
Super User
"داعش" يعلن مسؤوليته عن استهداف مقر أمني بالسعودية
أعلن تنظيم "داعش" الإرهابي مسؤوليته عن هجوم استهدف مقر شرطي قرب العاصمة السعودية الرياض، الأحد.
جاء ذلك في مقطع فيديو نشرته وكالة أنباء "أعماق" التابعة لـ"داعش"، الإثنين، أعلنت فيه مسؤولية التنظيم عن الهجوم، حسب وكالة "أسوشيتد برس".
والأحد، قال جهاز أمن الدولة السعودي في بيان إن "السلطات الأمنية تمكّنت من إحباط عمل إرهابي استهدف مركز مباحث محافظة الزلفي (وسط)؛ ما أسفر عن مقتل 4 مهاجمين، وإصابة 3 أفراد أمن".
وفي مقطع الفيديو، قال أحد عناصر التنظيم الإرهابي إن الهجوم "جاء انتقاما للمسلمين المسجونين في المملكة (السعودية) وسوريا والعراق".
وعقب الهجوم، أدانت منظمة التعاون الإسلامي، (مقرها مدينة جدة)، الهجوم الإرهابي، وأعربت عن تضامن المنظمة ووقوفها التام مع السعودية في مواجهة الإرهاب.
وقبل هجوم أمس، كان آخر هجوم تبناه التنظيم في السعودية، في يوليو/تموز 2018، عندما استهدف على نقطة تفتيش أمنية في مدينة بريدة بمنطقة القصيم (وسط)؛ ما أسفر عن مقتل رجل أمن ومقيم بنغالي.
تأمّلات في دعاءِ عرفة للإمام الحسين (عليه السلام)
الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع(1)
1) في هذا المقطع ناحيتان للبحث:
الأولى: بيان حقيقة الحمد الذي جعله الإمام(ع) مفتتح حديثه.
الثانية: الحديث حول قضاء الله سبحانه وتعالى، وبيان معنى عدم وجود دافع له.
ولقد ابتدأ(ع) بالحمد لأنه نحو تحميد وتمجيد لله سبحانه وتعالى، وهو كما عرفنا فيما تقدم من شروط الكمال.
حقيقة الحمد:
لا يختلف اثنان في أن الحمد ثناء على الله سبحانه وتعالى، ولا ينحصر الثناء عليه في خصوص هذه اللفظة، بل يمكن أن يكون الثناء عليه أيضاً من خلال الشكر، كما يمكن أن يكون بواسطة التسبيح، ويمكن أن يكون من خلال المدح، فهذه أربعة عناوين يمكن أن يثنى على الله عز وجل من خلالها، وقد تضمنت كلمات اللغويـين والمفسرين بيان الفوارق بينها.
فعرفوا الحمد بأنه: الثناء باللسان على الجميل الاختياري، وهذا التعريف أشتمل على قيدين:
الأول: الثناء، وذلك بذكر فعل شخص ما مادحاً إياه على ذلك الفعل.
الثاني: الاختيار، فلا يمدح ولا يحمد ما يكون من الحسن لا عن اختيار، أي ما كان أمراً تكوينياً، فاللؤلؤ مثلاً، لا يمدح صفائه وحسنه، لأنه ليس بالاختيار. فالثناء على شخص ما لأنه يداوم الحضور لصلاة الجماعة، أو لأنه يلتـزم بقراءة الأدعية والأذكار المستحبة، يعبر عنه بأنه حمد، وذلك لتوفر الأمرين المعتبرين في حقيقة الحمد فيه، كما لا يخفى.
وأما الشكر، فقد عرف بأنه ما أنبأ عن عظمة المنعم، سواء أكان بالقلب أم كان باللسان، أم بالأركان، ولذا قالوا بأن التفكر في عظمته سبحانه وتعالى شكر له، كما أن ذكره عز وجل باللسان شكر له، وفعل الطاعة له والعبادة من صلاة وما شابه شكر له.
ووفقاً لهذا يمكننا القول بأن حقيقة الشكر عبارة عن الثناء على النعمة الصادرة من المنعم، فكل ثناء صدر منك لنعمة حصلت عليها من المنعم عبرنا عنه بأنه شكر للمنعم.
وأما التسبيح، فهو التنـزيه عن كل نقص مطلقاً، وهو مختص بالله سبحانه وتعالى، فينـزه الله سبحانه عن كل نقص، بمعنى نفي كل نقص عنه، فنقول: بأنه ليس جاهلاً، ولا عاجزاً، ولا بخيلاً، ولا مركباً، إن هذا كله يسمى تسبيحاً، لأنه تنـزيه له سبحانه عن كل نقص.
وأما المدح، فهو الثناء على الجميل باللسان، ولو لم يكن الجميل اختيارياً، كما لو مدحت اللؤلؤة على صفائها وجمالها، أو مدحت النجوم على جلائها وبهائها، فإن هذا الجمال الموجود في اللؤلؤ، أو الجمال الموجود في النجوم ليس اختيارياً.
ومن خلال ما تقدم من عرض لبيان حقيقة المفاهيم الأربعة من صيغ الثناء على الباري سبحانه يتضح الفرق بينها، إذ يختلف الحمد عن المدح من خلال السعة والضيق، ضرورة أن الحمد أضيق دائرة من المدح، والمدح أوسع دائرة من الحمد، فكل حمد مدح، لكن ليس كل مدح حمد، لأنه ربما كان مدحاً لفعل غير اختياري، فهو ليس حمداً. فالنسبة بينهما هي العموم المطلق، كما هو واضح.
والنسبة بين الحمد والشكر هي نسبة العموم من وجه، فهما يلتقيان في أمور، وكل واحد منهما يختلف عن الآخر في أخرى، فالحمد أعم من الشكر من ناحية متعلقه، لأن الجميل الاختياري قد يكون للحامد كما يكون لغيره، وهو أخص منه من ناحية المورد، لانحصار مورده في خصوص اللسان فقط في الإنسان، بخلاف الشكر، فإن متعلقه ينحصر بخصوص الإنعام على الشاكر فقط، ولا ينحصر مورده في خصوص اللسان فقط، بل يشمل القلب واللسان والأركان.
والفرق بين الحمد والتسبيح واضح لا يحتاج بياناً، ضرورة أن التسبيح منحصر في خصوص تنـزيه الذات المقدسة عن النقص، وهو يفترق تماماً عن الحمد، كما لا يخفى.
نعم يشترك التسبيح مع الحمد في شيء وهو أن كليهما مختصان بالذات المقدسة، فكما أن التسبيح بمعنى التنـزيه عن النقص يختص بالذات المقدسة وينحصر فيها، فكذلك الحمد بالمعنى السابق منحصر فيها أيضاً، فهو نظير لفظ(الله، الرحمن) فلا يطلق على غيره تعالى، ومتى ما أطلق كان مدحاً، وليس حمداً. أما الشكر فلا ينحصر به سبحانه، لأنه كما يمكن للإنسان أن يشكر الله تعالى بمعنى الجزاء على الخير، سواء في الدنيا، أم في الآخرة، أم فيهما معاً، يقع أيضاً من الخلق للخلق، قال تعالى:- (أن اشكر لي ولوالديك إليّ المصير)[1].
ثم إن الحمد له صورتان:
الأولى: أن يكون الحمد من الله سبحانه وتعالى لذاته المقدسة، قال تعالى:- (وله الحمد في السماوات والأرض)[2].
الثانية: أن يكون الحمد من خلقه له سبحانه، قال عز من قائل:- (وقالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا)[3]،[4].
الافتتاح والختم بالحمد:
هذا ومما يلحظ أنه قد جُعل الحمد مفتـتحاً في موارد عديدة، كما في القرآن الكريم، فإن أول سورة منه، وهي سورة الفاتحة، افتتحت بالحمد، وكذا في كثير من الأدعية، كما هو الدعاء محل الكلام أيضاً جعل الحمد مفتـتحاً للكلام، كما أن الملاحظ أن الحمد جُعل خاتمة الكلام، فقد ورد في على لسان أهل الجنة قوله تعالى:- (وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين)[5].فلماذا جُعل الافتتاح بالحمد، وجُعل الختم به، دون غيره من ألفاظ الثناء الأخرى، فلماذا لم يكن الافتتاح مثلاً بالتسبيح، أو لماذا لم يكن الافتتاح مثلاً بالشكر؟
هناك ثلاثة أجوبة يمكن ذكرها في المقام:
الأول: ما يظهر من خلال الرجوع لبيان حقيقة الحمد وحقيقة الشكر والتسبيح التي قدمناها فإن المستفاد مما تقدم من البيان أن الحمد بمثابة المفتاح لجميع أنواع الثناء، ذلك لأن الشكر والتسبيح يتوقفان عليه، فلو لم يكن هناك حمد، فلن يكون هناك شكر، وكذا لن يكون هناك تسبيح، وذلك لأن الشكر الذي هو ثناء على النعم لن يتحقق ما لم يحصل للشاكر معرفة بجمال الفعل الصادر من المنعم، فمتى عرف جمال الفعل كان ذلك موجباً لشكره على نعمه، فلو لم يعرفه لن يشكره، ولا ريب في أن إدراك أن الجميل نعمة يعد ثناءً-ولو كان ثناءً عقلياً وليس لفظياً-فيكون حمداً، فيثبت أن الشكر متوقف على الحمد.
وكذلك بالنسبة للتسبيح، فإن التنـزيه للذات المقدسة يتوقف على إدراك الجمال، لأنه لو لم يدرك جماله، فلن ينـزهه عن النقص، وهذا يعني أن التنـزيه عنه فرع معرفة أنه جمال بذاته، وبأسمائه وأفعاله، ولما كان إدراك الملازمة بين محض الجمال ونفي النقص حمد في نفسه، ثبت أن التسبيح أيضاً متوقف على الحمد.
الثاني: إن الموجب لذلك يعود للعمومية والشمولية في الحمد دون بقية ألفاظ الثناء، وذلك لأن الحمد لا يختص بجانب دون آخر، فهو كما يشمل الأفعال، كذلك يشمل الذات والأسماء، وهذا بخلافه بالنسبة للشكر لما عرفت من اختصاصه بالنعم، وبالتسبيح لما عرفت من اختصاصه بالتنـزيه عن النقص[6].
بل إن جميع أنواع الحمد حتى ما كان منها راجعاً للمخلوقين فإنها تؤول لباً له سبحانه وتعالى، لأنه سبحانه مصدر الجمال، وهذا معنى قوله تعالى:- (له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير)[7].
الثالث: قد تقدم منا عند تعداد بعض شرائط الصحة وشرائط الكمال، أن واحداً من شرائط الكمال في الدعاء الابتداء بالثناء والحمد على الذات المقدسة، وقد أشرنا هناك أيضاً إلى أهمية مراعاة شرائط الكمال، لما لها من مدخلية في الاستجابة.
مراتب الحمد:
هذا وقد ذكروا أن للحمد مراتب ثلاث:
الأولى: الحمد القولي، وهو ما يجري على اللسان بالمأثور وما يحصل فيه من ثناء على الباري سبحانه وتعالى على ما أنعمه على الإنسان.
الثانية: الحمد القلبي، وهو معرفة العبد ولي نعمه بأن هذه النعمة من أين جاءت ومتى وصلت إليه نعمة في الدين ونعمة في الدنيا تحصل بها سعادته وخيره وعزه وصلاحه في الدارين.
الثالثة: الحمد الفعلي، ويتحقق من خلال الإتيان بالتكاليف السماوية، البدنية والمالية، من العبادات والخيرات ابتغاء لوجه الله سبحانه وتعالى. فكما أن الحمد واجب على كل إنسان باللسان، كذلك هو واجب عليه بحسب مقابلة كل عضو عند كل حال من الأحوال، وذلك باستعمال كل عضو فيما خلق لأجله، وأن يصرف في ما هو المشروع له[8].
ويبقى الكلام في كيفية تحقيق الحمد الفعلي، وهو أصعب أنواع الحمد، ولسنا بصدد
الحديث عن ذلك، فإن له مجاله الخاص، فليطلب من هناك.
قضائه الذي ليس له دافع:
وأما الناحية الثانية في هذا المقطع، وهي قضاء الله سبحانه، وأول ما ينبغي التوجه له هو معرفة مقصوده(ع) من قضاء الله سبحانه وتعالى، فهل يقصد من ذلك قضائه المقابل للقدر، أم أن المقصود منه عبارة عن الإرادة، أم أن المقصود منه قدرته سبحانه وتعالى؟ الاحتمالات الثلاثة واردة في العبارة، لأنه قد يستعمل لفظ القضاء مقابل القدر، فيقال: القضاء والقدر، كما يستعمل لفظ القضاء ويراد منه الإرادة، فيقال أراد الله سبحانه وتعالى وقضى، وقد يكون استعماله بمعنى قدرته سبحانه، فيقال: إن قضاء الله سبحانه لا يرد، بمعنى أن قدرته لا تمنع، وعلى أي حال، فلنشر لشيء منها.
الاحتمال الأول: أن يكون المقصود من القضاء هنا ما يكون مقابلاً للقدر، وهذا المعنى للقضاء فعل من أفعال الله سبحانه وتعالى، وقد ذكرت له عدة معان ربما أوصلها البعض إلى عشرة، والظاهر أن جميعها تعود للمعنى الأصل، وهو الحتم والحكم، فقضاؤه سبحانه هو حكم وحتم وفعل.
وبحث القضاء من المباحث الدقيقة جداً، وربما كان مزالق الأقدام، ويكفي أن تعرف أن هناك نزاعاً شديداً في مسألة قضاء الله سبحانه وتعالى، حتى صار الناس فيها على طرفي نقيض، فبين من يجعل الأفعال من العباد كلها مخلوقة له سبحانه وتعالى، وهو الذي يجبرهم على الإتيان بها دون أن يكون لهم أدنى اختيار، يمضي آخر ليقرر أن الله تعالى قد فوض أمر الخلق للخلق، ورفع يده عنهم جميعاً، فصار أمرهم إليهم من دون أن يتدخل هو في ذلك. وكان طريق الحق هو ما جاء عن أهل بيت العصمة والطهارة، وهو الأمر بين الأمرين، فلا جبر ولا تفويض، ولكن أمر بين أمرين.
وقد دلت الأدلة النقلية والعقلية على نفي الجبر، ويكفي لإثبات الاختيار الوجدان، فإن وجدان القدرة والاختيار، خير دليل على نفي الجبر. كما أن المحصل من الأدلة نفي التفويض، خصوصاً وأن ملكيته سبحانه وتعالى لا تقاس بالملكية الاعتبارية حتى يتصور فيها تفويضها إلى الغير، بل هي ملكية تكوينية، لا تنفك عن مالكها، وإلا فلا وجود لها.
