Super User

Super User

إن الاحتجاجات الأخيرة التي قام بها المواطنون العراقيون في بعض المدن العراقية الجنوبية والوسطى، تُعد الحدث السياسي والاجتماعي الأكثر أهمية وذلك لأنه أثار الكثير من التساؤلات والمخاوف حول الأيدي الخفية الأجنبية التي أججت تلك الاحتجاجات في الساحة العراقية وبالإضافة إلى ذلك، فإن النهج الذي تعاملت به جمهورية إيران الإسلامية تجاه هذه الاحتجاجات وهذه الأحداث التي وقعت في العراق، يُعد أيضا أحد أهم القضايا التي كانت محور اهتمام العديد من المحللين السياسيين ووسائل الإعلام الغربية ولكشف الستار عن جذور هذه الاحتجاجات الشعبية العراقية ومعرفة موقف إيران تجاهها، أجرى موقع الوقت الاخباري لقاء صحفي حصري مع "إیرج مسجدي"، سفير جمهورية إيران الإسلامية في العراق وفي هذا اللقاء نفى السفير الإيراني في العراق جميع مزاعم بعض وسائل الإعلام المناهضة لإيران والتي أعربت بأن قطع إيران لصادراتها من الكهرباء للعراق كان سبباً في بدء هذه الاحتجاجات الشعبية.

 

الاحتجاجات العراقية لديها بُعد مدني واجتماعي

أعرب السفير الإيراني في العراق في هذا اللقاء الصحفي بأن الأسباب الرئيسية لظهور هذه الاحتجاجات الأخيرة في العراق، تكمن وراء مطالبة الشعب العراقي لحكومته بضرورة حل جميع مشاكل الرعاية الاجتماعية وخدمات الكهرباء والمياه ولذلك، فإن هذه الاحتجاجات ذات طبيعة مدنية واجتماعية، ويرى السفير الإيراني بأن الأسباب الأخرى وراء قيام هذه الاحتجاجات يرجع إلى أن أكثر المواطنين العراقيين غير راضين إلى حد كبير من أداء الحركات والأحزاب السياسية العراقية، التي لا تهتم بقضاياهم ومطالبهم.

الاحتجاجات في العراق عفوية، وهناك إمكانية لإساءة استخدامها من قِبل بعض التيارات السياسية

أكد السفير الإيراني في العراق على عفوية الحركة التي نظمتها بعض شبكات التواصل الاجتماعية، ولفت إلى أنه عندما بدأت حركة الاحتجاجات الاجتماعية، حاولت بعض القوى السياسية الدخول إلى الساحة، سعياً وراء كسب موجة هذه الاحتجاجات لصالحها وأعرب بأن الفرضية القائلة بأن تشكيل هذه الاحتجاجات المدنية العراقية قادتها بعض القوى الأجنبية وبعض الحركات السياسية الداخلية العراقية، مثل حزب "البعث"، غير صحيح إلى حد كبير، لأنه من ناحية، وفقا لبيان الأحزاب السياسية العراقية، رأينا أن الجميع يحترم إرادة الشعب العراقي ومن ناحية أخرى، أكدت جميع تلك الاحزاب على أنه من الضروري تجنب العنف وتهديد حياة المواطنين وتدمير الممتلكات العامة، لذلك يمكن القول أنه من الممكن استغلال التيارات الأجنبية لهذه الاحتجاجات ولكن هذا لا يعني أن الاحتجاجات كانت مصطنعة.

 

إيران لم توقف صادراتها من الكهرباء إلى العراق

أعرب السفير الإيراني في العراق فيما يتعلق بادعاءات زعمت بأن إيران قطعت صادراتها من الكهرباء للعراق بسبب ديون بغداد المتراكمة، حيث قال: "إن إيران تّصدر كمية معينة من الكهرباء إلى العراق، وفي الفصول التي تحتاج فيها المحافظات الإيرانية إلى استهلاك مقدار كبير من الكهرباء، فإنه من الطبيعي أن تخفض من صادراتها للعراق تماشياً مع الاستهلاك المحلي وفي الواقع، إن توقف إيران عن تصدير الكهرباء للعراق ليس صحيحاً بأي حال من الأحوال، ولكنه يتوقف فقط في ساعات معينة وهنا تجدر الإشارة إلى أن الكهرباء في العراق متصلة في الليل بشكل كامل.

وأكد السفير الإيراني، قائلا: إن خفض إيران لصادراتها من الكهرباء للعراق لا يرتبط بأي شكل من الاشكال مع قضية ديون بغداد لطهران وهذه المسألة أثيرت في الاجتماعات الاخيرة التي عقدها المسؤولين الإيرانيين مع نظرائهم العراقيين، حيث اتفق الجانبان على أن إيران ستستمر في تصدير الكهرباء إلى العراق ولكنها ستخفض نسبة تصديرها عندما تزداد الضغوطات الاقتصادية عليها ولفت إلى أنه من الطبيعي أن تقوم طهران بخفض هذه الصادرات عندما يزداد الاستهلاك الداخلي.

كما ذكر سفير جمهورية إيران الإسلامية في العراق، فيما يتعلق بديون العراق تجاه إيران، أن الحكومة العراقية تقوم بتسديد ديونها في إطار جدول زمني تم الاتفاق عليه مسبقاً وعلى الرغم من وجود بعض العقبات التي تسببت في تأجيل مسألة الدفع، إلا أن الحكومة العراقية ملتزمة بتسديد جميع التزاماتها المتعلقة بالديون وبشكل عام، يمكننا التأكيد هنا بأن قضية الكهرباء وخفض إيران لصادراتها من الكهرباء للعراق، لا علاقة له بتلك الاحتجاجات التي خرجت في العديد من المدن العراقية. 

 

تنفيذ الحكومة العراقية جميع مطالب المتظاهرين، هو الحل المناسب لهذه الأزمة

وفي الجزء الأخير من هذا اللقاء ، قال السفير الإيراني في العراق فيما يتعلق بواجبات الحكومة والأحزاب السياسية العراقية  تجاه الاحتجاجات الأخيرة: "يجب على الحكومة والمسئولين العراقيين احترام جميع مطالب المواطنين العراقيين ووضع جميع مشاكلهم على رأس أولوياتهم، ومن الواجب على الحكومة العراقية أن لا تسمح للمتظاهرين بتخريب الممتلكات العامة ويجب على الحكومة العراقية أيضا معالجة جميع مشاكل الناس ووضعها على جدول أعمالها ولفت إلى أن هذا لا يعني أن جميع المشاكل سوف تُحّل بسرعة، لأنه ليس من الممكن القيام بأشياء عديدة في وقت قصير وأكد بأنه إذا ما رأى الناس أن الحكومة تكافح من أجل حل جميع مشاكلهم والتعويض عن أوجه القصور، فعندئذ سيتحرك الناس نحو ترسيخ الامن والأمان في مجتمعهم.

 

الإثنين, 23 تموز/يوليو 2018 04:49

روحاني لترامب: لا تلعب معنا بالنار!

-حذّر الرئيس الإيراني حسن روحاني صباح اليوم خلال كلمة ألقاها في مؤتمر رؤساء الوفود الإيرانية الرئيس الأمريكي من "اللعب بالنار"، معلناً أن "على واشنطن أن تعلم أن السلام معنا هو السلام الحقيقي والحرب معنا هي أم كل الحروب".

وتناول الرئيس الإيراني في كلمته العلاقات مع أوروبا فقال: "كلما حاولت أوروبا الاقتراب أكثر من الاتفاق معنا لم يسمح البيت الأبيض بذلك"، مضيفاً: إن "من يفهم في السياسة قليلاً لا يقول إننا سنقطع صادراتنا النفطية فنحن لدينا مضائق كثيرة وهرمز واحد منها"، مشيراً إلى أن "واشنطن غير قادرة على تأليب الشعب الإيراني ضد الأمن والمصالح الإيرانية".

وحول تصدير النفط من الخليج الفارسي توجّه روحاني لترامب قائلاً: "نحن من ضَمن أمن الممرات المائية في المنطقة طوال التاريخ".

وحول موضوع حقوق الإنسان قال الرئيس الإيراني: إن "الحكومة الأمريكية الحالية تعمل بالتزامن على نشر الظلم في العالم والركض وراء مصالحها، مضيفاً: "لم يحدث من قبل مثلما يحدث اليوم أن البيت الأبيض ضد الحقوق الدولية، وضد العالم الإسلامي، والشعب الفلسطيني".

وأضاف الرئيس الإيراني: " لقد ادعوا كثيراً أن الاحتلال الإسرائيلي نموذج للديمقراطية في المنطقة ولكن أثبت اليوم أنه عبارة عن محور ومركز للفصل العنصري".

وفي ختام حديثه قال الرئيس الإيراني: "في الظروف الجديدة نسعى إلى تصحيح العلاقات مع السعودية والإمارات والبحرين".

يذكر أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب هدد بفرض عقوبات وصفها بغير المسبوقة على طهران من بينها منع الدول العالمية من شراء النفط الإيراني.

 

كانت حصة أكبر الأحزاب في الانتخابات البرلمانية والبلدية التي شهدتها تونس منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2011 في حدود ثلث الناخبين، بينما كرّست بقية النتائج تصدع الطبقة السياسية وعمق صراعات «الإخوة الأعداء» داخل معظم التيارات الليبرالية والوطنية والإسلامية واليسارية. ومن ثم، مع اقتراب الموعد الرسمي لانطلاق الحملة الانتخابية لانتخابات 2019 البرلمانية والرئاسية، انفجرت شظايا الصراعات في كل الاتجاهات، وشارك فيها لأول مرة رئيسا الجمهورية قائد السبسي وأنصاره والحكومة يوسف الشاهد والموالون له.

بينما كان وزراء في «حكومة الوحدة الوطنية» برئاسة يوسف الشاهد يستعرضون مؤشرات خروج تونس من أزمتها الاقتصادية الاجتماعية المتراكمة منذ 7 سنوات، فجّرت تصريحات الرئيس التونسي الباجي قائد السبسي من جهة، وقيادات سياسية ونقابية من جهة ثانية، أزمة سياسية غير مسبوقة في تاريخ البلاد كشفت احتدام المعارك مجددا حول قصر الرئاسة في قرطاج. وبخلاف كل المعارك السياسية السابقة، يبدو أن من بين أسلحة المتصارعين على الحكم، أو حلفائهم، الدفع في اتجاه شلل البلاد من خلال عمليات تخريب متزامنة... أدت إلى سلسلة من الإضرابات وعمليات قطع الماء والكهرباء وحركة النقل وإضرام النيران في الغابات والمزارع وغير ذلك من أعمال التخريب.
في الأثناء تعالت أصوات سياسيين بارزين مطالبة بحل البرلمان، واستقالة «رأسي» السلطة التنفيذية، وتنظيم انتخابات رئاسية وبرلمانية سابقة لأوانها. فإلى أين تسير تونس؟ وهل تنجح مرة أخرى في الخروج من أزمتها بالطرق السياسية السلمية... أم تدفع نحو العنف والعنف المضاد فتفشل جهود البرهنة على قابلية نجاح الانتقال الديمقراطي السلمي في بلد عربي؟
لعل من أغرب ما في أزمات تونس المتعاقبة منذ الانهيار المفاجئ للدولة المركزية القوية في يناير (كانون الثاني) 2011. دوران غالبية قيادات الأحزاب والزعامات السياسية التقليدية في حلقات مفرغة، وعجز كل منها عن استقطاب أكثر من ربع أو ثلث الناخبين.
ولقد أكدت نتائج الانتخابات البلدية العامة التي نظمت في مايو (أيار) الماضي هذه الحقيقة، عندما فاز حزب «النداء» – أو «نداء تونس» - الذي أسسه رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي بنحو 22 في المائة فقط من المقاعد، مقابل 28 في المائة فقط لشريكه في الحكم حزب «حركة النهضة» (الإسلامي)، وذهب ثلث المقاعد لعشرات الأحزاب والقوائم المستقلة القريبة من اليسار الاجتماعي والليبراليين.
وكانت حصة أكبر الأحزاب في الانتخابات البرلمانية والبلدية التي شهدتها تونس منذ أكتوبر (تشرين الأول) 2011 في حدود ثلث الناخبين، بينما كرّست بقية النتائج تصدع الطبقة السياسية وعمق صراعات «الإخوة الأعداء» داخل معظم التيارات الليبرالية والوطنية والإسلامية واليسارية. ومن ثم، مع اقتراب الموعد الرسمي لانطلاق الحملة الانتخابية لانتخابات 2019 البرلمانية والرئاسية، انفجرت شظايا الصراعات في كل الاتجاهات، وشارك فيها لأول مرة رئيسا الجمهورية قائد السبسي وأنصاره والحكومة يوسف الشاهد والموالون له.

