رفع نداء التوحيد من الكعبة إبراهيم الخليل في أوّل الزمان وسيرفعه حبيب الله ولده المهديّ العزيز الموعود | في آخر الزمان، وسيبقى مرتفعاً. قال الله تعالى لخليله إبراهيم:
﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾2.
وقال عزّ من قائل: ﴿وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾3. وهذا تطهير من كلّ الأرجاس وعلى رأسها الشرك كما في صدر الآية الكريمة، وفي سورة التوبة نقرأ: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾4.
المسجد الحرام بيت الجميع
بيت الله الحرام أوّل بيت بُني للناس، هو بيت للجميع، الجميع سواسية هناك. فأهل البادية، وسكّان الصحارى، والّذين يحملون بيوتهم على أكتافهم، متساوون مع العاكفين في الكعبة وسكّان المدن، ورعايا الدول.
هذا البيت شُيّد للناس ولأجل منافعهم، ونهضتهم.
المسجد الحرام ليست للعبادة فقط
إنّ المسجد الحرام والمساجد الأخرى في زمان رسول الله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم كانت مراكز عسكريّة وسياسيّة واجتماعيّة ولم يكن مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأجل الأمور العباديّة فقط كالصلاة والصيام، بل كانت المسائل السياسيّة هي الأغلب، فكانت الأمور الّتي تتعلّق بإرسال الرجال إلى الحرب وتعبئة الناس إنّما تبدأ من المسجد في أيّ وقت يحتاجون فيه لذلك.
أهميّة البُعد المعنويّ للحجّ
إنّ المراتب المعنويّة للحجّ هي رأسمال الحياة الخالدة وهي الّتي تُقرّب الإنسان من أُفق التوحيد والتنزيه، وسوف لن نحصل على شيء ما لم نطبّق أحكام وقوانين الحجّ العباديّة بشكل كامل وصحيح، وعلى الحجّاج المحترمين والعلماء المعظّمين مسؤولي قوافل الحجّاج أن يصرفوا وقتهم ويكون كلّ همّهم تعلّم وتعليم مناسك الحجّ، وعلى العارفين مراقبة من يرافقهم حتّى لا يتخلّف أحدٌ عن الأوامر لا سمح الله، إنّ البعد السياسيّ والاجتماعيّ للحجّ لا يتحقّق إلّا بعد أن يتحقّق البُعد المعنويّ والإلهيّ وأن تكون كلمة "لبّيك" الّتي تتلفّظون بها استجابة لدعوة الحقّ تعالى. وأنتم مُحرمون لأجل الوصول إلى ساحة الحقّ المقدّسة تشعرون بأنفسكم أنّكم بالتلبية للحقّ تعالى، تنفون صفة الشرك بجميع مراتبها، وتهاجرون بأنفسكم الّتي هي منشأ الشرك الأكبر نحو الباري جلّ وعلا، والأمل في أن ينال الباحثون عن ذلك أجرهم - وهو على الله - فيما لو أدركهم الموت وهم في طريق هجرتهم.
كان نفي الشريك في هذا المقام أيضاً شامل لجميع المراتب حتّى بناء العالم في نظر أهل المعرفة ومشتمل على جميع الفقرات الاحتياطيّة والاستجابيّة مثل "الحمد لك والنعمة لك".
والحمد هنا من اختصاص الذات المقدّسة، وكذلك النعمة ونفي الشريك، وهذا غاية التوحيد عند أهل المعرفة، وهذا يعني أنّ كلّ حمد
وكلّ نعمة تتحقّق في عالم الوجود، هي حمد الله بدون شريك، ويسري هذا المقصد وهذه الغاية على كلّ موقف ومَشعر ووقوف وحركة وسكون وفي أيّ عمل، وخلاف ذلك إنّما يكون الشرك بالمعنى الأعمّ، المبتلون به نحن جميعاً عُمي القلوب.
.... وإذا ما دفنّا في عالم النسيان الجهات المعنويّة، لا تظنّوا أنّكم قادرون.
سرُّ التلبية
إنّ هذه المناسك العجيبة كلّها إشارات عرفانيّة وروحيّة لا يتّسع المجال لتفصيلها في هذا المقال. بدءاً من الإحرام والتلبية وحتّى آخر المناسك. لذا سأكتفي بذكر بعض إشارات التلبية.
إنّ لبَّيك الّتي تتكرّر عدّة مرّات من إنسان، حقيقته أنّه يستجيب لدعوة الله بالاسم الجامع، ويستمع بروحه لنداء الحقّ، فالمسألة هي مسألة الحضور بين يدي الله ومشاهدة جمال المحبوب. ويُحكى أنّ المتحدّث في هذه الساحة المقدّسة يتجاوز ذاته ليفنى وهو يكرّر استجابته للدعوة ويعقّب بعد ذلك بنفي الشريك لله بالمعنى المطلق الّذي يعلمه أهل الله. ليس الشريك في الألوهيّة فقط، وإنّما على التخلّص والتحرّر من مخالب شيطان النفس. وما دمتم في أسر وقيد ذواتكم وأهوائكم النفسانيّة، لن تستطيعوا الجهاد في سبيل الله، والدفاع عن حرمات الله.
وأنتم أيّها الأعزّاء، ارجعوا إلى ذواتكم، وفكّروا بأبطال الجمهوريّة الإسلاميّة الّذين حقّقوا الانتصارات الإلهيّة لأجل الإسلام والجمهوريّة الإسلاميّة. والآن يوجد بينكم بعض من الشهداء الأحياء يؤدّون مناسك الحجّ معكم، فخذوا العبرة من هذا التحوّل العظيم الّذي حصل في داخلهم، وكان سبباً لكلّ التضحيات والفداء. وليعلم المسلمون أنّه ما لم تحصل في داخلهم درجة من هذه التحوّلات، فإنّ شيطان النفس الأمّارة بالسوء، وشياطين الخارج، لن يدعوهم يفكّروا بالأمّة الإسلاميّة ومظلومي العالم.
تحرّروا من غير الله
في المواقيت الإلهيّة والمقامات المقدّسة، في جوار بيت الله المليء بالبركات، راعوا آداب الحضور في الساحة المقدّسة للعليّ العظيم، وحرّروا قلوبكم أيُّها الحجّاج الأعزّاء من جميع الارتباطات المتعلّقة بغير الله، وأخرجوا من قلوبكم غير حبّ الله ونوّروها بأنوار التجليّات الإلهيّة، حتّى تكون الأعمال والمناسك في سيرها إلى الله مليئة بمضمون الحجّ الإبراهيميّ وبعده بالحجّ المحمّديّ، وبمقدار تخفيف الحمل من أفعال الطبيعة يسلم الجميع من أوزار المنى والمنيّة، وبحمل ثقل معرفة الحقّ وعشق المحبوب تعودون إلى أوطانكم وتجلبون للأصدقاء هدايا النعم الإلهيّة الأزليّة بدل الهدايا الماديّة الفانية، وبقبضات مليئة بالقيم الإنسانيّة الإسلاميّة الّتي بُعث لأجلها الأنبياء العظام من إبراهيم خليل الله عليه السلام إلى
محمّد حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم، تلتحقون بالرفاق عشّاق الشهادة. هذه القيم والدوافع الّتي تحرِّر الإنسان من أسر النفس الأمَّارة بالسوء، وتنجّي من الارتباط الشرق والغرب، وتوصل إلى شجرة الزيتون المباركة اللاشرقيّة واللاغربيّة.
الحجّ سؤال الله
انتبهوا إلى أنّ السفر إلى الحجّ ليس سفراً للتجارة، وليس سفراً لتحصيل أمور الدنيا، إنّما هو سفر إلى الله. أنتم ذاهبون إلى بيت الله الحرام، فأتمّوا كلّ الأمور والأعمال المطلوبة منكم بطريقة إلهيّة. إنّ سفركم الّذي يبدأ من حين التهيّؤ هو وفادة إلى الله، سفر إلى الله تعالى، وكما أنّ المسافرين إلى الله أمثال الأنبياء عليهم السلام والعظماء من ديننا، مسافرون إلى الله في جميع أحوالهم وأوقات حياتهم، ولم يتخلّفوا خطوة واحدة عن أيّ شيء في برنامج الوصول إلى الله، أنتم أيضاً تذهبون الآن وفوراً إلى الله، في الميقات الّذي تذهبون إليه تلبّون فيه نداء الله، وتقولون لبّيك الّلهمّ لبّيك، يعني أنت تدعونا ونحن نجيب الدعوة. معاذ الله أن تقوموا بعمل لا يرضاه الله تبارك وتعالى، أنا لا أقبل، ولا أُريدكم إذا كنتم غير إسلاميّين. معاذ الله أن تجعلوا هذا السَّفر سفراً للتجارة أو تبحثوا الأمور والمسائل التجاريّة فيما بينكم، أيّها السادة أهل العلم، أيّتها القوافل، يا رؤساء القوافل، يا سائر الحجاج، هذا السَّفر سفرٌ إلى الله وليس سفراً إلى الدنيا، فلا تلوّثوه بها.
أخلصوا في الحج
إنّ أهمّ الأمور في جميع العبادات هو الإخلاص في العمل وإذا قام شخص لا سمح الله بعمل ما لأجل التظاهر به أمام الآخرين، وعرَض عمله الجيّد أمامهم، فإنّه يُصبح باطلاً. ولينتبه الحجّاج المحترمون وليواظبوا على عدم إشراك غير الله في أعمالهم.
إنّ الجهات المعنويّة للحجّ كثيرة، والمهم أن يعرف الحاجّ إلى أين يذهب ودعوة من يلبّي؟ وأنّه ضيف من؟ وما هي آداب هذه الضيافة؟
وليعلم أنّ الغرور والنظرة الذاتيّة لا يجتمعان مع حبّ الله وطلبه، ويتناقضان مع الهجرة إلى الله، وبالتالي تكونان سبباً لنقص معنويّات الحجّ. وإذا ما تحقّقت هذه الجهة المعنويّة والعرفانيّة للإنسان، وإذا ما تحقّقت لبّيك صادقة ومقرونة بنداء الحقّ تعالى، حينها ينتصر الإنسان في جميع الميادين السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة وحتّى العسكريّة، ومثل هذا الإنسان لن يعرف الهزيمة. إلهي اجعل جزءاً من هذا السير والسلوك المعنويّ والهجرة الإلهيّة من نصيبنا جميعاً.
ليلتفت أولئك الّذين يذهبون إلى الحج أن لا يخلطوا للحظةٍ حجَّهم بالمعاصي. ينبغي أن يكون كلّ شيء إسلاميّاً وكلّ شيء عبادةَ، لتكن المظاهرات عبادة محضة، ولتكن الشعارات عباديّة، خالية من المعصية، لتكن على النحو الّذي أراده الله، يجب أن تكون هذه المسائل طبق برنامج صحيح قد خُطّط له من قبل, ويجب أيضاً الانتباه لهذه المسائل.
سرُّ المناسك
إنّ الطواف حول الكعبة المشرّفة يعني أنّ الإنسان لن يطوف لغير الله. ورجم العقبات هو رجمٌ لشياطين الإنس والجنّ، وأنتم عندما ترجمون عاهدوا الله أن تقتلعوا شياطين الإنس والقوى المستكبرة من البلاد الإسلاميّة. اليوم كلّ العالم الإسلاميّ أسيرٌ بيد أمريكا، احملوا من الله رسالةً إلى مسلمي القارات المختلفة للعالم الإسلاميّ رسالة أن لا تخضعوا لغير الله ولا تكونوا عبيداً لأحد.
