Super User

Super User

في ما يلي النص الكامل لنداء قائد الثورة الإسلامية الإمام السيد علي الخامنئي للعام 1437:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطيبين، وصحبه المنتجبين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

أيها الإخوة والأخوات المسلمون في كل العالم.

موسم الحج موسم فخر وعظمة للمسلمين في أعين الخلائق، وموسم نورانية القلوب والخشوع والابتهال أمام الخالق. الحج فريضة قدسية ودنيوية وإلهية وجماهيرية، فالأمران الإلهيان: «فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبائكمْ أَوأَشَدَّ ذِكْرًا» (1)، و«وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ» (2) من ناحية، والخطاب الإلهي القائل: «الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ» (3) من ناحية أخرى، تنير كلها الأبعاد المتنوِّعة واللامتناهية للحج.

في هذه الفريضة المنقطعة النظير، يطمئنُ أمنُ الزمانِ والمكانِ قلوبَ الناس كعلامة بيّنة ونجم لامع، ويُخرِج الحاجَّ من حصار عوامل اللاأمن التي يهدِّد بها الظالمون المهيمنون جميعَ البشرية دائماً، ويذيقه لذةَ الأمان لفترة معينة.

الحج الإبراهيمي الذي أهداه الإسلام للمسلمين هو مظهر العزة والمعنوية والوحدة والعظمة، ويستعرض عظمة الأمة الإسلامية واتكالها على القدرة الإلهية الأبدية أمام أنظار الأعداء وذوي الطويّة السيئة، ويُبرِّز المسافة الفاصلة بين المسلمين وبين مستنقع الفساد والحقارة والاستضعاف الذي يفرضه العتاة والمتغطرسون الدوليون على المجتمعات البشرية.

الحج الإسلامي والتوحيدي مظهر «أَشِدّاءُ عَلَى الْكُفّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ» (4). إنه موطن البراءة من المشركين، والألفة والوحدة مع المؤمنين. الذين يهبطون بالحجّ إلى سَفرة زيارية - سياحية، ويخفون عداءهم وحقدهم على الشعب الإيراني المؤمن الثوري وراء عنوان «تسييس الحج»، هم شياطين صغار حقراء ترتعد فرائصهم من تعرض مطامع الشيطان الأكبر - أمريكا - للخطر. الحكام السعوديون الذين صدّوا هذه السنة عن سبيل الله والمسجد الحرام، وسدّوا طريق الحجاج الإيرانيين الغيارى المؤمنين عن بيت الحبيب، هم ضالون مخزیّون يعتبرون بقاءهم على عرش السلطة الظالمة رهناً بالدفاع عن مستكبري العالم، والتحالف مع الصهيونية وأمريكا، والسعي لتحقيق مطالبهم، ولا يتورّعون في هذا السبيل عن أية خيانة.

تمضي اليوم قرابة السنة على أحداث منى المدهشة، التي قضى فيها عدة آلاف نحبهم مظلومين في يوم العيد، وبثياب الإحرام، تحت الشمس، وبشفاه ظامئة. وقبل ذلك بفترة وجيزة تضرّج عددٌ من الناس في المسجد الحرام بدمائهم وهم في حال عبادة وطواف وصلاة. الحكام السعوديون مقصّرون في كلا الحادثتين، وهذا شيء أجمع عليه كل الحاضرين والمراقبين والمحللين التقنيين. وقد طرحتْ ظنونٌ من قبل بعض المختصين حول عمدية الحادث. ومن المؤكد والقطعي وجود تعلل وتقصير في إنقاذ أرواح الجرحى الذين ترافقت أرواحهم العاشقة وقلوبهم المشتاقة في يوم عيد الأضحى مع ألسنتهم الذاكرة لله والمترنّمة بالآيات الإلهية. لقد زجّهم الرجال السعوديون المجرمون القساة القلوب مع الموتى في كانتينرات مغلقة، وقتلوهم شهداءً بدل معالجتهم ومساعدتهم أو حتى إيصال الماء لشفاههم الظامئة. فقدتْ عدةُ آلاف من العوائل من بلدان مختلفة أحباءها، وفُجعت شعوبها. وقد كان هناك قرابة الخمسمائة شخص من الجمهورية الإسلامية بين هؤلاء الشهداء. ولا تزال قلوب العوائل جريحة مكتوية، ولا يزال الشعب حزيناً غاضباً. 

وبدل أن يعتذر حكام السعودية ويبدوا ندمهم ويلاحقوا المقصّرين المباشرين في هذه الحادثة المهولة قضائياً، تملّصوا بمنتهى الوقاحة وعدم الخجل حتى من تشكيل هيئة تقصّي حقائق دولية إسلامية. وبدل الوقوف في موضع المتهم وقفوا في موضع المدّعي، وأعلنوا بخبث واستهتار أكبر عن عدائهم القديم للجمهورية الإسلامية ولكل راية إسلامية مرفوعة ضد الكفر والاستكبار.

أبواقهم الإعلامية، سواء الساسة الذين تعدّ تصرفاتهم حيال الصهاينة وأمريكا عاراً على العالم الإسلامي، أو مفتوهم غير الورعين وآكلو الحرام الذي يفتون علانية بخلاف الكتاب والسنة، إلى مرتزقتهم الصحافيين الذين لا يمنعهم حتى الضمير المهني من الكذب وصناعة الأكاذيب، تسعى عبثاً إلى اتهام الجمهورية الإسلامية بحرمان الحجاج الإيرانيين من حجّ هذه السنة. الحكام المثيرون للفتن الذين ورّطوا العالم الإسلامي في حروب داخلية وقتل وجرح للأبرياء عن طريق تأسيس وتجهيز الجماعات التكفيرية الشريرة، وراحوا يغرقون اليمن والعراق والشام وليبيا وبلدان أخرى في الدماء، هم متلاعبون سياسيون لا يعرفون الله، ويمدون يد الصداقة نحو الكيان الصهيوني المحتل، مغمضين أعينهم عن آلام الفلسطينيين ومصائبهم المهلكة، وينشرون مديات ظلمهم وخيانتهم إلى مدن البحرين وقراها. الحكام عديمو الدين والضمير الذين خلقوا فاجعة منى الكبرى، وانتهكوا، باسم خدمة الحرمين، حرمة الحرم الإلهي الآمن، وقتلوا ضيوف الله الرحمن في يوم العيد في منى، وفي المسجد الحرام قبل ذلك، يتشدّقون الآن بعدم تسييس الحج، ويتهمون الآخرين بالذنوب الكبرى التي ارتكبوها هم، أو تسببوا بها.