وبالجملة، فالأعمال الاختيارية الصادرة من الإنسان داخلة في قضائه سبحانه وتعالى، وهذا يعني أن الأعمال لا تستند إليه سبحانه فقط، بحيث لا مباشرة للإنسان ولا تأثير حتى يقال بأن في البين جبراً، كما أنها غير مستندة للإنسان فقط لتخرج عن سلطانه وقدره، ليتصور التفويض، بل الصحيح أن الأفعال مستندة إلى الإنسان بالحقيقة، لأنها صادرة عنه بالاختيار، وهي مستندة إلى الله سبحانه لأنه تعالى معطي الوجود والقدرة، فالاستناد إليه تعالى طولي، وملكيته ملكية طولية، والظاهر أن هذا هو المقصود من الأمر بين الأمرين.
وبالجملة، فالقول بثبوت قضائه سبحانه لا يستلزم البناء على أن هناك جبراً أصلاً.
ثم إنه(ع) وصف قضائه تعالى بأنه ليس له دافع، وهذا يشير إلى تحقق الحتم والإبرام،
فهو من قبيل قوله تعالى:- (سبحانه إذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)[9].
الاحتمال الثاني: أن يكون المقصود من القضاء عبارة عن الإرادة، وهي الطلب مع الاختيار، وهي كالقضاء في مرتبة إنهاء الأمر والطلب، ويشير إلى ذلك قوله تعالى:- (إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون). وتوضيحه:
إن جميع الحوادث الكونية يتوقف وجودها على توفر الأسباب والعلل الموجبة لتحققها خارجاً وارتفاع الموانع، فما لم يكن ذلك، لم يكن لها وجود خارجاً، فإذا تمت العلل الموجبة للتحقق واكتمل ما يتوقف وجودها عليها من الشرائط وارتفاع الموانع، لم يبق لها إلا أن تتحقق خرجت من التردد والإبهام، وكان لها التحقق عندها. ولما كانت الحوادث في وجودها وتحققها مستندة إليه سبحانه، وهي فعله وإرادته، جرى فيها الاعتباران بعينهما، فهي ما لم يرد الله تحققها ولم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع، فإذا شاء سبحانه وقوعها وأراد تحققها، فتم لها عللها وعامة شرائطها، ولم يبق لها إلا أن توجد كان ذلك تعيـينا منه تعالى، وفصلاً لها من الجانب الآخر، وقطعاً للإبهام، فهذا هو ما يسمى بقضاء الله. ويظهر هذا جلياً في قوله تعالى:- (فقضاهن سبع سماوت في يومين)[10]،
وقال تعالى:- (وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون)[11]. ولا ينحصر هذا في خصوص الجانب التكويني، فإنه جارٍ أيضاً في الجانب التشريعي، وقد أشير إليه في غير واحدة من الآيات الشريفة، قال تعالى:- (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً)[12]، وهذا المعنى من القضاء قد يعبر عنه في بعض الموارد بالحكم أيضا، لكنه بضرب من المسامحة والتجوز[13].
الاحتمال الثالث: أن يكون المقصود من القضاء هو القدرة، وهي صفة انتـزاعية منتـزعة من الحياة، وتساوق الوجود، وهي صفة من الصفات الذاتية يفعل بها الباري سبحانه إذا شاء، ويترك بها إذا شاء.
هذا ولو تأملنا في المحتملات الثلاثة المذكورة في العبارة، لوجدنا أن أقربها من حيث الظهور هو الاحتمال الثاني، فيكون المقصود من قضائه الذي لا دافع له، يعني إرادته سبحانه وتعالى وفعله، وهذا لا يلغي احتمالية المعنيـين الآخرين، إلا أننا نقرر أن هذا المحتمل الثاني أوضح ظهوراً في المقام، ضرورة أنه(ع) بصدد عرض نفاذ الأمر الإلهي، واستعلائه، وعظمته، فيقرر أن الإرادة الإلهية والفعل الرباني محكمان، في أنه لا يبقى مجال بعدهما لأن يتصور إمكانية تدخل أحد، أو إيجاد مانع يمنع، لأنه ليس لهذه الإرادة والفعل، أي مانع يمنع، بمقتضى قانون العلية والمعلولية الفلسفي، فلاحظ قوله تعالى:- (وما تشاؤون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليماً حكيماً)[14].
هذا وقد تضمنت النصوص الشريفة أن الله سبحانه وتعالى لا يقضي لأحد إلا ما كان فيه خيره وصلاحه، يقول أبو عبد الله الصادق(ع): عجبت للمرء المسلم لا يقضي الله عز وجل له قضاء إلا كان خيراً له، وإن قرض بالمقاريض كان خيراً له، وإن ملك مشارق الأرض ومغاربها كان خيراً له[15].
وكما أشارت النصوص إلى أن قضاء الله بعباده، إنما هو فيما يكون فيه صلاحهم، دعت أيضاً إلى الرضا بقضاء الله تعالى، وهذا أيضاً ما نستوحيه من كلام الإمام الحسين(ع) في هذا المقطع، إذ يبدو أن داعيه(ع) للتعبير بأنه ليس لقضاء الله تعالى دافع، خلق جو من الرضا بالقضاء الإلهي، والتسليم به والانقياد، وأن لا يعيش المرء شيئاً من التبرم والرفض، أو التذمر. نعم كيف يتسنى للإنسان تحصيل الرضا بقضاء الله سبحانه، إن هذا يحتاج منا بداية أن نعرض حقيقة الرضا، ونتعرف عليها، ومن ثمً نجيب على كيفية حصول الإنسان على ذلك، وهذا نرجئه للحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
سماحة الشيخ: محمد العبيدان
[1] سورة لقمان الآية رقم 14.
[2] سورة الروم الآية رقم 18.
[3] سورة الأعراف الآية رقم 43.
[4] مواهب الرحمن ج 1 ص 27.
[5] سورة يونس الآية رقم 10.
[6] في ظلال دعاء الافتتاح ص 12-14.
[7] سورة التغابن الآية رقم 1.
[8] تفسير البصائر ج 1 ص 251.
[9] سورة مريم الآية رقم 35.
[10] سورة فصلت الآية رقم 12.
[11] سورة البقرة الآية رقم 117.
[12] سورة الإسراء الآية رقم 23.
[13] ميزان الحكمة ج 6 بتصرف.
[14] سورة الدهر الآية 30.
[15] أصول الكافي ج 2 ص 62 ح 8.
أين الإسلاميون من الثورة السودانية؟
بينما يجادل البعض بأن فترة حكم البشير محسوبة على الحكم العسكري أكثر من كونها محسوبة على الإسلاميين، ينظر آخرون إلى أن فترة حكم البشير كانت بمثابة فترة حكم للتيار الإسلامي، وبالتالي فإن الثورة على نظام البشير تطال بالضرورة هذا التيار
عقب صلاة الجمعة الماضية في مسجد الخرطوم الكبير، تعرض إبراهيم السنوسي (82 عاما)، القيادي في حزب "المؤتمر الشعبي" ذا التوجه الإسلامي، إلى الطرد بواسطة المصلين الغاضبين.
وكان السنوسي المنتمي للحزب الذي أسسه الزعيم الإسلامي الراحل ،حسن الترابي، يشغل منصب مساعد الرئيس في حكومة عمر البشير الذي أطاحت به ثورة شعبية في 11 أبريل/ نيسان الجاري.
وقال شهود عيان إن السنوسي حاول مخاطبة المصلين ودعاهم للقبول بالمجلس العسكري بقيادة عبد الفتاح البرهان الذي تولى المسؤولية بعد سقوط البشير، لكن مصلين قاطعوه بالهتاف المحلي الذي يندد بـ"الجماعة الإسلامية": "أي كوز ندوسو دوس"، ثم حصبوا زجاج سيارته بالحجارة لدى مغادرته.
وتطلق لفظة "كوز" محليا للإشارة إلى "الجماعة الإسلامية" التي أسسها الترابي منذ ستينيات القرن الماضي، ونفذ بها انقلابا في عام 1989 قاده العميد -وقتها- عمر البشير، وحكم به البلاد لمدة ثلاثين سنة تحت مسمى حزب "المؤتمر الوطني"، الذي أعلن عن تأسيسه في العام 1992.
وحادثة السنوسي في المسجد جاءت ردا على موقف قيادة حزب "المؤتمر الشعبي"، التى استمرت في حكومة "الوحدة الوطنية"، التي شكلها البشير، حتى إعلان عزله في 11 أبريل/ نيسان الجاري، رغم مطالبة قواعد الحزب بالانسحاب من تلك الحكومة قبل ذلك بكثير.
ففي المقابل، شارك العديد من شباب حزب الترابي في الاحتجاجات ضد البشير، وكثير منهم أبدى غضبه على واقعة قتل أحد كوادر حزبهم المعلم أحمد الخير بمدينة كسلا على يد قوات الأمن إبان هذه الاحتجاجات التي أسقطت البشير.
ومنذ الستينيات، اتخذت جماعة الترابي عدة مسميات: الإخوان المسلمون، جبهة الميثاق الإسلامي، الجبهة الإسلامية القومية، ثم المؤتمر الوطني، لينشق عنه الترابي إثر خلاف مع البشير في 1999 ويؤسس حزب "المؤتمر الشعبي".
وعقب رحيل الترابي في 2015، عاد "المؤتمر الشعبي" ليشارك في الحكومة بعدة مناصب وزارية.
وبينما يجادل البعض بأن فترة حكم البشير محسوبة على الحكم العسكري أكثر من كونها محسوبة على الإسلاميين، ينظر آخرون إلى أن فترة حكم البشير كانت بمثابة فترة حكم للتيار الإسلامي، وبالتالي فإن الثورة على نظام البشير تطال بالضرورة هذا التيار.
وفي وقت سابق، قال المؤرخ السوداني البروفيسور عبد الله علي إبراهيم إن الإسلاميين الحاكمين "اكتفوا بالإشارة إلى أعدائهم ليتولى جهاز الأمن بقية المهمة"، رغم نفى الكثير من القيادات الإسلامية في السودان لذلك، والتأكيد على أن "الحركة الإسلامية" استلمت الحكم بالفعل في العام 1989، لكن الحكم تحول شيئا فشيئا ليصبح في قبضة الرئيس وحده، وأن المعاناة في البلاد طالت الإسلاميين كما طالت غيرهم من التيارات.
من جهته، قال الكاتب والباحث في شأن الإسلام السياسي، خباب النعمان، للأناضول، إنه كان يتوقع "سقوط التجربة الإسلامية في الحكم من واقع انسداد الأفق أمامها بغير النفط والموارد الاقتصادية".
ومنذ انفصال جنوب السودان في 2011، يعاني السودان حالة تضخم وارتفاع حاد في الأسعار ونقص في السيولة النقدية والسلع الاستهلاكية الأساسية.
وفي العام 2013، انشق على البشير أبرز قادته الفكريين الإسلاميين، غازي صلاح الدين، إثر تعامل الحكومة الفظ مع هبة شعبية قتل فيها أكثر من 200 قتيل طبقا لإحصائيات غير رسمية.
وأسس صلاح الدين "حركة الإصلاح الآن"، لتكون بمثابة "المعيار العصري" للإسلام السياسي وتبعه البعض من الإسلاميين الشباب الذين يَرَوْن أنفسهم أكثر انفتاحا وليبرالية على المستوى السياسي، حسب غازي نفسه الذي تحدث في 2013 في منتدى عقد بمنزل أحد الإسلاميين من حزب "المؤتمر الوطني".
الآن يجد الإسلاميون أنفسهم في وضع حرج بعد سقوط حكومة البشير وعدم قبول من طرف كثير من المتظاهرين، رغم تسجيلهم حضورا في الاحتجاجات التي قادت لعزل البشير.
فقبل عزل البشير، زار المراقب العام لجماعة "الإخوان المسلمون" في السودان، عوض الله حسن، المعتصمين أمام مقر القيادة العامة للجيش بالخرطوم، وظهر في صور، وهو يخط بيديه لافتات تطالب بإطلاق سراح المعتلقين؛ ما أن يعني مشاركة هذا التيار الإسلامي في الثورة على نظام البشير.
وبعد عزله، أصدرت بيان من الأمانة السياسية للإخوان المسلمين، بيانا رحبت فيه بتلك الخطوة، مؤكدة أن "هذه الثورة المباركة لا تستطيع جهة أو حزب احتكارها أو توجيهها بل الكل مشارك دون إقصاء إلا من يدان قضائيا".
كما أن غازي صلاح الدين، الذي يتولى ائتلاف من عدة أحزاب كانت ذات تقارب مع البشير، هو وجه إسلامي آخر كان حاضرا بقوة في الثورة، ومن خلفه بالتأكيد الكثير من أنصاره من شباب الإسلاميين.
وقد التقى صلاح الدين، الخميس، رئيس اللجنة السياسية بالمجلس العسكري الانتقالي الفريق أول ركن عمر زين العابدين، وأبلغه أن المرحلة الراهنة تستدعي محاربة فكرة الإقصاء بين القوى السياسية.
ويقول النعمان إن "تجربة الإسلاميين التي سقطت في السودان عبر ثورة سلمية متحضرة ليس أمامها سوى خيارين، الأول إعمال النقد والمراجعة والثاني الإنكار وإنتاج خطاب ما ورائي يقوم على تسويغ نظريات المؤامرة".
وتوقع خباب الغلبة للخيار الأول؛ حيث يتم إنتاج تيارات "ما بعد إسلامية"، تتجاوز أخطاء المرحلة السابقة.
السيد نصر الله: أستبعد وقوع عدوان إسرائيلي على لبنان
الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله ينفي حديثه عن حرب إسرائيلية وشيكة على لبنان، مستبعداً وقوع هذه الحرب. وأوضح "أنا لم أقل شيئاً مما ذكر في إحدى الصحف الكويتية حول الحرب مع إسرائيل وإمكانية استشهاد بعض القادة"، مشدداً "انتهى الزمن الذي كانت فيه "إسرائيل" تحسم الحرب من الجو".
السيد نصر الله: ما نشر في إحدى الصحف الكويتية حول الحرب مع "إسرائيل" خطأ في المضمون وسيء في التوقيت
ألقى الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله اليوم الإثنين كلمة في الذكرى الـ34 لتأسيس كشافة الإمام المهدي، استهلها بإدانة الاعتداءات الأخيرة في سريلانكا ووصفها بالجريمة المروعة.
وقال السيد نصر الله "ندعو إلى مواجهة شاملة للإرهاب ولجذوره ولكل من يقف خلفه ويدعمه".
وبخصوص "صفقة القرن"، قال السيد نصر الله إن "جميع طواغيت العالم لن يتمكنوا من فرض إرادتهم على الفلسطينيين طالما يتمسكون بالأمل"، مضيفاً"أن المنطلق الأساسي في المواجهة هو التمسك بالأمل ورفض الاستسلام والثقة بالقدرة الذاتية لشعوبنا".
وتطرق السيد نصر الله إلى ما نشر في صحيفة كويتية حول الحرب مع "إسرائيل"، وأكد أنه "خطأ في المضمون وسيء في التوقيت"، نافياً قوله ذلك في أي جلسة عامة أو خاصة، معتبراً أن بعض المقالات التي تكتب بشان ترتيبات تنظيمية لحزب الله فيها ظلم وعدوان.