استهداف مؤسسة الرئاسة
خلافاً لكل الأزمات السابقة منذ مطلع 2011، وبصفة أخص منذ انتخاب الباجي قائد السبسي رئيساً للجمهورية في أواخر 2014 وهو في الـ88 من عمره، استهدفت المعركة الجديدة المؤسسة التي يعتبرها الساسة والمثقفون والإعلاميون في تونس مؤسسة عليا وسلطة تحكيم. والقصد هنا مؤسسة رئاسة الجمهورية... و«الأب» الرمز ونجله حافظ قائد السبسي، المدير التنفيذي للحزب الحاكم، الذي ترشحه أوساط كثيرة منذ 3 سنوات للعب دور سياسي وطني أكبر بعد والده.
في المقابل يستهدف تيار عريض من الزعماء النقابيين والسياسيين، بينهم الأمين العام لاتحاد نقابات العمال نور الدين الطبوبي والمدير التنفيذي للحزب الحاكم حافظ قائد السبسي وأنصاره «الرأس الثاني» للسلطة التنفيذية أي رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي يحمله منتقدوه مسؤولية كل المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية في البلاد ويطالبون منذ سنة بإقالته.
بل إن بعض زعماء حزب «نداء تونس»، مثل الوزير الناطق الرسمي باسم الحكومة سابقاً خالد شوكات، باتوا يتسابقون على الإدلاء بتصريحات صحافية توجّه اتهامات خطيرة لرئيس الحكومة، من بينها الانحياز إلى حزب «حركة النهضة» باعتباره صاحب الكتلة الأكبر في البرلمان راهناً، ضد رئيس الجمهورية والحزب الذي كان من بين مؤسسيه وزعمائه قبل 4 سنوات.

الابن والأب
إلا أن رئيس الحكومة الشاهد والمقرّبين منه، مثل الوزير المكلف بالعلاقة بالبرلمان والعلاقات مع المجتمع المدني المهدي بن غربية - الذي استقال من منصبه قبل أيام - يحرصون على إبلاغ الرأي العام وصنّاع القرار بمعلومات تفصيلية عن النجاح الاقتصادي والمالي والأمني غير المسبوق الذي حققته الحكومة خلال النصف الأول من العام الجاري. وفي الوقت عينه، يحمِّل هؤلاء مسؤولية الأزمة السياسية التي يمر بها الحزب الحاكم إلى نجل رئيس الجمهورية المدير التنفيذي للحزب وليس إلى والده.
وفي سابقة نوعية، نُقل عن الشاهد أنه انتقد علناً في أكثر من مناسبة، داخل قصر قرطاج (الرئاسي) نجل الرئيس بحضور والده وزعيم «حركة النهضة» وقيادات نقابات العمال ورجال الأعمال. وذهب رئيس الوزراء إلى حد تحميل قائد السبسي الابن مسؤولية الأزمة السياسية التي يواجهها الحزب الحاكم والتي تسببت في تراجع شعبيته بنسبة 70 في المائة خلال انتخابات مايو الماضي مقارنة بانتخابات أواخر 2014. ويعتقد مراقبون بارزون مثل الإعلامي عبد اللطيف الفراتي والوزير السابق والجامعي الطيب اليوسفي ورجل الأعمال رؤوف الخماسي أن اصطفاف السياسيين والنقابيين والوزراء وراء جناحين متصارعين في السلطة، أحدهما بزعامة رئيس الجمهورية وابنه والثاني بزعامة رئيس الحكومة والموالين له، سيزيد من تعميق الأزمة السياسية في مؤسسات الحكم والمعارضة. وقد تستفحل هذه الأزمة في صورة انسحاب يوسف الشاهد وأنصاره من مؤسسات الحكم والبرلمان، وإعلانهم رسمياً تأسيس حزب سياسي جديد يخوض انتخابات 2019 الرئاسية والبرلمانية تحت شعارات مثيرة من نوع «معارضة توريث» رئيس الجمهورية الحكم وقيادة حزب «النداء» إلى ابنه حافظ.

سباق نحو قصري قرطاج والقصبة
في هذا المناخ العام، الذي يذكّر قطاعاً من التونسيين والتونسيات بدور العائلات الحاكمة والأصهار والأبناء في الصراعات على الحكم إبان عهدي الرئيسين السابقين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، برزت أزمات سياسية جديدة داخل الحزب الحاكم والمعارضة. وتحرّك مقربون من رأسي السلطة التنفيذية للاستفادة من الأزمة وإعادة خلط الأوراق. إذ تصالح رئيس الجمهورية مع المنشقين عن حزبه والمتمرّدين السابقين عن ابنه مثل الوزير مدير الديوان الرئاسي السابق رضا بالحاج زعيم حزب «تونس أولاً»، والوزير المستشار السياسي السابق محسن مرزوق الذي أسس حزب «مشروع تونس» وأصبح يتزعم عملياً الكتلة الثالثة في البرلمان بعد «النهضة» و«النداء».
في الطرف المقابل بدأ رئيس الحكومة يوسف الشاهد وفريقه يستقطبون مزيداً من الأنصار ويخوضون معارك سياسية انتخابية على جبهتين: الأولى، إبراز نجاحات حكومتهم اقتصاديا وأمنياً (في الداخل والخارج) مقارنة بسابقاتها. والثانية، التلويح بخوض حملة جديدة ضد المتهمين بالرشوة والفساد والإثراء غير المشروع... والإيحاء بكون نسبة من المقرّبين من نجل الرئيس قد تشملهم الحملة، بمن فيهم بعض الرسميين والبرلمانيين وكبار الشخصيات العمومية. ويعتقد هؤلاء أن صغر سن الشاهد (44 سنة) مقارنة بمنافسيه، قد يكون ورقة رابحة جداً في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقررة لعام 2019. سواءً خاضها باسم «نداء تونس» أو باسم حزب جديد يؤسسه مع منشقين عنه وعن الحكومة. وفي كل الحالات تكشف الحملات الإعلامية المتبادلة بين رأسي السلطة التنفيذية وحلفاء الشقّين المتنافسين أن المعركة الانتخابية نحو قصري قرطاج والقصبة... بدأت بالفعل.

دعوة إلى الاستقالة
من ناحية أخرى، لعل من بين ما أثار انزعاجاً في صفوف المراقبين، داخل تونس وخارجها، أن انخراط القنوات التلفزيونية والإذاعية والصحف في السباق الانتخابي السابق لأوانه بين «الإخوة الأعداء» اقترن بدعوة رئيس الجمهورية رئيس حكومته إلى الاستقالة أو التوجه إلى البرلمان لطلب تجديد الثقة فيه وكسب حزام سياسي لحكومته. وفي المقابل، تعالت داخل بعض الصالونات ووسائل الإعلام أصوات مثقفين، منهم الإعلامي زياد كريشان، رئيس تحرير جريدة «المغرب» اليومية، تدعو رئيس الجمهورية إلى الاستقالة والدعوة إلى تنظيم انتخابات رئاسية سابقة لأوانها قبل نهاية العام الجاري، وتنظيم الانتخابات البرلمانية في موعدها المقرر العام المقبل.
أصحاب هذا الموقف وزعماء سياسيون آخرون، مثل المحامي أحمد نجيب الشابي المرشح السابق للانتخابات الرئاسية في 2014. يدعون البرلمان إلى تعديل سريع للدستور بهدف توسيع صلاحيات رئيس الجمهورية، ومنحه حق اختيار رئيس حكومته ووزرائه من دون اللجوء إلى البرلمان، على غرار ما ينص عليه الدستور الحالي الذي يصف النظام الجمهوري التونسي بأنه «نظام جمهوري معدّل». وتلتقي مع هذا الموقف نسبياً مواقف عدد من كبار خبراء القانون الدستوري مثل العميد الصادق بلعيد والجامعي هيكل بن محفوظ والخبير القانوني ووزير التربية في الحكومة الحالية حاتم بن سالم.

المسكوت عنه
في مطلق الأحوال، يتضح أن المسكوت عنه بالنسبة لمحاور الصراع بين زعامات الحكم والمعارضة أكثر من المتفق عليه. وتكشف الحملات الإعلامية المتبادلة بين قيادات من حزب نجل الرئيس قائد السبسي وخصومها ومنافسيها في قيادات أحزاب وكتل «حركة النهضة» و«التيار الديمقراطي» و«مشروع تونس» و«الجبهة الشعبية» أن أوراقاً كثيرة اختلطت، وأن المسكوت عنه هو مطالبة أطراف كثيرة في الحكم والمعارضة للرئيس الباجي قائد السبسي ونجله حافظ ولزعماء «حركة النهضة» بإعلان زهدهم في الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة. بل لقد انطلقت حملات عنف لفظي بالجملة داخل المواقع الاجتماعية ووسائل الإعلام تستهدف قيادات «النهضة» وزعمائه التاريخيين... في أعقاب تصريحات أدلى بها بعضهم أوحت باحتمال ترشحهم للانتخابات الرئاسية المقبلة. وانخرط في هذه الحملات مقرّبون من حافظ قائد السبسي من بين رموز الدولة والحزب الحاكم قبل 2011... مثل برهان بسيس، المدير السياسي لحزب نداء تونس، وعياض الودرني الوزير مدير الديوان الرئاسي في عهد زين العابدين بن علي. كذلك انخرط فيها معارضون سابقون لبن علي مثل ناجي جلول الوزير في حكومة الشاهد السابقة والقيادي سابقاً في «الحزب الديمقراطي التقدمي». وينحاز كل هؤلاء إلى الرئيس قائد السبسي ونجله حافظ والمقربين منها، ويطالبون بفك التحالف الذي يجمع «النداء» بـ«النهضة» في البرلمان والحكومة لأنهم يعتبرونه سبباً في تراجع شعبيتهم في الانتخابات البلدية الماضية.

«حكومة النهضة»؟
ولم تقف بعض الصفحات الاجتماعية ووسائل الإعلام عند هذا الحد، بل انطلقت في حملة واسعة ضد قيادات «حركة النهضة» مع المطالبة بطردها من مواقعها في الحكم والمعارضة وإقصائها مجددا من اللعبة السياسية، مع تحميلها المسؤولية السياسية لانتشار العنف والإرهاب في البلاد وهجرة مئات الشباب المتطرف دينياً وسياسيا نحو ليبيا وسوريا والعراق.
وكانت من بين مفاجآت الحديث التلفزيوني المثير للجدل الذي أدلى به الرئيس قائد السبسي إلى قناة تلفزيونية خاصة مساء الأحد 15 يوليو (تموز) الجاري أنه انتقد بقوة حكومة الشاهد، وأورد «أن كثيرين أصبحوا يعتبرونها حكومة حزب حركة النهضة»، رغم انتماء نحو 15 من وزرائها إلى حزب «النداء» الذي أسسه قائد السبسي في 2012 ويتزعمه حاليا نجله. وتبنى مثل هذا التقييم إعلاميون كبار بينهم الصحافي الهاشمي نويرة الذي اتهم مع رئيس الجمهورية رئيس الحكومة الشاهد «بالتضحية بالحزام السياسي السابق الذي كان يتمتع به مقابل حصوله على دعم من حزب النهضة بهدف تعطيل التصويت على سحب الثقة من الحكومة في البرلمان». ولقد اعترض برلمانيون ووزراء مقرّبون من حزب «حركة النهضة» على تلك الانتقادات وذكّروا بكون يوسف الشاهد من بين أبرز قيادات «نداء تونس» منذ تأسيسه... وكان مرشحه ومرشح الرئيس قائد السبسي لرئاسة الحكومة في 2016.

الدعم الدولي للشاهد
في هذه الأثناء، بحكم البُعد الدولي للتغييرات التي وقعت في أعلى هرم السلطة في تونس طوال العقود الماضية، تجري بعض حلقات الصراع على السلطة في تونس مجدداً في مقرات السفارات الأجنبية ومؤسسات صنع القرار الأوروبية والدولية. وعلى هذا المستوى، حصل رئيس الحكومة يوسف الشاهد مجدداً على دعم معنوي ومالي غير مسبوق من مؤسسات الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك العالمي والاتحاد الأفريقي والبنك الأفريقي للتنمية. وكانت الحصيلة ظفر الحكومة في وقت قياسي بمليارات من الدولارات لتغطية حاجاتها المالية واحتواء مطالب النقابات التي تضخم دورها والتي تخوض بدورها منذ أشهر حملة للمطالبة بإقالة الشاهد وكامل فريقه الحكومي.

«الكل ضد الكل»
هذا، وفي حين يبدو أن معظم التونسيات والتونسيين منشغلون بأجواء الإجازات الصيفية والشواطئ وحفلات الزفاف، وبالتأقلم مع غلاء الأسعار وتدهور خدمات الصحة والتعليم والنقل في القطاع العام ومع ظاهرة انقطاع الماء والكهرباء، يحذّر سياسيون من الأحزاب الحاكمة والمعارضة من تورّط النخب النقابية والسياسية التونسية مجدداً من تفجّر انتفاضة اجتماعية سياسية غامضة النتائج على غرار ما جرى في أواخر 2010 ومطلع 2011.
وحقاً، كشفت استطلاعات الرأي نزوع غالبية الشباب المهمّشين إلى دعم الأحزاب الصغيرة، مثل «التيار الديمقراطي» بزعامة محمد عبو وغازي الشواشي، و«الجبهة الشعبية» بزعامة حمة الهمامي، وحزب «حراك الإرادة» بزعامة الرئيس السابق المنصف المرزوقي، التي ترفع كلها شعارات راديكالية تعارض في آن معاً كلاً من حزبي النداء والنهضة.
لكن ما يخشاه الجميع هو تطوّر معركة رموز قصري الرئاسة والحكومة إلى معركة «الكل ضد الكل»، عوض خوض تنافس حول البرامج... من شأنه أن يفيد البلد والشعب بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة، وينقذ المشروع الحضاري التقدمي وما يُعتبر أول نموذج للانتقال الديمقراطي السلمي في دول ما عُرف بـ«الربيع العربي».