إنهم مصداق تامّ للبيان القرآني الكريم الساطع بالأنوار: «وَإِذا تَوَلّىٰ سَعىٰ فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ» (5)، «وَإِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهادُ» (6). وفي هذه السنة أيضاً تفيد التقارير أنه فضلاً عن صدّ الحجاج الإيرانيين وحجاج بعض الشعوب الأخرى، وضعوا حجاجَ باقي البلدان ضمن نطاق سيطرات ومراقبات غير معهودة بمساعدة الأجهزة التجسسية الأمريكية والصهيونية، وجعلوا بيت الله الآمن غير آمن على الجميع.

على العالم الإسلامي، سواء الحكومات أو الشعوب المسلمة، أن يعرف حكام السعودية، ويدرك بنحو صحيح حقيقتهم الهتّاكة غير المؤمنة التابعة المادية. على المسلمين أن لا يتركوا تلابيب الحكام السعوديين على ما تسبّبوا به من جرائم في كل العالم الإسلامي. وعليهم أن يفكروا تفكيراً جاداً بحلّ لإدارة الحرمين الشريفين وقضية الحج بسبب سلوكهم الظالم ضد ضيوف الرحمن. التقصير في هذا الواجب سيعرض الأمة الإسلامية مستقبلاً لمشكلات أكبر.

أيها الإخوة والأخوات المسلمون، مكان الحجاج الإيرانيين المشتاقين المخلصين خالٍ هذه السنة في مراسم الحج، لكنهم حاضرون بقلوبهم، وهم إلى جانب الحجاج من كل أرجاء العالم، وقلقون على حالهم، ويدعون أن لا تستطيع الشجرة الملعونة للطواغيت أن تنالهم بسوء. إذكروا إخوتكم وأخواتكم الإيرانيين في أدعيتكم وعباداتكم ومناجاتكم، وادعوا لرفع المعضلات عن المجتمعات الإسلامية وتقصير أيدي المستكبرين والصهاينة وعملائهم عن الأمة الإسلامية.

إنني أحيّي ذكرى شهداء منى والمسجد الحرام في العام الماضي، وشهداء مكة في سنة 66 [1987 م]، وأسأل الله عزّ وجلّ لهم المغفرة والرحمة وعلو الدرجات، وأبعث السلام لسيدنا بقية الله الأعظم روحي له الفداء، سائلاً دعاءه المستجاب لرفعة الأمة الإسلامية ونجاة المسلمين من الفتنة وشرور الأعداء.

 

وبالله التوفيق وعليه التُكلان

آخر ذي‌ القعدة 1437

 

 

الهوامش:

1 - سورة البقرة، الآية 200.

2 - سورة البقرة، الآية 203.

3 - سورة الحج، الآية 25.

4 - سورة الفتح، الآية 29.

5 - سورة البقرة، الآية 205.

6 - سورة البقرة، الآية 206 .

فيما يلي الترجمة العربية لنداء الإمام الخامنئي:

بسم الله الرحمن الرحيم

و الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيد الخلق أجمعين محمد و آله الطاهرين و صحبه المنتجبين، و على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
و السلام على الكعبة الشريفة، مقرّ التوحيد و مطاف المؤمنين و مهبط الملائكة، و السلام على المسجد الحرام و عرفات و المشعر و منى، و السلام على القلوب الخاشعة، و الألسنة الذاكرة، و الأعين المفتحة بالبصيرة، و الأفكار المستلهِمة للعبرة، و السلام عليكم أيها الحجاج السعداء الذين توفقتم لتلبية الدعوة الإلهية، و تحلقتم حول هذه المائدة المليئة بالنعم.
الواجب الأول هو التأمّل في هذه التلبية العالمية التاريخية الدائمة: إنّ الحمد و النعمة لك و الملك، لا شريك لك لبيك. كل الحمد و الثناء له، و كل النعم منه، و كل الملك و القدرة له.. هذه هي النظرة التي تُمنَحُ للحاجّ في الخطوة الأولى من هذه الفريضة الطافحة بالمعاني و المغزى، و التي تستمر هذه المناسك بما يتناغم معها، من ثم توضعُ نصبَ عينيه كتعليمة باقية و درس لا ينسى، و يطلب منه تنظيم برامج حياته على أساسها. تعلمُ هذا الدرس الكبير و العمل به هما الينبوع المبارك الذي يمكنه إضفاء النضارة و الحيوية و التوثب على حياة المسلمين، و تحريرهم مما يعانون منه من معضلات في زمانهم هذا و في كل زمان. صنم النزعات النفسية و الكبر و الشهوة، و صنم طلب الهيمنة و الخضوع للهيمنة، و صنم الاستكبار العالمي، و صنم الكسل و اللامسؤولية، و كل الأصنام المُهينة للنفس الإنسانية الكريمة، ستتحطم بهذه الصرخة الإبراهيمية عندما تخرج من أعماق الفؤاد و تغدو برامج حياة، و ستحلّ الحرية و العزة و السلامة محلّ التبعية و الشدة و المحنة.
ليفكّر الإخوة و الأخوات الحجاج، من أيّ شعب و بلد كانوا، في هذه الكلمة الإلهية الحكيمة، و لتكن لهم نظرتهم الدقيقة لمعضلات العالم الإسلامي، خصوصاً في غرب آسيا و شمال أفريقيا، النظرة التي يهتدون بها في ضوء الإمكانات و الطاقات الشخصية و المحيطة، إلى تعيين واجبات و مسؤوليات لأنفسهم، و السعي لأدائها.
السياسات الشريرة لأمريكا في هذه المنطقة اليوم، و الباعثة على الحروب و سفك الدماء و الدمار و التشرد، و كذلك الفقر و التخلف و الخلافات القومية و الطائفية، من ناحية، و جرائم الكيان الصهيوني الذي أوصل سلوكه الغاصب في بلد فلسطين إلى ذروة الشقوة و الخبث، و إهاناته المتكررة لحريم المسجد الأقصى المقدس، و سحقه أرواح الفلسطينيين المظلومين و أموالهم من ناحية أخرى، هي قضيتكم الأولى جميعاً أيها المسلمون، و التي يجب أن تفكروا فيها و تعرفوا واجبكم الإسلامي حيالها. و على علماء الدين و النخب السياسية و الثقافية واجبات أثقل بكثير، يغفلون عنها غالباً للأسف. ليتعرف العلماء بدل تأجيج نيران الخلافات الطائفية، و السياسيون بدل الانفعال مقابل الأعداء، و النخب الثقافية بدل الانشغال بالأمور الهامشية، ليتعرفوا على الوجع الكبير الذي يعاني منه العالم الإسلامي، و ليتقبلوا رسالتهم التي هم مسؤولون عن أدائها أمام محضر العدل الإلهي، و ليتحمّلوا أعباءها بكفاءة. الأحداث المُبكية في المنطقة، في العراق و الشام و اليمن و البحرين، و في الضفة الغربية و غزة، و في بعض البلدان الآسيوية و الأفريقية الأخرى، هي المعضلات الكبرى للأمة الإسلامية التي ينبغي مشاهدة بصمات مؤامرة الاستكبار العالمي فيها، و التفكير في علاجها. على الشعوب أن تطالب ذلك من حكوماتها، و على الحكومات أن تفي لمسؤولياتها الجسيمة.
و الحج و تجمّعاته العظيمة أرقى مكان لظهور و تبادل هذا الواجب التاريخي.
و فرصة البراءة - التي ينبغي اغتنامها بمشاركة كل الحجاج من كل مكان - من أبلغ المناسك السياسية في هذه الفريضة الجامعة للأطراف.
الحادثة المريرة الفادحة الخسارة التي وقعت في المسجد الحرام هذه السنة، أصابت الحجاج و شعوبهم بالمرارة. صحيح أن المتوفّين في هذا الحادث، و الذين كانوا يؤدون الصلاة و الطواف و العبادة، سارعوا للقاء الله و نالوا سعادة كبرى و ثووا - إن شاء الله - في حريم أمن الله و رعايته و رحمته، و هذا عزاء كبير لذويهم، بيد أن هذا لا يمكنه التقليل من ثقل مسؤولية الذين تعهدوا بتوفير أمن ضيوف الرحمن. العمل بهذا التعهد و أداء هذه المسؤولية مطلبنا الحاسم.
و السلام على عباد الله الصالحين