وأوضح "أنا لم أقل شيئاً مما ذكر في إحدى الصحف الكويتية حول الحرب مع "إسرائيل" وإمكانية استشهاد بعض القادة"، مؤكداً "أنا أميل إلى استبعاد قيام "إسرائيل" بحرب على لبنان"، ومشدداً "انتهى الزمن الذي كانت فيه "إسرائيل" تحسم الحرب من الجو".
السيد نصر الله رأى أن "إسرائيل" عدو طماع طبيعته المكر وكل الاحتمالات تبقى قائمة ولا يمكن الاعتماد على تحليل من هنا وهناك،موضحاً أن "ما يجري هو جزء من حملة منظمة منسقة ضدنا والأمثلة على ذلك كثيرة".
وأكد أن "التعاون الميداني بين الحلفاء في سوريا لا يزال كما كان في السابق ويجب الحذر من كل ما يقال ويكتب".
كما رأى أن تصريحات وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو حول إيران اليوم هي مشهد جديد من مشاهد الاستعلاء والعتو على العالم كله.
وأشار إلى أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب نفسه يمارس ويدعم الإرهاب ويتهم الآخرين به. ولفت إلى أن العالم الذي يسكت عن عدوان ترامب على إيران يفتح الباب أمام الاستباحة الاستكبارية الأميركية.
السيد نصر الله رأى أن شعوب العالم مطالبة برفض السياسات الأميركية الاستعلائية على إيران وفلسطين واليمن وغيرها، معتبراً أن هذه الدولة الطاغية التي لا تعترف بمؤسسات دولية يجب أن تصبح العدو الأول في ثقافتنا.
السيد نصر الله دعا إلى تسليط الضوء على سياسة السعودية والإمارات العدوانية في اليمن والبحرين والتدخل في السودان وليبيا، مؤكداً أن هناك دور حقيقي للسعودية والإمارات في طبخة "صفقة القرن".
السيد نصر الله: حزب الله سيتحمل جزءاً من المسؤولية لمعالجة الوضع الاقتصادي اللبناني
وفي سياق آخر، تناول السيد نصر الله الوضع الاقتصادي في لبنان، وأوضح أن هناك "إجماعاً في لبنان بأن الوضع المالي صعب ومتأزم"، مشيراً إلى أن "هناك اجماع على التعاون بين جميع القوى السياسية في لبنان لتحمل المسؤولية وإيجاد الحل".
واعتبر أن الحل الاقتصادي في لبنان يحتاج إلى قرارات صعبة وشجاعة، وأن المشكلة الاقتصادية في لبنان تعني جميع المناطق والطوائف ويجب التصرف بحكمة وشجاعة.
وأكد أن حزب الله سيتحمل جزءاً من المسؤولية إلى جانب القوى السياسية لمعالجة الوضع الاقتصادي، معتبراً أن ما يجري من مناقشات هي فرصة ذهبية للحد من الهدر والفساد المالي في الدولة.
السيد نصر الله أشار إلى أن حزب الله منفتح على أي نقاش لكن لديه ثوابته وأبرزها عدم المس بالفئات الفقيرة وذوي الدخل المحدود، مشدداً "لا يجوز أن تناقش الإجراءات الاقتصادية تحت عامل الضغط الشعبي والحسابات الانتخابية".
الأمين العام لحزب الله قال "من الممكن أن نعبر هذه المرحلة الصعبة والأزمة التي تمر بها البلاد"، مؤكداً "من الممكن أن نعبر هذه المرحلة الصعبة والأزمة التي تمر بها البلاد".
الحجّ و تربيةُ النّفسِ
للحج أثر فعال في تربية النفس، وذلك لما يتضمنه من التزامات وأفعال تۆدي بمجموعها إلى تربية الذات تربية سليمة ودقيقة وفعالة، فالحج تجرد عن المادة وما يتعلق بها، وارتفاع نحو مدارج الكمال الروحي، والسمو النفسي.
ولا شك أن للحج تأثيراً قوياً جداً في تطهير النفس من ذ
مائم الأخلاق كالغرور والتكبر والزهو والعجب، يقول الإمام علي: (( جعله سبحانه علامة لتواضعهم لعظمته، وإذعانهم لعزته )) (1 ) فالجميع في الحج سواء، فلا فرق بين شريف ووضيع، ولا بين غني وفقير، ولا بين سيد ومسود، فلا وجود للاعتبارات الدنيوية، وإنما الاعتبار الوحيد هو للتقوى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ( 2).
وبمجرد وصول الحاج إلى الميقات، يخرج من الملذات الجسمية ليمتلئ بالملذات المعنوية والروحية، فيُحرِم، وعندئذٍ عليه الالتزام بمحظورات الإحرام، واجتناب كل الملذات المحددة، فيحرم جسده من اللباس الراقي ليلبس لباساً متواضعاً وبسيطاً، ويُحرَم عليه شم الروائح الطيبة كالزعفران والمسك والعطر بجميع أنواعه، وممارسة الشهوات كالجماع والتقبيل واللمس، والتزين بأدوات الزينة كالاكتحال والتدهين، واللَّهو بالصيد البري أو قطع شجر ونبات الحرم، والتظليل حال السير .. الخ.
وبالملاحظة الدقيقة نكتشف أن لكل منسك وعمل في الحج أثره في تكميل النفس الإنسانية، وفي التحليق بالإنسان نحو مدارج العرفان والسمو الروحي، فالوقوف بعرفات والمزدلفة ومنى، والطواف حول البيت، والسعي بين الصفا والمروة، كلها مواقف قدسية، ومقامات مقدسة، وأعمال عبادية توقيفية، تقرب العبد إلى خالقه عزّ وجلّ، فيعود الحاج بعد انتهاء مناسك الحج بغفران ذنوبه كيوم ولدته أمه، وبرضا اللَّه تعالى عنه، وهو غاية الغايات، يقول الإمام علي:(( وقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطيفين بعرشه، يُحرزون الأرباح في متجر عبادته، ويتبادرون عند موعِدِ مغفرته )) (3 ).
ولن يفوز بثواب الحج إلا من تجرد عن كل شيء سوى طاعة اللَّه تعالى، والخشوع والخضوع لعظمته حلَّ جلاله، يقول الإمام الصادق عليه السلام في حديث رائع وجميل جداً:
(( إذا أردت الحج فجرد قلبك لله من قبل عزمك من كل شاغل وحجاب كل حاجب، وفوض أمورك كلها إلى خالقك، وتوكل عليه في جميع ما يظهر من حركاتك وسكناتك، وسلم لقضائه وحكمه وقدره، وودع الدنيا والراحة والخلق، واخرج من حقوق تلزمك من جهة المخلوقين، ولا تعتمد على زادك وراحلتك وأصحابك وقوتك وشبابك ومالك، مخافة أن يصير ذلك عدواً ووبالاً، قال: من ادعى رضا الله واعتمد على شيء سواه صيره عليه عدواً ووبالاً، ليعلم أنه ليس له قوة ولا حيلة ولا لأحد إلا بعصمة الله وتوفيقه، واستعد استعداد من لا يرجو الرجوع، وأحسن الصحبة، وراع أوقات فرائض
الله وسنن نبيه وما يجب عليك من الأدب والاحتمال والصبر والشكر والشفقة والسخاء وإيثار الزاد على دوام الأوقات.
ثم اغسل بماء التوبة الخالصة ذنوبك..
والبس كسوة الصدق والصفاء والخضوع والخشوع.
وأحرم من كل شيء يمنعك من ذكر الله ويحجبك عن طاعته.
ولبِّ بمعنى إجابة صافية خالصة زاكية لله عزّ وجلّ في دعوتك متمسكاً بالعروة الوثقى.
وطف بقلبك مع الملائكة حول العرش كطوافك مع المسلمين بنفسك حول البيت.
وهرول هرباً من هواك تبرياً من جميع حولك وقوتك.
واخرج عن غفلتك وزلاتك بخروجك من منى ولا تتمن ما لا يحل لك ولا تستحقه..
واعترف بالخطايا بعرفات.. وجدد عهدك عند الله بوحدانيته، وتقرب إلى الله واتّقه بمزدلفة.. واصعد بروحك إلى الملأ الأعلى بصعودك إلى الجبل..
واذبح حنجرة الهواء والطمع عند الذبيحة..
وارم الشهوات والخساسة والدناءة والأفعال الذميمة عند رمي الجمرات.
واحلق العيوب الظاهرة والباطنة بحلق شعرك..
وادخل في أمان الله وكنفه وستره وكلاءته من متابعة مرادك بدخولك الحرم.
وزر البيت متحققاً لتعظيم صاحبه ومعرفة جلاله وسلطانه..
واستلم الحجر رضاء بقسمته وخضوعاً لعزته..
وودع ما سواه بطواف الوداع..
واصف روحك وسرك للقاء الله يوم تلقاه بوقوفك علىالصفا..
وكن ذامروَّة من الله تقياً أوصافك عند المروة..
واستقم على شرط حجتك ووفاء عهدك الذي عاهدت به مع ربك وأوجبت له إلى يوم القيامة )) ( 4).
وعندما يلتزم الحاج بهذه التعليمات القيمة، والتوصيات الهامة، فإنه يعود من الحج وقد حاز على قبول حجه، وفاز بالثواب والأجر الجزيل، وحصل على رضا خالقه عنه، كما أنه يعود من الحج وقد طهَّر نفسه من الرذائل المادية والمعنوية، واكتسب السمات السلوكية السوية.. وهذه من أهم حِكَم الحج.
الشيخ عبد الله اليوسف
ـــــــــــــــــــ
(1 ) نهج البلاغة، ج1، ص81، خطبة رقم 1.
(2 ) سورة الحجرات، 13.
(3 ) نهج البلاغة، ج1، ص81، رقم الخطبة 1.
(4 ) البحار، ج96، ص124، رقم 1.
الحج، رموزٌ وحِكَمْ
مظهر التوحيد
الخلوص شرط معتبر في تمام العبادات، إلاّ أنّ تجلّيه في بعضها يبدو أكثر ظهوراً، كما وطرد الشرك أكثر قوّةً ووضوحاً، ومن بين هذه العبادات الحجّ، الذي يتجسّد فيه التوحيد، ويظلّ من بدايته وحتى نهايته، أنموذجاً عن التوحيد ونفي الشرك، من هنا كان تركه كفراً (1).
ومعنى تجلّي التوحيد في الحج أن تنزّله في درجاته يصيّره حجاً، كما أنّ صعود الحجّ كذلك يبلغ به الله تعالى أو يتحوّل إلى التوحيد. يقول الإمام الصادق(عليه السلام) فيما ينقل عنه من دعاء سفر الحجّ: «… بسم الله دخلت، بسم الله خرجت وفي سبيل الله…» إلى أن يقول: «فإنما أنا عبدك وبك ولك» (2).
وعلى أساس هذه الرواية، يغدو الحج سيراً نحو الله سبحانه، ورحلةً إلى لقائه، وسعياً للقرب منه، ومن الواضح أنّ العبد لا يقدر على التقرّب من مولاه إلاّ بالتوحيد الدائم الأصيل، ونفي الشرك الجليّ والخفي.
الشاهد الآخر هنا كلام النبي(صلى الله عليه وآله) في سفر الحج بعد حمل الجهاز على الراحلة: «هذه حجة لا رياء فيها ولا سمعة»، ثم قال: «من تجهّز وفي جهازه علمٌ حرام لم يقبل الله منه الحج» (3).
وعليه، فالحج توحيد مجسّم وأنموذج من التوحيد الجامع، والتوحيد هو تلك الفطرة التي خلق الله الناس عليها، والتي لا تبديل لها…
الوحي المجسّم
الحجّ تمثيل للوحي، ذلك أن مناسكه تجلّت بالوحي وظهرت، وقد أخذها الأنبياء عن الملاك الأمين على الوحي جبريل(عليه السلام).
وتوضيح ذلك أنّ النبي إبراهيم(عليه السلام) طلب من الله سبحانه بعد بناء الكعبة أن يُبدي له كيفية العبادة في هذا البيت: ﴿وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا﴾ (4)، وبعد هذا الطلب جاءه جبرائيل، وأنجز أمامه أعمال الحجّ، ودلّه على مناسكه بصورة عينية خارجية، ليقوم الخليل(عليه السلام)بتكرار هذه الأعمال بعده (5).
إنّ هذه الإراءة والتعليم لم يكونا شيئاً جديداً ولا من مختصات إبراهيم(عليه السلام)، بل قد تقدّمه آدم(عليه السلام) في هذا المضمار، حيث ظهر له جبرئيل، كما ظهر أيضاً على أفضل الأنبياء وخاتمهم (6)، حيث أخذ منه الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) مناسكه.
يقول الإمام الصادق(عليه السلام) في هذا المجال: «إنّ الله بعث جبرئيل إلى آدم، فقال: … إن الله أرسلني إليك لأعلّمك المناسك التي تطهر بها…» (7).
ويقول الإمام الصادق(عليه السلام) أيضاً: «كنت أطوف مع أبي، وكان إذا انتهى إلى الحجر مسحه بيده، وقبّله، وإذا انتهى إلى الركن اليماني التزمه، فقلت: جعلت فداك، تمسح الحجر بيدك وتلزم اليماني؟ فقال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): ما أتيت الركن اليماني إلاّ وجدت جبرئيل قد سبقني إليه يلتزمه» (8).
وبعد أن اتضح أنّ الحجّ وحي ممثل، وأنّ باني الكعبة قد تعلّم مناسكه بالمشاهدة والعيان، لزم أن يكون الناس مأمورين بإقامة هذه المناسك التي ورثوها عنه، علّهم يرون بعضاً قليلاً مما كان رآه(عليه السلام)، قال تعالى: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ…﴾ (9); ذلك أن ما يفهم من كلمة (يأتوك) في هذه الآية هو مجيء الناس عند إبراهيم(عليه السلام)، وبلوغهم ما كان(عليه السلام)قد بلغه من قبل، لا مجرّد السفر إلى مكّة وزيارة الكعبة، ذلك أنّ هذا التعبير لا ينحصر بدائرة عمل المناسك والقيام بها.
فالوحيدون الذين يأتون إبراهيم(عليه السلام) هم أولئك الذين كانوا مثله في الوقوف بوجه عابدي الهوى والأصنام (10)، والتبرّي من الكفر والنفاق وما يعبدون (11)، مهيئين لتلقي ألوان المخاطر (12)، بعقيدة حنيفية وسلوك كذلك (13)، وقلب سليم (14)حاضر في محضر الله تعالى.
ومع الأخذ بعين الاعتبار هذه الخصوصيات، قال تعالى: ﴿إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ﴾ (15)، من هنا قدّم رسول الله(صلى الله عليه وآله)قربانه الذي لم يقدّمه إبراهيم(عليه السلام) نفسه، ألا وهو الحسين بن علي(عليه السلام).