عندما تلفظون لبّيك لبّيك، قولوا لا لجميع الأصنام، واصرخوا لا لكلّ الطواغيت الكبار والصغار، وأثناء الطواف في حرم الله حيث يتجلّى العشق الإلهيّ، أخلوا قلوبكم من الآخرين، وطهّروا أرواحكم من أيّ خوفٍ لغير الله. وفي موازاة العشق الإلهيّ، تبرّأوا من الأصنام الكبيرة والصغيرة والطواغيت وعملائهم وأزلامهم، حيث إنّ الله تعالى ومحبّيه تبرّؤوا منهم، وإنّ جميع أحرار العالم بريئون منهم. وحين تلمسون الحجر الأسود اعقدوا البيعة مع الله أن تكونوا مطيعين وعبيداً له، أينما كنتم وكيفما كنتم. وأن تكونوا أعداءَ أعداءِ اللهِ ورسولِه والصالحين والأحرار.
لا تحنوا رؤوسكم، واطردوا الخوف من قلوبكم، واعلموا أنّ أعداء الله وعلى رأسهم الشيطان الأكبر جبناء وإن كانوا متفوّقين في قتل البشر وفي جرائمهم وجناياتهم. أثناء سعيكم بين الصفا والمروة اسعوا سعي من يُريد الوصول إلى المحبوب، حتّى إذا ما وجدتموه
هانت كلّ الأمور الدنيويّة، وانتهت كلّ الشكوك والتردّدات، وزالت كلّ المخاوف والحبائل الشيطانيّة وكلّ الارتباطات القلبيّة الماديّة، وازدهرت الحريّة، وانكسرت القيود الشيطانيّة والطاغوتيّة الّتي أسرت عباد الله.
سيروا إلى "المشعر الحرام وعرفات" وأنتم في حالة إحساس وعرفان، وكونوا في أيّ موقفٍ مطمئنّي القلب لوعد الله الحقّ بإقامة حكم المستضعفين. وبسكون وهدوء فكّروا بآيات الله الحقّ، وفكّروا بتخليص المحرومين والمستضعفين من براثن الاستكبار العالميّ، واطلبوا من الحقّ تعالى في تلك المواقف الكريمة تحقيقَ سُبل النجاة، بعد ذلك عندما تذهبون إلى "مِنى" اطلبوا هناك أن تتحقّق الآمال الحقّة حيث التضحية هناك بأثمن وأحبّ شيء في طريق المحبوب المطلق، واعلموا أنّه ما لم تتجاوزوا هذه الرغبات والّتي أعلاها حبّ النفس وحبّ الدنيا التابع لها، فسوف لن تصلوا إلى المحبوب المطلق. وفي هذه الحال ارجموا الشيطان، واطردوه من أنفسكم وكرّروا رجم الشيطان في مواقع مختلفة بناءً على الأوامر الإلهيّة، لدفع شرّ الشياطين وأبنائهم عنكم.
لا ترجموا أنفسكم
إنّ هذا السَّفر الإلهيّ الّذي تذهبون إليه وترجمون فيه الشيطان، إذا ما كنتم لا سمح الله من جنود الشيطان فسترجمون أنفسكم أيضاً. وأنتم يجب أن تكونوا فيه رحمانيّين، وأن تصبحوا رحمانيّين، حتّى
يكون رجمكم رجم أتباع الرحمن وجنودِه للشيطان، أنتم تقفون في تلك المواقف والمواضع الكريمة، معاذ الله أن يتلوّث وقوفكم بشيء خلاف الشرع، أو يتلوّث بالمعصية، ففضلاً عن إراقة ماء الوجه أمام الله تسقط كرامة الإسلام في الدنيا. اليوم كرامة الإسلام متقوّمة بوجودكم، أنتم الّذين تذهبون جماعات جماعات إلى تلك المواقف الكريمة ويشاهدكم سائر المسلمين.
لا حجّ كامل بدون حجّ صحيح
إنّ المراتب المعنويّة للحجّ هي رأسمال الحياة الخالدة بحيث تُقرّب الإنسان من أفق التوحيد والتنزيه، وسوف لن نحصل على النتيجة ما لم ننفّذ أحكام وقوانين الحجّ العباديّة بشكل صحيح ولائق.
على الحجّاج المحترمين والعلماء المعظّمين مسؤولي قوافل الحجّاج أن يصرفوا وقتهم ويكون كل همّهم هو تعلّم وتعليم مناسك الحج وعلى العارفين مراقبة من يرافقهم حتّى لا يتخلّف أحد عن الأوامر.
على أيّة حال هذه وظيفة العلماء الموجودين في القوافل يعني هي إحدى وظائفهم، وإنّ إحدى الوظائف المهمّة أيضاً تعريف الناس بمسائل الحجّ، إنّنا نرى الكثيرين من الأشخاص الّذين يذهبون إلى الحجّ ويتحمّلون المصاعب لا يعرفون مسائل الحجّ ويصبحون مقيّدين بحركتهم هناك، وعندما يعودون وبعد عدّة سنوات يسألون: أنّنا قد أنجزنا عملنا على الشكل التالي، فهل حجّنا صحيح أم لا؟ فهل نحن ما زلنا على إحرامنا أيضاً أم لا؟ فيجب على السادة العلماء أن يعقدوا
جلسات للتدريس ويفقّهوا الناس بآداب الحجّ، واجبات الحجّ، محرّمات الحجّ. فإذا لم يتعلّموا الآداب، فليس في ذلك إشكال، أمّا المحرّمات والواجبات، فيجب تعليمها للناس يوميّاً، ويجب على الناس أيضاً الذهاب عند السادة العلماء لحضور هذه الدروس، فإذا ما انعقدت هذه الدروس فيجب أن يذهبوا إليهم ويستمعوا ويتعلّموا مسائل الحجّ حتّى لا يُصبحوا مأسورين فيما بعد عند عودتهم ويتساءل أحدهم كيف كان طوافي، هل كان صحيحاً أم لا؟
فعندما تتعلّمون المسائل فالعمل حينئذ يكون صحيحاً وخالياً من الأخطاء. وأيضاً إنّ إحدى الوظائف الملقاة على الجميع ـ ويجب على العلماء القيام بها هناك، كما يجب على عامّة الناس ـ هي تعلّم مسائل الحجّ وعدم الاكتفاء بأنّنا ذهبنا إلى الحجّ وأنجزنا عملنا كيفما كان.
كلّا الأمر هنا مختلف عن كلّ الأماكن الأخرى. فالإنسان الّذي يذهب للزيارة مثلاً ولم يُنجز الأعمال المتعلّقة بها على النحو الصحيح سوف لن تسبّب له أيّ إشكال أو مشكلة، أمّا هنا في الحجّ فإنّها تسبّب له إشكالا لأنّه ما زال مُحرماً! وهذا يعني أنّه يجب عليه أن يذهب ثانية إلى الحجّ وهو يواجه الكثير من هذه الإشكالات لذا ومن أجلكم أنتم عليكم أن تتّبعوا هذه المسائل وتتعلّموها، حتّى لا تقعوا في الاشتباه والخطأ ولا تكون سبباً لتعبكم فيما بعد، وهذه أيضاً إحدى المسائل.
الأُنس بالقرآن في الحجّ
إنّي أذكِّر الحجّاج المحترمين أن لا يغفلوا في جميع المواقف المعظّمة وطيلة فترة سفرهم إلى مكّة المكرّمة والمدينة المنوّرة عن الاستئناس بالقرآن الكريم، هذه الصحيفة الإلهيّة وكتاب الهداية، لأنّ كلّ ما عند المسلمين وما سيكون، على طول امتداد التاريخ الماضي وكذلك في المستقبل، إنّما هو من بركات هذا الكتاب المقدّس، ولذا أرجو من العلماء الأعلام، وأبناء القرآن، والمفكّرين العظام، أن يستفيدوا من هذه الفرصة ولا يغفلوا عن هذا الكتاب المقدّس ففيه تبيانٌ لكلّ شيء.
هذا الكتاب السماويّ الإلهيّ الّذي هو الصورة العينيّة والكتبيّة لجميع الأسماء والصفات والآيات والبيّنات، ونحن عاجزون عن إدراك مقاماته الغيبيّة، ولا يعلم أحد أسراره غير النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة عليهم السلام، حيث أدركه خلّص الأولياء العِظام ببركة الذات الإلهيّة المقدّسة والقرآن ينهل منه خُلّص أهل المعرفة، وعلى قدر استعداداتهم ومراتب سلوكهم بفضل مجاهداتهم ورياضاتهم القلبيّة. والآن وهو في صورته المدوّنة بعد نزوله بلسان الوحي وصلنا دون نقص أو زيادة حرف، ومعاذ الله أن يُصبح مهجوراً إلّا أنّ أبعاده المختلفة والّتي ينطوي في كلّ بعد منها على مراحل ومراتب بعيدة عن متناول البشر العاديّين، ولكنّ أهل المعرفة والتحقيق في مختلف فروعه وبنسبة العلم والمعرفة والاستعداد لديهم من خلال بياناتهم وخطبهم وأحاديثهم المتفاوتة
إنّما يقرّبون الفهم من هذه الخزائن اللامتناهية بالعرفان الإلهيّ والبحر الموّاج للكشف المحمّدي ويقدّمونه للآخرين، وأن يقوم أهل الفلسفة والبرهان ببحث ودراسة الرموز الخاصّة لهذا الكتاب الإلهي وكشف أصل الأدلّة الفلسفيّة الإلهيّة لإشارات تلك المسائل العميقة ويضعوها في متناول أهلها. وأن يقوم المستقيمون أصحاب الآداب القلبيّة والمراقبات الباطنيّة والّذين حصلوا على رشفة وجرعة من عوالم "أدّبني ربّي" ويقدّموها هديّة لأجل أولئك العُطاشى لهذا الكوثر ويؤدّبوهم بالحدّ الميسور بآداب الله. ويقدّم المتّقون لعُطاشى الهداية بارقةً من نور التقوى الّتي نهلوها من هذا النبع الفوّار ﴿هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ﴾ 5، هديّة لأجل العشّاق الّذين يتحرّقون لنور هداية الله.
وأخيراً إنّ أيّ طائفة من العلماء الأعلام والمفكّرين العظام، الّذين بروا أقلامهم لكشف بُعدٍ من الأبعاد الإلهيّة لهذا الكتاب المقدّس وحقّقوا آمال عاشقي القرآن، وصرفوا وقتهم في سبر أغوار الأبعاد السياسيّة، الاجتماعيّة، الاقتصاديّة، العسكريّة، الثقافيّة، والحرب والصلح في القرآن، حتّى أصبح معلوماً أنّ هذا الكتاب هو منبع كلّ شيء، بدءاً من العرفان والفلسفة إلى الأدب والسياسة، حتّى لا يقول الجهلة والّذين لا يعرفون شيئاً إنّ العرفان والفلسفة ليسا سوى نسج من الخيال ليس أكثر، وإنّ السير والسلوك والرياضة النفسيّة إنّما هي من عمل الدراويش. أوْ ما شأن الإسلام بالسياسة والحكومة، وإدارة
البلاد، إنّ هذا من اختصاص وعمل الملوك والسلاطين ورؤساء الجمهوريّات وأهل الدنيا. أو إنّ الإسلام هو دين الصلح والمساومة وإنّه بريء من الحروب والجدال مع الظالمين وينسبون هذه الأمور للقرآن...