السيد علي الخامنئي

4 ذي الحجة 1436

27 شهريور  1394

  18 أيلول   2015

فيما يلي النص الكامل لهذا النداء:

بسم الله الرحمن الرحيم
والحمدُ لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطاهرين.
تحيّةَ شوقٍ وسلامُ تكريمٍ لكم أيّها السعداء الذين لبّيتم دعوة القرآن الكريم وسارعتم إلى ضيافة بيت الله الحرام.
أوّل الحديث هو أن تقدّروا هذه النعمة الكبرى حقّ قدرها، وأن تجهدوا للاقتراب من أهداف هذه الفريضة الفريدة بالتأمّل في أبعادها الفرديّة والاجتماعيّة والروحيّة والعالميّة، وأن تتضرّعوا إلى المُضيف الرحيم القدير أن يعينكم على ذلك.
وأنا معكم بقلبي ولِساني أسألُ الله الغفور والمنّان أن يُتمّ نعمته عليكم، وأن يمنّ عليكم بأداء حجٍّ كاملٍ كما منّ عليكم بتوفيق السفر إلى حجّ بيته الكريم، وأن يتقبّل منكم بكرمه ويُعيدكم غانمين سالمين إلى دياركم إن شاء الله تعالى.
في الفرصة المغتنمة لهذه المناسك الغنيّة والفريدة، إضافة إلى التطهير والبناء المعنوي والروحي الذي هو أسمى وأعمق مكتسبات الحج، فإنّ الاهتمام بقضايا العالم الإسلامي والإهتمام الرفيع والشامل بالموضوعات المتعلقة بالأمّة الإسلاميّة هو من أهم واجبات الحجّاج وآدابهم.

إنّ مسألة اتّحاد المسلمين وحلّ العقد التي تُسبب التفرقة بين أجزاء الأمّة الإسلاميّة من جملة الموضوعات الهامّة ذات الأولويّة في وقتنا الراهن.
الحجّ مظهر الوحدة والتلاحم وساحة الإخاء والتعاون. وعلى الجميع أن يتلقّوا درس التركيز على المشتركات وإزالة الخلافات. لقد عملت السياسات الاستعمارية ومنذ القدم على زرع التفرقة لتحقق من خلال ذلك أهدافها المشؤومة والخبيثة. ولكن اليوم وبفضل الصحوة الإسلامية وبعد أن عَرَفت المجتمعات الإسلامية عداءَ جبهة الاستكبار والصهيونية ووقفت في وجهها، فقد ازدادت سياسة التفرقة بين المسلمين شدّة وعنفًا. إنّ العدوّ المخادع بإشعاله نيران الحروب الأهليّة بين المسلمين يهدف إلى جرّ مقاومتهم وجهادهم إلى الانحراف، كي يبقى العدوّ الصهيوني وعملاء الاستكبار [وهم الأعداء الحقيقيّون] في موضعٍ آمن، وإنّ تجهيز المجموعات الإرهابيّة والتكفيريّة وأمثالها في بلدان منطقة غرب آسيا يأتي في سياق هذه السياسة الغادرة.
إنّ هذا لهو تحذيرٌ لنا جميعاً أن نضع اليوم مسألة اتّحاد المسلمين في رأس قائمة واجباتنا الوطنيّة والدوليّة.

قضيّة فلسطين هي الموضوع المهم الآخر إذ بعد مرور 65 عاماً على إقامة الكيان الصهيوني الغاصب والمنعطفات المختلفة التي مرّت على هذه القضيّة الهامّة والحسّاسة، وخاصّة الحوادث الدامية في السنوات الأخيرة، فإنّ حقيقتين قد اتّضحتا للجميع. الأولى: أنّ الكيان الصهيوني وحماتَهُ المجرمين لا يعرفون حدّاً لفظاظتهم وقسوتهم ووحشيّتهم وسحقهم لكلّ المعايير الإنسانيّة والأخلاقيّة. يُبيحون لأنفسهم كلّ جريمة وإبادة جماعيّة و تدمير وقتلٍ للأطفال والنساء والأبرياء العزّل، بل كلّ اعتداء وظلم بمقدورهم ارتكابه، ثم هم يفخرون بما ارتكبوه. والمشاهد المُبكية في حرب الخمسين يوماً على غزّة هي آخر نموذج من هذه الجرائم التاريخيّة التي تكرّرت مراراً في نصف القرن الأخير.
الحقيقة الثانية: هي أنّ هذه المجازر والفجائع لم تستطع أن تحقّق هدف قادة الكيان الغاصب وحماته. وخلافاً لما كان يجول في ذهن لاعبي الساحة السياسيّة الخبثاء من آمال حمقاء بشأن سطوة الكيان الصهيوني ومنعته فإنّ هذا الكيان يقترب يوماً بعد يوم من الاضمحلال والفناء. إنّ صمودَ ومقاومة غزّة المحاصرة والوحيدة لمدّة 50 يوماً أمام كلّ القوة التي استقدمها الكيان الصهيوني إلى الساحة، وما حدث في النهاية من فشل وتراجع لهذا الكيان واستسلامه أمام شروط المقاومة، لهو مشهدٌ واضحٌ لهذا الضعف والهوان والانهيار.