ومع ملاحظة النقاط المشار إليها يتضح أمامنا سرّ عرض إمام الزمان(عليه السلام)نفسه في بداية نهضته ضدّ الظلم ولأجل العدل على أ نّه أولى الناس بالأنبياء سيما إبراهيم الخليل ورسول الله(عليهما السلام): «إن القائم إذ خرج، دخل المسجد الحرام فيستقبل الكعبة، ويجعل ظهره إلى المقام، ثم يصلّي ركعتين، ثم يقوم فيقول: يا أيها الناس! أنا أولى الناس بآدم. يا أيها الناس! أنا أولى الناس بإبراهيم…» (16).
ومن ذلك كلّه يتضح البُعد السياسي للحج، أي البراءة من المشركين وتجافيهم وإعلان الانزجار منهم، وقطع أيديهم وتدخلاتهم، ذلك كلّه بشكل واضح وعلني هو ما يمثل المناسك السياسية للحج.
المعاد المجسّم
لا يُعثر على الحج بمناسكه الخاصة به في أ ي عبادة أخرى، ولا يعلم تأويلها غير الله سبحانه، فهو معاد مجسّم، وحكاية عن يوم البعث والنشور، وكاشف واضح عن يوم الحشر، ذلك أن الناس تلبي هناك نداءاً واحداً على مابينها من اختلاف في اللغات والألوان، فتجيب أمراً واحداً، وتستجيب لصرخة واحدة، ولا آمر يُصدر أوامره لهم عدا الله الواحد القهار.
إن مناسك الحج أنموذج حيّ لأحداث القيامة والحشر الأكبر، وتمثُّل جلي لحشر الناس يوم القيامة عراة في يوم معاد.
ونشير هنا إلى نماذج من تجلّي المعاد في الحجّ:
1- اجتماع الحجاج في المواقيت وعند المواقف.
2- انفراد كل إنسان لوحده في ظلّ هذا الجمع، تماماً كما هو الحال يوم المعاد، فهو وإن كان «جمعاً» تلتئم الناس فيه وتلتف حول بعضها ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ (17)، ﴿إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ / لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ﴾ (18)، إلاّ أ نَّه يوم يعود الجميع فيه إلى الله فرادى، كما قال تعالى: ﴿وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾ (19).
3- فرار الناس من غير الله إلى الله تعالى، كما يقول الإمام الباقر(عليه السلام) في تفسير قوله تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ (20): «حجّوا إلى الله عزّوجلّ» (21).
4- تعرّيهم من اللباس ومظاهر الحياة الدنيوية.
5- تجرّدهم عن زينة الدنيا وبهرجها.
6- رؤية الآيات الواضحة التي كانت مخفيةً عليهم في ديارهم.
7- خلعهم على أنفسهم لباس الإحرام، وهو لباس شبيه بالكفن، ويستحب للحاج أن تكون قطعتا الإحرام كفنه، كما كُفّن النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله) في لباس إحرامه (22).
8- تذلّل الحجيج وتواضعهم أمام الله سبحانه، حتى أ نّهم يحجون مشاةً حفاةً بأرجل عارية، ذلك أ نّه «ما عبد الله بشيء أفضل من المشي» (23).
من هنا، حجّ الإمام الحسن المجتبى(عليه السلام) عشرين حجةً ماشياً (24)، وفي هذا الصدد يقول الإمام الصادق(عليه السلام): «جُعل السعي بين الصفا والمروة مذلّةً للجبارين» (25).
9- اعتراف الناس بذنوبهم التي ارتكبوها.
10- أمن الناس بل والوحوش والطيور.
11- حماية الحجاج من التعدّي والجدال، وكلّ ما يوجب أذية المحرم أو عذابه، وهو تجسيدٌ واضح لقوله تعالى: ﴿لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ﴾ (26).
وحصيلة القول: الحج مظهر المعاد وتجسيده، وحيث كان المعاد رجوعاً إلى المبدأ كان أساساً للإسلام الكلي والخالد، لذا غدا الحج من أهم مظاهر الإسلام وأركانه.
الولاية روح الحج
لا نفع للحج بدون الولاية، ولا لقصد الكعبة من دون الإمامة، ولا لحضور عرفات دون معرفة الإمام، ولا للأضحية في منى دون التضحية في طريق الإمامة، ولا لرمي الجمرة دون طرد شيطان الاستكبار الداخلي والخارجي، ولا للسعي بين الصفا والمروة دون السعي لمعرفة الإمام وطاعته… ذلك أ نّه وإن كان من أركان الإسلام ومبانيه، إلاّ أنّ الحج والصلاة والزكاة والصوم لا يضاهون الولاية في ركنيتها الراسخة والقوية للإسلام، «ولم يُناد بشيء كما نودي بالولاية» (27).
منشأ حرمة الكعبة وعزّتها
من جملة الأمور التي أقيمت عليها البراهين العقلية، ضرورة انتهاء كلّ ما بالعرض إلى ما بالذات، ووفقاً لهذا المبدأ الذي توافق عليه البرهان والقرآن، وكما أنّ كلّ عزّة- طبقاً لتصريح النص القرآني- تنتهي إلى عزّة الله سبحانه: ﴿لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (28) و ﴿لِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ (29)… وفقاً لذلك كلّه فإن حرمة الكعبة وعزّتها لابدّ أن تنتهي إلى حرمة الحقّ سبحانه وعزّته تماماً، كما إذا دار الأمر بين هدم الكعبة وهدم الحقّ فإن الكعبة تغدو حينئذ قرباناً فداءاً للحق.
ولتوضيح الأمر لابدّ من القول: للحرم أحكام تبيّن عزّته وفضيلته، وتمام هذه الأحكام ناتج عن حرمة الكعبة وعزتها، وشاهد ذلك ما جاء في الرواية عن أميرالمؤمنين(عليه السلام)حول سرّ الوقوف في عرفات، وعدم وجوب الوقوف في الحرم حيث قال: «لأن الكعبة بيته، والحرم بابه، فلّما قصدوه وافدين وقفهم بالباب يتضرّعون»، ثم سئل الإمام(عليه السلام) عن جعل المشعر الحرام من الحرم فقال: «لأنّه لما أذن لهم بالدخول وقفهم بالحجاب الثاني، فلمّا طال تضرعهم بها أذن لهم بتقريب قربانهم، فلمّا قضوا تفثهم تطهّروا بها من الذنوب التي كانت حجاباً بينهم وبينه أذن لهم بالزيارة على الطهارة» (30).
وعليه، فحرمة الأرض التي احترم الله كلّ ما فيها إنما جاءت من حرمة الكعبة نفسها، إلاّ أنّه مع كون الكعبة القبلة الوحيدة، ومطاف العالمين، وموت المسلمين جميعهم إلى جهتها، والقصد إليها قصدٌ للهجرة إلى الله سبحانه، وأيضاً رغم أنّ لمكّة خصائص فقهية وسياسية ثابتة، تفتقدها سائر الأماكن والبقاع والمدن، ورغم أن للحج ومواقفه أبعاداً سياسية- عبادية تفتقدها بقية العبادات… إلاّ أن تمام هذه الخصائص والمزايا مرهونة للولاية والإمامة.
وسرّ هذا الكلام أن الإرشادات والإدارات الملكوتية للأعمال والنيات، والأدعية، ومشاهدة الآيات البينات، وفهم الأسرار المعنوية للحج، وأمثال ذلك يتمّ جميعه في ظلال الولاية التكوينية للإمام المعصوم(عليه السلام)، كما أنّ الإدارة والرعاية السياسية للحج ومواقفه، وتوجيه حركة هذا الاجتماع العظيم للصالحين على محور البناء الطاهر الحر، والاستفادة من أفكار أقطار العالم، وارتواء عطاشى الاستقلال والنجاة من الاستعباد والاستكبار العالمي، إنما يكون بالأصالة تحت مظلّة إمامة الإمام المعصوم(عليه السلام) وبالنيابة في عصر الغيبة تحت شعاع نوّابه.
ارتباط الحج وشؤونه بالولاية
ترتبط الجوانب والشؤون المختلفة للحجّ بالولاية، ونعرض هنا شرحاً لكيفية هذا الارتباط بين الكعبة والولاية، وكذلك طبيعة العلاقة بين كلّ من عرفات والمشعر ومنى وزمزم والصفا و… وبين الإمام المعصوم(عليه السلام)، وذلك في ثقافة الوحي ووفق ماجاء على لسان الأئمة المعصومين(عليهم السلام).
1- تتمتع مدينة مكة ودائرة الحرم كلّه ببركة خاصة إثر دعاء الخليل إبراهيم(عليه السلام)، وقد جعلت بهذا الدعاء بلداً آمناً، تماماً كما يقول الله تعالى: ﴿أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ﴾ (31).
إن هذا الأمن الاجتماعي، والاقتصادي وغيره، الذي جاء بيانه في آية ﴿أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ﴾ (32) وآية: ﴿أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ﴾ (33) إنما كان لما للكعبة من حرمة، إلاّ أنّ هذا الاحترام الخاص الذي كان أساساً لقسم الله سبحانه بهذا البلد إنما جاءها من بركات الوحي، والنبوة، والرسالة، والولاية.
وتوضيح ذلك، أن القرآن الكريم أقسم ببلاد وبقاع هامة وتاريخية، كما أقسم بالزمان والأوقات الحسّاسة والتاريخية، نظير عصر الوحي والرسالة (34)، قال تعالى: ﴿لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ / وَأَنتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ﴾ (35).
ففي هذه الآيات يقسم الله سبحانه بأرض مكّة، لكن قسماً مقيداً بكون نبي الإسلام(صلى الله عليه وآله)فيها، وإلاّ فإن مكة من دون النبي، والكعبة من دون قائد سماوي ليستا سوى أرض عادية وبيت عادي غدا تدريجياً بيتاً لعبادة الأصنام، وأصبح أسيراً في قبضة عبدة الأوثان والسائرين خلف ميولهم وشهواتهم حتى أن «أبو غبشان» سادن الكعبة ومن بيده مفاتيحها يبيع مفتاح الكعبة وغلقها إلى رجل يدعى قصي بن كلاب مقابل بعير وزق خمر، وذلك في ليلة ثملة (36).
2- ويعرّف الإمام السجاد(عليه السلام) نفسه وسائر الورثة الحقيقيين الإلهيين في المسجد الجامع بدمشق، بعد الحمد والثناء الإلهيين، والسلام على النبي الأكرم(صلى الله عليه وآله)فيقول: «.. أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا» (37).
إن كلمة «ابن» وأمثالها في اللغة العربية تحكي عن علاقة شديدة وارتباط دائم ومستحكم، فالإنسان الكامل، وهو أصل حرمة المراكز العبادية، وفي الوقت عينه إبنها ووارثها، يرجع في طليعة الأمر إليها ويعمل طبق أحكامها، بل يجعل ذلك كلّه ضمن الشعارات الرسمية للموحدين، فيرغب فيها، ويرهب من الإعراض عنها أو الاعتراض عليها أو معارضتها، وفي المحصّلة النهائية: إنّه حافظ مآثرها وحارس آثارها، إن الأنبياء والأولياء الإلهيين(عليهم السلام) هم كذلك بالنسبة إلى مناسك الحج.
وبعبارة أخرى: إنهم أبناء هذه المواقف العبادية بلحاظ بعض النشآت الوجودية، وهم أمراؤها وأصلها ومصدرها بلحاظ نشآت وجودية أخرى.
ومعنى الكلام النوراني للإمام السجاد(عليه السلام) أن الابن الحقيقي لمكّة إنما هو حامي روح القبلة، وحارس قلب المطاف ونفسه، إن الابن الواقعي لمنى هو ذاك الذي لا يأسف على إيثار بدم أو نثار، بغية حفظ الوحي وما فيه، إنّه يُحكم علاقته بأرض التضحية عبر الفداء والعطاء.
إنّ المولود الحقيقي لزمزم إنما هو الذي يرشّ أفضل الدماء تحت أقدام غرس الإسلام حتى تنمو بذلك وتكبر، كما أن الابن الواقعي للصفا هو الذي لا سبيل للرجس والنجس والرجز إلى حرم قلبه، فهو منزّه- طبقاً لآية التطهير (38)- عن مختلف أنواع الرجس، وكل قذارة ولوث ودنس.
لانفع للحجّ بدون الولاية، ولا لقصد الكعبة من دون الإمامة، ولا لحضور عرفات دون معرفة الإمام الإنسان الكامل هو الإمام المعصوم(عليه السلام) والذي بدونه لا حرمة للحرم ومواقفه، من هنا، فالزائر الذي لا يعرف الإمام المعصوم، ويضع جانباً مسألة الإمامة، ويتخذ إدارة أمور المسلمين في العالم هذواً وباطلاً، ويفصل ما بين قيادة سواد الناس وبين الحج والزيارة وسائر العبادات، ويراها أمراً عادياً يرجع إلى خيار كل فرد من الناس، ولا يرى كرامةً لهداية خلق الله وتدبير أمورهم… لا يعرف في الحقيقة الإنسان، بل لم تطأ قدمه حريم الإنسانية، من هذا المنطلق يتحدّث الإمام الباقر(عليه السلام)عن مثل هذا الزائر والحاج فيقول: «أترى هؤلاء الذين يلبّون، والله لأصواتهم أبغض إلى الله من أصوات الحمير» (39).
ومع الأخذ بعين الاعتبار مقولة رسول الله(صلى الله عليه وآله): «من مات ولم يعرف إمام زمانه فقد مات ميتةً جاهلية» (40) و «كما تعيشون تموتون، وكما تموتون تبعثون، وكما تبعثون تحشرون» (41)، فإن حياة الإنسان الذي لا يعرف إمامه هي حياة جاهلية، وكلّ سننها وشؤونها إنما هي جاهلية في جاهلية، ومن المؤكد قهراً أن زيارة مثل هؤلاء للبيت وحجهم سيكون حجاً جاهلياً، ولن يكون لهم نصيب من الحج التوحيدي، وسيأتي مزيد توضيح.
3- لقد أعدّ الله سبحانه عذاباً لكل من أراد بالكعبة ظلماً وقصداً سيئاً: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (42)، من هنا وانطلاقاً من هذه السنّة الإلهية التي لا تبديل فيها، والحكم الإلهي الخالد، لم تكن واقعة الفيل، والتي تلقّى فيها جيش أبرهة عذاباً إلهياً، واقعةً حصرية لا تكرار فيها أو مجرد صدفة تاريخية.
الأمر الرئيس الذي لا ينبغي الغفلة عنه، وهذه الدراسة متكفلة لبيانه، هو أنّ الكعبة رغم قداستها الخاصة، وحمايتها- منذ قديم الأيام- من أذى حملات أصحاب الفيل وأمثال ذلك، إلاّ أنّه عندما التجأ إليها ابن الزبير وتحصّن فيها، أقدمت حكومة ذلك العصر الجبارة، وعلى يد المنحوس الحجاج الثقفي على قصف الكعبة بالمنجنيق وتدميرها، ثم اعتقال ابن الزبير (43)، دون أن تمتدّ يدٌ من الغيب لتفعل فعلها أو تتدخّل.