يجب أن نعلم أنّ الحكمة هي أنّ هذا الكتاب الخالد الأبديّ إنّما هو لأجل هداية وإرشاد البشريّة من أيّ لون أو قوميّة وفي أيّ قُطب أو قِطر وحتّى قيام الساعة. وأن تبقى المسائل الحياتيّة المهمّة حيّة سواءً فيما يخصّ المعنويّات أو فيما يتعلّق بنظام الملكيّة. وإفهام الناس أنّ مسائل القرآن ليست لعصرٍ وجهةٍ خاصّة، ولا يُظنّ أنّ هدف إبراهيم وموسى ومحمّد عليهم وعلى آلهم السلام يختصّ بزمان خاصّ.
1- سورة هود، الآية: 112.
2- سورة الحجّ، الآية: 27.
3- سورة الحجّ، الآية: 26.
4- سورة التوبة، الآية: 3.
5- سورة البقرة، الآية: 2.
البعد السياسي للحجّ
إنّ إحدى أكبر فلسفات الحجّ هي البعد السياسيّ الّذي تسعى أيادي الجُناة لاقتلاعه.
الإمام الخميني قدس سره
أهميّة البُعد السياسي للحجّ
إنّ إحدى أكبر فلسفات الحجّ ـ القضيّة ـ هي البعد السياسيّ الّذي تسعى أيادي الجُناة لاقتلاعه واجتثاثه من كافّة جوانبه وهم يعملون على ذلك. وللأسف إنّ دعايات وتبليغات هؤلاء قد أثّرت على المسلمين حيث أصبح كثيرٌ من المسلمين يعتبر أنّ السفر إلى الحجّ عبارة عن عبادة جافّة وصعبة وخالية من أيّ تفكير بمصالح المسلمين. إنّ الحجّ منذ ذلك اليوم الّذي وجد فيه لم يقلّ بعده السياسيّ أهميّة عن بعده العباديّ أبداً، وإنّ البعد السياسيّ بنفسه عبادة، إضافة لكونه سياسة.
إنّ البعد السياسيّ لهذه المناسك العظيمة من أكثر الأبعاد المهجورة. وقد عمل الجُناة وما زالت أياديهم الخائنة تعمل أكثر وستبقى تعمل لأجل إبقائه مهجوراً.
ومسلمو اليوم وفي هذا العصر، عصر شريعة الغاب، مكلّفون أكثر من أي زمن مضى لرفع هذه الشبهات وإظهار هذا البعد. لأنّ اللاعبين الدوليّين ولأجل إبقاء المسلمين في غفلتهم ودائرة التخلّف من جهة، وعمل عملائهم النفعيّين من جهة أخرى، وغفلة الأجيال الجاهلة من
ناحية وعلماء البلاط أو أصحاب الفهم المنحرف والملتوي من ناحية أخرى، والنسّاك الجاهلون من جهة عن علم أو عن غير علم، قد وقفوا وراء بعضهم البعض لمحو هذا البعد ليعملوا فيما بعد على تقرير مصير المظلومين وتحريرهم.
ينبغي على الملتزمين والواعين والّذين تحترق قلوبهم لأجل غُربة الإسلام، وهجرانه أن يبيّنوا هذا البعد في أحكام الإسلام وخاصّة في أحكام الحجّ، حيث إنّ هذا البعد أكثر وضوحاً وتأثيراً. لينهضوا جميعاً ويسعوا لأجل ذلك من خلال أقلامهم وأحاديثهم وبياناتهم وكتاباتهم وخصوصاً في أيّام موسم الحجّ وبعد الانتهاء من هذه المراسم العظيمة، وعودتهم إلى ديارهم وبلادهم.
وبالالتفات لهذا البعد العظيم يستطيعون تحريك الناس وتوعيتهم لأجل تحرير مظلومي العالم من ضغط أدعياء السلام الظالمين المتزايد يوماً بعد يوم. ومن الواضح جدّاً أنّه ما لم يتمكّن المسلمون في هذا التجمّع العالميّ العظيم الّذي يضمّ جميع فئات الشعوب الإسلاميّة المظلومة، لأيّ مذهب أو شعب انتموا أو أيّ لغة تكلّموا ومن أيّ لون أو طبقةٍ كانوا، والّذين يجتمعون جميعاً وبزيّ واحد ولباس متشابه، بعيداً عن الشكليّات من حلّ المسائل الأساس للإسلام والمسلمين ومظلومي العالم، وما لم يجلسوا مكان الحكومات المستكبرة ومتكلّمي الزور سوف لن يجنوا شيئاً من الاجتماعات الصغيرة في المناطق والأقاليم، وسوف لن يتهيّأ لنا الوصول إلى حلول معيّنة.
بيت الله الحرام أوّل بيت بني للناس، بيت للجميع ولا أفضليّة فيه لأيّ شخصيّة أو نظام أو طائفة. الجميع سواسيةٌ هناك، فأهل البادية وسكّان الصحاري والّذين يحملون بيوتهم على أكتافهم متساوون مع العاكفين في الكعبة وسكّان المدن ورعايا الدول. هذا البيت شُيّد للناس، لأجل نهضة الناس، نهضة الجميع، ولأجل منافع الناس. وأيّ نفع أعظم وأعلى من جعل أيادي جبابرة العالم، وظَلَمة العالم مكفوفة عن تسلّطها على الدول المظلومة ولتصبح ثروات الدول العظيمة من حقّ شعوبها.
إنّ البيت قد أُسّس من أجل نهوض الناس ولأجل الناس. لذا يجب الاجتماع هناك على أساس هذا الهدف الكبير، وتتأمّن منافع الناس في هذه المواقف الشريفة وتُرجم الشياطين الكبيرة والصغيرة. ولا يكفي أبداً مجرّد عِمارة المسجد الحرام وسقاية الحاجّ وامتلاك مفتاح البيت، فهذا ليس له علاقة بالهدف. وإبقاء البيت والمسجد عاديّين كما كانا زمن إبراهيم وصدر الإسلام، وأن يتّحد المسلمون في ذلك المكان دون تكلّف مع الوافدين بدون حلق الرأس أفضل آلاف المرّات من تزيين الكعبة ورفع بنائِها العظيم، والغفلة عن الهدف الأصليّ الّذي هو نهوض الناس وشهود منافع الناس ﴿أجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِين﴾1. وكأنّ
الآية الكريمة نازلة في عصرنا نحن وتتحدّث عن حالنا في عصرنا الحاضر. نراهم مشغولين بالسقاية وحياة الحجّاج، وعمارة وتزيين المسجد الحرام، غافلين عن الإيمان بالله واليوم الآخر ويقفون جانباً عن الجهاد في سبيل الله، وهذا ظلم، والّذين هم غافلين عن ذلك يُحسبون من الظالمين.
الإيمان بالله واليوم الآخر، يعني أن يُجاهد الإنسان في سبيل الله، ويثور لأجل الحقّ، وإقامة القسط والعدل، والله لا يهدي قوماً ليسوا كذلك لأنّهم ظالمون.
اليوم موسم حجّ بيت الله الحرام، وفيه يأتي المسلمون من جميع أطراف العالم لزيارة بيت الله فينبغي أثناء إنجاز أعمال الحجّ الشريفة الانتباه إلى إحدى أهم فلسفات هذا الاجتماع العظيم، فيبحثوا في الأوضاع السياسيّة والإجتماعيّة للدول الإسلاميّة، ويطّلعوا على المصائب والمصاعب الّتي يواجهها إخوانهم في الإيمان، ويسعوا ضمن إطار تكليفهم الإسلاميّ والوجدانيّ لرفعها وحلّها. فالاهتمام بأمور المسلمين من الواجبات المهمّة في الإسلام.
الحجّ فرصة الوعي السياسيّ
إلى جميع حجّاج بيت الله الحرام أيّدهم الله، بعد التحيّة والسلام، اليوم وبسبب تساهل واستهتار الشعوب الإسلاميّة تمكّنت مخالب الاستعمار الخبيثة من أن تنفد إلى أعماق الأراضي الواسعة لأمّة القرآن، وتبتلع جميع ثرواتنا ومنابعنا الضخمة المؤمّمة.
إنّ ثقافة الاستعمار المسمومة قد انتشرت حتّى وصلت إلى أعماق المدن والقرى في الدول الإسلاميّة، ورمت ثقافة القرآن جانباً، وبدأت صياغة أجيالنا أفواجاً أفواجاً ليكونوا في خدمة الأجانب والمستعمرين. في كلّ يوم يحرفون شبابنا بنغمة جديدة وأسماء خدّاعة، ينبغي عليكم أنتم يا أمّة الإسلام الّذين اجتمعتم في أرض الوحي لأداء مناسك الحجّ، أن تستفيدوا من هذه الفرصة وأن تفكّروا بحلّ ما، تفاهموا وتبادلوا وجهات النظر لأجل حلّ مشاكل المسلمين.
يجب أن تتنبهوا أنّه في هذا الاجتماع العظيم الّذي هو بأمر من الله تعالى، وفي كلّ سنة وفي هذه الأرض المقدّسة، أنّكم مكلّفون بالسعي في سبيل الأهداف الإسلاميّة المقدّسة وتحقيق المقاصد العُليا الشريفة المطهّرة في سبيل تطوّر وعلوّ المسلمين ووحدة واتحاد المجتمعات الإسلاميّة.
كونوا فكراً واحداً وعهداً واحداً في طريق الاستقلال واجتثاث سرطان الاستعمار. لقد سمعتم مشاكل ومتاعب الشعوب الإسلاميّة من لسان أهل كلّ بلد فلا تتباطؤوا عن أيّ إجراء في سبيل حلّ مشاكلهم. فكّروا لأجل فقراء ومعوزي الدول الإسلاميّة. فكّروا بطريقةٍ ما لأجل تحرير الأراضي الفلسطينيّة الإسلاميّة من مخالب الصهيونيّة، عدوّة الإسلام والإنسانيّة. لا تغفلوا عن مساعدة ومعاونة أولئك الأبطال الّذين يقاومون بشهامة وبطولة في سبيل تحرير فلسطين. ينبغي على المفكّرين المشاركين في هذا الاجتماع من أيّ بلد كانوا توعية الشعوب
وإصدار البيانات بعد تبادل الآراء ووجهات النظر، وتوزيعها في محيط الوحي بين المجتمع الإسلاميّ، وكذلك نشرها في بلدانهم حين عودتهم، وأن تطلبوا في هذه البيانات من رؤساء الدول الإسلاميّة، أن يضعوا أهداف الإسلام نصب أعينهم ويضعوا الخلافات جانباً ويفكّروا بطريقة ما لأجل الخلاص من براثن الاستعمار.
هناك جوانب سياسيّة كثيرة تُطرح في الاجتماعات، جماعات وجمعات، وخصوصاً الاجتماع العظيم للحجّ، الّتي من جملتها الاطّلاع على المشاكل والمتاعب الأساسيّة والسياسيّة للإسلام والمسلمين، الّتي يُمكن أن تُطرح من خلال المؤتمرات للعلماء والمثقّفين والملتزمين من حجّاج بيت الله الحرام، وأن يطّلعوا على الحلول الممكنة من خلال التشاور، وينقلوا هذه الحلول ويطرحوها في التجمّعات العامّة عند عودتهم إلى بلدانهم ويسعوا لأجل حلّ مشاكلهم.
قدِّموا التقارير
في هذا الاجتماع المقدّس للحجّ، يجب أوّلاً بحث المسائل الأساس للإسلام، وثانياً تبادل وجهات النظر في المسائل الخاصّة للدول الإسلاميّة، انظروا ماذا يجري على الأخوة المسلمين في داخل دولهم من الاستعمار وعملائه وأتباعه. يجب على أهل كلّ بلد أن يقدّموا تقريراً لمسلمي العالم في هذا الاجتماع المقدّس يشرحون فيه ما تعانيه شعوبهم من مصاعب ومتاعب.