الخريطة السياسية الجديدة في تونس
 حزب «نداء تونس»، بزعامة رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي ونجله حافظ قائد السبسي، ولقد أعلن عدد من المنشقين عنه عودتهم إليه لضمان فوزه في الانتخابات الرئاسية القادمة.
ويقترح بعض مؤسسي هذا الحزب الآن انسحاب نجل الرئيس حافظ قائد السبسي إلى الصف الثاني كي يتمكن الحزب من استيعاب عدد أكبر من الكفاءات والشخصيات الوطنية والسياسية.
حزب «مشروع تونس» الذي يتزعمه الوزير السابق محسن مرزوق مدير الحملة الانتخابية لحزب «نداء تونس» سابقاً. وهو يحتل المرتبة الثالثة (من الحجم التمثيلي) في البرلمان، واستقطب تياراً عريضاً من المنشقين. غير أنه لم يفز في الانتخابات البلدية في مايو الماضي إلا بنسبة ضعيفة من المقاعد.
 حزب «حركة النهضة» الفائز بالمرتبة الأولى في الانتخابات البلدية خلال مايو الماضي – حاصلاً على 28 في المائة من المقاعد ـ وبات صاحب الكتلة الأولى في البرلمان بـ68 مقعدا من بين 217.
 حزب «التيار الديمقراطي» بزعامة المعارض السابق المحامي محمد عبو، ولقد فاز بنحو 5 في المائة من المقاعد في الانتخابات البلدية. وهو حزب يساري يعارض بقوة كلاً من حزبي «النداء» و«النهضة».
 كتلة «الجبهة الشعبية» اليسارية بزعامة حمه الهمامي وزياد الأخضر. تضم هذه الكتلة 15 حزبا يساريا وقوميا عربيا صغيراً ولديها في البرلمان 15 نائباً، واحتلت المرتبة الرابعة في الانتخابات البلدية خلال مايو الماضي. ولدى هذه الكتلة السياسية تأثير كبير في النقابات والمجتمع المدني ووسائل الإعلام.

كمال بن يونس

الإثنين, 23 تموز/يوليو 2018 04:42

تقسيم مراحل الطفولة

تمهيد
إنّ تقسيم مراحل الطفولة له دور رئيس في العمليات التربوية؛ لأنّ كلّ مرحلة من المراحل التي يمرّ بها الطفل تُعتبر ظرفاً لبعض الأحكام التربوية الخاصّة بها. وهناك عدّة تقسيمات لمراحل الطفولة عند علماء النفس والتربية، وضعت وفق معاييرهم التي اعتمدوها في المقام ليستفيدوا منها في التربية والتحليل النفسي. وهذه التقسيمات وإن كانت ذات فائدة عملية من بعض الوجوه، إلا أنّنا نُريد تقسيم مراحل الطفولة بنحوٍ يُمكننا من الاستثمار الإيجابيّ فيه بالنسبة لتربية الطفل في ضوء المنهاج الإسلاميّ. وفي هذا الدرس سنتوقّف عند النظرة الإسلامية إلى مراحل الطفولة1، ثم نعرض في الفقرات الأخيرة ثلاث نماذج من التقسيمات الأخرى للطفولة.

تقسيم مراحل الطفولة في النصوص الإسلامية
يُمكن ملاحظة مراحل الطفولة من زاويتي نظر في النصوص الإسلامية:

التقسيم الاستقرائيّ حسب المراحل
نقصد بالتقسيم الاستقرائيّ: تتبّع النصوص الشريفة للخروج بخلاصات عامّة عن تقسيم مراحل الطفولة - بالمعنى الأعم من الحقيقيّ والمجازيّ - بالنسبة لما يتعلّق بالتربية. ويُمكن تصنيفها بالاستقراء على النحو التالي:

1- مرحلة حسن اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر.

2- مرحلة الجماع، ما قبل الحمل الواقع منه تكوين الجنين.

3- المرحلة الصلبية، وحياة الطفل - بصورتها الأوّلية - تبدأ من النطفة التي هي مادّة حاملة للفعلية القريبة الواقعة على صراط تكوين طفل فعليّ الوجود لاحقاً، يقول تعالى: ﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّاء دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ2.

4- المرحلة الجنينية أي مرحلة الحمل.

5- المرحلة من 0 يوم حتى 7 أيام.

6- مرحلة الرضاع، من 0 سنة حتى 2.

7- مرحلة الحضانة، مرحلة ما قبل التمييز، من 0 سنة حتى 2/7 سنوات.

8- مرحلة التمييز، من 7 حتى البلوغ.

وقد تُضاف إليها بالاعتبار حكماً لا موضوعاً مرحلة تاسعة، هي:
9- مرحلة البلوغ السفهيّ غير الرشيد، التي يُمكن اعتبارها ملحقة بمرحلة الطفولة في بعض أحكام فقه التربية، لأنّ دخول الطفل إلى مرحلة البلوغ يكون على نحوين:

الأوّل: أن يدخل مرحلة البلوغ وهو رشيد، بمعنى أن تكون للبالغ ملكة نفسانية تقتضي تصرّفه ضمن حدود الصلاح اللائق بأفعال العقلاء، أي المرحلة التي يُحسن فيها التصرّف في شؤون نفسه وبدنه وماله بنحو يراه العقلاء عملاً مقبولاً، فلا يكون لأحد ولاية عليه.

الثاني: أن يدخل مرحلة البلوغ وهو غير رشيد، بمعنى أنّه لا يُحسن التصرّف في نفسه وماله وشؤونه، فلا تنفذ جميع تصرّفاته بحقّ نفسه بشكل مستقلٍّ على نحو الموجبة الكلية، بل يحتاج إلى رعاية الوليّ الشرعيّ، ويلحق بالطفل من جهة بقاء وليّه السابق مستمرّ الولاية عليه3. - سيأتي بحث هاتين النقطتين في الدرس الخامس عشر -.

ونُعيد التذكير، بأنّ هذا التقسيم للمراحل، ليس استنسابياً أو جزافياً، بل يترتّب على كلّ مرحلة منه أحكام وتشريعات فقهية وتربوية خاصّة4.

الطفولة في اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل
ورد في المادّة الثانية من ميثاق الطفل في الإسلام، الصادر عن اللجنة الإسلامية العالمية للمرأة والطفل5، ما نصّه:

1 - تشمل رعاية الشريعة الإسلامية للطفل المراحل التالية:
1- اختيار كلٍّ من الزوجين للآخر.
2- فترة الحمل والولادة.
3- من الولادة حتّى التمييز (مرحلة الطفل غير المميّز).
4- من التمييز حتّى البلوغ (مرحلة الطفل المميّز).

وتنشأ للطفل في كلّ من هذه المراحل حقوق تُلائمها6.

وهو تقسيم مقبول إلى حدٍّ ما، ونُسجّل عليه ملاحظة، وهي أنّه لم يُفصّل في ذكر عناوين المراحل، كالمرحلة الصلبية، والجُماعية، والأسبوعية، والرضاعية، والحضانية و... بل بقيت مطوية في تقسيم المراحل الأخرى، مع أنّ لها أحكاماً وتشريعات خاصّة بها بعنوانها.

2- تقسيم الـ: "ثلاث سبعات"
التقسيم الثاني الذي يُمكن أن يُستفاد من الروايات بشكل واضح هو التقسيم المعروف بـ: "ثلاث سبعات".

- عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "الولد سيّد سبع سنين، وعبد سبع سنين، ووزير سبع سنين، فإن رضيت خلائقه7 لإحدى وعشرين سنة، وإلا ضرب على جنبيه8، فقد أعذرت إلى الله"9.

- وعن الإمام عليّ عليه السلام، قال: "يُربّى الصبي سبعاً، ويؤدّب سبعاً، ويُستخدم سبعاً..."10. وفي لفظ آخر: "يُرخى الصبي سبعاً..."11.

- وعن الإمام جعفر الصادق عليه السلام، قال: "دع ابنك يلعب سبع سنين، ويؤدّب سبع سنين، وألزمه نفسك سبع سنين، فإن أفلح، وإلا فلا خير فيه"12.

- وعنه عليه السلام، قال: "الغلام يلعب سبع سنين، ويتعلّم الكتاب سبع سنين، ويتعلّم الحلال والحرام سبع سنين"13.

وقريب منها:
- عنه عليه السلام، قال: "دع ابنك يلعب سبع سنين، وألزمه نفسك سبعاً، فإن أفلح وإلا فإنّه ممّن لا خير فيه"14.

- وعنه عليه السلام، قال: "أمهل صبيّك حتّى يأتي له ستّ سنين، ثمّ ضمّه إليك سبع سنين، فأدّبه بأدبك، فإن قبل وصلح، وإلا فخلِّ15 عنه"16.

سرّ السنوات السبع الأولى
يظهر من خلال الروايات السابقة أنّ مرحلة السبع الأولى من حياة الطفل لها ميّزة خاصّة، لأنّ الطفل في هذه المرحلة قد خرج إلى عالم الحياة جاهلاً ضعيفاً فاقداً لكلّ كمال فعلي لا يملك أيّ تصوّر عن هذا العالم وليس لديه أيّ انطباع أو شعور واتّجاه نفسيّ انفعاليّ عنه أو أيّ مهارة سلوكية فيه، ويبدأ رحلته في اكتساب المعارف والقيم والاتجاهات والميول والمهارات والسلوكات المختلفة في الساحات المتعدّدة بالتدريج، وبطبيعة الحال يحتاج إلى فترة زمنية معيّنة ليتمّ له اكتساب تلك الأمور بنحو يصل إلى مرحلة عمرية يُصبح فيها قادراً على التمييز بين ما هو إيجابيّ وسلبيّ ولو بنحو إجماليّ، ويكوّن صورة أوّلية عن مفهوم الخطأ والصواب والحسن والقبيح والضارّ والنافع من تلك الأمور، فيحتاج في هذه المرحلة الأولى إلى إعطائه هامشاً من الحرّية والفسحة لأجل اكتشاف نفسه والأشياء المحيطة به، ولبناء خطوط علاقاته معها.

لذا، كان التوجيه التربويّ الإسلاميّ لوليّ أمر الطفل نحو إعطاء الطفل هامشاً من الحرّية وعدم تقييده بلوائح كثيرة من الممنوعات حتّى لا تُحاصر قدرته على اكتشاف الأشياء والتعرّف إليها ولمسها واختبارها بشكل شخصيّ، فعبّرت الروايات عن هذه المرحلة بعبارات مثل: "سيّد"، "أمهل"، "يرخى".

وباعتبار أنّ القدرة الاستكشافية لدى الطفل يتمّ إشباعها من خلال ما فطره الله تعالى عليه من أسلوب اللعب والنشاط الحركيّ، حثّت الروايات على ترك الطفل يعيش حياته بمناخ من اللعب، وبعد أن يمرّ الطفل بهذه المرحلة من اللعب والإمهال والإرخاء ليكتشف العالم المحيط به ويختبره يصل إلى مرحلة امتلاك قدرة التمييز بين الإيجاب والسلب، فيخرج من تلك المرحلة الأولى ويدخل في الثانية. وقد قدّرت الروايات المرحلة الأولى بـ 7 سنوات، وهذا ما أثبتته التجربة التربوية والنفسية كما سنوضحه في درس التربية باللعب، فترك الطفل في المرحلة الأولى من حياته بهذا النحو هو بحدّ نفسه تربية.

خصوصية دخول الطفل في سنّ السابعة
إنّ لسنّ السابعة ميّزة خاصّة في النصوص الدينية، وهذا يُشير إلى أنّها نهاية مرحلة عمرية خاصّة وبداية أخرى بالنسبة للطفل، فالسبع الأولى هي مرحلة اللعب والإمهال (لا الإهمال)، أمّا السبع الثانية فهي بداية مرحلة التعليم والتأديب (الانتقال إلى مرحلة جديدة من التربية) كما اتّضح من النصوص السابقة. ونذكر بعض الروايات التي توضح خصوصية هذا السنّ.

ففي التربية الجنسية:
- عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، قال: "فرّقوا بين أولادكم في المضاجع إذا بلغوا سبع سنين"17.

- وعن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "... الغلام لا يُقبِّل المرأة إذا جاز سبع سنين"18.

وفي التربية العبادية:
- عن الإمام الصادق عليه السلام، قال: "... مروا صبيانكم بالصلاة إذا كانوا بني سبع سنين"19.

لذا، عبّرت الروايات عن السبع الثانية بـ: "العبد"، "أدّبه"، "ألزمه نفسك"...، لأنّها مرحلة جديدة تحتاج إلى أصول وأساليب وتقنيات مختلفة.