يتحدّث الشيخ الصدوق، المحدّث الشيعي الشهير، عن هذا الأمر فيقول: «وإنما لم يجر على الحجّاج ما جرى على تبّع وأصحاب الفيل; لأنّ قصد الحجاج لم يكن إلى هدم الكعبة، إنّما كان قصده إلى ابن الزبير، وكان ضدّاً لصاحب الحقّ، فلمّا استجار بالكعبة أراد الله أن يبيّن للناس أنّه لم يجره، فأمهل من هدمها عليه» (44).
وعليه، فاختلاف أبرهة عن الحجاج في أ نّه ظالم أراد تخريب الكعبة وتدمير القبلة، أما الحجاج فلم يكن يقصد الكعبة بسوء، بوصفها قبلةً ومطافاً، بل كان يريد- فقط- السيطرة على ظالم مثله لم يكن يعرف إمام زمانه، ألا وهو سيد الشهداء والإمام السجاد(عليهما السلام).
نعم، الحجاج كابن الزبير جرثومة لا تعرف الحق، وعنصر مناهض للولاية، وقد كان الطرفان ساعيين للإطاحة بنظام ولاية أهل البيت(عليهم السلام)، وكان خصامهم على حطام الدنيا، لا لعدم مساعدة ابن الزبير لسيد الشهداء والإمام السجاد(عليهما السلام).
ومن هذا الحدث يتضح جيداً أن معارضة الولاية والإمامة أمر منبوذ جداً إلى حدّ أنّ كلّ من يخالف قيادة الإمام(عليه السلام) ويذره وحيداً فريداً دون أن يساعده، بل يتخذ موقفاً مضاداً له، ثم يزعم لنفسه أنه داعية الولاية، لن ينعم بالأمان الخاص الإلهي حتى لو احتمى بالكعبة وقصدها.
ومن هذه الحادثة يعلم جيداً قدر الإمام وحرمة الولاية وعزّة الخلافة الإلهية، تماماً كما يعلم قدر حقه (الإمام) ونورانيته، وجماله، وجلاله، وكبريائه، ومشيئته، وقدرته جيداً بالتحليل العقلي، ذلك أن حرمة الحرم والبلد الأمين إنما تنتهي إلى الكعبة، وحرمة الكعبة تنتهي إلى الإمام الذي اختاره الله سبحانه للولاية، وحرمة الإمام تنتهي بدورها إلى الحق المطلق، أي الله تعالى الذي تخضع له تمام الموجودات وتخشع في حضرته ومكانته.
وعليه، فلو أمهل الله سبحانه ظالماً ليخرّب الكعبة، فلا ينتقض بذلك قوله تعالى: ﴿وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ (45).
تذكّر:
رغم أنهم قتلوا الإمام المعصوم(عليه السلام) وغدا على يديهم شهيداً، إلاّ أنّ حقيقة الإمامة قائمة بروحه الملكوتية التي لا مجال للشهادة فيها، ولا سبيل للموت إليها، على خلاف بدنه الذي يعرف الشهادة، وهذا ما يختلف الحال فيه مع الكعبة التي لا وجود فيها إلاّ للأحجار والأبعاد المادية.
4- ويشاهد الإمام الباقر(عليه السلام) الطائفين بالكعبة، فيقول: «هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية»، فلم يأت الإسلام لكي تستمرّ السنن الجاهلية، ثم يقول: «إنما أمروا أن يطوفوا، ثم ينفروا إلينا، فيعلمونا ولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم» ثم قرأ: ﴿فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾ (46).
وعليه، فثمة وظيفتان على كاهل القادمين من بعيد أو قريب للتشرّف بالكعبة المعظمة هما:
أ- أن يطوفوا ببدنهم حول الكعبة، بوصفها طيناً وأحجاراً.
ب- أن يطوفوا بأرواحهم حول «كعبة القلب» وحرم ولاية أهل بيت النبوة.
وعليه، فأولئك الذين جاؤوا بأرواحهم ليعرضوا ولايتهم على أهل البيت(عليهم السلام)، ويعلنوا جهوزيتهم للتضحية والفداء وتقديم النفوس والإيثار بالمال يحققون حينئذ «حضور الحاضر، وقيام الحجة بوجود الناصر» (47).
5- يقول الإمام الباقر(عليه السلام): «تمامُ الحجّ لقاءُ الإمام» (48)، بعرض الولاية عليه والإعلان عن الاستعداد للفداء والتضحية; وعليه فالحج الذي لا ظهور فيه للإمام والقائد والمرشد سيكون حجاً ناقصاً.
نعم، ذكر الحج في هذا الحديث الشريف إنما جاء من باب التمثيل، لا التعيين، أي أنّه ليس الحج فقط حاله «تمام الحج لقاء الإمام»، بل إنّ «تمام الصلاة والصيام والزكاة لقاء الإمام» أيضاً.
ويؤيد هذا الكلام، أي أن الصلاة والزكاة والصيام وسائر العبادات إنّما يتممها لقاء الإمام وتولّيه، ما جاء في قسم من الحديث المعروف الذي يتحدّث عن قيام الإسلام على خمسة أسس، إذ- وفي إطار التأكيد على مبدأ الولاية- يشير الحديث إلى دور «الوالي» وكونه حجةً ودليلاً على الأركان الأربعة الأخرى، فيقول: «والوالي هو الدليلُ عليهنّ» (49).
وهذه المسألة مستفادةٌ من الآية الكريمة: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ (50)، فقد رضي الله سبحانه لنا الإسلام مع الولاية الإلهية، وعليه، فليس الحج وحده «تمام الحج لقاء الإمام» بل يمكن القول: «تمام الإسلام لقاء الإمام».
ونشير أخيراً إلى أنّه رغم انتهاء احترام الحرم بالكعبة، وحرمة الكعبة بالوحي والنبوّة والرسالة والولاية، إلاّ أنّه- وكما أشرنا مطلع هذا البحث- تختتم تمام هذه الحرمات بالحرمة الإلهية.
من هنا ذكر الله تعالى في إطار شرحه لسبب احترام الكعبة ما جعلها تنتسب إليه فقال: ﴿بَيْتِيَ﴾ (51)، أي أنّ الحرمة الذاتية لله سبحانه هي السبب وراء الحرمة العرضية للبيت الذي ينتسب إليه، حتى لو كانت الكعبة هي الأصل في حرمة الأشياء اللاحقة.
الحج والوجه السياسي
الحج مظهر الحكومة الإلهية السامية
الحج- كما تبيّن- مظهر لأصول الدين المتينة وتجسّدٌ للعقائد الثلاثة:
التوحيد، والنبوّة والعدل، تلك الأصول التي تعدّ ثماراً لشجرة الإسلام الطيبة.
وأحد أطهر هذه الثمار في هذه الشجرة الطيبة هو الحكومة الإسلامية، وهي من أهمّ مظاهر الإسلام، فالمجتمع الذي لا يديره الله ولا يسري فيه أمره مجتمع كفر وطغيان، ومعبود مثل هذه المجتمعات إنما هو الأهواء المختلفة والرغبات المتنوّعة.
بهذه المقدّمة، نصل إلى فهم أسرار بعض مضامين أدعية عرفة، فالمضمون المشترك لدعاء سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام)- وهو أهم دعاء في عرفة- مع دعاء الإمام السجّاد(عليه السلام) الذي اعتبر وجودَ الإمام العادل أساساً لإحياء آثار الدين… المضمون المشترك هو أهمية الولاية في النظام الإسلامي.
وثمة شواهد عدّة على أن الحجّ مظهر الحكومة الإسلامية، وأن لهذه الحكومة تأثيراً على بقائه واستمراره وتكرّره، نشير إليها هنا على الترتيب التالي:
1- كان من أدعية إبراهيم وإسماعيل(عليهما السلام) عند بناء الكعبة: ﴿رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العَزِيزُ الحَكِيمُ﴾ (52).
وسرّ هذا الدعاء والطلب أن الموحدين قد دعوا للحج من تمام نقاط العالم المختلفة وفي تمام الأزمنة والعصور، إذاً فلابد أن يكون هناك من ينظم أمورهم، فعلاوةً على المناسك العبادية للحج لابد أن تكون لديهم أصول وأحكام أخرى تتعلّق بحياتهم السياسية، وهذه هي الحكومة الإسلامية عينها، التي تغدو ضرورةً لتنظيم أمور الحجيج وسياستهم وإرشادهم.
إنّ الدين الذي يقول: «إذا كنتم ثلاثة في سفر فأمّروا أحدكم» (53)، حاشاه أن يذر الناس على حالهم هناك، ولا يضع على هذا الجمع العظيم الذي لا يحصى حاكماً أو آمراً، بل يتركهم يسيّرون أمورهم بأهوائهم ورغباتهم.
وبناءً عليه، كان لزاماً أن يكون هناك من يكون القائد لهم والرائد فيهم، حتى تنظم معاملاتهم، وتصوّب نزاعاتهم، وتنتهي خصوماتهم، وترتّب أنماط معيشتهم وعلاقاتهم ببعضهم بل وعلاقاتهم بسائر الملل والشعوب.
على هذا الأساس، يقول الإمام علي(عليه السلام) لواليه على مكّة: «أقم للناس الحج» (54)، والمستفاد من هذا الأمر أنّ الحجّ لم يقم بعد وفاة النبي(صلى الله عليه وآله) طيلة خمس وعشرين عاماً، عنيت الحج الإبراهيمي والمحمدي (55).
2- يجب على مرشد الدولة الإسلامية وقائدها، أن ينفق قدراً من بيت المال لدفع الناس إلى الذهاب إلى مكة عندما يمتنع عامة المسلمين عن الذهاب إليها أو لا يكون ذلك في مقدورهم، فيدعم مالياً العاجز، ويجبر الممتنع على ذلك.
جاء في الحديث: «لو عطّل الناس الحج لوجب على الإمام أن يجبرهم على الحج، إن شاؤوا وإن أبوا، فإن هذا البيت إنما وضع للحج» (56).
وسرّ تعبير الإمام الصادق(عليه السلام) في هذا الحديث: «إن هذا البيت إنما وضع للحج»، هو أن للكعبة خصوصيات قيمة تدفع الناس للسفر إليها، فإذا لم يسافروا إليها- لقصور أو تقصير- ولم يؤدوا فريضة الحجّ عندها، كان على والي المسلمين أن يجبرهم حتى يتجهوا ناحية البيت الحرام، ويلتحقوا بدائرة الطواف، ولا يتركوا ذلك.
إن هذه هي الحكومة الإسلامية التي يديرها حاكم عادل، ويكون بيت مال المسلمين في يده.
جاء عن الإمام الصادق(عليه السلام) في حديث آخر: «لو أنّ الناس تركوا الحج لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، ولو تركوا زيارة النبي(صلى الله عليه وآله)لكان على الوالي أن يجبرهم على ذلك، وعلى المقام عنده، فإن لم يكن لهم أموال أنفق عليهم من بيت مال المسلمين» (57).
ويستظهر من هذه الرواية أن زيارة الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) بمنزلة تجديد للبيعة معه والميثاق لتحكيم الحكومة الإسلامية.
3- قال الإمام الباقر(عليه السلام): «إنما أمر الناس أن يأتوا هذه الأحجار، فيطوفوا بها، ثم يأتونا فيخبرونا بولايتهم، ويعرضوا علينا نصرهم» (58).
فإذا كانت الحكومة والولاية بغير معنى السياسة فلا حاجة لإخبار الإمام بالولاية وعرض النصرة عليه.
4- يتجلّى الإسلام الذي بعث به الأنبياء في التوحيد الذي يطرد مختلف أنواع الشرك وألوانه، ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ﴾ (59).
ولا ينحصر هذا الإبعاد للشرك والطرد له في مجرّد الاعتقاد القلبي أو الذكر القالبي، بل يستوعب إعلان الانزجار، ونداء التبرّي، وصرخة البراءة من الطغاة الأراذل وكل متجبّر متمرّد لئيم، وهذا ما يتحقق في الحج، ذلك أ نّه موضع «الإعلام» و «الأذان» بتبرّي الإسلام من ألوان الشرك، وأن المسلمين بريؤون من المشركين، وأ نّه لا مودّة ولا أُلفة بين المسلمين والمشركين: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ (60).
ومفاد هذه الآية تبلور البُعد السياسي في الحجّ، وتجلّي الاستقلال الثقافي، حتى لا تبقى سيطرة لأحد من الكفار والمشركين على أيٍّ من المسلمين، فهل يمكن أن يكون ذلك غير تجسيد لأرفع مراتب الحكومة الإسلامية في الحج؟ وهل يمكن طرد رؤوس الإلحاد وتدمير مواقعهم ومتاريسهم إلاّ في ظلّ الحكومة الإسلامية؟!
إذا لم يكن للإسلام حضور سياسي في منى، وهي التي فسّر بها «الحج الأكبر» (61)، فلا يمكن إعلان البراءة من عمّال الجور وعبدة الطاغوت، تماماً كما لا يمكن قيام الناس والمقاومة بحجم العالم، ونشر الاستقامة وتعميمها على العالم- وهو ما بُنيت الكعبة لأجله- سوى بإقامة نظام إسلامي.
ولعلّه لهذه الأسباب أو سائر الأسرار الإلهية المستورة عنا، لم يحج سيد الشهداء الإمام الحسين(عليه السلام) عام 60 للهجرة رغم مجيئه إلى مكّة، فأدى عمرةً مفردةً احتراماً للكعبة (62)، ويؤيّد ذلك، ما جاء في كلامه(عليه السلام) في دعاء عرفة حول الحكومة الإسلامية.
ولمزيد من إيضاح فكرة ظهور الحكومة في الحج وتجلّيها فيه، لابدّ من التركيز المضاعف على ما قام به الرسول الأكرم(صلى الله عليه وآله) في حجة الوداع، وما قاله للناس، وما قرّره لهم من القضايا السياسية الهامة وغيرها.
المظهر التام للتبرّي من الطاغوت
بُعث الأنبياء الإلهيون جميعهم كي لا يفرش نسر الشرك وطائره ريشه فوق قلّة هرم التوحيد، وأن لا يحرموا بشيطان الطاغوت والعصيان في حرم الوحدانية السامي (63)، فالكعبة والحج والزيارة محور التقوى، وأساس الاجتناب عن الطغيان، والتمرّد في وجه الطاغوت.
لقد أظهر المولى سبحانه مناسك الحج بالوحي لخليله إبراهيم (64)، ولا ثمر لذلك ولا نتاج سوى التوحيد، وهذه المناسك التوحيدية هي التي علّمها خاتم الأنبياء(صلى الله عليه وآله)لسالكي طريقه ومتّبعيه، حيث قال: «خذوا عني مناسككم» (65).
وحيث قام بناء التقوى الفولاذي على قاعدة التوحيد التي لاتهتز أو تختلّ، وكان الحج هو التجسيد الجلي للتوحيد; قال الله سبحانه- ضمن إصداره أوامر الحج -: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ… وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى﴾ (66).