إنّ هذا يعني أنّ الشعب الفلسطيني يجب أن يزداد لديه الأمل أكثر من أي وقت مضى، وأن يزيد مناضلو الجهاد وحماس من سعيهم وعزمهم وهمّتهم، وأن تتابع الضفّة الغربيّة مسيرة العزّ الدائمة بقوّة و صلابة أكثر، وأن تطالب الشعوب المسلمة حكوماتها اتّخاذ مواقف مساندة حقيقيّة وجادّة من قضيّة فلسطين، وأن تقطع الدول الإسلاميّة خطواتٍ صادقة على هذا الطريق.
الموضوع الثالث المهم وذو الأولويّة، هوَ: ينبغي على الناشطين المخلصين في العالم الإسلامي أن يُفرّقوا بنظرة واعية بين الإسلام المحمّدي الأصيل والإسلام الأمريكي، وأن يحذَروا ويُحذِّروا من الخلط بين هذا وذاك. لقد اهتمّ إمامنا الراحل لأوّل مرّة بالتمييز بين المقولتين. وأدخل ذلك في القاموس السياسي للعالم الإسلامي.
فالإسلام الأصيل هو إسلام النقاء والمعنويّة، إسلام التقوى والسيادة الشعبيّة، إسلامُ أشدّاءَ على الكفار رحماءَ بينهم. وإنّ الإسلام الأمريكي هو العمالة للأجانب ومعاداة الأمّة الإسلاميّة بزيّ الإسلام!
إنّ الإسلام الذي يُشعل نيران التفرقة بين المسلمين، ويضعُ الثقة بأعداء الله بدلاً من الثقة بالوعد الإلهي، ويشنّ الحرب على الإخوة المسلمين بدلاً من مكافحة الصهيونيّة والاستكبار ويتّحد مع أمريكا المستكبرة ضد شعبه أو الشعوب الأخرى ليس بإسلام، إنّه نفاقٌ خَطرٌ ومُهلك يجب أن يكافحه كلّ مسلمٍ صادق.
إنّ نظرةً مقرونةً بالبصيرة والتفكير العميق توضّح هذه القضايا والموضوعات الهامّة في واقع العالم الإسلامي لكلّ باحثٍ عن الحق، وتحدّد الواجبات والتكاليف الراهنة بلا غموض.
إنّ في الحج ومناسكه وشعائره فرصة مغتنمة لاكتساب هذه البصيرة، ومن المؤمّل أن تحظُوا أنتم أيّها الحجّاج السعداء بهذه الهبة الإلهيّة بصورة كاملة.
أستودعكم الله العظيم جميعاً، وأسأله تعالى لكم قبول الطاعات.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

في ما يلي النص الكامل لنداء الحج في العام الهجري 1434:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

والحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد الأنبياء والمرسلين وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين.

 حلول موسم الحج يجب أن يُعتبر عيداً كبيراً للأمة الإسلامية. إن الفرصة المغتنمة التي تقدمها هذه الأيام الثمينة كلّ عام للمسلمين في العالم هي الكيمياء الإعجازية التي تستطيع أن تداوي الكثير من الأسقام ومواطن الضعف في العالم الإسلامي، وذلك إن قدّرناها حقّ قدرها واستثمرناها كما ينبغي.

الحج هو نبعٌ متدفّق بالفيض الإلهي. وأنتم أيها الحجاج السعداء قد نلتم هذا العطاء الرفيع فرداً فرداً، وبهذه الأعمال والمناسك المفعمة بالصفاء والمعنوية تطهّرون قلوبكم وأرواحكم حقّ التطهير، وتتزودون من نبع الرحمة والعزّة والقدرة بذخيرة لسنوات عمركم كلّها.

تستطيعون أن تتحلّوا بالخشوع والتسليم أمام الربّ الرحيم، وبالالتزام بالواجبات الملقاة على عاتق كل مسلم، و بالحيوية والحركة والإقدام في أمور الدنيا والدين، وبالرحمة والصفح في التعامل مع الإخوان، وبالجرأة والاعتماد على الذات في مواجهة الصعاب، وبعقد الآمال على عون الله ونصرته في كل أمر وفي كل مكان. وباختصار تستطيعون أن تكتسبوا جميع ما يحتاجه بناء الإنسان على الطراز الإسلامي في تلك الساحة الإلهية من التربية والتعليم. وأن تقدموا لبلدكم وشعبكم ومن ثمّ للأمة الإسلامية هذه الذات المتحلّية بهذه الفضائل والمستفيدة من هذه الذخائر.

الأمة الإسلامية اليوم وقبل كل شيء بحاجة إلى أُناس يتوفر لديهم الفكر والعمل إلى جانب الإيمان والصفاء والإخلاص، والمقاومة أمام الأعداء الحقودين إلى جانب البناء المعنوي والروحي. وهذا هو الطريق الوحيد لإنقاذ المجتمع الإسلامي الكبير من معاناته التي أصيب بها منذ عصورٍ بعيدة إما جهاراً بيد الأعداء، أو بسبب ما مُني به من ضعف العزم والإيمان والبصيرة.

عصرنا الراهن دون شك هو عصر يقظة المسلمين وبحثهم عن هويتهم. هذه الحقيقة نستطيع أن نفهمها بوضوح أيضاً من خلال التحديات التي تواجهها البلدان الإسلامية، وفي هذه الظروف بالذات يستطيع عزم الشعوب وإرادتها المستندة إلى الإيمان والتوكل والبصيرة والتدبير أن يسجل للمسلمين النصر والرفعة وأن يحقق لمصيرهم العزّة والكرامة.

الجبهة المقابلة التي لا تُطيق أن ترى للمسلمين يقظة وعزّة، جاءت إلى ساحة المواجهة بكل إمكانياتها، واستخدمت جميع الوسائل الأمنية والنفسية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية كي تقمع المسلمين وتُخضعهم وتشغلهم بأنفسهم.

فنظرة إلى الوضع في بلدان غرب آسيا من باكستان وأفغانستان وحتى سوريا والعراق وفلسطين وبلدان الخليج الفارسي وهكذا بلدان شمال إفريقيا من ليبيا ومصر وتونس حتى السودان وبعض البلدان الأخرى، تكفي لبيان كثير من الحقائق. حروب داخلية، وتعصبات دينية وطائفية عمياء وحالات من عدم الاستقرار السياسي، وانتشار الإرهاب الوحشي، وظهور المجموعات والتيارات المتطرفة التي تشق صدور البشر، وتلوك (تمضغ) أفئدتهم على طريقة المجموعات البشرية المتوحشة في التاريخ، ومسلحون يقتلون الأطفال والنساء، ويذبحون الرجال ويعتدون على الأعراض، بل حتى إنهم يرتكبون بعض هذه الجرائم المخزية والمقززة باسم الدين رافعين رايات دينية، هذه جميعها حصيلة مخطط شيطاني واستكباري تنفذه أجهزة الاستخبارات الأجنبية ورجال الحكم المتعاونون معهم في المنطقة، عبر استثمار البيئات الملائمة داخل هذه البلدان، ويسعون من خلاله إلى جعل أيام الشعوب سوداء ومريرة.