الاستكبار يخشى وحدتكم
أيّها الحجّاج المحترمون، لقد اجتمع العالم حول بعضه بعضاً، ويتبادل الآراء في مصالح الإسلام ومشاكل المسلمين، فيجب أن تتّخذوا إجراءات ضروريّة لحلّ هذه المشاكل والوصول إلى الأهداف الإسلاميّة المقدّسة. وابحثوا في طريق وسبل الوحدة بين جميع الطوائف والمذاهب الإسلاميّة، وابحثوا في المسائل السياسيّة المشتركة بين جميع الطوائف الإسلاميّة، وابحثوا المشاكل الّتي أوجدها أعداء الإسلام لمسلمي العالم والّتي نعتبر أهمّها تفرقة صفوف المسلمين، لأجل إيجاد حلّ لها. وكما يعلم الجميع فقد سعَّرت قوى الشرق والغرب من أكَلَة العالم في الآونة الأخيرة نار هذه المعركة الخطيرة لأنّها تخشى وحدة المليار مسلم. وتعمل بكلّ قوّتها بشكل مباشر أو من خلال أيادي عملائها المنحرفين لإيجاد هذه الاختلافات حتّى تبقى متسلّطة ومسيطرة على مقدّرات مسلمي العالم وحاكمة عليهم لتنهب ثرواتهم وذخائرهم الّتي لا تنتهي.
هذه الاجتماعات والتجمّعات الّتي هيّأها الإسلام بنحو سهل لأجل المسلمين، فجعلها الله سبحانه في كلّ سنة فريضة على كلّ من يستطيع، ليجتمعوا في مكّة المعظّمة وفي المواقف الشريفة، مع بعضهم بعضاً في محيط واحد، بعيداً عن التشريفات، لأنّه في الحجّ تسقط كلّ جوانب الاعتبارات الشخصيّة، ويحضر أحدنا في تلك المواقف بكفن؛ هو عبارة عن قطعتين من القماش لا غير،
والمهم هو اطلاع بعضنا بعضاً على المشاكل الّتي عانت منها بلاد المسلمين طيلة السنوات الماضية، والتفكير لأجل حلّ هذه المشكلات للمسلمين. وما الاجتماع المليونيّ الكبير الإسلاميّ في الحجاز إلّا لأجل هذه النكتة.
غفلة الكبار
نحن المسلمون للأسف قد ابتعدنا عن الإسلام، وانزوينا عن الحقائق الإسلاميّة.
والآن نرى أنّه لا يتشرّف بمكّة وحجّ بيت الله الحرام، سوى فئة معيّنة من عوام الناس، أمّا الأشخاص القادرون والمؤثّرون في الحكومات من كبار القوم لا نراهم هناك مجتمعين؛ للبحث في مسائل الإسلام والمسلمين وفي المسائل السياسيّة والاجتماعيّة، ونراهم للأسف غافلين عن هذا الأمر.
الحجّ: الاجتماع الأكبر
إنّ عقد هذه الاجتماعات قائم في جميع دول المسلمين. وفي كلّ مدينة وقرية، هذه أمور سياسيّة واجتماعيّة ينبغي على أهل كلّ بلد أن يجتمعوا في المساجد ويبحثوا في مشاكلهم ويعملوا على حلّها.
وإنّ صلاة الجمعة هي صلاة عباديّة سياسيّة وإجتماعيّة، حيث إنّه في كلّ أسبوع يُكثّف الناس اجتماعاتهم ويحلّوا مشاكلهم هناك. وإنّ اجتماع الكعبة هو أكبر اجتماع حيث تعجز أيّ دولة عن القيام به.
على جميع أهلِ البلاد الّتي تدخل مكّة وأفرادها المستطيعين أو علمائها المحترمين أن يبحثوا في أوضاع المسلمين في كلّ سنة، ما هو حالهم؟ كيف هو الوضع بينهم وبين حكوماتهم؟
ما هو الوضع بين حكوماتهم والقوى الشيطانيّة الأخرى؟ ما هو الوضع بين الشعوب أنفسهم؟ وبينهم وبين الشعوب الأخرى؟ ما هو الوضع بين العلماء المنتشرين في بلاد المسلمين وبين وضع الحجّ، هذه أمور ينبغي ويجب بحثها، والحجّ إنّما هو لأجل ذلك. الحجّ إنّما هو لأجل البحث في مشاكل المسلمين في كلّ سنة ولأجل وضع الحلول لها.
إنّ معمّمي البلاد الّذين يفرّقون بين منطقة وأخرى، ويقولون إنّ الحجّ يجب أن يبتعد عن الأطر السياسيّة، هؤلاء يُدينون رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، هؤلاء يُدينون الخلفاء، يُدينون أئمّة الهدى، هؤلاء لا يعلمون أنّ السفر إلى الحجّ إنّما كان لأجل هذه المشاكل، إنّما كان لأجل قيام الناس، إنّما كان لأجل أن يُدرك المسلمون مشاكل المسلمين ويسعون لأجل حلّها، إنّما كان لأجل خلق الأخوّة والمودّة بين المسلمين.
العدوّ المشترك
بكلّ تواضع أعرض على الحجّاج المحترمين وزوّار بيت الله الحرام لأيّ بلد أو طائفة أو مذهب انتموا. جميعكم من أمّة الإسلام وأتباع النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والسائرين على هدى القرآن المجيد، وجميعكم لديكم عدوّ غدّارٌ مشترك، استطاع من خلال إيجاد الاختلافات والتفرقة
بواسطة عملائه السيّئين، ومن خلال وسائل الإعلام، وبثّ الإشاعات والدعايات الكاذبة على امتداد التاريخ، وخاصّة في الفترة الأخيرة وبالأخصّ في عصرنا الحاضر، أن يأسر جميع الدول والشعوب الإسلاميّة، وأغار على ذخائر بلادكم الغنيّة، وما زال يُغير على مظلومي بلادكم، وهو بصدد أن يصمّ سمع الحكومات ويُطبق أعينها بالكامل، وتصبح الشعوب بيديه، سوقاً استهلاكيّة، ويمنع بمكائده وحيله الشيطانيّة ومؤامراته أيّ تقدم إنسانيّ أو حضاريّ أو صناعيّ لهذه الدول المظلومة، ويؤكّد بذلك أكثر فأكثر على ضرورة الارتباط والاعتماد على الشرق والغرب ولا يسمح حتّى في مجال التفكير لأيّ شخصٍ يفكّر بالاستقلال والإبداع، ويخنق الأنفاس المتوثّبة لأجل توعيّة الشعوب وتحريكها، وأنتم تشاهدون الوضع المأساويّ في البلاد الإسلاميّة وسائر الدول المظلومة، هذا نتيجة مؤامرات أعداء المسلمين والمظلومين المشتركين. ولكنّكم الآن في مركز الإسلام، واجتمعتم حول بعضكم بعضاً بأمر من الله ورسوله، واجتمعتم في هذا المكان العظيم من مذاهب وشعوب متعدّدة، لأجل أن تفكّروا بطريقة ما للتخلّص من هذا السرطان والوجع المهلك.
أصلحوا رؤساءكم
يجب على مسلمي العالم أن يعملوا على تربية وضبط وإصلاح رؤسائهم الّذين باعوا أنفسهم في بعض الدول، ويعملوا على نصيحتهم أو تهديدهم حتّى يستيقظوا من سباتهم الّذي سيؤدّي بهم وبمصالح
الشعوب إلى الفناء. ويحذروا هؤلاء العملاء والمأجورين، ويكونوا هم أنفسهم يقظين بوعي كامل، ولا يغفلوا عن خطر المنافقين وسماسرة الاستكبار العالمي، وأن لا يضعوا كفّاً على كفّ ويتركوا مراقبة الساحة الّتي تشهد تحطم الإسلام ونهب ثرواته وهتك أعراض المسلمين.
تجهَّزوا لمحاربة اسرائيل
اليوم وقعت قبلة المسلمين الأولى بيد إسرائيل، هذه الغدّة السرطانيّة في الشرق الأوسط. اليوم يجاهد إخوتنا الأعزّاء اللبنانيّون والفلسطينيّون بكلّ قوّتهم وتروي دماؤهم الأرض. اليوم تعمل إسرائيل بكلّ وسائلها الشيطانيّة لإيجاد الفرقة. يجب على كلّ مسلم أن يجهّز نفسه لمحاربة إسرائيل.
إنّ فلسفة الحجّ يجب أن تشكّل أجوبة لهذه الصرخات المظلومة، والطواف حول بيت الله يتجلّى بأنّ الإنسان لا يطوف إلّا لله ويرفض أن يطوف لأحد آخر غير الله.
وإنّ رجم العقبات هو رجم شياطين الإنس والجن، أنتم برجمكم تُعاهدون الله على أن تطردوا شياطين الإنس والقوى العظمى من بلادكم الإسلاميّة. اليوم، العالم الإسلامي أسير بيد أمريكا، أنتم تحملون رسالةً من الله لأجل جميع المسلمين في القارَّات المختلفة من العالم، رسالة تؤكّد أنّ العبوديّة إنّما هي لله وحده ولا يمكن أن تكون لأيّ شخص آخر.
فكّروا بطريقة ما، لأجل تحرير الأراضي الإسلاميّة الفلسطينيّة من مخالب الصهيونيّة؛ العدوّة اللئيمة للإسلام والإنسانيّة.
لا تغفلوا عن مساعدة ومعاونة أولئك الأبطال المضحّين الّذين يجاهدون ويقاومون في سبيل تحرير فلسطين.
يجب على الشعوب الإسلاميّة أن تفكّر بتحرير فلسطين، وتبرز غضبها واستياءها من المساومة الّتي يقوم بها زعماء العار الّذين باعوا أنفسهم وفرّطوا بأهداف شعوب الأرض المحتلّة والمسلمين في المنطقة باسم فلسطين. ويجب أن لا تسمح لهؤلاء الخونة بالجلوس على طاولة المفاوضات والقيام بالجولات المكوكيّة الّتي تهدف إلى النيل من شرف وكرامة الشعب الفلسطينيّ البطل.
إنّ هؤلاء المتجلببين بلباس الثوّار، ضعاف النفوس، الّذين باعوا أنفسهم، يتوسّلون بإسرائيل وأمريكا. لا يظنّنّ هؤلاء أنّه مع مرور الزمن قد تغيّرت سيرة وصورة جرائم العدوّ الصهيونيّ، وأنّ الذئاب مصّاصي الدماء والصهاينة قد رفعوا أيديهم عن التفكير بالتوسّع واغتصاب الأراضي من النيل إلى الفرات.
سوف لن يتوانى أحد من المسؤولين المحترمين في إيران وشعبنا والشعوب الإسلاميّة، عن مقاومة هذه الشجرة الخبيثة لاجتثاثها من الوجود. وبعون الله تعالى وبفضل أتباع الإسلام والقدرات المعنويّة لأمّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم وبالاستفادة من إمكانات الدول الإسلاميّة، وتشكيل قوى حزب الله في العالم سيتمكّنون من إخراج فلسطين والأراضي
المغتصبة من مخالب الصهيونيّة، وسيجعلونها تندم على كلّ جرائمها الّتي ارتكبتها في الماضي.
وأنا، كما قلت وحذّرت مراراً في السنوات الماضية قبل وبعد الثورة، مجدّداً أحذّر من خطر انتشار هذه الغدّة السرطانيّة الصهيونيّة في قلب وجسد العالم الإسلاميّ وأعلن عن دعمنا وتأييدنا شعباً وحكومة ومسؤولين في إيران للشعوب الإسلاميّة المقاومة، وللشباب المسلم الغيور في سبيل تحرير القدس.