معايير تحديد مرحلة التمييز
نُركّز النظر حول معايير تحديد مرحلة التمييز بسبب الخصوصية التي تتمتّع بها مرحلة دخول الطفل في سنّ السابعة، بحيث يُصبح في الأغلب طفلاً مميّزاً. ومفردة الطفل المميّز أو التمييز لم ترد في نصٍّ دينيٍّ يدلّ على تحديد معناها حتّى يُعتمد كمعيار في المقام، لذا لا بدّ من الرجوع إلى مدلول الكلمة في اصطلاح الفقهاء، ومع استقراء نصوص الفقهاء نخرج بالآراء التالية:

المعيار الأول: 6-7 سنوات حتّى البلوغ
تبنّى غالبية فقهاء أهل السنّة المعيار الزمانيّ لتحديد مرحلة التمييز، فهي تمتدّ من سنّ الـ6-7 حتّى مرحلة البلوغ20، وهو رأي بعض فقهاء الإمامية، ولعلّ منشأ ذلك عندهم هو الروايات السابقة التي تُفيد كون سن الـ7 يُشكّل مرحلة جديدة لها مستلزمات خاصّة في حياة الطفل.

قال الشيخ الطوسيّ: "... وإن كان طفلاً يُميّز وهو إذا بلغ سبع سنين أو ثمان سنين فما فوقها إلى حدّ البلوغ..."21.

وقال العلّامة الحلّي: "إذا بلغ الطفل سبع سنين،... لأنّ هذا السنّ يحصل فيه التمييز من الصبي..."22.

وقال الشيخ جواد التبريزي: "التمييز هو أن يُميّز الشيء القبيح من غيره، ويكون غالباً إذا بلغ الولد ستّ سنين... إذا أكمل الطفل ستّ سنوات فهو مميّز"23.

وسُئل الشيخ التبريزي: هل هذا - تحديد ضابط الصبيّ المميّز بالستّ سنوات - من باب تشخيص الموضوع؟ فلو شخّص المكلّف أنّ ابنه لم يُميّز (حتّى بعد بلوغ الستّ) يعتمد على تشخيصه أم لا؟ أجاب: "هذا التحديد وارد في الروايات"24.

المعيار الثاني: معرفة الحسن من القبح
قال الشهيد الثاني: "المراد بالمميّز مَنْ يعرف الأضرّ من الضارّ والأنفع من النافع، إذا لم يحصل بينهما التباس بحيث يخفى على غالب الناس"25.

وقال السيد محمد رضا الكلبايكاني: "الصبيّ إذا ميّز الحسن من القبيح، وفهم ما يفهمه الكبار فهو مميّز"26.

وقال الشيخ محمد علي الآراكي: "المميّز هو القادر على تشخيص القبيح والحسن"27.

وليس المراد من التمييز أن يكون الطفل قادراً على التفرقة بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع بشكل تفصيليّ وإنّما يكفي التمييز الإجماليّ.

وقد يُقال إنّ المعيار السابق لا يختلف عن هذا المعيار، لأنّه وكما عبّر الشيخ جواد التبريزي: التمييز هو أن يُميّز الشيء القبيح من غيره ويكون غالباً إذا بلغ الولد ستّ سنين، فيكون تحديد الفقهاء له بـ6 أو 7 سنوات من باب تشخيص المصداق، ولكن ينفيه أنّ جوابه بكونه وارداً في الروايات يوحي بأنّه من باب التعيين لا التشخيص.

ولكن مع ذلك، فإنّ صريح عبارات بعض الفقهاء ممّن يتبنّى هذا الرأي يُفيد كون تحديد مرحلة التمييز بالـ 7 من باب تطبيق المعيار (وهو قدرة الطفل على التفرقة بين النافع والضارّ) على الطفل الخارجيّ والتشخيص للمصداق، لا من باب التحديد والتعيين.

المعيار الثالث: مرجعية النظرة العرفية
قال السيد محمد جواد العاملي: "المرجع في المميّز إلى العرف، لأنّه المحكّم في مثله"28.

المعيار الرابع: اختلاف التمييز باختلاف متعلّق التكليف
سُئِل السيد علي السيستاني: ما هو ضابط الصبيّ المميّز في مسألة جواز النظر إلى عورته، وجواز نظره إلى عورة الغير، وكون عباداته صحيحة، والاعتماد على أخباره؟

أجاب: "يختلف المميّز في كلّ مكان، ففي الأول المراد بالمميّز الذي يتأثّر من النظر إلى العورة أو النظر إلى عورته لو التفت وتتحرّك غريزته نسبياً، وفي اعتبار صحّة عباداته الذي يُميّز التكاليف وأنّ الأمر من قِبَل الله تعالى ويُمكنه قصد القربة، وفي الاعتماد على إخباره بالنجاسة إذا كان ذا اليد، إذا كان مميّزاً قوي الإدراك لها"29.

المعيار الخامس: اختلاف المميّز باختلاف الزمان والمكان والأفراد
سُئل السيد علي الخامنئي دام ظله: جاء في بعض الأحكام للصبيّ المميّز بأنّه الصبيّ الذي يُميّز الحسن من القبيح، فما هو المراد من الحسن والقبيح؟ وما هي سنّ التمييز؟

أجاب: "المراد من الحسن والقبيح هو ما يكون كذلك بنظر العرف، مع ملاحظة ظروف حياة الصبيّ والعادات والآداب والتقاليد المحلّية، وأمّا سنّ التمييز فهو مختلف تبعاً لاختلاف الأشخاص في الاستعداد والإدراك والذكاء"30.

الاستنتاج:
إنّ ما تقدّم في أقوال الفقهاء ليس معايير متعدّدة، وإنّما هو معيار واحد تمّ تسليط الضوء عليه من زوايا مختلفة، والمعيار هو: أن يصل الطفل إلى مرحلة عمرية تُصبح لديه ملكة التمييز بنحو إجمالي بين الحسن والقبيح والضارّ والنافع في الحياة. وممّا لا شك فيه أنّ متعلّقات الحسن والقبح تختلف مجالاتها وساحاتها، فقد تتعلّق بأمور جنسية وأخرى سياسية وثالثة اجتماعية ورابعة مالية وخامسة عبادية... إلخ، وعليه سيختلف التمييز بلحاظ المتعلّق، كما سيتفاوت التمييز في الطفل نفسه بين شيء وآخر، وكذلك الأمر سيختلف التمييز بين طفل وآخر، وبين منطقة وأخرى... إلخ، ويكون مرجع تحديد أنّ هذا الطفل مميّز في هذا المجال أو ذاك هو النظرة العرفية الاجتماعية التي يعيش ويتحرّك الطفل داخل محيطها.

نعم، في الأعمّ الأغلب قد يكون بلوغ الطفل سنّ السابعة هو المُدخِل له إلى مرحلة التمييز لما ذكرناه في فقرتي: سرّ السنوات السبع الأولى وخصوصية دخول الطفل في سنّ السابعة، ولهذا ركّزت الروايات على هذه السنّ.

وعليه، فإنّ الضابط الكلّي لتحديد التمييز ليس زمانياً بل معرفيّ، إلا بناءً على المعيار الأول، على تفسير، أي تُحدّد مرحلة التمييز بالسنّ 6-7 من باب التعبّد بالنصّ الشرعيّ، فيكون ميزان دخول الطفل في مرحلة التمييز هو نفس السنّ بغضّ النظر عن الحالة المعرفية لابن سبع سنوات.

تقسيم الطفولة على أساس مراحل نمو المعرفة وتأثير البيئة على النموّ31
اعتمد هذا التقسيم جان بياجيه (1896-1980)، حيث سلّط الضوء في أبحاثه على مراحل الطفولة من خلال ربطها بعملية تكوين المعرفة المتأثّرة بالبيئة المحيطة بالطفل، فقسّمها إلى خمس مراحل، هي:
1- المرحلة الأولى: الذكاء الحسّيّ- الحركيّ: من صفر يوم إلى سنتين (0-2).
2- الثانية: مرحلة الصور العقلية: (2-4 سنوات).
3- الثالثة: مرحلة الذكاء الحدسيّ: (4-7 سنوات).
4- الرابعة: مرحلة العمليات الحسّية أو الذكاء المحسوس: (7-12 سنة).
5- والخامسة: الذكاء المجرّد، سنّ 13 وما فوق.

تقسيم مراحل الطفولة في مدرسة التحليل النفسيّ32
وهو التقسيم المعتمد عند سيجموند فرويد (1856-1939) وأتباع مدرسة التحليل النفسيّ:
1- ما قبل الولادة: صفر يوم إلى 250-300 يوم.
2- حديث الولادة: الأسابيع الأولى عقيب الولادة.
3- المرحلة الفميّة: السنة الأولى.
4- المرحلة الشرجية: 1-3.
5- المرحلة القضيبية: 2-5.
6- مرحلة الكمون: 5-10.
7- مرحلة ما قبل البلوغ: 10-12 سنة.
8- مرحلة المراهقة: 13-20 سنة.

تقسيم مراحل الطفولة على أساس الخصائص الجسمية33
1- المرحلة الجنينية: ما قبل الولادة: وتمتدّ من صفر يوم إلى 250-300 يوم.
- بويضة: من صفر يوم إلى أسبوعين.
- جنين: من أسبوعين إلى 10 أسابيع.
- جنين متكامل: من 10 أسابيع إلى الولادة.

2- مرحلة الولادة:
- حديث الولادة: الأسبوعان الأوّلان عقيب الولادة.
- المهد: من أسبوعين إلى عامين.

3- الطفولة: تمتدّ من: 3-12 سنة.
- المبكرة: 3-5 سنوات.
- الطفولة الوسطى: 6-10 سنوات.
- الطفولة المتأخّرة: 10-12 سنة.

4- المراهقة:
- المبكرة: 12-14.
- الوسطى: 14-17.
- المتأخّرة: 17-20.

وهذا الاختلاف بين الباحثين في تحديد مراحل الطفولة وتعيين أدوارها، إنّما هو بسبب اختلاف المعايير المعتمدة في هذا المجال، فمنها معايير معرفية، ومنها نفسية، ومنها فيزيولوجية...

* المنهج الجديد في تربية الطفل، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- أنظر: عجمي، سامر توفيق، عقوبة الطفل في التربية الإسلامية، الفصل الثالث.
2- سورة الطارق، الآيات 5-7.
3- الصدر، محمد صادق، ما وراء الفقه، ج5، ص58.
4- مع الإشارة أيضاً إلى أنّ هذا التقسيم لا يعني الفصل الهندسي بين المراحل، بل قد تتداخل بعض المراحل من حيث الزمان والأحكام، ولكن كلّ مرحلة لها علامات مميّزة لها في فقه التربية ستظهر في موضعها الخاص كانت هي الميزان والملاك في تبويب هذا التقسيم، فمثلاً مرحلة أسبوع الطفل هي جزء من مرحلة الرضاع لكن لها أحكام تربوية خاصّة بها من غير جهة الرضاع، ومرحلة الرضاع هي جزء من مرحلة ما قبل التمييز لكن لها أحكام خاصة بها من جهة الرضاع، وهكذا.
5- وهي إحدى لجان المجلس الإسلامي العالمي للدعوة والإغاثة.
6- يراجع: مناع، حقوق الطفل-الوثائق الإقليمية والدولية الأساسية، ص79.
7- في نسخة مكارم الأخلاق: "أخلاقه".
8- في نسخة مكارم الأخلاق: " فاضرب على جنبه".
9- العاملي، محمد بن الحسن، تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، ج21، ص476، ح27627. والطبرسي، الحسن بن الفضل، مكارم الأخلاق، ص222.
10- من لا يحضره الفقيه، ج3، ص493، ح4746.
11- مكارم الأخلاق، ص223.
12- من لا يحضره الفقيه، ج3، ص493، ح4743.
13- الكافي، ج6، ص47، باب تأديب الولد، ح3.
14- م.ن، ح1.
15- خلِّ: فعل أمر من خلى يخلي، بمعنى ترك.
16- الكافي، ج6، ص47،ح2.
17- مكارم الأخلاق، ص223.
18- من لا يحضره الفقيه، ج3، ص437، ح4510.
19- الكافي، ج3، ص409، باب صلاة الصبيان، ح1.
20- يراجع: ابن حجر العسقلاني، فتح الباري في شرح صحيح البخاري، ج1، ص158. والنووي، يحيى بن شرف، المجموع شرح المهذب، ج9، ص361.
21- الطوسي، محمد بن الحسن، الخلاف، ج5، ص131.
22- تذكرة الفقهاء، ج4، ص335.
23- التبريزي، جواد بن علي، صراط النجاة، ج6، ص65.
24- صراط النجاة، م.ن.
25- العاملي، زين الدين بن علي، روض الجنان في شرح ارشاد الأذهان، ج2، ص648.
26- الكلبايكاني، محمد رضا، إرشاد السائل، ص128.
27- الآراكي، محمد علي، المسائل الواضحة، ج2، ص91.
28- العاملي، محمد جواد، مفتاح الكرامة، ج6، ص432.
29- السيستاني، علي، الاستفتاءات، ص125-126.
30- الخامنئي، علي، أجوبة الاستفتاءات، ج2، ص300، مسألة 822.
31- يراجع: سليم، مريم، علم نفس النمو، ص44-45.
32- للتفصيل يراجع: ن.م.
33- يراجع: الأشول، عادل عز الدين، علم نفس النمو من الجنين إلى الشيخوخة، ص38.