وحول الأضحية، وهي من مناسك الحج، التي كانت ممتدّة في تاريخ السنن والعادات الجاهلية مشوبةً بالشرك، يكلّمنا الله تعالى في إرشاد تقوائي فيقول: ﴿لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِن يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنكُمْ﴾ (67)، أي يناله الاجتناب عن الذنوب، والقيام ضدّ العاصي، والتورّع عن المعصية، والثورة ضدّ المذنبين المتمرّدين، والإمساك عن العصيان، والصرخة ضدّ العاصي، والاجتناب عن الطغيان، والهجوم على الطواغيت و… كلّ عبادة هي تبرؤ من الشرك وانزجار من الطاغوت، أما الحج فهو عبادة خاصة امتزجت بالسياسة واختلطت، وإن حضور مختلف شرائح المجتمع العالمي وطبقاته يمثل ظرفاً مناسباً لتجلي روح هذه العبادة- كسائر العبادات الإلهية- في هذا الجمع العظيم، وظهور هذه العبادة الممتازة في تلك الساحة ظهوراً تاماً.
من هذا المنطلق، أمر رسولُ الله(صلى الله عليه وآله)- بأمر من الوحي الإلهي- الناطقَ باسم الحكومة الإسلامية- وهو علي بن أبي طالب(عليه السلام)- أن يعلن البراءة من المشركين (68)، حتى تمتاز بشكل قاطع حدود التوحيد عن الطغيان والشرك، وتتخارج صفوف المسلمين المتناسفة عن صفوف الكفار، فتظهر- عبر ذلك- الصورة السياسية العبادية للحج، ويحمل زوّار الكعبة زاد التوحيد معهم مع استماعهم إلى قرار الحكومة الإسلامية الصادر بالانزجار من الشرك، وإعلان نبذ الصلح والمصالحة مع المشركين (69).
من هنا، ينتشر قرار التوحيد وإعلانه ببركة الكعبة في أقطار العالم المختلفة، تماماً كما يتوجه المسلمون كافة في الكثير من شؤون حياتهم ناحية الكعبة.
محور البراءة من المشركين
لا كمال أرفع ولا أسمى من نيل التوحيد الأصيل الخالص، ولا يمكن ذلك ولا يتسنّى إلاّ بالتنزه والتبرّي التام من مختلف ألوان الشرك والإلحاد، والرفض لكلّ مشرك وملحد.
من هنا، جعل الله سبحانه الكعبة بيت التوحيد، واعتبرها محوراً للبراءة من الذنوب والعصيان والتهاوي، بل مهّد لذلك وهيأ سبله عبر الأمور التالية:
أولاً: أصدر المولى سبحانه وتعالى أوامر لخليله إبراهيم(عليه السلام) بعد إتمام بناء البيت العتيق الطاهر، بيت المواساة والمساواة، وبعد تشريع قرار الأمن للحرم أمام الضيوف والزوار والركع السجود والعاكفين والطائفين، فقال: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ﴾ (70).
والهدف من هذا الإعلان العام دعوة أولئك القادرين على الحضور بشكل طبيعي ومتعارف.
ثانياً: عندما يأتي الجميع، من الشرق والغرب، ومن الشمال والجنوب، ومن القريب والبعيد… فيشتركون في هذا الملتقى الشامل الواسع، تصل النوبة للإعلان المحمدي والأذان، من هنا قال تعالى: ﴿وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ﴾ (71).
كان هذا الإعلان الذي سبق مقدّمةً للإعلان الثاني، الذي هو الهدف النهائي لبناء الكعبة، وإعلامه هذا الهدف النهائي يعني الوصول إلى التوحيد متبلوراً على صورة إعلان براءة الله ورسوله الأكرم(صلى الله عليه وآله) من المشركين، ومادام الإنسان حياً يرزق على وجه البسيطة فإن الحج والزيارة يبقيان في عهدته وضمن مسؤولياته، ومادام ثمة مشرك في هذا العالم مادام إعلان البراءة منه جزءاً من أهم وظائف الحج.
من هنا، تتضح مسؤولية نهوض الأمّة لتطهير الكعبة المقدّسة من ولاية الطغاة والنفعيين الوصوليين، أولئك السرّاق الذين قال عنهم الإمام الصادق(عليه السلام): «أما إن قائمنا لو قد قام لقد أخذهم، فقطع أيديهم، وطاف بهم، وقال: هؤلاء سرّاق الله» (72)
إنّ القيام لتطهير الكعبة وتخليصها من يد الأشرار شريعة إبراهيمية، لا يصرف النظر عنها سوى فاقد العقل، ﴿وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ﴾ (73).
وحيث كان رسول الله(صلى الله عليه وآله) ومن اتبعه وآمن به أولى الناس بإبراهيم، وهو الذي طهّر الكعبة من ألوان اللوث والنجاسة والخسّة و… (74) فعلى الأمة الإسلامية اليوم أن تطهّر بيت الله سبحانه من مختلف القبائح والدنائس والنجاسات.
نعم، ليس المقصود مجرّد إبعاد الجسم المادي للمشرك حتى يُقال: لا مشرك في الحجاز اليوم كي يحصل التبرّي منه في موسم الحج! بل المراد من البراءة إعلان الرفض والتنديد والانزجار من كل فكر مشوب بالشرك، وكلّ تمدّن باطل لأولئك الذين تأثروا بهذا الشرك، وكل استعمار ظالم للملحدين، وكل استثمار طاغ للماديين، وكل استعباد قاس مجحف للمستكبرين، وكلّ استعمار سامريّ (75)للإسرئيليين، وكل استضعاف ماكر للدول العظمى.
والحج أهم الأمكنة التي يتجلّى فيها هذا الأمر، وقمم هذه النهضة، حيث يلزم على المسلمين فيه حفظ حرمة الله تعالى، والسعي لرفع عزة الحقّ عالياً، والتقوّي بقوّته، وأخذ المدد والعون منه، والتخلّق بالأخلاق الإلهية، حتى لا يصيروا موضعاً لظلم الظالمين وبطشهم، فالحج هجرة إلى الله تعالى، يقصده الناس لأداء مناسكه من مختلف نقاط الدنيا.
آية الله جوادي آملي
مجلة ميقات الحج
السنة الثانية عشر- العدد الرابع و العشرون- 1426ه-.
1– آل عمران: 97.
2– وسائل الشيعة 8: 279.
3– المصدر نفسه 8: 103.
4– البقرة: 128.
5– وسائل الشيعة 8: 160 ـ 171.
6– المصدر نفسه.
7– المصدر نفسه.
8– المصدر نفسه 9: 419.
9– الحجّ: 27.
10– الأنبياء 67.
11– الزخرف: 26.
12– الأنبياء: 68.
13– الأنعام: 79.
14– الصافات: 84.
15– آل عمران: 68.
16– بحار الأنوار 51: 59.
17– التغابن: 9.
18– الواقعة: 49 ـ 50.
19– مريم: 95.
20– الذاريات: 50.
21– وسائل الشيعة 8: 5.
22– المصدر نفسه 9: 37.
23– المصدر نفسه 8: 55.
الجيش الإسرائيلي يعتقل 16 فلسطينيا بالضفة الغربية
أعلن الجيش الإسرائيلي، الثلاثاء، اعتقال 16 فلسطينيا في مناطق متعددة بالضفة الغربية، خلال ساعات الليلة الماضية.
وأفاد الجيش في بيان أنه تم اعتقال الفلسطينيين في حملات دهم لمنازلهم بدعوى "الضلوع بنشاطات إرهابية شعبية، وتمت إحالتهم للتحقيق من قبل قوات الأمن".
ووفق إحصائيات رسمية صدرت عن هيئة شؤون الأسرى (تابعة لمنظمة التحرير الفلسطينية) فقد وصل عدد المعتقلين إلى 5700 معتقل.
البعد الحضاري التكريمي في الحج
كل العبادات هي تركيز على ارتباط الإنسان بالمثل الأعلى المطلق الحق سبحانه، ومن ثم فهي توجّه الإنسان نحو حركة تكاملية غير محدودة، وتزيل من طريقه الآلهة المتعملقة التي تُحدّ مسيره أو تقطع عليه الطريق.
غير أن فريضة الحج فيها من المنهج ما يشكّل مدرسة للتكريم وبالتالي إلى الحركة الحضارية، ومن ثم إلى التأدّب بآداب الاختلاف التي لا يُلقّاها الاّ ذو إحساس بالكرامة وبالشعور الحضاري. ونقف عند بعض معطيات الحج في صياغة الجماعة المتحضرة والانسان المتحضّر.
1 ـ الارتباط بالمطلق يحتاج إلى تعبير عملي وسلوك حسّي يعمق الارتباط بالمثل الأعلى الحق ويوجهه الوجهة الصحيحة المنسجمة مع سائر احتياجات الفرد والمجموعة البشرية.
العبادات عامة والحج، بما فيه من مناسك حسيّة، ينهض بدور هام في توثيق الارتباط بالمطلق الحق.
فالحج وفود على الله، ومناسكه تلبية لنداء الله وطواف حول بيت الله وسعي ووقوف ورمي وتضحية في سبيل الله. ومناسكه تلبية لنداء الله. وتوثيق الارتباط بالله له الاثر الكبير في دفع المسيرة نحو الكمال المطلق وإزالة كل العوائق التي تقف بوجه المسيرة.
2 ـ العمل الفردي لا يمكن أن يتحول إلى عمل اجتماعي ذي آثار على المسيرة البشرية إلا إذا تعدّى حدود عامله، أي أن يتجاوز الذات، ويدخل في حياة الآخرين.
والعبادات تربي الإنسان على تجاوز الذات، ومناسك الحج فيها العطاء التربوي الكثير في هذا المجال. القدوم إلى بيت الله الحرام من كل فج عميق، وعلى كل ضامر، والتضحية بالمال وبذل ألوان الجهود كلها تنهض بدور تربية الإنسان على الإيثار وكسر الأنانية.
الأحاديث الشريفة التي تحذر من الرياء في أداء فريضة الحج ومناسكه، تؤكد على حقيقة تجاوز الذات في حركة الإنسان ونشاطه، وتربي الإنسان على العمل المساهم في دفع عجلة المسيرة التاريخية نحو كمالها المنشود.
3 ـ ذكرنا دور الشعور بالمسؤولية باعتباره ضمانًا لاستمرار المسيرة وتكاملها. والشعور بالمسؤولية هو الإحساس الداخلي الدافع للإنسان على الالتزام بالمسيرة وضبط النفس على مواصلة الطريق، وفي مناسك الحج تعليمات كثيرة تربي هذا الإحساس بالمسؤولية، وتمرّن الإنسان على الانضباط الدقيق أمام المطلق الحق ورقابته الغيبية. وتتجلى هذه التعاليم بوضوح فيما يجب ويستحب ويكره ويحرم على الإنسان المحرم في موسم الحج، كما تتجلّى في الآية التي تتحدث هن عطاء الهدي، حيث تنفي أن يكون الهدي تكريسًا لذات الله، كما تفعل الآلهة المتفرعنة في أوامرها لأتباعها، وتؤكد أن الهدف من الهدي هو «التقوى»، أو الانضباط على خط المسيرة.
(لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ).
4 ـ الحج تربية للامة على (الحركة) في طريق المطلق الحق. ولعل فريضة الحج أكثر فرائض الله احتفالا بالحركة من طواف وسعي وإفاضة. وهذه الحركة المستمرة إشعار للموحدين على أن الارتباط بالمطلق الحق لا ينفك عن الحركة على سبيله، وتأكيد على أن الخمود والجمود يعني الانحراف عن الطريق الذي أراده الله للامة المسلمة.
5 ـ حركة المسلمين في إطار مناسك الحج تتميز بالجماعية والتنسيق وزوال الفوارق. وهي تجسِّد المسيرة الصحيحة نحو الإله الواحد الأحد. فهي مسيرة جماعية تتجه فيها المجموعة البشرية نحو هدفها التكاملي، وليست مسيرة هذا الفرد أو ذاك. كما أنها ليست بالمسيرة المبعثرة المتفرقة المتشعبة، بل منسّقة تتجه في كل منعطفات التاريخ اتجاهًا منسقًا موحدًا كما أن المسيرة تتميز بزوال الفوارق الطبقية العنصرية.
جميع هذه المظاهر اللازمة للمسيرة البشرية على طريق الله نشهد مظاهرها في حركة الحجاج المجردين من كل مظاهر الزينة والتفاخر والموحّدين في الملبس والمتّجهين بنسق واحد في حركة الطواف والافاضة.
6 ـ التحرك الواعي على طريق المسيرة. فالوعي والتفتح أو «استماع القول واتباع أحسنه» بالتعبير القرآني من صفات المسيرة المتجنبة للطاغوت، والمنيبة إلى الله.
هذه الصفة تتجسد في حركة الحجاج من خلال تأكيد الإسلام على عدم الوقوف عند الشكل الظاهر من الشعائر، بل تجاوز الظاهر للتوغل إلى عمق الشعائر.
الجهل في تاريخ البشرية ينطلق من قاعدة واحدة على مرّ العصور وهي عدم التوغل في مظاهر الحياة المشهودة وعدم التعمّق في كنهها. وعلى العكس من ذلك العلم، فهو ينطلق دومًا من ذهن ألف الانتقال من المظاهر إلى الأعماق. كم من إنسان شاهد على مر التاريخ سقوط تفاحة من الشجرة وهو غير مبال بهذا السقوط المألوف العادي. لكن الذهن المتفتح انتقل من هذا السقوط العادي إلى اكتشاف قانون الجاذبية.
مشكلة الجهل هذه قائمة حتى في المجتمعات المتطورة في العلوم المادية اليوم، وتتمثل في افتتان الإنسان الغربي بما اكتشفته من معادلات وقوانين، فحوّلها إلى مطلق لا يرى وراءها المطلق الحقيقي، «وأصبح يقدم للعلوم المادية فروض الطاعة والولاء، ويرفض من أجلها كل القيم والحقائق التي لا يمكن قياسها بالأمتار أو رؤيتها بالمجهر».
7 ـ التحرك المثمر. وقد ذكرنا أن الحركة على طريق المطلق الحق مقرونة دومًا بالعطاء وعطاء الحج نموذج مصغّر لذلك.
وهنا لابد من الإشارة إلى أن الإسلام ترك للامة المتحركة، بوعيها على متطلباتها الحياتية، أن تشخص المنافع التي تجنيها من موسم الحج، ولذلك جاءت كلمة (منافع) الحج في الآية بصيغة النكرة، لتؤكّد على مطلق المنافع التي تراها الأمة الواعية السائرة على خط الله مقومة لوجودها.
(وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ، لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ).
جدير بالذكر أن هذه المنافع لا تتحقق إلا عندما تكون هناك «أمة»، وتكون هناك «حركة» على طريق الله، عند ذاك تكون الحركة مقرونة بالعطاء ومقرونة بالمنافع بما في ذلك حركة الامة في موسم الحج. أما عندما تطوف بالبيت مجموعة بشرية راكدة هامدة كالذي كان يفعله الجاهليون قبل الإسلام، فلات حين عطاء، ولاتَ حينَ منافع. لأن هذه المجموعة البشرية لا تستطيع أن تفهم سبلَ الاتجاه نحو العطاء: ) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ(. )إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(.