وأشكر شباب لبنان الأعزّاء الّذين كانوا سبباً لعزّة وارتقاء أمّة الإسلام، وأذلُّوا ومرّغوا أنوف مستكبري العالم.
وأدعو الله لجميع الأعزاء في داخل الأراضي المحتلة والّذين على حدود هذا البلد المغتصَب الّذين يقاومون ويجاهدون العدو ويوجِّهون له الضربات معتمدين على سلاح الإيمان. وأطمئنكم أنّ شعب إيران سوف لن يترككم وحدكم، توكّلوا على الله واستلهموا من القدرات المعنويّة للمسلمين واهجموا على الأعداء متسلّحين بسلاح التقوى والجهاد والصبر والثبات ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾2.
دور العلماء والمفكّرين
ينبغي على المفكّرين الّذين يشاركون في هذا الاجتماع ومن أيّ بلدٍ كانوا، أن يُصدروا البيانات الّتي تدعو لتوعية الشعوب بعد تبادل
الآراء، والتوجيه بها، ونشرها في "محيط الوحي" بين المجتمعات الإسلاميّة، ونشرها أيضاً في بلادهم بعد عودتهم إليها. ويطلبوا في هذه البيانات من رؤساء الدول الإسلاميّة أن يضعوا نصب أعينهم الأهداف الإسلاميّة، ويضعوا جانباً الاختلافات، وأن يفكّروا بحلّ ما لأجل الخلاص من مخالب الاستعمار.
إنّ إحدى الفرص المناسبة والّتي يجب أن يستغلّها العلماء هي إقامة العلاقات مع أصحاب الرأي والمفكّرين، وعلماء الدول الإسلاميّة، حيث إنّ الاستكبار العالميّ أو بعض رؤساء الدول الإسلاميّة يعملون بقوّة لمنع هذا النوع من اللقاءات وإقامة العلاقات المتينة ويراقبون ذلك، وقد كان أحد أهداف الجمهوريّة الإسلاميّة الاستفادة من هذا الظرف المناسب لتبادل الآراء والأفكار ووضع البرامج الدقيقة والمفصّلة والصحيحة لأجل العثور على الحلول لمشاكل ومعضلات المجتمعات الإسلاميّة.
غفلة العلماء
ويا للعجب كيف أنّ الكثير من علماء وروحانيّي الدول والبلاد الإسلاميّة غافلون عن دورهم العظيم وعن رسالتهم الإلهيّة والتاريخيّة في هذا العصر الّذي تعيش فيه البشريّة الظمأ للأحكام النورانيّة والمعنويّة للإسلام. وكيف لا يُدركون ظمأ الشعوب واشتعال رغبات المجتمعات البشريّة الّتي لا تعرف شيئاً عن قيم الوحي الإلهيّ، ولم يقدّروا قدراتهم ونفوذهم المعنويّ لديهم، فبوسع علماء البلاد
والخطباء وأئمّة الجمعة والمفكّرين الإسلاميّين في هذه الظروف الّتي يُخيّم فيها زهو العلوم والحضارة المادّيّة على الجيل المعاصر، أن يجعلوا باتحادهم وتلاحمهم وشعورهم بالمسؤوليّة والعمل بواجبهم وتكليفهم المهمّ في هداية وقيادة الناس، وأن يضعوا حدّاً لكلّ هذا الفساد واستعباد المسلمين واحتقارهم، وأن يحولوا دون تغلغل الشياطين الصغار والكبار وخاصّة أمريكا في البلدان الإسلاميّة، وأن يشمّروا عن سواعدهم وينكبُّوا على تحقيق ونشر الأحكام النورانيّة للإسلام بدل كتابة المطوّلات وإطلاق الترّهات والكلمات الّتي تفرّق الناس، وكيل المديح والثناء لسلاطين الجور والظلم، والتسبّب بانحراف المستضعفين عن نصرتهم للإسلام وقضاياه.
وأن يحقّقوا عزّتهم ويُعيدوا الاعتبار والكرامة لأمَّة محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بالاستفادة من هذا البحر الواسع للشعوب الإسلاميّة.
أليس عاراً على علماء الدول الإسلاميّة مع وجود القرآن الكريم والأحكام النورانيّة للإسلام وسنّة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة المعصومين عليهم السلام، أن تحكم قوانين الكفر في البلاد الإسلاميّة وتكون تحت نفوذهم، وينفّذوا الأوامر والتعليمات الّتي تُملى عليهم من المزيّفين والمزوّرين وأعداء الإسلام.
يجب على علماء البلاد والدول الإسلاميّة أن يبيّنوا لشعوبهم مدى الآثار السيّئة والنتائج المترتّبة على الضياع أمام مغريات الشرق والغرب، وأن ينبّهوا الشعوب والدول لخطر الاستعمار الجديد، وشيطنة
القوى العظمى الّتي صنعت الحروب لقتل المسلمين في العالم. إنّني أؤكّد مجدّداً أنّ الدنيا اليوم ظمأى للحقائق والأحكام النورانيّة للإسلام وقد تمّت الحجّة الإلهيّة على جميع العلماء والروحانيّين... فإنّ المسلمين الشجعان والمقاومين الأعزّاء، حزب الله في لبنان وسائر الدول يقاومون ويجاهدون المعتدين، فأيّ حجّة أكبر من ذلك، وأيّ ذريعةٍ تبقى للسكون والمسايرة والجلوس في البيت والعمل بالتقيّة في غير موردها.
إذا تأخّر العلماء والروحانيّون الملتزمون بالإسلام عن العمل، سيفوت الأوان. طبعاً نحن نشعر ونحسّ بآلام بعض العلماء الملتزمين المحاصرين في مدنهم وبلادهم تحت حِراب وضغط التهديدات وأحكام علماء السوء اللاشرعيّة، ولكن أذكّر جميع هؤلاء الأعزّاء الّذين هم تحت ضغط الجبّارين بموعظة الله سبحانه:
﴿قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُم بِوَاحِدَةٍ أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيد﴾3.
قوموا لله ولا تجزعوا من الوحدة والغربة، فالمساجد أفضل المتاريس، وصلاة الجمعة والجماعة أفضل الساحات والميادين للتنظيم وشرح وبيان مصالح المسلمين.
الحجّ الإبراهيميّ الغريب
من الأمور الّتي لا تقبل الإنكار ولا تحتاج إلى التذكير أنّ الإسلام العظيم هو دين التوحيد ومحطّم الشرك والكفر وعبادة الأصنام
وعبادة النفس، وهو دين الفطرة والخلاص من قيود الطبيعة ودسائس الشيطان من الجنّ والإنس في العلن والخفاء، ودين سياسة التمدّن، والهادي إلى الصراط المستقيم ﴿ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ﴾4 دينٌ عبادته سياسة وسياسته عبادة، والآن حيث يجتمع مسلمو العالم من البلاد المختلفة حول كعبة الآمال ولحجّ بيت الله الحرام والقيام بهذه الفريضة الإلهيّة العظيمة وعقد هذا المؤتمر الإسلاميّ الكبير في هذه الأيام المباركة، الجميع يعلم أنّه ليس بمقدور أيّ إنسان وأيّة دولة عقد مثل هذا المؤتمر الكبير، وأنّ أمر الله تعالى هو الّذي صنع هذا الاجتماع العظيم، إلّا أنه مع الأسف لم يستطع المسلمون على مرّ التاريخ أن يستفيدوا من هذه القوّة السماويّة وهذا المؤتمر الإسلاميّ كما ينبغي لصالح الإسلام والمسلمين.
والآن حيث إنّ حجّاج بيت الله الحرام الّذين يتحرّرون من قفص البدن وقيود الدنيا، ويُهاجرون إلى الله ورسوله حيث يُصبح البيت القلب ولا شيء فيه غير المحبوب الحقيقيّ بل لا شيء غيره في الداخل والخارج. يجب أن يعلموا أنّ الحجّ الإبراهيميّ ـ المحمّديّ (صلى الله عليهما وآلهما) مهجور وغريب منذ سنوات، إن من الناحية المعنويّة والعرفانيّة وإن من الناحية السياسيّة والاجتماعيّة، ويجب على الحجّاج الأعزّاء من سائر الدول الإسلاميّة أن يُعيدوا الكعبة وبيت الله من غربتهما، وبجميع أبعادهما.
إنّ الأسرار العرفانيّة والمعنويّة لبيت الله يتكفّل بها العرفاء غير المحجوبين، أمّا نحن المشغولون بأبعاده السياسيّة والاجتماعيّة فيجب أن نقول إنّنا بعيدون مسافات عنها، ونحن مُلزمون بإصلاح ما فات. إنّ هذا المؤتمر الّذي بتمامه سياسة ينعقد بدعوة من إبراهيم ومحمّد وآلهما عليهم السلام، ويُقصد إليه من كلّ زوايا الدنيا ومن كلّ فجُّ عميق للاجتماع فيه، لأجل منافع الناس والقيام بالقسط وللاستمرار بتحطيم أصنام قوم إبراهيم عليه السلام ومحمد ّصلى الله عليه وآله وسلم، وطواغيت فرعون الّتي محاها موسى عليه السلام. وأيّ صنم يصل لمستوى الشيطان الأكبر وأصنام وطواغيت أكلة العالم الّتي أخضعت جميع مستضعفي العالم لعبادتها والسجود لها واعتبرت جميع عباد الله الأحرار عبيداً لأوامرها؟
إنّ فريضة الحجّ الّتي هي بحثٌ وهجرةٌ إلى الله إنّما هي ببركة إبراهيم ومحمّد صلى الله عليه وآله وسلم بمعنى "لا" لجميع الأصنام والطواغيت والشياطين وأبنائهم. وأيّ صنم أكبر من الشيطان الأكبر أمريكا ناهبة العالم والاتحاد السوفياتيّ الملحد المعتدي وأيّ طاغوت أكبر من طواغيت زماننا.
الحجّ مدرسة التضحية
أقدّم التهاني الخالصة لجميع المسلمين في العالم بمناسبة حلول عيد الأضحى المبارك. هذا العيد الّذي يذكّر الناس الواعين بمذبح الفداء الإبراهيميّ، هذا المذبح الّذي قدّم درس الفداء والجهاد في سبيل الله تعالى لأبناء آدم وأصفياء وأولياء الله، هذا العمل بعمق
أبعاده التوحيديّة والسياسيّة لا يستطيع إدراكه غير الأنبياء العظام والأولياء الكرام وخاصّة عباد الله.
هذا أبو التوحيد ومحطّم أصنام العالم، علّمنا والبشريّة جمعاء أنّ التضحية في سبيل الله وقبل أن تكون ذات بُعد توحيديّ وعباديّ، تمتلك أبعاداً سياسيّة وقيماً اجتماعيّة. علّمنا وجميع الناس كيف نقدّم أعزّ ثمرات حياتنا في سبيل الله، ضحّوا بأنفسكم وأعزّائكم وأقيموا دين الله والعدل الإلهيّ. لقد أفهمنا نحن ذرّيّة آدم أنّ مكّة ومنى مذبح العشاق وأنّ هذين المكانين هما لنشر التوحيد ونفي الشرك، لأنّ التعلّق بالنفس والأعزّاء أيضاً من الشرك.
لقد علّم أبناء آدم الجهاد في سبيل الله. ومن هذا المكان العظيم بلّغوا العالم أيضاً عن الفداء والتضحية، وقولوا للعالم، إنّه في سبيل الله وإقامة العدل الإلهيّ وقطع أيادي المشركين في هذا الزمان، يجب أن يخلّد الحقّ بتمامه في أيّ شيء حتّى ولو أدّى ذلك إلى التضحية بمثل إسماعيل عليه السلام.