الإثنين, 23 تموز/يوليو 2018 04:36

تأثير الوراثة على هويّة الطفل

تمهيد
يعتبر عامل الوراثة من العناصر الرئيسة التي يتمّ البحث عن مدى تأثيرها في صناعة شخصيّة الطفل عند علماء التربية والنفس والاجتماع والبيولوجيا، فما هي الوراثة؟ وما هو الدور الذي تلعبه في رسم معالم ماهية الطفل؟

ما هي الوراثة؟
الوراثة في اللغة العربية من مادة (و ر ث)، بمعنى "أن يكون الشيء لقوم ثم يصير إلى آخرين بنسب أو سبب"1. فالوراثة عبارة عن انتقال شيء جزءاً أو كلّاً من شخص أو موضوع إلى آخر مادياً أو معنوياً2.

والمدلول الاصطلاحيّ للكلمة لا يختلف في المضمون عن المعنى اللغويّ.

وقد أصبح موضوع الوراثة اليوم محوراً مستقلّاً لعلم خاصّ من فروع علم الأحياء أطلق عليه وليام باتسون مصطلح: "علم الوراثة" Genetics، ووظيفته دراسة الصفات التي يتمّ انتقالها من الآباء إلى الأبناء، وكيفية ذلك الانتقال، وتفسير أسباب التشابه والاختلاف بين من تجمعهم صلة القرابة.

التكوين البيولوجيّ للكائن الحيّ
ابتدأت أوّليات الأبحاث العلمية المعتمدة على الملاحظة الحسّية حول الوراثة مع غريغور مندل Gregor Mendel في منتصف القرن التاسع عشر، حيث قام بمراقبة كيفية انتقال الصفات الموروثة من الآباء إلى الأبناء. وهكذا أخذ البحث في هذا العلم بالتطوّر شيئاً فشيئاً نتيجة التراكم الكمّيّ والكيفيّ في هذا المجال. وقد ساعد تطوّر البحث العلميّ، والتقدّم التقنيّ، خصوصاً في مجال صناعة الأجهزة المجهرية الدقيقة - الميكروسكوب الإلكترونيّ - وصناعة الكمبيوتر، في تسجيل واحد من أعظم الإنجازات البشرية في اكتشاف عظمة سرّ الله تعالى وقدرته في خلق الإنسان، ألا وهي قراءة الخارطة الوراثية وفكّ رموزها Gentic Ma pping، ومعرفة ترتيب المعلومات الوراثية الكاملة عند الإنسان من خلال تحديد نوع وتسلسل الجينات الموجودة في الحقيبة الوراثية (الجينوم)3.

ويؤكّد هذا الاكتشاف أهمّية إجراء الفحوص المخبرية اللازمة قبل الزواج من أجل الاسترشاد الوراثيّ الوقائيّ. وقد أُعطي الإنسان أيضاً القدرة على التدخّل عن طريق الجينات لتحديد جنس المولود ذكراً أو أنثى، أو العبث وإيجاد التشوّهات الخلقية، أو جعل الإنسان أكثر شبهاً لأمّه أو أبيه... إلخ.

كما يُشكّل هذا الاكتشاف الخطوة الأولى على طريق إعطاء الإنسان قدرة أكبر على التحكّم في الحدّ من الأمراض ذات الصلة بالناحية الوراثية من حيث قابلية الإصابة بها، ولكن ما زالت الطريق طويلة في هذا السياق وتحتاج إلى الكثير من الأبحاث وتراكم الجهود البشرية.

وقد زرعت يد الله تعالى هذا القانون الوراثيّ الطبيعيّ كميزة وجودية في الكائنات الحيّة لضمان الحفاظ على وحدة الصور النوعية لها، ونقل الصفات والخصائص البيولوجية (كلون البشرة والعينين والشعر، وفصيلة الدم، وشكل الجسد...). كما يسمح هذا القانون الوراثيّ بنقل الأمراض القابلة للانتقال، من الأصل إلى الفرع.

والبحث عن فقه تطبيقات علم الوراثة له مجال واسع في الدراسات الفقهية المعاصرة، مثل تحديد النسب، وتحديد جنس المولود، وتحديد التشوّهات الخلقية المجوّزة للإجهاض، والاستنساخ...

رأي العلماء المسلمين في قانون الوراثة بيولوجياً
من المسائل الثابتة في البحث البيولوجيّ، أنّ الإنسان يورّث الخصائص الجسمانية لذريّته. ولا ريب عند أحد من العلماء المسلمين في صحّة وبداهة قانون الوراثة الطبيعيّ فيما يتعلّق بنقل الخصائص والصفات الجسمانية من الآباء والأجداد للأبناء والأحفاد، مؤكّدين أنّ هذا ما كشفت عنه الأحاديث النبوية، خصوصاً الوارد فيها لفظ: "العرق"، منها:

عن أبي جعفر عليه السلام، قال: "أتى رجل من الأنصار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: هذه ابنة عمّي وامرأتي، لا أعلم منها إلا خيراً، وقد أتتني بولد شديد السواد، منتشر المنخرين جعد قطط4، أفطس الأنف، لا أعرف شبهه في أخوالي ولا في أجدادي.

فقال-النبي صلى الله عليه وآله وسلم- لامرأته: ما تقولين؟

قالت: لا والذي بعثك بالحقّ نبيّاً ما أقعدت مقعده منّي - منذ ملكني - أحداً غيره.

قال الإمام الباقر عليه السلام -: فنكس رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رأسه مليّاً، ثم رفع بصره إلى السماء، ثم أقبل على الرجل فقال: يا هذا، إنّه ليس من أحد إلا بينه وبين آدم تسعة وتسعون عرقاً كلّها تضرب في النسب، فإذا وقعت النطفة في الرحم اضطربت تلك العروقوتسأل الله الشبه لها. فهذا من تلك العروق التي لم تُدركها أجدادك ولا أجداد أجدادك.

خذي إليك ابنك. فقالت المرأة: فرّجت عنّي يا رسول الله"
5.

وهناك عدّة روايات قريبة المعنى من هذه الرواية6.

ومنها: ما ورد في الحثّ على حسن اختيار الزوجة، كقول النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ العرق دسّاس"7، حيث اعتبر بعض العلماء أنّ هذا الحديث يُسلّط الضوء على قانون الوراثة بشكل صريح باعتبار الترادف بين العرق والوراثة8. ومعنى العرق معروف، وهو أيضاً في اللغة أصل كلّ شيء وما يقوم عليه9، ودسّاس من الدسّ أي أدخل الشيء في الشيء بخفاء، ومفاد الحديث أنّ هناك خصائص معيّنة تنتقل بالنسب من الأصل وتدخل إلى الفرع.

رأي العلماء المسلمين في قانون الوراثة ذهنيّاً ونفسيّاً وسلوكيّاً
لكن يبقى السؤال: هل تشمل الوراثة انتقال الخصائص غير الجسمانية إلى الذرّية، كالخصائص الذهنية والصفات النفسية... إلخ؟ وعلى فرض انتقالها هل يُمكن للإنسان بإرادته الحرّة واختياره نقض قانون الوراثة الطبيعيّ؟

نُشير في البداية إلى مقدّمة منهجية في هذا السياق، وهي أنّ العلاقة بين جسد الإنسان وروحه هي علاقة الاتّحاد التفاعليّ، بمعنى أنّ روح الإنسان تؤثّر في بدنه، والخصائص البدنية للإنسان تؤثّر في روحه، وهذا يعني أنّ الإنسان الذي تكون له خصائص وصفات جسمانية معيّنة ستؤثّر على صفاته الذهنية والنفسية، فمثلاً إنّ بعض الغدد إذا أفرزت كمّية أكثر من المعتاد يؤدّي ذلك إلى سرعة الغضب عند الإنسان، وإذا أفرزت بكمّية أقلّ من المعدل الطبيعيّ يُلاحظ على الإنسان الارتخاء.

ويكشف لنا التطوّر العلميّ يوماً بعد يوم إمكانية السيطرة على مثل هذه الحالات في مرحلة ما من حياة الإنسان، فمثلاً إنّ مرض phenylketonuria الذي تنتج عنه أعراض التخلّف العقلي، هو قابل للتوارث، ولكن إذا تمّ اكتشاف المرض عن طريق الفحوصات المطلوبة في وقت مبكر كأن يكون قبل دخول الطفل في الشهر الثالث من عمره مثلاً، فإنّه يُمكن تجنّب تلك الأعراض بدرجة كبيرة، من خلال تجنّب تناول الأطعمة التي تحتوي على بروتينات خاصة تزيد من تراكم المادة الضارّة، والمتسبّبة في إحداث المرض نتيجة تأثيرها على خلايا المخ. وقد أظهرت متابعة العديد من الحالات نجاحاً كبيراً، وتقدّماً ملحوظاً في النموّ العقليّ، حتّى يكاد يصبح الطفل طبيعياً في سنّ الخامسة من عمره تقريباً10.

ونضرب مثالاً آخر في هذا السياق، وهو مرض ويلسون Wilson’s disease، وهو أحد الأمراض الوراثية العائد إلى اضطراب في التمثيل الغذائيّ للنحاس، بحيث يؤدّي تراكم النواتج الضارة للنحاس إلى تلف خلايا الجهاز العصبيّ، وأصبح من الممكن التحكّم بهذا المرض من خلال تناول عقار البنيسيلامين penicillamine.

وهناك أمثلة كثيرة لا تُحصى في العلاقة بين تصرّفات الإنسان وسلوكه وبين حالته الجسدية، وبعض هذه الخصائص الجسدية تنتقل إليه بالوراثة، وهذا ممّا لا شك فيه11.

وبالعودة إلى السؤال، صرّح العديد من العلماء المسلمين بهذا الخصوص بالإيجاب، معتبراً أنّ هناك خصائص ذهنية كالذكاء أو التبلّد والحمق...، ونفسية كالكرم والشجاعة وسوء الخلق...، تنتقل من الأصل إلى الفرع بالوراثة12. يقول الشيخ ناصر مكارم الشيرازي: "إنّ الآباء والأمّهات ينقلون قسماً من صفاتهم الجسمية والروحية إلى أبنائهم حسب قانون الوراثة الطبيعيّ"13.

ويقول الشيخ جعفر السبحاني: "إنّ الأولاد كما يرثون أموال الآباء وثرواتهم، يرثون أوصافهم الظاهرية والباطنية، فترى أنّ الولد يُشبه الأب أو العم، أو الأُم أو الخال... وعلى ذلك فالروحيات الصالحة أو الطالحة تنتقل من طريق الوراثة إلى الأولاد، فنرى ولد الشجاع شجاعاً، وولد الجبان جباناً إلى غير ذلك من الأوصاف الجسمانية والروحانية"14.

وواحدة من استدلالاتهم على ذلك نفس العبارة السابقة: "العرق دسّاس" أو "العرق نزاع"، مع إضافة روايات أخرى في هذا المجال، منها: عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: "تزوّجوا في الحجز الصالح، فإنّ العرق دسّاس"15، والحجز هو الأصل والمنبت16, وبقرينة العرق دسّاس لا يكون المقصود بالحجز الصالح الصلاح بلحاظ البيئة، بل بلحاظ الوراثة، وهذا يعني أنّ الطفل يحمل من خصائص أمّه وأبيه الذهنية والنفسية والأخلاقية.

ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "انظر في أيّ شيء تضع ولدك فإنّ العرق دسّاس"17. وقد عقّب الإمام الخمينيّ قدس سره على هذا الحديث بقوله: "والمراد من الدسّاس أنّ أخلاق الآباء تصل إلى الأبناء"18، مضيفاً في هذا السياق الحديث الوارد عن الإمام عليه عليه السلام: "حسن الأخلاق برهان كرم الأعراق"19.

ومنها: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "تخيّروا لنطفكم، فإنّ النساء يلدن أشباه إخوانهنّ وأخواتهنّ"20. وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "استجيدوا الخال فإنّ العرق دسّاس"21.

وعنه: "اختاروا لنطفكم، فإنّ الخال أحد الضجيعين"22. وذلك لأنّ الولد يكسب من صفات أخواله وأخلاقهم بالوراثة. قال العلامة محمد باقر المجلسي معلِّقاً: قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "أحد الضجيعين"، لعلّ المراد بيان مدخلية الخال في مشابهة الولد في أخلاقه، فكأنّ الخال ضجيع الرجل لمدخليّته فيما تولد منه عند المضاجعة من الولد..."23.

ومن الأدلّة على ذلك أيضاً، ما روي أنّ الإمام علياً عليه السلام حين قال لأخيه عقيل وكان نسّابة عالماً بأنساب العرب وأخبارهم: "انظر إلى امرأة قد ولدتها الفحولة من العرب، لأتزوّجها، فتلد لي غلاماً فارساً. فقال له عقيل: تزوّج أم البنين الكلابية، فإنّهليس في العرب أشجع من آبائها. فتزوّجها الإمام علي"24، فأنجبت له أبا الفضل العبّاس الذي دافع عن أخيه الحسين عليه السلام في كربلاء بشجاعة حتى استشهد دونه.

وعن أبي جعفر عليه السلام، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "... ولا تُساكنوا الخوز، ولا تزوّجوا إليهم، فإنّ لهم عرقاً يدعوهم إلى غير الوفاء"25.

وعن أبي عبد الله عليه السلام، قال: "لا تناكحوا الزنج والخزر، فإنّ لهم أرحاماً تدلّ على غير الوفاء"26.