من المؤكد أنه لا يمكن أن نتوقع في مثل هذه الأوضاع والظروف أن تملأ البلدان المسلمة فراغها المادي والمعنوي وأن تحقق الأمن والرفاه والتطور العلمي والاقتدار الدولي الذي يمكن أن يتحقق ببركة الصحوة والعودة إلى الهوية. هذه الأوضاع المأساوية بمقدورها أن تصيب الصحوة الإسلامية بالعقم، وأن تبدّد الطاقات المعنوية التي ظهرت في العالم الإسلامي، وأن تدفع الشعوب الإسلامية مرة أخرى لسنوات متمادية من الركود والعزلة والانحطاط، وأن تجعل قضاياهم الأساسية الهامة مثل تحرير فلسطين وإنقاذ الشعوب المسلمة من السيطرة الأمريكية والصهيونية في مطاوي النسيان.

العلاج الأساسي يمكن تلخيصه في جملتين أساسيتين كِلتاهما من أبرز دروس الحج:
الأولى: اتحاد المسلمين وتآخيهم تحت لواء التوحيد. والثانية :تشخيص العدو ومواجهة خططه وأساليبه.
تقوية روح الأخوة والتآلف هي من دروس الحج الكبرى. هنا يُمنع حتى الجدال وخشونة الكلام مع الآخرين. اللباس الموحّد، والأعمال الموحدة، والحركات الموحدة، والسلوك العاطفي هنا، يعني المساواة والإخاء بين كل المؤمنين المعتقدين والوالهةِ قلوبهم بمركز التوحيد. هذا ردّ إسلامي صريح لكل فكر وعقيدة ودعوة تُخرج جماعة من المسلمين والمؤمنين بالكعبة والتوحيد من دائرة الإسلام. لتَعلَم العناصر التكفيرية التي هي اليوم ألعوبة السياسة الصهيونية الغادرة وحماتها الغربيين، والتي ترتكب الجرائم المروّعة وتسفك دماء المسلمين والأبرياء، وليعلم بعض أدعياء التدين و المتلبسين بزيّ رجال الدين الذين ينفخون في نار الخلافات بين الشيعة والسنة وغيرها، ليعلموا أن مناسك الحج بذاتها تُبطل ما يدّعون.

ومن المفارقة، أن الذين يعتبرون مراسم البراءة من المشركين والتي لها جذور في عمل الرسول الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وسلم، جدالٌ ممنوع، هم أنفسهم من أكثر المؤثرين في إيجاد النزاعات الدموية بين المسلمين، وإنني أعلن مرة أخرى كالكثير من علماء المسلمين والذين يحملون هموم الأمة الإسلامية أن كل قول أو عمل يؤدي إلى إثارة نار الاختلاف بين المسلمين، وكل إساءة إلى مقدسات أي واحدة من المجموعات الإسلامية أو تكفير أحد المذاهب الإسلامية هو خدمة لمعسكر الكفر والشرك وخيانة للإسلام وحرام شرعاً.

معرفة العدوّ وأساليبه هي الركن الثاني. أولاً، ينبغي عدم إغفال ونسيان وجود العدو الحاقد. فمراسم رمي الجمرات المتكرر في الحج تعبير رمزي لهذا الحضور الذهني الدائم. ثانياً، ينبغي أن لا نخطئ في معرفة العدو الأصلي الذي يتجسد اليوم في جبهة الاستكبار العالمي والشبكة الصهيونية المجرمة ذاتها. وثالثاً، يجب أن نشخّص جيداً أساليب العدو العنود (شديد العناد)،المتمثلة في زرع التفرقة بين المسلمين، إشاعة الفساد السياسي والأخلاقي، تهديد النُخب وتطميعهم، ممارسة الضغط الاقتصادي على الشعوب وإثارة التشكيك في المعتقدات الإسلامية والعمل (من خلال معرفة هذه الأساليب) على كشف المرتبطين بهم عن علم أو من غير علم.

الدول الاستكبارية وفي مقدمتها أمريكا تعمد عن طريق شبكاتها الإعلامية الواسعة والمتطورة إلى إخفاء وجهها الحقيقي، تمارس أمام الرأي العام سلوكاً مخادعاً للشعوب عبر ادعاء الدفاع عن حقوق الإنسان والديمقراطية. هؤلاء في الوقت الذي يرفعون فيه عقيرتهم (صوتهم) بحقوق الإنسان، تلمس الشعوب الإسلامية بجسمها وروحها كل يوم أكثر من السابق نار فتنهم. فلنلقي نظرة إلى الشعب الفلسطيني المظلوم الذي يتلقى منذ عشرات السنين يومياً جراح جرائم الكيان الصهيوني وحماته، أو إلى دول أفغانستان وباكستان والعراق التي يمارس فيها الإرهاب الناتج عن سياسات الاستكبار وعملائه الإقليميين ما يجعل حياة شعوبها كالعلقم، أو إلى سوريا التي تعاقب بسبب دعمها للمقاومة ضد الصهيونية و تتعرض لسهام حقد قوى الهيمنة العالمية وعملائها الإقليميين، وتعاني من حرب داخلية دموية، أو إلى البحرين أو ميانمار حيث يعاني المسلمون كلٌ بطريقة، من الإهمال ومن إغداق الدعم على أعدائهم، أو إلى الشعوب الأخرى التي تهدد باستمرار من قبل أمريكا وحلفائها بهجوم عسكري أو محاصرة اقتصادية أو تخريب أمني. هذه النظرة الواحدة تكفي لكشف الوجه الحقيقي لزعماء نظام الهيمنة أمام الجميع.

يجب على النخب السياسية والثقافية والدينية في جميع أرجاء العالم الإسلامي أن يروا أنفسهم مسؤولين عن فضح هذه الحقائق. هذا هو واجب أخلاقي وديني علينا جميعاً.

بلدان شمال إفريقيا التي تتعرض اليوم للأسف لاختلافات داخلية عميقة، يجب أن تهتم أكثر من غيرها بهذه المسؤولية العظمى أعني معرفة العدو وأساليبه وحيله. ففي استمرار هذه الاختلافات بين التيارات الوطنية وإغفال تبعات الحرب الداخلية في هذه البلدان خطر كبير لا يمكن تعويض الأمة الإسلامية عن خسارته، في القريب العاجل.

نحن لا نشك أن الشعوب الناهضة في المنطقة والتي بلورت الصحوة الإسلامية، بإذن الله لن تسمح بأن ترجع عقارب الزمن إلى الوراء وأن يعود عصر الحكّام الفاسدين والمرتبطين (بالخارج) والدكتاتوريين، لكن الغفلة عن دور القوى الإستكبارية في إثارة الفتن وتدخلها الهدّام سوف يعقّد الأمور على هذه الشعوب، و يؤجل عصر العزة والأمن والرفاه لعدة سنوات.