إبراهيم عليه السلام وولده العزيز محطّم الأصنام الآخر سيِّد الأنبياء محمّد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم علّما البشريّة أنّه يجب تحطيم الأصنام كيفما تكون. وأنّ الكعبة، أمّ القرى على امتداد سعتها وحتّى آخر نقطة من الأرض، وحتّى آخر يوم في العالم يجب أن تطهّر من دنس الأصنام، أيّ صنم كان وكيفما كان أكان هياكل أو شمساً أو قمراً أو حيواناً أو إنساناً أو صنماً من الطواغيت على امتداد التاريخ، من زمن آدم صفيّ الله
حتّى إبراهيم خليل الله، إلى محمّد حبيب الله صلى الله عليه وآله وسلم حتّى آخر الزمان الّذي يظهر فيه محطّم آخر للأصنام ويطلق نداء التوحيد من الكعبة. أوَ ليست القوى الكبرى في زماننا أصناماً كبيرة سيطرت على العالم ودعته لعبادتها وفرضت نفسها عليه بالقوّة والتزوير؟!...
إنّ الكعبة المعظّمة هي المركز الأوحد لتحطيم هذه الأصنام، إبراهيم الخليل في أوّل الزمان وحبيب الله وولده العزيز المهديّ الموعود روحي فداه في آخر الزمان صدحوا بنداء التوحيد من الكعبة ويصدحون، قال الله تعالى لإبراهيم ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ...﴾5 وقال: ﴿...وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ﴾6.
وهذا تطهير من جميع الأرجاس الّتي أكبرها الشرك الّذي هو في صدر الآية الكريمة ونقرأ في سورة التوبة:﴿وَأَذَانٌ ... وَرَسُولِهِ..﴾ وإنّ الإمام المهديّ المنتظرعجل الله تعالى فرجه الشريف وعلى لسان كلّ الأديان وباتفاق المسلمين، يُطلق نداءه من الكعبة ويدعو البشريّة إلى التوحيد. والجميع يُطلقون صرخاتهم من الكعبة وكلمة التوحيد من ذاك المكان المقدَّس. وبالصرخات والدعوات والتظلُّمات وفضح المؤامرات، والاجتماعات الحيّة والحاسمة في مجمع المسلمين في مكّة المكرمة تحطّم الأصنام وتُرجم الشياطين وعلى رأسهم الشيطان الأكبر في العقبات، ونطردهم حتّى نحقّق حجّ خليل الله وحبيب الله ووليّ الله المهديّ العزيز عجل الله تعالى فرجه الشريف ، وإلّا نكون مصداقاً للقول: "ما أكثر الضجيج وما أقلّ الحجيج".
تطبيق الشعائر
يجب أن تعلموا أنّ الطريق الأساس في ظلّ وحدة المسلمين والتجمّع العام هو في قطع يد القوى العظمى عن الدول الإسلاميّة، عبر تطبيق شعائر المواقف الكريمة والمشاهد المشرّفة عمليّاً في بلادهم.
البراءة ركن الحجّ
إنّ إعلان البراءة من المشركين تُعتبر من الأركان التوحيديّة والواجبات السياسيّة للحجّ. فحاشا أن يتحقّق إخلاص الموحّدين في حجّهم بغير إظهار السخط على المشركين والمنافقين، وأيّ بيت هو أفضل من الكعبة؛ البيت الآمن والطاهر. بيت الناس، لنبذ كلّ أشكال الظلم والعدوان والاستغلال والرقّ والدناءة واللإنسانيّة قولاً وفعلاً، وتحطيم أصنام الآلهة تجديداً لميثاقه ﴿أَلَسْتَ بِرَبِّكُم﴾7 وذلك إحياءً لذكرى أهمّ وأكبر حركة سياسيّة للرسول الّتي عبّر عنها القرآن بقوله﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَر﴾ ذلك أنّ سنّة الرسول وإعلان البراءة لن يبليا؛ لأنّ إعلان البراءة لا يقتصر فقط على أيّام الحجّ. إذ على المسلمين أن يملأوا أجواء العالم بالمحبّة والعشق للبارىء، وبالبغض والاستياء والرفض لأعداء الله. ويحب ألّا يُصغوا إلى وسوسة الخنّاسين وشبهات المشكّكين والجهّال والمنحرفين وألّا يغفلوا لحظة واحدة عن هذا النشيد التوحيديّ المقدّس والشامل.
صرخة البراءة خالدة
إنّ صرخة البراءة من المشركين لم تختصّ بزمان خاصّ. هذا دستور خالد، وإن انقرض المشركون من الحجاز "فنهضة الناس" ليست مختصّة بزمان بل هي دستور كلّ زمان ومكان. وفي هذا التجمّع البشريّ العامّ تعتبر سنويّاً من جملة العبادات المهمّة الخالدة إلى الأبد. وهنا تكمن النكتة الّتي أكّد عليها أئمّة المسلمين عليهم السلام في إقامة مجالس العزاء لسيّد المظلومين إلى الأبد، وبقاء صرخة مظلوميّة آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وظلم بني أميّة ـ عليهم لعنة الله ـ مع أنّهم انقرضوا...
البراءة هي من كلّ ظالم
إنّ إعلان البراءة هو المرحلة الأولى من الجهاد ومواصلته هي من المراحل الأخرى لتكليفنا، وإنّه يتطلّب في كلّ عصر وزمان مفاهيم وأساليب وبرامج خاصّة. فماذا يجب فعله في عصرنا هذا الّذي يجعل فيه قادة الكفر المفاهيم الثقافيّة والدينيّة والسياسيّة للشعوب ألعوبة بيد أهوائهم ومطامعهم وشهواتهم. هل يجب الجلوس في البيوت وتحمّل الشيطان وأتباعه من خلال حملات التضليل وإهانة منزلة البشر، وإلقاء روح اليأس والعجز في نفوس المسلمين ومنع المجتمع الإسلاميّ من بلوغ الخلاص الّذي يعتبر غاية الكمال ومحطّ الآمال، والإيحاء بأنّ محاربة الأنبياء للأصنام وعبادتها تتلخّص في الحجارة والأخشاب الهامدة، وأنّ أنبياء كإبراهيم، إنّهم كانوا السبّاقين لتحطيم
الأصنام ولكنّهم تركوا ساحة الجهاد ضد الظالمين ـ معاذ بالله ـ ؟!
إنّ تحطيم الأصنام وجهاد وحروب إبراهيم عليه السلام مع النمروديّين وعبدة الشمس والقمر والنجوم كلّها كانت مقدّمة لهجرة كبرى، وإنّ كلّ تلك الهجرات والصعاب والشدائد والمبيت في وادٍ غير ذي زرع، وبناء البيت والتضحية بإسماعيل كانت مقدّمة لبعثةٍ ورسالةٍ يكرّر فيها خاتم النبيّين كلام أوّل وآخر نبيّ، ومؤسّسي الكعبة، ويبلّغ الرسالة الخالدة ﴿وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ﴾.
وإذا قدّمنا تحليلاً غير ذلك فإنّه يعني عدم وجود الأصنام وعبادتها في هذا العصر، ولكنّ أيّ إنسان عاقل لا يُدرك عبادة الأصنام الجديدة وأحابيلها وحيلها الخاصّة ولا يعرف هيمنة معابد الأصنام، كالبيت الأسود الأمريكيّ، على البلدان الإسلاميّة وعلى أرواح وأعراض المسلمين والعالم الثالث.
إنّ صرخة براءتنا من المشركين والكفار اليوم، هي صرخة البراءة من الظلم والظالمين وصرخة أمّة بلغت روحها الحلقوم من اعتداءات الشرق والغرب وعلى رأسهم أمريكا وأذنابها، ونهب بيتها ووطنها وثرواتها.
البراءة وتحرير الطاقات
إنّنا بإعلاننا البراءة من المشركين كنّا وما نزال مصمّمين على تحرير الطاقات المتراكمة للعالم الإسلامي، وبإذن الله الكبير وبهمّة أبناء القرآن سيأتي اليوم الّذي يتحقّق فيه هذا العمل.
وإنشاء الله سيتحقّق أيضاً اليوم الّذي يصرخ فيه جميع المسلمين والمتألّمين ضد
ظالمي العالم، ويثبتوا أنّ القوى العظمى وأذنابهم والنفعيّين هم أكثر موجودات العالم بغضاً ولعناً.
إنّ صرخة براءتنا هي صرخة جميع الّذين لم يقدروا على تحمّل تفرعن أمريكا وتواجدها السلطويّ، ولا يريدون أن تخمد صرخة غضبهم وسخطهم وتذمّرهم، وتُخنق في حناجرهم إلى الأبد وعقدوا العزم على العيش حياة حرّة كريمة والموت أحراراً، وأن يكونوا الصرخة المدويّة للأجيال.
البراءة صرخة العقيدة والاستضعاف
إنّ صرخة براءتنا هي صرخة الدفاع عن العقيدة والكرامات والنواميس، صرخة الدفاع عن الثروات والرساميل. إنّها صرخة المتألّمين من الشعوب الّتي مزّقت قلوبها خناجر الكفر والنفاق. صرخة براءتنا هي صرخة الفقراء والجياع والمحرومين والمعدمين والحفاة الّذين نهب الجشعون والقراصنة الدوليّون ما حصلوا عليه بعرق جبينهم وتعب ليلهم ونهارهم، أولئك الّذين امتصّوا دماء قلوب الشعوب الفقيرة والفلّاحين والعملاء والكادحين باسم الرأسماليّة والاشتراكيّة والشيوعيّة. وربطوا العصب الحيويّ لاقتصاد العالم بأنفسهم وحرموا شعوبه من استيفاء أبسط حقوقها المشروعة.
1- سورة التوبة، الآية: 19.
2- سورة محمّد، الآية: 7.
3- سورة سبأ، الآية: 46.
4- سورة النور، الآية: 35.
5- سورة الحجّ، الآية: 27.
6- سورة الحجّ، الآية: 26.
7- سورة الأعراف، الآية: 172.
ما الدرس الذي يمكن استلهامه من الوقوف في عرفة؟
في المحطات التي يمر بها الحجاج في موسم الحج الكثير من العبر والدروس، وكلها تحوي عناصر مؤثرة في ترسيخ العقيدة الإسلامية الصافية والقيم الدينية الحقة.
ويمكن للحاج أن يستلهم الكثير من العبر في وقفة جبل عرفه، على رأسها: تذكر يوم الحشر الأكبر من خلال ملاحظة ذلك الجمع الغفير والأمواج المتلاطمة من البشر في بحر الحج العميق مع ملاحظة ارتداء ثوب الإحرام المجرد من الخياطة بالنسبة إلى الرجال ـ وذلك يذكرنا بالكفن ويرسم لنا صورة المستقبل المذهل في ذلك اليوم الذي تحدّث الله عنه بقوله تعالى: ﴿يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارىُ وَمَا هُم بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللّهِ شَدِيدٌ﴾[1].
والنتيجة العملية والفائدة التربوية المترتبة على ذلك هي حصول الخوف الشديد من هول ذلك اليوم وهذا يؤدي بطبعه إلى الاستمساك بعروة التقوى والعودة إلى الله من باب التوبة لأن الله سبحانه: ﴿يُحِبُّ التَّوَّابِين وَيُحِبُّ المُتَطهِّرِينَ﴾[2].