8 ـ الهدم والبناء عمليتان ترافقان كل حركة اجتماعية تكاملية.
حينما تكون الحركة على طريق الله، يتوازن الهدم والبناء فيها بشكل ينسجم وطبيعة واقع التحرك البشري، دونما إفراط في الهدم ووقوع في الفوضوية، ودونما إفراط في الاتجاه نحو البناء وإهمال عملية الهدم والوقوع بالتالي في عملية المراوحة خلف الحواجز والسدود.
عمليات بناء الإنسان المتحرك والمجموعة البشرية المتحركة على خط الله استخلصناها في معطيات الحج المذكورة آنفًا، وهنا نشير إلى اقتران هذه العمليات بالهدم اللازم لاستمرار الحركة.
رمي الجمار الكبرى والوسطى والصغرى مرات في مناسك الحج يرمز إلى جانب هام من جوانب حركة الإنسان المتمثل في صراعه لكل العوامل المضادة التي تقف في طريق حركته.
الجمار ترمز إلى الشيطان كما جاء في الروايات الإسلامية، والشيطان يمثل كل عوامل صد الأمة عن مسيرتها نحو الله. ورمي هذه الجمار يرمز إلى مقارعة هذه العوامل المضادة بالقوة وعلى الحاج أن يتجهز مسبقًا بسلاح الرمي من المشعر الحرام، فيلتقط منه حصياته، ويتجه إلى منى للرمي.
انطواء مسيرة الحج على تقديم الأضحية في سبيل الله يشعر أيضا بأن الروح السلمية الوادعة التي يحملها الحاج حين الإحرام حتى بالنسبة للبهائم وحشائش الأرض، ينبغي أن تقترن بروح التضحية لأن المسيرة التكاملية نحو الله تتطلب ذلك.
9 ـ المسيرة المتصلة، القرآن الكريم يفيض في شرح قصص الأنبياء والأمم السابقة ليخلص منها إلى نتيجة واحدة هي إن السنن الحاكمة على مسيرة التوحيد واحدة على مر التاريخ وهكذا السنن الحاكمة على خط الشرك واحدة أيضا لا تتغير.
هذه النتيجة توضح للامة المسلمة أنها تسير على خط عريق تمتد جذوره الى أعماق التاريخ سار عليه كل الأنبياء والصالحون في التاريخ وهو خط له سننه الخاصة وقوانينه التي لا تتغير ولا تتبدل، ولا يخفي مالهذا الاستشعار من عطاء ثر يؤصّل إيمان الأمة المسلمة بطريقها ويفسح لها فرصة الاستفادة من تجارب الرهط الكريم الذي سبقها في موكب الإيمان.
الحج ينهض بدورهام في التأكيد الحسي على هذا الاتصال. فالأمة المسلمة تطوف حول نفس البيت الذي وضع قواعده إبراهيم وتسعى وتهرول على نفس طريق المرأة الصالحة هاجر، وتضحي استشعارًا لتضحية إسماعيل. وبذلك تنشد الامة المسلمة بمسيرة التوحيد التاريخية العريقة بكل ما تتطلبه المسيرة من صبر ومعاناة وتضحيات واستقامة ومواصلة.
الأبعاد الجوهرية في حركة الحج
إن من أبرز خصائص الإسلام نظرته الشاملة إلى الإنسان، فيما يريد أن يحققه من غايات في تنمية شخصيته ومسيرته، ولذا يؤكد على أنّ الإنسان كائن ذو أبعاد مختلفة تلتقي فيها الشخصية الفردية بالشخصية الاجتماعية من دون تصادم وانفصال.
يقول تبارك وتعالى: ﴿ الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ ﴾.
إن من أبرز خصائص الإسلام نظرته الشاملة إلى الإنسان، فيما يريد أن يحققه من غايات في تنمية شخصيته ومسيرته، ولذا يؤكد على أنّ الإنسان كائن ذو أبعاد مختلفة تلتقي فيها الشخصية الفردية بالشخصية الاجتماعية من دون تصادم وانفصال.
العبادة توازن واستقامة:
ومن هنا أنبَّه على أنّ الخروج عن التوازن والاستقامة هو انحراف عما رسمه الله للإنسان في هذه الحياة؛ فقد جاء في بعض كلمات الإمام الصادق (عليه السلام): “ليس منا من ترك دنياه لآخرته، ولا آخرته لدنياه” [المحجة البيضاء: ج 7 ص 418]، وفي الحديث الشريف: “من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم”… فالعزلة عن الحياة والفردية المغرقة في الذات لا تمثلان قيمة كبيرة من قيم الإسلام في الحياة.
وإذا ما تحرك الإسلام في خط التربية الفردية لحياة الإنسان، فلأنه يريد أن يختار له من الصفات الكريمة ما يرفع مستوى إنسانيته، ويحقق له الشخصية الخيّرة في الحقل الاجتماعي؛ فالإسلام يجد في الكمال الإنساني الفردي مفتاحاً للدخول إلى الكمال الإنساني الاجتماعي..
وقد يتساءل البعض: لماذا أراد الإسلام – وهو يريد أن يرتفع بروح الإنسان إلى الله – أن يثير هذه النظرة الشمولية في تشريعه للعبادات؟!
لقد كانت النظرة للدين – قبل الإسلام – أن يعيش فيها الإنسان روحانية الخشوع والخضوع والعبودية لخالقه.. وبذلك كانت الرهبانية مظهر السمّو في الروح والإخلاص في العبادة؛ لأنها تعزل الإنسان عن كل زخارف الحياة وشهواتها ومشاكلها وقضاياها الصغيرة، وتربطه بالله.
وبدأ الإسلام في تغيير هذه النظرة للعبادة من خلال تغييره للنظرة إلى دور الإنسان في الحياة.. فكيف ينظر الإسلام إلى دور الإنسان؟!
إذا كان الإنسان هو خليفة الله في الأرض..
وإذا كانت الأرض هي الساحة التي يريد الله لعباده أن يحققوا فيها إنسانيتهم في خطّ الرسالات..
وإذا كانت الأرض هي المكان التي يخطط فيها الإنسان برامجه ونموه وتقدمه على أساس سنن الله في الأرض..
إذن تمثل العبادة باعثاً على تحقيق هذه المعاني في نفس الإنسان وحياته بطريقةٍ أفضل، وبإخلاص أكمل..
وفي الحديث المأثور عن النبي (صلى الله وعليه وآله): “الْخَلْقُ كُلُّهُمْ عِيَالُ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، فَأَحَبُّهُمْ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ أَنْفَعُهُمْ لِعِيَالِهِ». وهو عينه ما ترجمه علي (عليه السلام) في مقولته: “النَّاسُ صِنْفَانِ إِمَّا أَخٌ لَكَ فِي الدِّينِ وَإِمَّا نَظِيرٌ لَكَ فِي الْخَلْقِ”، فمنهم من تعيش آفاق دينك ومنهم من تعيش معه آفاق إنسانيتك.
قيمة الحج بين العبادات:
أولاً: نلتقي بالصلاة في الإسلام فنجدها – في القرآن الكريم – وسيلةً من وسائل تنمية الشخصية في خط الخير والصلاح والسمو الإنساني، والابتعاد عن خط الفحشاء والمنكر سواء في ذلك ما يمارسه الإنسان في حقله الفردي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي، انطلاقاً من شمول كلمة الفحشاء والمنكر لكل الأوضاع السلبية، التي يريد الإسلام للإنسان الابتعاد عنها في جميع هذه الأمور، فلا قيمة لصلاة الطغاة والمتكبرين والظالمين والمتعاونين معهم، والخائنين لأمتهم ولدينهم، كما لا قيمة لصلاة السارقين والكذَّابين والزناة والمغتابين والنّمامين والآكلين للحرام من مال أو طعام.. لأنّ الصلاة لم تحقق للإنسان شيئاً عملياً في خط الاستقامة أو البعد عن الانحراف.
ولهذا جاء الحديث عن أهل البيت (عليه السلام) يرفض أن يكون طول الركوع والسجود مقياساً لمعرفة الرجل؛ لأنّ ذلك ربما يكون جارياً مجرى العادة، واعتبر المقياس – بدلاً من ذلك – صدق الحديث وأداء الأمانة؛ لأنهما يدخلان في عمق الشخصية الإسلامية..
ثانياً: نلتقي بالصوم الذي جعله الله فريضة ليحقق للإنسان من خلالها شخصية التقوى التي تقف عند أبواب الحرام المفتوحة أمامها فلا تدخلها. فالصوم هو: الرفض العملي لكل الأوضاع المنحرفة في الواقع السياسي والاجتماعي انطلاقاً من إرادته الإسلامية القويّة التي ترفض الحرام في العمل الفردي؛ لترفضه في نهاية المطاف في الواقع الاجتماعي والسياسي العام.
ثالثاً: ونلتقي مع الحج… فقد جعله الله فريضة على كل من استطاع إليه سبيلاً، وجعل التارك لها في حكم الخارج عن الإسلام..
وقد تعبّد الله به عباده منذ النبي إبراهيم (عليه السلام)، وأضاف الإسلام إليه شروطاً وأحكاماً وحدّد له أهدافاً، ورسم له خطوطاً من أجل أن يحقق للإسلام الدور الكبير في الحياة، فيزيد من فاعليته وامتداداته، فلم يقتصر فيه على جانب واحد من جوانب التربية، بل استوعب المعاني التي تنطلق من العبادات الأُخرى:
1 – شرّع الإحرام في كل التزاماته وتروكه؛ ليحقق للإنسان أهداف الصوم، لا في جوع الجسد وظمأه، بل تهذب فيه نزعة القوة، ونزعة التعلق باللذة، ونزعة الترف، ونزعة الكبرياء، فيعيش حينئذ السلام والانضباط والتوازن والخشونة والتواضع.
2 – وشرّع الطواف حول البيت وجعله صلاة؛ ليعيش معه الإنسان آفاق الصلاة وروحيتها حيث أراد الله أن يكون البيت العتيق، فيما يمثله من مشاعر الطهارة والنقاء والخير والبركة والرحمة والمحبّة. لتكون الحياة حركة في طريق الأهداف التي يحبّها الله ويرضاها..
3 – وفرض السعي بين الصفا والمروة، ليعيش الإنسان سعيه في سبيل الخير، وابتعاداً عن طريق الشرّ.. فينبغي لنا أن نطلق السعي في مجالات الحياة الأُخرى، في كل آفاقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، في اتجاه الحصول على رضا الله في كل أمورنا..
4 – أمّا الوقفات التي أرادها الله في عرفات والمشعر ومنى، فإنها وقفات تأمل وحساب وتدبّر وانطلاق؛ ليستعيد فيها الإنسان مبادئه التي قد تضيع في غمرات الصراع، التي يخوضها في سبيل لقمة العيش، أو في سبيل تحقيق رغباته ومطامعه المشروعة وغير المشروعة.
5 – وجعل الأضحيّة رمزاً حيّاً للتضحية والعطاء فيما يرمز إليه من تاريخ إبراهيم وإسماعيل، عندما أسلما لله وانتصرا على نوازع العاطفة وحب الذات.. وانتهى الأمر إلى أن فدَّاه الله بذبح عظيم؛ ليكون ذلك خطاً عملياً، تسير عليه الحياة في كل مرحلة تحتاجها للتضحية والعطاء..
6 – وكان رجم الشيطان، إيحاءً بما يريد الله للإنسان أن يعيش في حياته كأهم يومٍ يواجه فيه خطوات الشيطان في فكره وعاطفته وقوله وفعله، وانتماءاته وعلاقاته العامة والخاصة. وربما كان في هذا التكرير في الفريضة لرجم الشيطان «الرمز» إشارة بأنّ قضية محاربة الإنسان للشيطان ليست قضية حالة واحدة يعيشها الإنسان ويتركها، بل هي قضية متجددة في كل يوم..
لذلك كله لا يبقى هذا مجرّد عبادة يهرب فيها الإنسان من الواقع ليغيب في مشاعره الذاتية في جوٍّ مشبعٍ بالضباب، كما يحاول البعض أن يصوّر العبادة..
فلقد جاء التنبيه أن نعيش الحج كشكل خارجي يؤديه الإنسان بدون روحٍ وبدون معنى، كأكثر الذين يعيشون الحج عادةً وتقليداً وسياحةً وتجارةً فينطبق عليه ما ورد عن الإمام الصادق (عليه السلام) عندما نظر من معه إلى الجموع المحتشدة في الموقف، فقال: “ما أكثر الضجيج وأقل الحجيج”! إذ لا قيمة للعدد إذا لم يكن يتحرك في عمق القيم الروحية في الحياة، فمثل هؤلاء يكونون عبئاً على الحياة بدلاً من أن يكونوا قوّة لها.
المنافع العامة:
إنّ أوّل ما نلتقي به من نصوص الحج هو النداء الأوّل الذي وجّهه الله للنبي إبراهيم (عليه السلام) في دعوة الناس إلى الحج.. وذلك في قوله تعالى: ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴾ [الحج: 27 – 28].
فإننا نجد في هذا النداء دعوةً إلى أن يشهدوا منافع لهم من دون تحديد لطبيعتها وحجمها، للبحث عن كل المجالات النافعة التي يمكن لهم أن يحققوها من خلال الحج في حياتهم الفردية والاجتماعية إلى جانب الروح العبادية المتمثلة بذكر الله في أيّام معدوداتٍ، شكراً لنعمه وتعظيماً لآلائه وتطبيقاً لتعليماته. وبهذا يكون التشريع حركةً متجدّدة في خطّ الإبداع والنمو والتقدم..
الحجّ ملتَقى المسلمين:
أ – عن هشام بن الْحَكَم قال: سَأَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللهِ (عليه السلام) فَقُلْتُ لَهُ: مَا الْعِلَّةُ الَّتِي مِنْ أَجْلِهَا كَلَّفَ اللهُ الْعِبَادَ الْحَجَّ وَالطَّوَافَ بِالْبَيْتِ؟
فَقَالَ: ” إِنَّ اللهَ خَلَقَ الْخَلْقَ «إلى أن قال» وَأَمَرَهُمْ بِمَا يَكُونُ مِنْ أَمْرِ الطَّاعَةِ فِي الدِّينِ وَمَصْلَحَتِهِمْ مِنْ أَمْرِ دُنْيَاهُمْ، فَجَعَلَ فِيهِ الِاجْتِمَاعَ مِنَ الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ لِيَتَعَارَفُوا، وَلِيَنْزِعَ كُلُّ قَوْمٍ مِنَ التِّجَارَاتِ مِنْ بَلَدٍ إِلَى بَلَدٍ وَلِيَنْتَفِعَ بِذَلِكَ الْمُكَارِي وَالْجَمَّالُ، وَلِتُعْرَفَ آثَارُ رَسُولِ اللهِ (صلى الله وعليه وآله) وَتُعْرَفَ أَخْبَارُهُ وَيُذْكَرَ وَلَا يُنْسَى، وَلَوْ كَانَ كُلُّ قَوْمٍ إِنَّمَا يَتَّكِلُونَ عَلَى بِلَادِهِمْ وَمَا فِيهَا هَلَكُوا وَخَرِبَتِ الْبِلَادُ وَسَقَطَتِ الْجَلَبُ وَالْأَرْبَاحُ وَعَمِيَتِ الْأَخْبَارُ، وَلَمْ تَقِفُوا عَلَى ذَلِكَ، فَذَلِكَ عِلَّةُ الْحَجِّ” [وسائل الشيعة: ج 11 ص 14].