نحن مؤمنون من أعماق قلوبنا بقوة الجماهير وبالقدرة التي أودعها الله الحكيم في عزم الشعوب وفي إيمانها وبصيرتها ونحن لمسنا ذلك بأعيننا خلال أكثر من ثلاثة عقود في الجمهورية الإسلامية في إيران وجربناه بكل وجودنا. مهمّتنا أن ندعو جميع الشعوب المسلمة إلى تجربة إخوانهم هذه في هذا البلد الفخور الذي لا يعرف الكلل.

أسأل الله سبحانه أن يصلح أمور المسلمين و يدفع كيد الأعداء عنهم وأسأله تعالى لكم، يا حجاج بيت الله الحرام حجاً مقبولاً و صحةً في الأجساد والأرواح وعطاءً معنوياً وافراً.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

السيد علي الخامنئي

19 مهر 1392 ه ش

5 ذي الحجة 1434 ه ق

وجه قائد الثورة الاسلامية سماحة آية الله العظمى السيد علي الخامنئي نداءا الى حجاج بيت الله الحرام لموسم حج 1433 هـ.ق، اكد فيه على الوحدة الاسلامية.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلوات الله وسلامه على الرسول الأعظم الأمين، وعلى آله المطهّرين المنتجبين، وصحبه الميامين.

حلّ موسم الحج زاخراً بالرحمة والبركة، وغمر بالفيض الإلهي مرةً أخرى السعداء الذين تشرّفوا بالحضور في ميعاد النور. الزمان والمكان هنا يدعوان كل واحد منكم يا حجّاج بيت الله الحرام للارتقاء المعنوي والمادي. الرجال والنساء المسلمون هنا يلبّون بقلوبهم وألسنتهم دعوة الله العظيم للصلاح والفلاح. هنا يجد الجميعُ الفرصة لتجريب الأخوّة والتجانس والورع. هنا مخيّم للتربية وللتعليم، ومعرض لوحدة الأمة الإسلامية وعظمتها وتنوّعها، مخيّم مكافحة الشيطان والطاغوت. جعل الله الحكيم القدير هذا المكان ليشهد المؤمنون فيه منافع لهم. حين نفتح عيون العقل والعبرة يستغرق هذا الوعد السماوي كل مديات الحياة الفردية والاجتماعية. تمتاز شعائر الحج بخصوصية امتزاج الدنيا والآخرة، وتلاحم الفرد والمجتمع. الكعبة العظيمة البسيطة، وطواف الأجسام والقلوب حول محور ثابت أبدي، والسعي والجهد المستمر المنظم بين مبدأ ومنتهى، والرحلة الجماعية إلى ساحات الحشر والنشور في عرفات والمشعر، والأشواق والانفعالات التي تزيد القلوب في هذا المحشر العظيم صفاء وطراوة، والهجوم العام لمواجهة رمز الشيطان، ثمّ التواكب بين الجميع من كل مكان ولون ونوع في كل هذه المراسم الزاخرة بالرموز والأسرار، والمفعمة بالمعاني وآيات الهداية.. هي الخصائص الفريدة لهذه الفريضة الطافحة بالمعاني والمضامين.

مثل هذه المراسم هي التي تربط القلوب بذكر الله، وتنير خلوة أفئدة البشر بنور التقوى والإيمان، وتُخرج الفرد من أسوار الذات لتذيبه في المجموع المتنوّع للأمة الإسلامية، وتلبسه ثياب الورع التي تحمي روحه من سهام المعاصي المسمومة، وتثير فيه روح مهاجمة الشياطين والطواغيت. هنا يشاهد الحاج بعينه نموذجاً من المديات الواسعة للأمة الإسلامية، ويكتشف إمكانياتها وقدراتها، ويعقد الآمال على المستقبل، ويشعر كذلك بالجاهزية لأداء دوره في ذلك المستقبل، وإذا حظي بتوفيق الله وعونه يبايع الرسول الأعظم (ص) ثانية، ويعقد ميثاقاً قوياً مع الإسلام العزيز، ويوجِد في داخله عزماً راسخاً لإصلاح ذاته وإصلاح الأمة وإعلاء كلمة الإسلام.

و هذان الإثنان، أي إصلاح الذات وإصلاح الأمة فريضتان لا تتعطلان. وسبلهما لن تكون بفضل التعمّق في الواجبات الدينية والاستلهام من التعقّل والبصيرة صعبةً على أهل التدبّر والتأمّل.

إصلاح الذات يبدأ بمكافحة الأهواء الشيطانية والسعي لاجتناب الذنوب، وإصلاح الأمة ينتظم بمعرفة العدو ومخططاته، والمجاهدة لإحباط ضرباته ومخادعاته وعداواته، ثمّ بتعاضد القلوب والأيدي والألسنة بين كل المسلمين والشعوب الإسلامية.

من أهم القضايا في العالم الإسلامي خلال هذه الفترة الزمنية، وهي قضية ارتبطت بمصير الأمة الإسلامية، الأحداث الثوريّة في شمال أفريقيا والمنطقة، والتي أفضت لحد الآن إلى إسقاط عدة أنظمة فاسدة مطيعة لأمريكا ومتعاونة مع الصهيونية، وزلزلة أركان عدة أنظمة أخرى من هذا القبيل. إذا فوّت المسلمون هذه الفرصة العظيمة، ولم ينتفعوا منها في سبيل إصلاح الأمة الإسلامية، فقد خسروا خسراناً كبيراً. لقد بدأت الآن كل مساعي الاستكبار المعتدي المتدخّل الرامية إلى حرف هذه التحركات الإسلامية العظيمة.

في هذه الثورات الكبرى انتفض الرجال والنساء المسلمون ضد استبداد الحكام وسيطرة أمريكا التي أدت إلى امتهان الشعوب وإذلالها والتحالف مع الكيان الصهيوني الإجرامي. واعتبرت الجماهيرُ الإسلامَ وتعاليمه وشعاراته المنقذة العامل المخلص لها في هذا الكفاح المصيري، وأعلنت عن ذلك بصوت عال. وجعلت الدفاع عن الشعب الفلسطيني المظلوم ومكافحة الكيان الغاصب على رأس مطاليبها، ومدّت يد الصداقة للشعوب المسلمة وطالبت باتحاد الأمة الإسلامية.

هذه هي أسس الثورات الشعبية في البلدان التي رفعت خلال العامين الأخيرين راية الحرية والإصلاح، وتواجدت بأجسامها وأرواحها في سوح الثورة، وهذا ما يمكنه ترسيخ الدعائم الأساسية لإصلاح الأمة الإسلامية الكبيرة. الثبات على هذه الأصول الأساسية شرط لازم لانتصار الثورات الجماهيرية في هذه البلدان انتصاراً نهائياً.