كما وصف نفسه وتحدث في كتابه الكريم، هذا إذا كان منحرفاً عن خط الاستقامة وأما إذا كان مستقيماً عليه فهو يستمر على استقامته بقوة وثبات أكثر وأقوى ممّا كان عليه قبل وقوفه على صعيد عرفات الحج وهذه فائدة كبرى جديرة بالاهتمام وبذلك الجهد المستطاع في سبيل تأدية هذه الفريضة بعد وجوبها بالاستطاعة الشرعية كما تقتضي تأكد الاستحباب ورجحان السعي في سبيل تحصيلها أي تحصيل الاستطاعة تمهيداً للتمكن من الإتيان بهذه الفريضة المباركة وتحصيل فوائدها العديدة.
[1] سورة الحج، الآية: 2.
[2] سورة البقرة، الآية: 222.
كيف يزيد حبُّ الله عزّ وجل في قلوبنا؟
من أين نستقي حب الله؟ هذا سؤال مهم في بحثنا هذا، فما دمنا قد عرفنا قيمة حب الله، فلابد أن نعرف من أين نأخذ هذا الحب. وما هو مصدره؟
وإجمال الجواب أن الله تعالى هو مصدر الحب ومبدؤه وغايته. ولابد لهذا الاجمال من تفصيل، وإليك هذا التفصيل:
1 ـ يحب الله عباده:
إن الله تعالى يحب عباده، ويرزقهم، ويستر عليهم، ويهبهم من المواهب والنعم ما لا يحصيه أحد، ويعفو عنهم، ويتوب عليهم، ويسددهم، ويرزقهم التوفيق، ويهديهم صراطه المستقيم، ويتولاهم برعايته وفضله، ويدفع عنهم السوء والشر، وهذه جميعاً أمارات الحب.
2 ـ ويمنحهم حبه ووده:
ومن حب الله تعالى لعباده أنه يحبهم، ويرزقهم حبه. وأمر هذا الحب غريب، فإن الله تعالى هو واهب الحب، وهو الذي يتلقي الحب من عباده. يهبهم الجذبة بعد الجذبة، ثم يجذبهم إليه بتلك الجذبة.
ونحن نجد في نصوص الأحاديث والأدعية إشارات متكررة إلى هذا المعنى. ففي المناجاة الثانية عشرة للإمام زين العابدين عليه السلام: «إلهي، فاجعلنا من الذين ترسخت أشجار الشوق إليك في حدائق صدورهم، وأخذت لوعة محبتك بمجامع قلوبهم».
وفي المناجاة الرابعة عشرة: «أسألك أن تجعل علينا واقية تنجينا من الهلكات، وتجنبنا من الآفات، وتكنّنا من دواهي المصيبات، وأن تنزل علينا من سكينتك، وأن تغشي وجوهنا بأنوار محبتك، وأن تؤوينا إلى شديد ركنك، وأن تحوينا في أكناف عصمتك، برأفتك ورحمتك يا أرحم الراحمين».
وفي المناجاة الخامسة عشرة «مناجاة الزاهدين»: «إلهي، فزهدنا فيها، وسلّمنا منها بتوفيقك وعصمتك، وانزع عنا جلابيب مخالفتك، وتول أمورنا بحسن كفايتك، وأجمل صلاتنا من فيض مواهبك، واغرس في أفئدتنا أشجار محبتك، وأتمم لنا أنوار معرفتك، وأذقنا حلاوة عفوك ولذّة مغفرتك، وأقرر أعيننا يوم لقائك برؤيتك، وأخرج حب الدنيا من قلوبنا كما فعلت بالصالحين من صفوتك، والأبرار من خاصتك، برحمتك يا أرحم الراحمين».
وفي التكملة التي يذكرها السيد بن طاووس لدعاء الامام الحسين عليه السلام في عرفة: «كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك؟ أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك حتى يكون هو المظهر لك؟ متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك؟ ومتى بعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك؟ عميت عين لا تراك عليها رقيباً، وخسرت صفقه عبدل لم تجعل له من حبك نصيباً. .. فاهدني بنورك إليك، وأقمني بصدق العبودية بين يديك... وصني بسرّك المصون... واسلك بي مسلك أهل الجذب، إلهي أغنني بتدبيرك لي عن تدبيري، وباختيارك عن اختياري، وأوقفني عن مراكز اضطراري... أنت الذي أشرقت الأنوار في قلوب أوليائك حتى عرفوك ووحّدوك. وأنت الذي أزلت الأغيار عن قلوب أحبائك حتى لم يحبّوا سواك، ولم يلجأوا إلى غيرك، أنت المؤنس لهم حيث أوحشتهم العوالم، وأنت الذي هديتهم حيث استبانت لهم المعالم. ماذا وجد من فقدك؟ وما الذي فقد من وجدك؟ لقد خاب من رضي دونك بدلاً، ولقد خسر من بغى عنك متحولاً، كيف يُرجى سواك وأنت ما قطعت الاحسان؟ وكيف يطلب من غيرك وأنت ما بدلت عادة الامتنان؟ يا من أذاق أحباءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملقين، ويا من ألبس أولياءه ملابس هيبته فقاموا بين يديه مستغفرين... إلهي اطلبني برحمتك حتى أصل إليك، واجذبني بمنك حتى أقبل عليك»([1]).
3 ـ ويتحبب إليهم:
والله تعالى يتحبب إلى عباده، فيغدق عليهم النعم ليحبوه، وإن النعم في القلوب الواعية والمدركة تحب الله تعالى إلى الذين ينعم عليهم.
في دعاء علي بن الحسين زين العابدين عليه السلام في الأسحار: «تتحبب إلينا بالنعم، ونعارضك بالذنوب، خيرك إلينا نازل، وشرنا إليك صاعد، ولم يزل ولا يزال ملك كريم يأتيك عنا في كل يوم بعمل قبيح، فلا يمنعك ما يأتي منا من ذلك أن تحوطنا برحمتك، وتتفضل علينا بآلائك، فسبحانك ما أحلمك وأعظمك وأكرمك مبدئاً ومعيداً»([2]).
والمقارنة بين ما هو النازل من لدن الله إلى العبد من نعم وفضل وإحسان وجميل وعفو وستر، وبين ما هو الصاعد من قبل العبد إلى الله من قبيح وشر يشعر العبد بالخجل من مولاه، فهو يقابل هذا الحب والتحبب من جانب الله تعالى بالإعراض والتبغض إليه.
وما أكثر بؤس الإنسان وشقاءه إذا كان يقابل حب الله تعالى له وتحببه إليه بالإعراض والتبغض.
تأملوا في هذه الكلمات من دعاء الافتتاح للإمام الحجة عليه السلام: «إنك تدعوني فأولي عنك، وتتحبب إلي فأتبغض إليك، وتتودّد إلى فلا أقبل منك، كأنّ لي التطول عليك، فلم يمنعك ذلك من الرحمة بي، والإحسان إلي والتفضل علي»([3]). «خيرك إلينا نازل، وشرنا إليك صاعد»([4]).
([1]) بحار الأنوار 226: 98.
([2]) بحار الأنوار 98: 85.
([3]) مفاتيح الجنان: دعاء الافتتاح.
([4]) بحار الأنوار 18: 85.
المواعظ البالغة
قال الإمام علي عليه السلام حين أصاب همام صعقة كانت فيها نفسه:"هكَذَا تَصْنَعُ الْمَوَاعِظُ البَالِغَةُ بِأَهْلِهَا!"
معنى الموعظة
الموعظة من وعظ، وهو النصح والتذكير بالعواقب، وهو تذكيرك للإنسان بما يلين قلبه من ثواب وعقاب.
وقد وردت كلمة موعظة في القرآن الكريم في موارد متعددة، منها على سبيل المثال، قوله تعالى: ﴿فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُم﴾1 أي وحذّرهم وخوفهم.
وقوله تعالى: ﴿يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾2. أي ينهاكم ويحذركم.
كما في وقوله تعالى: ﴿إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين﴾3 وهو زجر مقترن بالتخويف.
وكذلك قوله تعالى: ﴿وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ...﴾4.
وفي قوله تعالى: ﴿يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون﴾5. أي يذكركم علكم تتذكرون.
أهمية الموعظة ودورها
إن الإنسان بطبعه اجتماعي يتفاعل مع محيطه، ويمكن أن يتأثر به سلباً أو إيجاباً، والموعظة الحسنة تشكّل عاملاً خارجياً يأخذ بيد الإنسان ليساعده على تخطي فتن الدنيا وزخارفها وشبهاتها، وتتأكد ضرورتها عند غفلة الإنسان وخمود أو خمول الواعظ الداخلي فيه، حيث يصبح لها الدور الأساسي في النجاة من النار، وهذا ما يعترف به المجرمون في الآخرة: ﴿لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾6 كما نقل القرآن الكريم عن لسانهم.
وقد أكد القرآن الكريم على أسلوب الموعظة فقال: ﴿ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾7. فعليك أن تمارسها كأسلوب من أساليب الدعوة إلى الله تعالى وهي نافعة ومفيدة، إذ تفتح أبواب هداية المؤمنين: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾8.
إن الموعظة تؤثر أثرها في المؤمن بشكل خاص، لأنه يستحضر الالتزام الشرعي في أموره، وقد تغيب عنه بعض التفاصيل، أويدفعه هو اه بالاتجاه الخاطئ، فيكون دورها دور المنبه للضمير المذكر بالمسؤولية الشرعية والرقابة الإلهية. ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ﴾9.
فربّ موعظة ردعت عن عمل ظالم وفاسد لسبب أو لآخر وأنقذت جيلاً أو أبطلت بدعة، ورب موعظة تركت أثراً بسيطاً يتراكم مع غيرها من المواعظ والأساليب الأخرى لتؤثر أثرها وتحدث التغيير المنشود، وإن لم تفعل ذلك كله فهي على الأقل تلقي الحجة على الآخرين وتبرئ ذمة الواعظ.
خطاب العقل والوجدان
إن الإسلام دين يخاطب العقل والوجدان، ولا يهمل شيئاً من الجوانب الإنسانية على حساب جوانب أخرى. ولكل من العقل والوجدان أساليب تناسبه وتنفذ إليه. فالدليل والبرهان والمقارنة أساليب تخاطب العقل بقصد تأهيله إلى إدراك المعارف الموصلة إلى اللَّه، فيقول اللَّه سبحانه وتعالى في خطاب للعقل: ﴿وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ﴾10
وجعل التأمل والنظر وإثارة الشعور وأساليب لمخاطبة الوجدان لكي تسمو الروح وتكتسب القدرة على التذوق الرفيع الذي يوصلها إلى حب اللَّه. يقول اللَّه سبحانه وتعالى في خطاب الوجدان: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَّا تَذَكَّرُونَ * أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾11.
القرآن موعظة
الله تبارك وتعالى أنزل القرآن على قلب النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم ووصفه بصفات كثيرة تربوعلى الأربعين، ومن هذه الأوصاف وصفه بأنه (موعظة)، وقريب من هذا المعنى وصفه بأنه (ذكرى)، وهذا أمرٌ يلمسه كلُّ من قرأ القرآن، ويعظم وقع هذه المواعظ على النفس حينما تُقرأُ بقلب حاضر، وسمع متصل بقلب شاهد: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾12.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وهُدًى ورَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾13 فالوعظ والموعظة جاءت في القرآن وصفا للقرآن الكريم كما جاءت من مهمات النبوة ونَفَر من المؤمنين.
بل قيل في تفسير قوله تعالى: ﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِِ﴾14: إن الموعظة الحسنة هي مواعظ القرآن، وكذا قيل في تفسير قوله سبحانه: ﴿فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ﴾15 أي: عن مواعظ القرآن.