وقد ذهب بعضهم أبعد من ذلك في قانون الوراثة، فمثلاً يرى الشيخ باقر شريف القرشي أنّ قانون الوراثة يشمل نقل الكفر والإلحاد من الآباء إلى الأبناء، مستشهداً على ذلك بقوله تعالى: ﴿وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا * إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارً27، حيث يقول: "فالآية دلّت بوضوح على انتقال الكفر والإلحاد بالوراثة من الآباء إلى الأبناء"28.

تحديد الموقف من المسألة
لا ريب في أنّ لبعض الخصائص البدنية والأمراض الجسمية دوراً في الحالات الذهنية والصفات النفسية للإنسان كما أثبتت الأبحاث التجريبية والعلمية. وتقدّمت بعض الأمثلة سابقاً.

وانتقال تلك الخصائص والأمراض الجسمية بالوراثة للأبناء سيلعب دوراً في منحهم الحالات الناتجة عنها تبعاً لها.

كما أنّه لا ريب في أنّ صفات الآباء والأمّهات تلعب دوراً مؤثّراً في تكوين استعدادات خاصّة عند الطفل تجعله أقرب إلى بعض الصفات منها إلى صفات أخرى29. وهذا واضح في الروايات، وسيظهر خلال مسار الدروس اللاحقة. فإذا كان المقصود بمؤثّرية قانون الوراثة في الخصائص الذهنية والصفات النفسية والروحية للطفل هو إيجاد مثل هذه الأرضية الخاصة التي تجعل الطفل أكثر استعداداً للسير في اتّجاه معيّن فهو أمر مسلّم، ولكن إن كان المقصود هو انتقال الخصائص والصفات نفسها أي الكرم والشجاعة مثلاً بالوراثة من الآباء والأمهات إلى شخصية الطفل، فهذا ممّا يُمكن المناقشة فيه من جهة أنّ الطفل يولد خالي النفس من كلّ معرفة أو ملكة أخلاقية أو مهارية سلوكية، ثم يبدأ باكتساب المعارف بالتدريج، فما يكون مجهّزاً به بأصل الخلقة هو الاستعداد والقابلية دون نفس المعارف، وبذلك تخرج المعرفة، أمّا الملكات النفسانية الأخلاقية - والأثر المطلوب الناتج عنها - فهي عبارة عن كيفيات وصفات بطيئة الزوال تحصل نتيجة الممارسة المتراكمة لها حتى ترسخ في النفس، فيصدر عنها الفعل مناسباً لها، فتحتاج إلى الدربة والعادة والبيئة الحاضنة لنموّها، فالموروث هو الاستعداد الخاص دون نفس الصفات بما هي صفات، والاستعداد الخاص الموروث لا ينمو تلقائياً بل يتفتّح بالتربية والبيئة الحاضنة.

لذا يعتقد بعض العلماء بعدم وجود دليل على انتقال الصفات المكتسبة من الآباء والأمّهات إلى الأبناء، بل قام الدليلُ على العدم، يقول السيد محمد باقر الصدر في هذا السياق: "إنّ الصفات المكتسبة لا توّرث"30.

ولتوضيح هذه النقطة لا بد من بعض التفصيل، فبعد اتفاق العلماء البيولوجيين على أنّ الصفات غير المكتسبة تنتقل بالوراثة، وقع الخلاف بينهم في أنّ الصفات المكتسبة هل تورّث أم لا؟

وقد أجاب البعض أمثال جان بابست لامارك أنّ الصفات الجسمانية التي تحصل أثناء فترة حياة الكائن الحيّ تنتقل إلى نسله بالوارثة، وكذلك هو رأي تشارلز داروين. ولكن أبحاث علم الوراثة الحديث ترفض هذه النظرية. إلا أنّه ليست هذه النقطة هي موضع البحث، بل هي هل تنتقل الصفات الذهنية والخصائص النفسية المكتسبة بالإرادة من قِبَل الآباء والأمّهات إلى الأبناء؟

في الحقيقة، لا يوجد أيّ دليل علميّ تجريبيّ ولا وحيانيّ (قرآنيّ - روائيّ) على الانتقال الوراثيّ للخصائص النفسية المكتسبة بالإرادة من الآباء والأمّهات إلى الأبناء كما هي أي كصفات محصّلة بالاختيار، كما يدّعي بعض علماء النفس والاجتماع والأخلاق من أنّ الطفل يولد مجهّزاً بمجموعة صفات ناشئة من الوراثة كالخوف المفرط أو الميل إلى الاعتداء تعجز كلّ وسائل التربية والبيئة عن تغييرها، وكذلك الدليل التجريبيّ والوحيانيّ يُناقض الرأي المقابل الذي يعتقد أنّه لا دور للوارثة في بناء هويّة الطفل أبداً، وأنّه صنيعة التربية فقط.

لكلٍّ من الوراثة والبيئة دورها
أمام هذين الرأيين، يُمكن أن نختار رأياً ثالثاً وسطياً، يُعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه منهما ومن البيئة، فالوراثة لها دور واضح كما ورد في الأحاديث السابقة، والبيئة لها دور أيضاً، وكذلك التربية

لها دور، مضافاً إلى دور الإرادة الحرّة للإنسان نفسه، فإنْ كان المقصود بانتقال الصفات من الآباء إلى الأبناء، هو انتقال الصفات التي حصّلها الآباء بالإرادة الحرّة والاكتساب إلى الأبناء كما هي فهو أمر لا شاهد عليه، وإنْ كان المراد أنّ خصائص الأب أو الأم توجِد استعداداً خاصّاً وقابلية معيّنة عند الطفل للنمو تجعله يسير باتّجاه ما يُشابه الأب أو الأم فهو أمر تؤكّده النصوص الروائية المتقدّمة. مع الإشارة إلى أمرين مهمّين، وهما: أنّ الموروث أي الاستعداد الخاص لا ينمو تلقائياً بل يتفتّح بالتربية والبيئة الحاضنة، أولاً. وثانياً، إذا كانت الفطرة التوحيدية السليمة التي هي من أشدّ الاستعدادات الخاصة التي جُبلت عليها نفس الطفل قابلة لأن تُدفن وتُدس بسبب مؤثّرات التربية والبيئة وطبيعة الاستجابة الشخصية، فبالأولوية القطعية يكون هذا هو حال الاستعدادات الوراثية.

بين الوراثة والبيئة والتربية
وبهذا يتّضح أنّه يُمكن توجيه شخصيّة الطفل باتّجاه مغاير لما هو مكوّن عليه من استعداد خاصّ منقول إليه بالوراثة.

ولكن، كما وجد في البيئة اتّجاه حتميّ، كذلك نُلاحظ في الوراثة وجود اتّجاه حتميّ، إلى درجة اعتبر بعض العلماء مثلاً أنّ الخصائص العقلية للطفل مثل الذكاء تعود إلى عوامل وراثية
في الأغلب31، كما في دراسة هرندون (Herndon) سنة1954م، حيث أثبت أنّ دور الوراثة في تحديد الذكاء يتراوح بين (50 %-75 %)، وكذلك دراسة بيركز (Berkes)، ودراسة آثر جنسن (Jensen) الذي يعتبر أن حوالي (80 %) من الاختلافات بين الناس في الذكاء يُمكن تفسيرها بالفروق الوراثية المباشرة بين هؤلاء الناس.

وقد اتّضحت مناقشة هذا الرأي ممّا تقدّم سابقاً في نقد نظرية العامل الواحد في تفسير خصائص وصفات الطفل، لأنّ هناك مجموعة عوامل وعناصر تتداخل وتتفاعل فيما بينها لتُشكّل هوية الطفل، منها البيئة - وقد أُجري العديد من التجارب المعاكسة في هذا المجال، كالأبحاث التي أجراها جيزل ولورد والدراسة التي قام بها كيفر حول تأثير البيئة في الذكاء32-، وأهمّها التربية، فضلاً عن التفاعلات الداخلية لنفس المتربّي كعنصر إضافيّ إلى عاملي التربية والبيئة، "فثمّة مؤمنون ولدوا لآباء غير مؤمنين، وآخرون مفسدون وأشرار ولدوا لآباء من المتّقين الأخيار، ناقضين قانون الوراثة بإرادتهم واختيارهم"33.

هل كلّ الاستعدادات الموروثة قابلة للتغيير؟
يُمكن تقسيم الاستعدادات الموروثة إلى قسمين:

أولاً: استعدادات لها طبيعة بيولوجية إمّا محضة وإمّا تنعكس على الخصائص الذهنية كقلة الذكاء أو البلادة والحمق أو التخلّف العقليّ... كما تقدّم في بعض الأمثلة. واتّضح أنّه كلّما تقدّم التطوّر العلميّ عند الإنسان كان لديه قدرة أكبر على التحكّم بها. ولكن يبقى الكلام في عدم وفرة هذه الفرص عملياً بنحو يستطيعه كلّ الناس وفي أيّ دولة كانت، لذا ستبقى هذه الاستعدادات غير قابلة للتغيير.

ثانياً: استعدادات قابلة للتغيير والتعديل، بسهولة أو بصعوبة.

يقول الشيخ جعفر السبحاني في هذا السياق-بغض النظر عن المناقشة في بعضّ الأمثلة التي ذكرها -: "... أمّا الوراثة فهي ناموس مقبول في الجملة، ولكن لا يعلم حدودها سعة وضيقاً، فلا شك أنّ الأولاد يرثون الصفات الخلقية والروحية على وجه الإجمال، ولكن ما يتركه الآباء والأمهات في هذا المجال ينقسم إلى نوعين:

الأول: ما يفرض على الأولاد فرضاً لا يُمكن إزالته مثل الحمق، والبلادة، والعقل والذكاء، والجبن والشجاعة وغير ذلك ممّا لا يُمكن إزالته في الأغلب بالجهود التربوية والإصلاحية.

الثاني: ما يرثه الأولاد على وجه الأرضية والاقتضاء، وبصورة تأثير العلّة الناقصة، فيُمكن إزالة آثاره بالوسائل التربوية والطرق العلمية وذلك كالأمراض الموروثة كالسلّ وغيره، ومثل هذا القسم طائفة كبيرة من الروحيات كحالة الطغيان والتمرّد فإنّه يُمكن إزالتها برفع مستوى فكر الإنسان وعقليّته، وإيقافه على عواقب العصيان. فليس كل ما يرثه الأولاد من الآباء والأمّهات مصيراً لازماً وقضاء حتماً، بل هناك فوق بعض ذلك إرادة الإنسان واختياره وسائر العوامل التربوية المغيّرة لأرضية الوراثة"34.

فقابلية صفة ما للتوارث، ويطلق عليه بالمصطلح العلميّ Heritability، لا تعني عدم قابلية التغيّر، بل الصفات الوراثية لديها القابلية للتغيّر، ويصطلح عليه Variability.

* المنهج الجديد في تربية الطفل، نشر جمعية المعارف الإسلامية الثقافية.