ب – وعن الفضل بن شاذان عن الإمام علي الرضا (عليه السلام) – في حديث طويل – قال: إِنَّمَا أُمِرُوا بِالْحَجِّ لِعِلَّةِ الْوِفَادَةِ إِلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَطَلَبِ الزِّيَادَةِ وَالْخُرُوجِ مِنْ كُلِّ مَا اقْتَرَفَ الْعَبْدُ تَائِباً مِمَّا مَضَى، مُسْتَأْنِفاً لِمَا يَسْتَقْبِلُ مَعَ مَا فِيهِ مِنْ إِخْرَاجِ الْأَمْوَالِ وَتَعَبِ الْأَبْدَانِ وَالِاشْتِغَالِ عَنِ الْأَهْلِ وَالْوَلَدِ، وَحَظْرِ النَّفْسِ عَنِ اللَّذَّاتِ، شَاخِصاً فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ ثَابِتاً عَلَى ذَلِكَ دَائِماً، مَعَ الْخُضُوعِ وَالِاسْتِكَانَةِ وَالتَّذَلُّلِ مَعَ مَا فِي ذَلِكَ لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مِنَ الْمَنَافِعِ، لِجَمِيعِ مَنْ فِي شَرْقِ الْأَرْضِ وَغَرْبِهَا، وَمَنْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، مِمَّنْ يَحُجُّ وَمِمَّنْ لَمْ يَحُجَّ، مِنْ بَيْنِ تَاجِرٍ وَجَالِبٍ وَبَائِعٍ وَمُشْتَرٍ وَكَاسِبٍ وَمِسْكِينٍ وَمُكَارٍ وَفَقِيرٍ، وَقَضَاءِ حَوَائِجِ أَهْلِ الْأَطْرَافِ فِي الْمَوَاضِعِ الْمُمْكِنِ لَهُمُ الِاجْتِمَاعُ فِيهِ، مَعَ مَا فِيهِ مِنَ التَّفَقُّهِ وَنَقْلِ أَخْبَارِ الْأَئِمَّةِ ع إِلَى كُلِّ صُقْعٍ وَنَاحِيَةٍ كَمَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿ فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ ﴾ [التوبة: 122] وَ ﴿ لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ… ﴾ [الحج: 28].
ونستوحي من هذين الحديثين ما يلي:
1 – أنّ الإسلام أراد للحج أن يكون ملتقىً للمسلمين جميعاً في شرق الأرض وغربها، من أجل تحقيق التعارف والتواصل بينهم، وتحصيل المنافع الاقتصادية والاجتماعية لمن حجّ ولمن لم يحج، وتبادل التجارب والخبرات المتنّوعة، التي يملكها كل فريق من خلال أوضاعه العامة والخاصة..
2 – تسهيل حركة الدعوة إلى الله بالانطلاق من موسم الحج للاتصال بكل المناطق الإسلامية التي تتمثّل بأفرادها، الذين يقصدون بيت الله الحرام؛ لأداء الفريضة فيما يتعلمونه من ثقافة الإسلام وشريعته، وفيما يتعاونون فيه من مشاريع وأعمالٍ وخططٍ على أساس المصلحة الإسلاميّة العليا.. لينطلق العمل الإسلامي من قاعدة مركزّيةٍ واسعة..
3 – من خلال التفاعل الإنساني الروحي الذي تحققه هذه اللقاءات التي تتمّ في أجواء روحية خالصة، يستشعر فيها الجميع بالقيمة الإسلاميّة على هدى الممارسة في وحدة الموقف واللباس والشعار والتحرّك.. فيلغي المشاعر الطارئة المضادّة، التي يمكن أن يتعامل من خلالها الاستعمار الكافر، لتفتيت طاقاتهم وتدمير وحدتهم..
الحج بين الهدف والواقع:
نتساءل: ماذا عن الواقع الذي يعيشه الحج في هذه المرحلة من تاريخ الإسلام؟!
إننا نلاحظ حشداً كبيراً من البشر، الذين يفدون إلى بيت الله الحرام من مشارق الأرض ومغاربها، من مختلف القوميات والألوان، ونستمع إلى كثير من الأصوات التي تعجّ بمختلف اللّغات، وإلى الابتهالات التي ترتفع إلى الله من شفاه المؤمنين ومن قلوبهم مستغفرة شاكية باكية..
ونتابع الحجيج في خطواتهم وأعمالهم، فنلاحظ الإلحاح على تجميد شعائر الحج في نفوسهم، في محاولةٍ للحفاظ على الشكل بعيداً عن المضمون.. فإذا دخلت إلى مجتمعاتهم فإنك سترى العلاقات العادية، التي اعتادوها في بلادهم التي جاءُوا منها، بكل ما تشتمل عليه من سلبيّات، وما تفرزه من نتائج سيّئةٍ تعبث بأجواء الحج أيما عبث، وتسيء إليه أيّما إساءة..
وهكذا لا تجد هناك مجتمعاً يترابط أفراده بالهدف الواحد، بل نجد أفراداً يعيشون شكل المجتمع من دون معنى أو روح..
هذا في المدلول الذاتي للحج إن صح التعبير..
فإذا تطلّعت من جديد إلى الجوّ الداخلي للمسلمين، فماذا تجد؟!
إنك ستجد الاختلافات المذهبية بين المسلمين. بل إنك تجد الاختلافات بين تيارات المذهب الواحد أيضاً..
ولعل من المفارقات أنّ الكثيرين ممن يقلّدون المجتهدين لا يدّعون لهم العصمة في رأي واجتهاد، ولكنهم لا يحاولون أن يناقشوهم في فتاواهم أو آرائهم، بل يثيرون الغبار في وجه كل من يحاول ذلك..
وبذلك يتحول هذا المجتمع الإسلامي إلى مجتمع تتزايد فيه المشاحنات والأحقاد بدلاً من أن يكون مجتمعاً تذوب فيه كل هذه العوامل السلبيّة..
فليكن موسم الحج وملتقاه الواسع هو المؤتمر الكبير الذي يبيّن ذلك ويحاول المعالجة، فموسم الحج باب مفتوح على السماء. أكثر من مليوني مسلم يطوفون حول الكعبة ويقفون على جبل عرفات، ويزورون المقام النبوي في المدينة المنورة، والغاية في كل ذلك هي مرضاة الله وشفاعة نبيّه، والأجر الحسن لليوم الآخر. فهل ننطلق من خلال موسم الحج لنفتح للإسلام آفاق المستقبل، ليكون الحج محطة مفصلية في بناء قوة وعزة المسلمين؟!!!
الشيخ حسين علي المصطفى
صفقة المنطقة
هل اقتنع البعض بعد كلّ ما هو ماثل أمام أعيننا أن صفقة القرن ليست صفقة تخصّ فلسطين وحدها، وهل أدركوا اليوم بعد كل ما كشفته الأحداث أن الدماء الفلسطينية الطاهرة بُذلت دفاعاً عن الأمة العربية بأسرها وعن كلّ أحرار العالم وأنّ الذين خذلوا فلسطين على مرّ العقود لم يخذلوا إلا أنفسهم وأن فلسطين لم تكن سوى المقدمة والتجربة الأولى للإنقضاض على أمة لم يستنفر حكامها للدفاع عن جزء عزيز منها ومن جغرافيتها وتاريخها؟ هل أيقن البعض وهم يطبّعون مع عدوهم اليوم أن صفقة القرن هي الصفقة الإسرائيلية - الأميريكية، والتي تطمح لتغيير تاريخ وحاضر ومستقبل المنطقة بأسرها لتصبح بكاملها تحت الوصاية الإسرائيلية، تماماً كما فعل المستوطنون الأوربيون في الولايات المتحدة الأميريكية وأستراليا وكندا وأميركا الجنوبية، حين أبادوا السكان الأمريكيين الأصليين وأسسوا دولهم على رفاتهم. ولكنّ حروب الإبادة اليوم ليست بالضرورة جسدية فقط وإنما اقتصادية ومعرفية وتاريخية وإبادة هوية كي تحلّ محلها هوية أخرى وهذا كله مكتوب ومعروف في أدبيات الحركة الصهيونية. حين حضر شمعون بيريز الذكرى المئوية الثانية لتأسيس الولايات المتحدة الأميريكية عام 1979 قال في كلمته "نحن ننظر بإعجاب للتجربة الأميريكية والتي أسست الولايات المتحدة الأميريكية في أرض كانت شبه خالية من البشر ونطمح أن نؤسس ((الولايات المتحدة الإسرائيلية)) في الشرق الأوسط ونستلهم تجربتكم".
وفي نظرة سريعة ولكن معمّقة لأحداث اليوم ومحاور حرب "الربيع العربي" التي تشنها إسرائيل والقوى الغربية الداعمة لها وبتمويل نفطي خليجي نجد أن الهدف النهائي لهذه الحرب هو إبادة العرب جميعاً كأمة وكدول وقد اعتمدت خطط الحرب على شرذمتهم وتفريقهم ومنع كلّ أسباب الوحدة أو التنسيق بينهم لأن هذا هو الشرط الأول والجوهري للتحكم بمصائرهم وعدم تمكينهم من امتلاك أسباب القوة. ولهذا السبب الهام حرصت إسرائيل على نشر الفرقة والفتنة بين العرب طوال تاريخهم واعتبرت أن أي تنسيق بين بلدين عربيين يشكل خطراً وجودياً عليها. ولهذا، ولأسباب أيضاً تتعلق بعدم نضج النخب الحاكمة وعدم كفاءة الحكام، فشلت محاولات التنسيق والوحدة على مدى العقود الماضية ومازالت العقبات الحقيقية تترصد أي محاولة فعلية وجادة للتقارب بين أي بلدين عربيين. والأمر الذي ساعد في تحقيق مآل الصهاينة هو أن العرب أنفسهم لم يحظوا بقيادات تاريخية منذورة لقضاياهم إلا بشكل منفرد وفي بلد دون آخر ولم يفهموا إلى حدّ اليوم الاستراتيجية التي تستهدفهم جميعاً بل يتيهون في مسارات جانبية هنا وهناك بحثاً عن مصدر قوة آني أو يومي لا مردود له من منظور رؤية استراتيجية معمّقة وهادفة. واليوم وبعد كل الجهود التي بذلت لقضم ارض فلسطين كلها وتهجير أهلها العرب جميعاً وبعد تقسيم السودان واستنزاف العراق وخلق مشكلة الصحراء بين المغرب والجزائر وتحطيم ليبيا وتدمير اليمن وشل مصر منذ سيناء2 وترهيب الخليج واستنزافه ليقع في أحضان إسرائيل ويمول حربها، أولم يصبح واضحاً أن "صفقة القرن" لا تستهدف فلسطين وحدها بل تستهدف العرب برمتهم ونحن لا نتحدث عن الغد المباشر بل عن العقد أو العقدين القادمين. المشهد السياسي اليوم في المنطقة واضح ولا يحتاج إلى الكثير من الجهد لقراءته فاللاجئون العرب يملؤون الفضاء التركي ويتعلمون اللغة التركية باحتضان مباشر من الإخوان المسلمين وطموحات لم تنطفئ لإعادة السلطنة العثمانية إلى الفضاء العربي برمته ولهذا الحلم أدواته الإعلامية ومفكروه ومروّجوه أيضاً في قطر وتركيا والذين يبنون على ثقافة متأسلمة لا ذكر فيها للهوية العربية أو للتاريخ الحقيقي لهذه المنطقة. وهناك محور آخر خليجي أيضاً ولكنه يخدم الأعداء بطريقة مختلفة وينسق تنسيقاً مباشراً وحثيثاً مع من يستهدفنا من أعداء العرب جميعاً ويعتبر التقرّب منهم هو طريق الخلاص وهو المعبر الوحيد إلى العالم الغربي "المتمدن والتحضر" حسب رأيهم متناسين تاريخ هذا الغرب الاستعماري الذي يقوم على نهب واستيطان العرب وفرض العبودية على الشعوب.
فها نحن نقرأ أو نسمع من كل الدول العربية الحديث عن أيد خفية تطال هذا البلد وذاك وعن مخططات تستهدف هذه الحكومة أو تلك وحقيقة الأمر هي أن هذه التفاصيل هي جزئية من خطة أعم وأشمل تستهدف الجميع وما يجري في بلد دون آخر وتوقيت دون آخر ماهي إلا تفاصيل مدروسة لاستكمال الخطة الأكبر والتي سوف تبدو جليّة للعيان حين ينضج الوضع على الساحة العربية. وبهذا فإن احتلال فلسطين كان نقطة الانطلاق فقط ونقطة الارتكاز وإجراء التجارب لمعرفة أفضل السبل للإنقضاض على سورية ولبنان ومصر والعراق وليبيا بل وعلى الأمة بأسرها. ولهذا السبب بالذات من الممنوع في خططهم منعاً باتاً أي تفاعل عربي حقيقي يمكن أن يشكّل جذوة ونقطة جذب لبلدان عربية أخرى، ولهذا بالذات وضعَت الولايات المتحدة كل ثقلها لتمنع أي تواصل بين سورية والعراق ولهذا بالذات نجد أن العلاقات العربية العربية في أسوأ أحوالها ولن تتحسن مالم يقتنع العرب جميعاً أن المخطط يستهدفهم جميعاً وأن صفقة القرن هي عنوان حرب لا تستهدف فلسطين فقط بل هي صفقة إعادة نهب واستعمار المنطقة وهي تستهدفهم جميعاً خليجيين غداً واليوم سورية والعراق واليمن مروراً بالسودان والجزائر وكل بلد عربي، وأن كل المسارات التي يسيرون بها تحت مظلّة من يستهدفهم لن تقودهم إلا إلى الخراب وأن الأيدي ليست خفية بل واضحة والاستراتيجية مُعدّة ومكتوبة ومدروسة مع خطط تنفيذية ومواعيد لا تخطئ الهدف أبداً. نحن في مرحلة إعادة تكوين المنطقة لتكون على حساب العرب وبشكل تتحول دويلاتها ضمن "الولايات المتحدة الإسرائيلية" وتدور في فلكها، ومالم يعي العرب هذه الحقيقة ويتخذوا الإجراءات الضرورية كي يكونوا هم أسياد هذه المنطقة فإن العدو المتربص بهم جميعاً يهدف إلى التحكم بالمنطقة علمياً وتقنياً ومعلوماتياً وتاريخياً وجغرافياً بحيث لا يكون لوجود الملايين من العرب صدى أو دور في تشكيل هويتها ومستقبلها، ناهيك عن أي دور إقليمي أو دولي يحسب له حساب.
بثينة شعبان، مفكرة عربية