وما القصص القرآني النوراني، أو النبوي المبارك؛ إلا وسيلة من وسائل التربية لكل الأمة، ليس المقصود منها سرد القصص وتدوين التاريخ بقدر ما تكون "العبرة" والإتعاظ هي الخطوة الأولى التي يجب أن تكون في وجدان المتلقي، حتى تكون نافعة له، ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾16.
الموعظة البالغة
هناك عناصر عديدة تساهم في بلوغ الموعظة مداها الأقصى في النجاح لتصبح بالغة كما يعبر الإمام في هذه الخطبة، هي بمثابة عوامل مساعدة تهيئ البيئة الأفضل للإفادة وبلوغ الأهداف المتوخاة نذكر بعضاً منها :
1- تخير الوقت المناسب والجو النفسي المهيأ للسماع
إن للزمان والمكان له أهمية خاصة تستدعي رعايتها، وقد روي عن أمير المؤمنين أنه قال: "ومجتني الثمرة لغير وقت إيناعها كالزارع بغير أرضه"17.
وكان الإمام علي عليه السلام كثيراً ما ينتهز المناسبة لمن يريد وعظهم وإرشادهم، لتكون أبلغ في التأثير، وأفضل للفهم والمعرفة. وكمثال على ذلك فإنه لما رجع الإمام علي عليه السلام من صفين وأشرف على القبور قال: "يا أهل الديار الموحشة، والمحال المقفرة، والقبور المظلمة، يا أهل التربة، يا أهل الغربة، ويا أهل الوحشة، أنتم لنا فرط سابق، ونحن لكم تبع لاحق".
أما الدور فقد سكنت، وأما الأزواج فقد نكحت، وأما الأموال فقد قسمت، هذا خبر ما عندنا، فما خبر ما عندكم؟"، ثم التفت إلى أصحابه فقال: "أما لو أذن لهم في الكلام لأخبروكم أن خير الزاد التقوى".
فالإمام عليه السلام وهو عند القبور، أخذ في وعظ أصحابه وبيّن لهم أحوال أصحابها وخلُص إلى أن خير الزاد التقوى.
2- اللين في الخطاب والشفقة في النصح
على المؤمن والواعظ أن يكون ليناً في الخطاب، فقد كان الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لين الكلام بشوش الوجه، وكان دائم البسمة في وجوه أصحابه لا يقابل أحداً بسوء ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾18 .
ويرسل اللَّه موسى وهارون عليهما السلام إلى فرعون أطغى الطواغيت، ويأمرهما باللين معه فيقول: ﴿فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾19.
3- الحديث المتناسب ومراعاة أحوال المخاطبين
إن اللَّه عزَّ وجلَّ خلق الناس لهم طبائع متعددة، وعقول متفاوتة، ومشارب متنوعة، يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ﴾20، ويقول: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى﴾21، ولذا علينا أن نعامل الناس كل حسب قدراته العقلية والنفسية والبدنية، فالأسلوب الناجع مع الكبار قد لا يناسب الشباب أو الأطفال وهكذا، وقد كان قدوة الدعاة والمبلغين والمثل الأعلى لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم يراعي تلك الأمور، فيعامل الناس على حسب سن وعلم وطاقة كل منهم.
4- التآلف مع الناس
ينبغي للمؤمن أن يتآلف مع الناس بالنفع، فيقدم لهم نفعاً، فليست مهمة الواعظ والناصح فقط أن يلاحقهم بالكلام! أويلقي عليهم الخطب والمواعظ! لكن يفعل كما فعل رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم، يتألفهم مرة بالهدية، ومرة بالزيارة، فإن رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم دعا الناس وآلفهم وأعطاهم وأهدى لهم، بل كان يعطي الواحد منهم مائة ناقة، وكان يأخذ الثياب الجديدة، وكان يعانق الإنسان ويجلسه مكانه، فهذا من التآلف.
5- حسن المظهر
إن سوء المظهر في الصورة واللباس ينفّر الناس، فنظافة اللباس من أهم العلامات الدالة على شخصية الإنسان وتربيته وثقافته، والناس يحبون الجمال والنظافة بصورة فطرية. ولهذا كان رسول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم يولي اهتماماً كبيراً بنظافة الملبس والجسم والأسنان حتى أن الناس كانوا يتحدثون عن عطره الفواح، وقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: "كان رسول اللَّه ينفق على الطيب أكثر مما ينفق على الطعام"22.
وعنه أيضاً أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: "ما زال جبرائيل يوصيني بالسواك حتى خفت أن أحفى"23.
ولقد قال يوماً لأصحابه: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر"، فقال رجل: يا رسول اللَّه، إني رجل أولعت بالجمال في كل شيء، حتى ما أحب أن يفوقني أحد بشراك نعل. فهل هذا من الكبر؟ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إن اللَّه جميل يحب الجمال، الكبر بطر الحق، وغمط الناس"24.
وللمواعظ أهلها
﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد﴾25 .
إن الإنسان الذي لا زال يملك صفاءً في قلبه ونقاءً في روحه لا يمكنه إلا أن يتأثر بالموعظة ويلين لها قلبه فيهتدي بها ويستضيء بنورها،تأمل وصف الله تعالى لقلوب أهل الإيمان عند سماع الوعد والوعيد، فهي تقشعر خوفاً من الوعيد، ثم تلين وترجوعند الوعد. ويزداد خوف المؤمن القارئ للقرآن الكريم حينما يقرأ الآية التي قبلها، وهي قوله تعالى: ﴿أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾26. وعلى المؤمن أن يحافظ على صفاء نفسه ويستمع الموعظة بأُذن قلبه ليبصر نورها بعين البصيرة، فهي تؤثر أثرها في أصحاب القلوب الواعية، فتهذب سلوكهم، وتضيء قلوبهم، وتخشع لها جوارحهم.
وقد تقف بعض العوائق لتمنع الإنسان من التفاعل مع الموعظة، كما قال تعالى: ﴿وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ﴾27، يصمون آذانهم عن سماع الموعظة.
بل إن أكثر الناس مبتلون بمثل هذه العوائق، كما تشير الرواية عن الإمام علي عليه السلام: "ما أكثر العبر وأقل الاعتبار"28.
هذه العوائق والحجب التي تشكلها العديد من العناصر، كالغفلة، كما في الرواية عن الإمام علي عليه السلام "بينكم وبين الموعظة حجاب من الغرة"29، المراد بالغرة هنا الغفلة والنسيان..فنحن نؤمن بالله واليوم الآخر بلا شكوتردد.. ومع هذا ننسى الله. ونذهل عن الآخرة وحسابها وعقابها. وكحب الدنيا، كما يشير إلى ذلك قوله تعالى ﴿كلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ﴾30 .
كلمة تحبون تومئ إلى أن في الإنسان من يستعجل ويسعى وراء المنفعة العاجلة وإن صغرت دون الآجلة وإن عظمت.
* المتقون. سلسلة الدروس الثقافية,نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية. ط: الأولى آب 2007م- 1428هـ. ص: 129-136.
1- النساء:63.
2- النور:17.
3- هود:46.
4- النساء:34.
5- النحل:90.
6- الملك:10.
7- النحل:125.
8- يونس:57.
9- الذاريات:55.
10- يس:78-79.
11- النمل:62-63.
12- ق:37.
13- يونس:57.
14- النحل:125.
15- المدثر:49.
16- يوسف:111.
17- نهج البلاغة، ج1 الخطبة 5.
18- آل عمران:159.
19- طه:44.
20- هود:118.
21- الليل:4.
22- البحار،16-248.
23- المجلسي-محمد باقر -بحار الأنوار- مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية المصححة – ج 16 ص260.
24- الريشهري- محمد محمدي - ميزان الحكمة- دار الحديث، الطبعة الأولى- ج3 ص2652.
25- الزمر:23.
26- الزمر:22.
27- يوسف:105.
28- نهج البلاغة الكلمات القصار، رقم 297.
29- نهج البلاغة الكلمات القصار، رقم 282.
30- القيامة:20-21.
كيف يحقّق المؤمن الفلاح؟
إنّ الله سبحانه تعالى أولى عناية خاصّة لصفات المؤمنين، واختار لهم سورة خاصّة باسمهم وهي سورة "المؤمنون"، قال الله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ...﴾.
وكلمة "أفلح" في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾: مشتقّة من الفلح والفلاح، وتعني في الأصل الحرث والشقّ، ثمّ أُطلقت على أيّ نوع من النصر والوصول إلى الهدف والسعادة، فالمنتصرون والفائزون يزيلون من طريقهم كلّ الموانع والحواجز والحجب، لينالوا الفلاح والسعادة، ويشقّون طريقهم لتحقيق أهدافهم في الحياة.
فإذا أردا المؤمن أن يكون من المفلحين، فعليه التحقّق بالصفات الآتية:
1- الخشوغ: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾: "اعتبر القرآن الخشوع صفة المؤمنين، وليس إقامة الصلاة، إشارة منه إلى أنّ الصلاة ليست مجرّد ألفاظ وحركات، لا روح فيها، ولا معنى، وإنّما تظهر في المؤمن حين إقامة الصلاة حالة توجّهه إلى الله، تفصله عن الغير وتلحقه بالخالق.."[1].
2- الإعراض عن اللغو: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ﴾: أي ما لا يغنيهم من القول أو الفعل، كاللعب والهزل، وما توجب المروّة إلقاءه وإطراحه.
3- الزكاة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ﴾: "أي يؤدون ما يجب عليهم في أموالهم من الصدقات، وسمّيت زكاة، لأنّه يزكو بها المال عاجلاً وآجلاً"[2].
4- العفّة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ﴾: الآية فيها إشعار واضح بالمدح، أي يمدحهم على حفظ فروجهم عمّا أمروا بحفظه وعلى عدم حفظها عمّا أبيح لهم.
5- حفظ الأمانة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ﴾: والأمانات ضربان: أمانات اللَّه، وأمانات العباد، فأمانة اللَّه تعالى هي العبادات كالصيام والصلاة وغيرها من الأفعال المكلّف بها، وأمانات العباد هي مثل الودائع والشهادات وغيرها. وأمّا العهد فعلى ثلاثة أضرب: أوامر اللَّه، ونذور الإنسان، والعقود الجارية بين الناس. فيجب على الإنسان الوفاء بجميع ضروب الأمانات والعهود والقيام بما يتولّاه منها"[3].
6- مراعاة العهد: ﴿وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ﴾: هذه الآية الكريمة تكون في جهة بيان الأوصاف للمؤمنين، فتبيّن أنّ رعاية العهد والوفاء به من صفات المؤمنين الواجبة عليهم.
7- المحافظة على الصلاة: ﴿وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾: أي يواظبون عليها ويؤدّونها في أوقاتها، من غير تقديم على الوقت ولا تأخير عنه.
[1] الشيرازي، ناصر مكارم، الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مدرسة الإمام عليّ بن أبي طالب، إيران - قم، 1426ه، ط1، ج10، ص419، صفات المؤمنين البارزة.
[2] الطوسيّ، الشيخ محمّد بن الحسن، التبيان في تفسير القرآن، تحقيق وتصحيح أحمد حبيب قصير العامليّ، دار إحياء التراث العربيّ، مطبعة مكتب الإعلام الإسلاميّ، إيران، 1409ه، ط1، ج7، ص 348.
[3] الكاظمي، الجواد، مسالك الأفهام إلى آيات الأحكام، تحقيق الشيخ محمّد باقر شريف زاده، المكتبة المرتضويّة لإحياء الآثار الجعفريّة، إيران، ج3، ص 154، النذر والعهد واليمين.