1- معجم مقاييس اللغة، ج6، ص105.
2- التحقيق في كلمات القرآن الكريم، ج13، ص77.
3- ونوضح هذه الفكرة بشكل مختصر، يتركّب جسم كلّ كائن حيّ كالإنسان من مجموعة أجزاء صغيرة جداً يُطلق عليها اسم الخلايا الحيّة. وتحتوي كلّ خلية على نواة في داخلها، وفي
داخل النواة أجزاء تُسمّى: الكروموسومات chromosomeالصبغيات - وهي شريط من الحمض النوويّ DNA، يحتوي على الجينات gene. ومن هاتين الكلمتين تمّ اشتقاق مصطلح الجينوم genome، فهو يجمع بين gen وهي الأحرف الثلاثة الأولى لكلمة جين، والجزء الثاني هو الأحرف الثلاثة الأخيرة من كلمة كروموسوم وهي ome. والدلالة العلمية
لمصطلح الجينوم البشريّ: الخريطة الجينية البشرية أو الخريطة الوراثية أو الحقيبة الوراثية البشرية الموجودة داخل نواة الخلية، والتي تحمل الصفات والخصائص الوراثية للإنسان.
وعدد الكروموسومات في كل خلية 46، تحتوي الخلية التناسلية على نصف هذا العدد 23، وعندما يلتقي الحيوان المنويّ مع البويضة يُصبح العدد 46، أي أنّ نصفه يأتي من الأم، والنصف الآخر من الأب، وبالمقدار الذي تكون الصفات الوراثية بارزة في كروموسومات أيٍّ منهما يأتي الشبه للأب أو الأم.
4- جعد قطط: أي شعره شديد الجعودة.
5- الكافي، ج5، ص562.
6- أنظر: جامع أحاديث الشيعة، ج21، ص327- 328.
7- السرائر، ج2، ص559. والمحجة البيضاء، ج3، ص93.
8- فلسفي، محمد تقي، الطفل بين الوراثة والتربية، ج1، ص61. والجواهري، حسن، بحوث في الفقه المعاصر، ج3، ص162.
9- تاج العروس، ج13، ص324.
10- يراجع: عبد القوي، سامي، علم النفس البيولوجي، الفصل الخامس، مكتبة النهضة المصرية، 1997م.
11- يراجع: النظرة القرآنية للمجتمع والتاريخ، ص206-207.
12- يراجع مثلاً: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص126. والسبحاني، جعفر، أضواء على عقائد الشيعة الإمامية، ص115. والأبطحي، علي، الإمام الحسين في أحاديث الفريقين من الولادة إلى ما بعد الشهادة، ج2، ص5. والفياض، محمد إسحاق، منهاج الصالحين، ج3، ص41. والشيرازي، محمد الحسيني، الفقه البيئة، ص16. وعون المعبود شرح سنن أبي داود، محمد شمس الحق العظيم آبادي، ج10، ص359.
13- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج3، ص126.
14- السبحاني، جعفر، عصمة الأنبياء في القرآن الكريم، ص33.
15- مكارم الأخلاق، ص197.
16- لسان العرب، ج5، ص332.
17- الهندي، علي المتقي، كنز العمال، ج15، ص855.
18- السبحاني، جعفر، لب الأثر في الجبر والقدر تقريراً لمحاضرات الإمام الخميني قدس سره، ص120.
19- عيون الحكم والمواعظ، ص228.
20- الجامع الصغير، ج1، ص503، ح3269.
21- ابن الأثير، المبارك بن محمد الجزري، النهاية في غريب الحديث والأثر، ج2، ص117.
22- الكافي، ج5، ص332.
23- المجلسي، محمد باقر، مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، ج20، ص22.
24- ابن عنبة، أحمد بن علي، عمدة الطالب في أنساب آل أبي طالب ص357. والأمين، محسن، أعيان الشيعة، ج7، ص429.
25- علل الشرائع، ج2، ص393.
26- الكليني، الكافي، ج5، ص352.
27- سورة نوح، الآيتان 26-27.
28- القرشي، باقر شريف، حياة الإمام الحسين بن علي، مطبعة الآداب، النجف الأشرف، ط1، 1398هـ- 1974م، ج1، ص43.
29- يراجع: لب الأثر في الجبر والقدر، ص114.
30- فلسفتنا، ص312-315.
31- أنظر: ناصف، مصطفى، الوراثة والإنسان أساسيات الوراثة البشرية والطبية، سلسلة عالم المعرفة، العدد 100، ص135.
32- يراجع: فؤاد البهي السيد، الذكاء، ص 30-36. ومرسي، شفيق علاونة، سيكولوجية التطور الإنساني من الطفولة إلى الرشد، ص 190. وكمال إبراهيم، البيئة والوراثة وأثرها في الانحرافات النفسية والسلوكية، ص 223-252.
33- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ج4، ص396.
34- السبحاني، جعفر، الإلهيات، ج1، ص662.

شدد  قائد الثورة الاسلامية آية الله السيد علي الخامنئي اليوم السبت أن تصريح الرئيس حسن روحاني خلال زيارته لأوروبا مؤخرا، وقوله "اذا لم تتمكن ايران من تصدير نفطها فسوف لن يتمكن أي بلد بالمنطقة من تصدير نفطه" تصريح مهم يعكس سياسة ونهج الجمهورية الاسلامية الايرانية.

هذا وجاء تصريح قائد الثورة الاسلامية خلال استقباله اليوم السبت وزير ومسؤولي وزارة الخارجية برفقة سفراء ايران في دول العالم.

وتابع سماحة القائد بالقول: نظراً إلى الظروف الراهنة والجبهة الواسعة التي تشكّلت لمواجهة الإسلام والجمهورية الإسلامية، تنطوي الجهود الدبلوماسية على أجر إلهي وفخر تأريخي ووطني في الدفاع عن أحقية الشعب الإيراني، الإنسان الغيور والصبور والعاقل في خضم التحديات يضاعف من جهوده ومن أعماله كمياً ونوعياً، ومن هذا المنطلق لابد وأن تتسع روح تحديث الأنشطة والفعاليات في الجهاز الدبلوماسي.

واستطرد بالقول: الحفاظ على السلامة الدينية والطهارة الروحية والمعنوية لأنفسكم ولأهليكم والالتزام قولاً وعملاً بالمسائل الشرعية تعد من أهم الواجبات لمسؤولي وكوادر وزارة الجارجية ولاسيما السفراء وأعضاء الممثليات الإيرانية في خارج البلد، يمثل الجهاز الدبلوماسي الجزء الرئيس لسياسة البلد الخارجية وواجهة نظام الجمهورية الإسلامية، ومن هنا يجب على مسؤولي وزارة الخارجية ولاسيما السفراء أن يلتزموا بمبادئ الإسلام وقيم الثورة أيما التزام وأن تعكس أفعالهم وأقوالهم هذه المبادئ والقيم.

واختتم القائد: الهدف الأساسي والحقيقي للعمل الدبلوماسي هو الحفاظ على المصالح الوطنية المقتبسة من مبادئ النظام وسياساته الرئيسية، والتعامل أو التقابل لا يشكلان إلا أساليب لتحقيق المصالح الوطنية.  يتحدث البعض خاطئين عن ضرورة الفصل بين الدبلوماسية وبين الآيديولوجية، والحال أن الدبلوماسية الآيديولوجية لا ضير فيها، وإلقاء التقابل بين الآيديولوجية وبين المصالح الوطنية أمرٌ عارٍ عن الصحة والمنطق. ذلك أن الغاية من تأسيس الجمهورية الإسلامية هو الحفاظ على المصالح الوطنية والاستقلال والحرية والعدالة الاجتماعية والقوة والاقتدار والأمن القوي، والآيديولوجية تسعى وراء تحقيق وحفظ المصالح الوطنية.

الإثنين, 23 تموز/يوليو 2018 04:08

النيّة الصّادقة

عَنْ الإمامِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الصادقِ عليه السلام قَالَ: «إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ الْفَقِيرَ لَيَقُولُ: يَا رَبِّ ارْزُقْنِي حَتَّى أَفْعَلَ كَذَا وكَذَا مِنَ الْبِرِّ ووُجُوهِ الْخَيْرِ. فَإِذَا عَلِمَ اللَّهُ عَزَّ وجَلَّ ذَلِكَ مِنْه بِصِدْقِ نِيَّةٍ كَتَبَ اللَّهُ لَه مِنَ الأَجْرِ مِثْلَ مَا يَكْتُبُ لَه لَوْ عَمِلَه إِنَّ اللَّه وَاسِعٌ كَرِيمٌ».

من مظاهرِ سعةِ الرحمةِ الإلهيّةِ ما كتبَه اللهُ عزَّ وجلَّ من ثوابٍ على نيّةِ الخيرِ لصاحبِها، فالعملُ وإنْ كان مطلوباً ومهماً ولكن لو امتلك الإنسانُ النيّةَ الصادقةَ وعجزَ عن العملِ لسببٍ من الأسبابِ فإنَّ اللهَ سوف يكتبُ له الأجرَ يومَ القيامةِ على هذه النيّةِ، ووردَ في حديثٍ آخرَ عن الإمامِ الصادقِعليه السلام: «إنّ العبدَ لينوي من نهارِه أنْ يُصلّيَ بالليلِ فتغلبُه عينُه فينام، فيُثبتُ اللهُ له صلاتَه، ويكتبُ نَفَسَه تسبيحاً، ويجعلُ نومَه عليه صدقةً».

وهذه النيّةُ الصادقةُ للقيامِ بعملِ الخيرِ إنْ واظبَ عليها الإنسانُ أورثتهُ الجنّةَ، فعن أميرِ المؤمنين عليه السلام - في حديثٍ - قال: «إنّ اللهَ بكرمهِ وفضلهِ يُدخِلُ العبدَ بصدقِ النيّةِ والسريرةِ الصالحةِ الجنّةَ».

ومن الأمنياتِ التي يسعى إليها الإنسانُ المؤمنُ ولا سيّما من يكونُ مع أهلِ الجهادِ والقتالِ في سبيلِ اللهِ عزَّ وجلَّ أنْ يُكتَبَ له التوفيقُ للشهادةِ في سبيلِ اللهِ، فمنْ تكونُ نيّتُه صادقةٌ في طلبِها، ولكنّه لم ينلْها كُتِبتْ له، فقد وردَ في الرواياتْ أنّ صاحبَ النيّةِ الصادقةِ في ذلك يُكتَبُ له درجتُها عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ففي الروايةِ عنه صلى الله عليه وآله وسلم قال: «منْ سألَ اللهَ الشهادةَ بصدقٍ بلَّغَه اللهُ منازلَ الشهداءِ وإنْ ماتَ على فراشِه».

وفي روايةٍ أخرى عن الإمامِ الصادقِ عليه السلام تفصيلُ ذلك لدى الإنسانِ المؤمنِ، يقولعليه السلام : «إنَّ المؤمنَ ليهمُّ بالحسنةِ ولا يعملُ بها فتُكتبُ له حسنةً، وإنْ هو عمِلَها كُتبتْ له عشرَ حسناتٍ، وإنّ المؤمنَ ليهمُّ بالسيّئةِ أنْ يعملَها فلا يعملُها فلا تُكتبُ عليه».

نعم لا بدَّ من التفرقةِ بين القولِ وبين النيّةِ، فمِنَ الناسِ من يصدرُ منه هذا الكلامُ ولكنّه لا يمتلكُ النيّةَ الصادقةَ في ذلك ولذا لا يُقبلُ منه قولُه ما لم يُلحِقْه بالعملِ بهذا القولِ، ولذا وردَ عن رسولِ الله صلّى الله عليه وآله: «لا قولَ إلا بعملٍ».

كما إنّ من مظاهرِ الرحمةِ الإلهيّةِ أنْ لا يُكتبَ للإنسانِ نيّةُ الشرِّ إذا لم تقترنْ بالعملِ، بل إنّ نيّةَ الشرِّ إذا رجِعَ عنها الإنسانُ وتركَها كتبَ اللهُ عزَّ وجلَّ له حسنةً بذلك، فقد روي عن أبي عبدِ اللهِ الصادقِ عليه السلام قالَ: «من همَّ بحسنةٍ فلم يعملْها كُتِبتْ له حسنةً، فإنْ عمِلَها كُتِبتْ له عشراً، ويُضاعفُ اللهُ لمن يشاءُ إلى سبعمائةٍ، ومن همَّ بسيّئةٍ فلم يعملْها لم تُكتبْ عليه حتى يعملَها، فإنْ لم يعملْها كُتبتْ له حسنةً، وإنْ عمِلَها أُجِّلَ تسعَ ساعاتٍ، فإنْ تابَ وندِمَ عليها لم يُكتبْ عليه، وإن لم يتبْ ولم يندمْ عليها كُتبتْ عليه سيّئةً».

قال تعالى: (إِنّ أَوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنّاسِ لَلّذِي بِبَكّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لّلْعَالَمِينَ فِيهِ آيَاتٌ بَيّـنَاتٌ مّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً)([1]).

من المتواتر المقطوع به أن الذي جدّد بناء الكعبة إبراهيم الخليل(ع)    وابنه إسماعيل، وأن الكعبة هي أول بيت وضعه الله تعالى للعبادة، حتى قبل بيت المقدس، لأن بيت المقدس بناه النبي سليمان(ع)   ، وهو بعد إبراهيم الخليل بزمن.

ولكن هذه الآية وآيات أخرى تشير بشكل واضح إلى أن الكعبة كانت موجودة قبل إبراهيم، وكان قائماً منذ زمن آدم(ع)   ([2])، ومما يكشف عن ذلك أيضاً قوله تعالى: (رّبّنَآ إِنّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ)([3])، فإنّها تدل على أن الكعبة كان لها نوع من الوجود حين جاء إبراهيم مع زوجته، وابنه إسماعيل الرضيع إلى مكة.

وقد أكد أمير المؤمنين(ع)    هذا المعنى فقال: Sألا ترون أن الله سبحانه اختبـر الأولين من لدن آدم (صلوات الله عليه) إلى الآخرين من هذا العالم بأحجار... فجعلها بيته الحرام... ثم أمر آدم(ع)    وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه...([4]).

وعلى أي حال فقد روى المسلمون وغيرهم أنه لما ولدت هاجر اسماعيل؛ أمر الله نبيه إبراهيم أن يُسكناهما أمام البيت الحرام، وكان في ذلك الوقت على شكل قواعد، فجاء إبراهيم وبرفقته هاجر وابنها إسماعيل وتركهما عند البيت الحرام دون ماء ولا كلاء ولا حتى خيمة تطبيقاً لإرادة الله ونزولاً على بلاءه، فسألته هاجر، أتتركنا في أرض لا يوجد فيها أحد؟ فقال لها: ألله الذي أمرني أن أضعكم في هذا المكان، وهو الذي يكفيكم، ثم انصرف عنهما فلما بلغ (كداء) وهو جبل بذي طوى التفت إبراهيم، وقال: (رّبّنَآ إِنّيَ أَسْكَنتُ مِن ذُرّيّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرّمِ رَبّنَا لِيُقِيمُواْ الصّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مّنَ النّاسِ تَهْوِيَ إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مّنَ الثّمَرَاتِ لَعَلّهُمْ يَشْكُرُونَ)، ثم مضى وبقيت هاجر، فلما ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في موضع السعي فصعدت على الصفا، ولمع لها السراب في الوادي، فظنت أنه ماء، فنزلت في بطن الوادي، وسعت فلما بلغت المروة غاب عنها إسماعيل، فعادت حتى بلغت الصفا، وهكذا إلى سبعة أشواط، فلما كانت على المروة نظرت إلى إسماعيل وقد ظهر الماء من تحت رجليه فعادت حتى جمعت حوله الرمال وزمّته، فلذلك سميت زمزم، وكانت قبيلة جرهم نازلة بذي المجاز وعرفات، فلما ظهر الماء بمكة لهاجر وابنها قالوا لها: من أنت وما شأنك وشأن هذا الصبي؟ قالت: أنا أم ولد إبراهيم خليل الرحمن، وهذا ابنه، أمره الله ان ينزلنا هيهنا، فقالوا لها: أتأذنين لنا أن نكون بالقرب منكم؟ فقالت: حتى يأتي إبراهيم، فلما زارهم إبراهيم في اليوم الثالث، قالت هاجر: يا خليل الله إن ههنا قوماً من جرهم يسألونك أن تاذن لهم حتى يكونوا بالقرب منا، أفتأذن لهم في ذلك؟ فقال إبراهيم: نعم، فأذنت لهم هاجر، فنزلوا بالقرب منهم، وضربوا خيامهم، فأنست هاجر وإسماعيل بهم، فلما زارهما إبراهيم في المرة الثانية نظر إلى كثرة الناس حولهم، فسرّ بذلك سروراً شديداً([5]).

ومرت الأيام وبلغ إسماعيل مبلغ الرجال، فأمر الله تعالى خليله إبراهيم أن يبني البيت، وقد أرسل له جبرئيل ليعرّفه موضع القواعد وخطها له، فأخذ إسماعيل ينقل حجار البيت من ذي طوى، فجعل له جدراناً أربعة، ورفعه إلى السماء تسعة أذرع([6])، وجعل له أركاناً أربعة، وسمى الشمالي بالركن العراقي، والغربي بالركن الشامي، والجنوبي بالركن اليماني، والشرقي الذي فيه الحجر بالركن الأسود، وتسمى المسافة التي بين الباب وركن الحجر بالملتزم، لالتزام الطائف إياه في دعائه واستغاثته، وأما الميزاب على الحائط الشمالي يسمى ميزاب الرحمة([7]).

وقد جعل له بابين، باباً إلى الشرق، وباباً إلى الغرب، والباب الذي إلى الغرب يسمى المستجار، ثم لما فرغ من بنائه حج إبراهيم وإسماعيل([8])، ولذا ينسب حج المسلمين إلى إبراهيم الخليل فيقال الحج الابراهيمي.

منزلة الكعبة:

كانت الكعبة مقدسة ومعظمة عند الأمم المختلفة، فكانت الهنود يعظمونها، وكانت الصابئة من الفرس والكلدانيين يعدونها أحد البيوت السبعة المعظمة، وكان الفرس يحترمون الكعبة أيضاً، كما كانت اليهود تعظمها ويعبدون الله فيها على دين إبراهيم، وكانت في الكعبة صورتا العذراء والمسيح، ويشهد ذلك على تعظيم النصارى لأمرها أيضاً، وكانت العرب أيضاً تعظمها كل التعظيم، وتعدها بيتاً لله تعالى، وكانوا يحجون إليها من كل جهة وهم يعدون البيت بناء إبراهيم، والحج من دينه الباقي بينهم بالتوارث([9]).

 

([1]) سورة آل عمران: الآية 96.

([2]) الأمثل في تفسير القرآن 1: 335- 336.

([3]) سورة إبراهيم: الآية 37.

([4]) نهج البلاغة: الخطبة القاصعة.

([5]) الميزان في تفسير القرآن 1: 288- 289.

([6]) المصدر السابق.

([7]) الميزان في تفسير القرآن 3: 360.

([8]) الميزان 1: 289.

([9]) الميزان 3: 361- 362.

وزارة الدفاع الروسية تعلن إرسال مقترحات مفصّلة للولايات المتحدة بشأن تنظيم عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم وتشير إلى أن أكثر من مليون و700 ألف سوري سيتمكّنون من العودة إلى ديارهم في المستقبل القريب.

أعلنت وزارة الدفاع الروسية أنها أرسلت مقترحات مفصّلة للولايات المتحدة بشأن تنظيم عودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم، وذلك انطلاقاً من اتفاق بين الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأميركي دونالد ترامب.

وأشارت الوزارة إلى أن أكثر من مليون و700 ألف سوري سيتمكّنون من العودة إلى ديارهم في المستقبل القريب.

وأضافت الدفاع الروسية أن موسكو اقترحت على واشنطن تنظيم مجموعة روسية – أميركية – أردنية لإعادة اللاجئين من الأردن إلى سوريا، وكذلك لجنة مماثلة بخصوص اللاجئين في لبنان.

وفي سياق آخر قالت الدفاع الروسية إن المتطرّفين يحاولون الوصول إلى شمال محافظة حمص ويستخدمون انتحاريين لمهاجمة القوات السورية في اللاذقية، مضيفة أن القوات السورية مضطرة لاتخاذ تدابير رداً على أعمال المتطرّفين لإرساء الاستقرار.

ولفتت الدفاع الروسية إلى أن نشاط "جبهة النصرة" يزداد في محافظة إدلب شمال سوريا.

لا تكف المقاومة اللبنانية، منذ نهاية حرب تموز ـــــ يونيو عام 2006 عن مواجهة أفكار وتصورات ومواقف، في عمومها، استمرار للحرب الإسرائيلية بوسائل أخرى. هذا إذا استندنا إلى قاعدة الحرب التي تقول إنها اندلعت من أجل القضاء على المقاومة، وإجراء سلسلة من التغييرات في الشرق الأوسط، من شأنها أن تحسن البيئة الآمنة للدولة العبرية.

في هذا السياق يمكن تأطير سبعة اتجاهات أساسية تنتظم من أجل تكوين بيئة أمنية مضادة للمقاومة، حتى إذا ما عزلت وضعفت يسهل ضربها، وإن لم تعزل تماماً، يمكن مواصلة الضغوط عليها بحيث تخور قواها ومعنوياتها، وبالتالي حملها على الانخراط في المشاريع الداخلية اللبنانية بوصفها نهاية المطاف.

الإتجاه الأول والأخطر، يرمي إلى تفكيك القاعدة المباشرة التي تستند إليها المقاومة, وذلك عبر تقسيمها إلى أربع جهات: البقاع، والجنوب، وساحل المتن الجنوبي، وبلاد جبيل. هذا التقسيم يراد منه وضع الجهات المذكورة بمواجهة ومنافسة بعضها البعض، إزاء وظائف الدولة، والخدمات البلدية والمشاريع التنموية.. إلخ.

إن نجاح هذه المحاولة من شأنه أن يضعف أحد أهم أسلحة المقاومة، أي بيئتها المباشرة، التي تؤيد خيار التصدي لإسرائيل وردعها، ومن شأنه أن يساعد خصوم المقاومة وأعدائها في لبنان على النفاذ إلى هذه الجهات وحملها على مواجهة بعضها البعض.

الراجح أن هذه المحاولة لن تذهب بعيداً، إنها كمحاولات سابقة، قد تبؤ بالفشل، ليس بسبب قوة العصبية الطائفية لدى المقاومين فحسب، وإنما أيضاً بسبب ثقافة المقاومة. المقاومة التي تراكمت منذ تلك الحرب وتعززت مع الأدوار الناجحة التي لعبها المقاومون في الإقليم. إن بيئة المقاومة تشعر بالفخر إزاء أدوارها المحلية والإقليمية في مواجهة أعداء العرب وبالتالي يصعب أن تضعف أمام شعارات مطلبية، لا تتحمل المقاومة المسؤولية عنها.

الإتجاه الثاني، ينطوي على جملة من الشعارات والمفاهيم الديماغوجية، التي تبثها وسائل الإعلام اللبنانية والعربية على مدار اليوم، من طراز "أين المقاومة؟ لم يطلق حزب الله رصاصة واحدة على إسرائيل منذ سنوات طويلة" هذا في وقت تجري الدولة العبرية مناورات على مدار العام لمجابهة المقاومة. شعار آخر يقول "سلاح حزب الله غير شرعي لأن قرار الحرب والسلم يجب أن يكون عند الدولة اللبنانية" والراجح أن حملة هذا الشعار يعرفون أن الدولة اللبنانية يمكن أن تتلقى ضغوطاً خارجية إلى حد أنها قد ترمي ورقة الردع اللبنانية ضد إسرائيل في سله المهملات خلال عشرة أيام.

لم تنجح حتى الآن مثل هذه الشعارات في ضعضعة صفوف مؤيدي المقاومة، لكنها، ستجد من يستمع إليها، ويروجها، حينما يلاحظ أصحاب الطوابير المناهضة، أن أسهم المقاومة آخذة بالتراجع.

الإتجاه الثالث يكمن في الحصار الذي يسعى أكثر من طرف محلي وأجنبي إلى فرضه على المقاومة وبيئتها، في لبنان، والعالم العربي والإسلامي، وفي ملاحقة وسائل الإعلام المؤيدة والحؤول دون بثها في الفضاءات العربية والأوروبية. وملاحقة الناشطين ورجال الأعمال المقربين من المقاومة ومقاطعتهم، واستخدام لوائح المقاطعة، لترهيب المناصرين والذين كانوا يتبرعون لها. ومواصلة استخدام الورقة القضائية للنيل من المقاومة شرعياً.

هنا أيضاً لم تتعرض المقاومة لإصابات قاتلة، ومازالت قادرة على أداء أدوارها والإعلان عنها بنجاح كبير.

الإتجاه الرابع بدأ يبرز منذ بعض الوقت ويستند إلى التلويح بالنفط مقابل المقاومة. بتعبير آخر هناك من يغري بيئة المقاومة بأن التخلي عنها يعني تدفق النفط بنسب عالية من لبنان وعبر الأسواق العالمية على أن تكون العائدات للأطراف التي تقول بوجوب وضع حد للقتال ضد إسرائيل.

الراجح عندي أن المقاومة ومعها طيف واسع من اللبنانيين، ستصر على الربط بين النفط المستخرج والردع ضد إسرائيل. لقد ظل نفظنا طي الكتمان سنين طويلة إلى أن أميط اللثام عنه بفضل المقاومة. وذلك على الضد من حال النفط العربي حيث نجحت إسرائيل والغرب عموماً بعزل نفط العرب عن المقاومة.

تحمي واشنطن الأنظمة النفطية وتدعمها، وهذا الحال لا ينطبق على لبنان الذي حمته المقاومة بشراً وأرضاً ونفطاً وموقعاً، فعهل يعقل أن يطيح عاقل بعلة وجوده.

والإتجاه الخامس يرمي إلى أبعاد لبنان والمقاومة عن الترتيبات الإقليمية الجديدة، بعد الحرب السورية، وهو أمر يصعب إدراكه. فقد تشكل خلال سنوات "ربيع الزفت العربي" محور يشترك أطرافه في العقيدة الدينية والأهداف الإقليمية والتجربة القتالية الناجحة. من سوريا إلى العراق إلى اليمن إلى فلسطين لم يخسر هذا المحور معركة كبيرة واحدة وبالتالي لا شيء يحمل المنتصر المدرك على التخلي عن انتصاراته كرمى لعيون إسرائيل واليانكي.

والإتجاه السادس قديم/ جديد يقول حرفياً "لا توجد في بيروت مقاومة لبنانية وإنما إيرانية"، إذا أرادت إيران أن تقول لها لا تكوني فلن تكون، وبالتالي لا قيمة إستراتيجية لمقاومة لا تملك قرارها. يعرف الذين يروجون لهذه المعادلة المنافقة أن علاقة المقاومة بإيران ناجمة عن تصور مشترك لمستقبل الشرق الأوسط يكون لإيران وللبنان وللعراق واليمن وسوريا ودول أخرى مواقع ومصالح بعيداً عن التبعية للأجنبي. وبالتالي لا يمكن لأي طرف في هذا المحور أن يضحي بمصالح طرف آخر ليكسب هو ويخسر الآخرون. وأن فعل لا يرضى الآخرون فيخسر هو وهم يربحون. إن طهران التي ينسب إليها مثل هذا الإحتمال يتمتع قادتها بفكر استراتيجي يصعب أن يهبط إلى مثل هذا الدرك التافه.           

والإتجاه السابع يرمي إلى عزل المقاومة اللبنانية عن فلسطين وبالتالي القول إن دورها ينتهي عند تخطيط الحدود وضبطه عبر القوانين الدولية. الواضح أن إسرائيل نفسها لا تستطيع الإلتزام بهذا الشرط لذا نراها تنتهك الأجواء اللبنانية والسورية وبعض الأجواء العربية. إن إسرائيل التي تخطط لمستقبل تكون فيه سيدة في الإقليم لا تستطيع الالتزام بحدود سايكس بيكو وبالتالي لا يمكن لمقاوميها أن يسمحوا لأنفسهم بالإنضباط داخل اللعبة التي ترسم هي حدودها.

المقاومة اللبنانية هي كغيرها من المقاومات الناجحة في التاريخ وجدت لتبقى ولتنتصر وكل توقع آخر تكذبه التجارب المعروفة وبالتالي لا قيمة.

فيصل جلول  باحث لبناني مقيم في فرنسا