يسعى العدو لزعزعة هذه الأركان الأساسية. وتستغل الأيدي الفاسدة لأمريكا والناتو والصهيونية بعض حالات الغفلة والتسطيح لحرف المسيرة العارمة للشباب المسلم وإشعال اشتباكات بينهم باسم الإسلام، وتبديل الجهاد المناهض للاستعمار والصهيونية إلى إرهاب أعمى في أزقة العالم الإسلامي وشوارعه، حتى تراق دماء المسلمين على أيدي بعضهم، ويتخلص أعداء الإسلام من الطريق المسدود، ويشتهر الإسلام والمجاهدون في سبيله بسوء الصيت والوجه المشوّه.

و بعد يأسهم من إلغاء الإسلام والشعارات الإسلامية، عمدوا الآن لإثارة الفتن بين الفرق الإسلامية، وراحوا يضعون العقبات والعراقيل في طريق اتحاد الأمة الإسلامية بمؤامرات التخويف من الشيعة والتخويف من السنّة.

إنهم يخلقون الأزمات في سورية بمساعدة عملائهم في المنطقة ليصرفوا أذهان الشعوب عن قضايا بلدانها المهمة والأخطار التي تحدّق بهم، إلى الأحداث الدامية التي ساهموا إسهاماً أساسياً في خلقها. الحرب الداخلية في سورية ومقتل الشباب المسلمين على أيدي بعضهم جريمة بدأت وتمّ تأجيجها من قبل أمريكا والصهيونية والحكومات المطيعة لهما. من يمكنه أن يصدّق أن الحكومات التي دعمت الدكتاتوريات السوداء في مصر وتونس وليبيا تحمي الآن مطالبة الشعب السوري بالديمقراطية؟ قضية سورية قضية الانتقام من حكومة وقفت لوحدها طوال ثلاثة عقود أمام الصهاينة الغاصبين، ودافعت عن جماعات المقاومة في فلسطين ولبنان.

إننا نناصر الشعب السوري ونعارض أي تحريض وتدخّل خارجي في سورية. أي إصلاح في هذا البلد يجب أن يتمّ على يد الشعب وبأساليب وطنية تماماً. أن يختلق طلاب الهيمنة الدوليون بمساعدة حكومات المنطقة المطيعة لهم أزمةً في بلد بذريعة من الذرائع، ثمّ يتذرّعوا بوجود تلك الأزمة للسماح لأنفسهم بارتكاب أية جريمة في ذلك البلد، فهذا خطر كبير إذا لم تعالجه حكومات المنطقة فعليها أن تنتظر دورها في هذه الخدعة الاستكبارية.

أيها الإخوة والأخوات.. موسم الحج فرصة للتأمّل والتعمّق في قضايا العالم الإسلامي المهمة. ومن هذه القضايا مصير ثورات المنطقة والمساعي التي تبذلها القوى المتضرّرة من هذه الثورات لتحريفها. المخططات الخيانية لبث الخلافات والفرقة بين المسلمين، وإشاعة سوء الظن وعدم الثقة بين البلدان الثائرة والجمهورية الإسلامية الإيرانية، وقضية فلسطين والمساعي الرامية لعزل المناضلين وإطفاء جذوة الجهاد الفلسطيني، والأداء الإعلامي للحكومات الغربية المعادي للإسلام، ودعمهم لمن أهانوا المنزلة المقدسة للرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)، والتمهيد لحروب داخلية وتجزئة بعض البلدان المسلمة، وإخافة الحكومات والشعوب الثائرة من معارضة طلاب الهيمنة الغربيين، والترويج لوهم أن مستقبلهم رهن بالاستسلام أمام المعتدين.. وغير ذلك من مثل هذه القضايا المهمة والحيوية، هي في عداد القضايا المهمة التي يجب أن يجري التأمّل والتعمّق فيها خلال فرصة الحج، وفي ظل التعاطف والتقارب بينكم أيها الحجاج.

لا مراء أن الهداية والإرشاد الإلهيين سوف يدلّان المؤمنين على سبل الأمن والسلامة.. «و الذين جاهدوا فينا لنهدينّهم سبلنا..».

و السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

السيد علي الخامنئي

30 مهر 1391 هـ ش الموافق للخامس من ذي الحجة 1433 هـ ق

الإثنين, 11 حزيران/يونيو 2018 09:29

المرحلة الفمية والفطام

تأخذ نفسية الطفل بالتبلور منذ الشهور الأولى من حياته ، ولقد كشف علم النفس الحديث عن الأهمية الأساسية للمرحلة الفميَّة في صياغة مستقبل الطفل ، والمرحلة الفميَّة هي - على التحديد - تلك الفترة التي تعقب الولادة مباشرة ، وتمتد حتى الشهر الثاني عشر من حياة الطفل .
ولقد ثبت أنَّ من الصعب كثيراً - إن لم نقل : من المستحيل - على الوليد الجديد التمييز بين النهار والليل والنوم واليقظة ، إذ يتركز اهتمامه الرئيسي على التغذية ، والتغذية تتمثل بالنسبة إليه في ثدي أمه ، فالثدي هو الشيء الأول الذي يتعرف الطفل عليه في الواقع الجديد الذي يعيش فيه ، وهو يحاول عن طريق أفعاله الانعكاسية ، وعواطفه ودوافعه الحركية ، تجنب الألم والتماس لذة رضاعة الثدي .
ويعرف الطور الأول من حياة الطفل - وهو طور بالغ الأهمية في نموه النفسي - بالمرحلة الفميَّة ، لأن هذه المرحلة ترتبط بصورة أوَّلية بالفم ونشاط الفم ، وتقسم المرحلة الفميَّة أحياناً إلى فترتين ، وفق العلاقة التي تتوطد بين الطفل وأمه ، وتسمى الفترة الأولى بالمرحلة الفميَّة ، أو مرحلة الرضاعة من الثدي ، وتمتد من الولادة حتى ستة أشهر .
أما الفترة الثانية فتعرف بمرحلة المضغ ، أو المرحلة السادية الفميَّة ، أو مرحلة الخضم وهي الأكل بجميع الفم أي بوحشية ، وتمتد هذه المرحلة من الشهر السادس تقريباً حتى الشهر الثاني عشر .
وقد أظهرت الدراسات الحديثة أن الفترة الثانية من المرحلة الفميَّة هي المرحلة التي يتمثل فيها أكبر قدر من عدوانية الطفل وساديَّته ، أما في أثناء فترة المضغ والعض التي ترافق فترة ظهور أسنان الطفل ، فالطفل يظهر امتعاضاً شديداً من طريقة إشباع حاجاته إلى الطعام ، وتتسم هذه الفترة برغبة الطفل في العضِّ والقضم ، والتهام ثدي أمه التهاماً شرساً ، لأنه لا يشبع حاجته إلى الطعام إشباعاً كاملاً .
وتفسَّر عدوانية الطفل هذه بأنها محاولة من جانبه للتمسك بشيء يعده حيويّاً بالنسبة إليه ، ولا يريد أن يفقده ، وتتصف المرحلة الفميَّة بوجود أعمال انعكاسية معينة توجد منذ الولادة ، والحق أن منعكس الرضاعة ليس مجرد استجابة لمنبِّه يشعر به داخل فمه ، بل إنه أكثر تعقيداً من ذلك .
فالطفل يشرع عند الولادة بإدارة رأسه عندما يلمس خدَّه ، ويفتح فمه عندما تلمس شفتاه ويرضع عندما يشعر بمنبه داخل فمه ، ويبلع عندما يصل الطعام إلى مؤخَّرة حلقه ، وتتطور عملية الرضاعة هذه بسرعة بعد الأيام الأولى ، لتشمل البحث عن ثدي الأم عندما تسند الأم طفلها إلى جسمها ، فيبدي حركات دالَّة على الرضاعة عندما تعد الأم نفسها لإرضاعة ، فيمص إبهامه وغير ذلك من الأشياء .
وتختلف الحاجة إلى الرضاعة من حيث شِدَّتها وطول فترتها من طفل إلى طفل ، فمن الأطفال من يرضى بالرضاعة من الثدي أو من زجاجة الرضاعة ، ومنهم من يرغب في الاستمرار بالرضاعة بالرغم من شبعه ، ومع بداية الشهر الثاني يبدأ الطفل بإبراز لسانه ورفع إبهامه إلى فمه لمصِّه ، وفي أثناء ذلك يمص الطفل أصابعه أو أي شيء آخر يلامس فمه ، ويشرع في البحث عن إدراك العالم الخارجي وتعرفه بواسطة الحواس الخمس .
ومن الجدير بالذكر أن هذه الفترة لا ترافق نهاية المرحلة الفميَّة ، وإن كان كثير من الناس يعتقدون ذلك ، فالدوافع الفميَّة تستمر لسنوات ، وأحياناً تستمر طوال الحياة ، وإن كانت هذه الدوافع تفقد بالطبع أولويتها ، ومن جهة ثانية ينبغي لكل أمٍّ أن تعلم أن طريقة الفطام تؤثِّر في النمو اللاحق للطفل تأثيراً عميقاً .
فالفطام الذي يتم على عجل بطريقة متبلِّدة يعوزها الشعور - ولا سيما إذا كان الطفل يعتمد بصورة أساسية على حليب أمه - فغالباً ما يثير في الطفل مشاعر القلق وعدم الارتياح والتهيج ، ويدفعه إلى نوبات من الغضب والأحاسيس السلبية نحو أمه ، وكذلك يدفعه إلى تحريك لسانه باستمرار بما يوحي بحاجته إلى الرضاعة ، كما يحمله على الأرق والبكاء .
وينشأ أحياناً اضطراب حقيقي ناجم عن الفطام يؤدِّي إلى أنواع عديدة من الأمراض الهضمية ، والتقيؤ المتكرر ، وعدم رغبة الطفل في بلع الطعام الذي يقدَّم إليه ، والحق أن الفطام يستلزم تكيّف فم الطفل وفق وضع مختلف يبدأ بالشفتين ثم باللسان ، فإذا لم يحفز الطفل على تكييف فمه بمواجهة هذا الموقف الصعب من الناحية النفسية على الأقل فهو لا يبدي دائماً رغبة في ذلك .
والفطام الذي يتَّسم بالصرامة المفرطة ولا يراعي حاجات الطفل تمارسه في العادة الأمهات اللواتي يرغبن في اتباع النظام الشديد الصارم ، الذي تعوزه العاطفة والحنان ، وهذا الأسلوب ينمو عن تربية تتسم بالقسوة والصرامة في مواجهة المواقف الصعبة ، ولذلك تنشأ بين مثل هؤلاء الأمهات وأطفالهن علاقة تقوم على الاستياء القوي المتبادل ، والذي يتمثل في حوادث متكررة وطويلة من الانتقام ، وربما عادت إلى الظهور في المستقبل .
ومن جهة أخرى هناك فئة من الأمهات لا يفطمن أطفالهن حتى وقت متأخر ، ويدل هذا التأخير في الفطام على حرصهن الشديد على أطفالهن وحمايتهن لهم ، إذ لا يرغبن في فقدان الصلة بهم ، لذلك يحضنَّ أطفالهن أطول مدة ممكنة ، وربما دل سلوك هؤلاء الأمهات على أنَّهن يلتمسْنَ كذلك تعويضاً عن مشاعر سابقة أو حقيقية بخيبة أمل واستياء من أزواجهن ، أو ربما كُنَّ ينشدْنَ الوحدة فحسب .
أما الأطفال الذين ينشئون برعاية أمَّهات يبدين قدراً مفرطاً من الحماية لهم فغالباً ما تتكوَّن لديهم مشاعر معاكسة مزدوجة ، فيبقون متعلقين بأمَّهاتهم بطريقة تكاد تكون غير سليمة ، فهم اتِّكاليون سلبيون ، لا يقدرون على التصدي للإحباطات والمصاعب التي تواجههم في الحياة اليوميَّة ، ويلتمسون العون فوراً عندما تواجههم مشكلة صغيرة .

 

عيوب المرحلة الفمية وعاداتها :

لقد رأينا أنَّ الطفل الصغير يمر بالمرحلة الفميَّة ، وهي الفترة التي يكون فيها أهم جزء من جسمه هو فم الطفل وحواسه ، وتستمر بعض مظاهر المرحلة الفميَّة بعد السنة الأولى من حياة الطفل ، فالأم تلجأ إلى الحلمة الصناعية ( المصَّاصة ) مثلاً تَهْدِئَة لطفلها حتى يكفَّ عن البكاء أو يمتنع عنه ، ولكن ينبغي عدم إعطاء الحلمة الصناعية للطفل فوراً إذا لم يكن محتاجاً إليها .
ولا بأس في أن يستعملها الطفل بديلاً عن مصِّ إبهامه حتى السنة الثانية من عمره على الأقل ، وبصورة عامة تتناقص حاجة الطفل إلى الحلمة الصناعية مع الزمن ، ويتناقص كذلك اهتمامه بجسمه ، ولكن الأطفال يغرمون بالمصاصة أحياناً ويطلبونها حتى بعد فترة الفطام .
أما التفسير النفسي لحاجة الطفل إلى المصِّ فترتبط بشكل من السلوك الطفولي المصحوب عادة بأشكال أخرى من عدم الأمان ، فالطفل الذي يبقى متعلقاً بالحملة الصناعية لمدَّة طويلة جداً ، يحتمل أن يكون استعماله إياها بديلاً عن اهتمام والديه به .
وهنا ينبغي البحث عن سبب هذا الشعور بعدم الأمان ، والشيء نفسه يقال عن مص الطفل لأصابعه ، وهي طريقة طبيعية لإرضاء الحاجة الأساسية للمصِّ لدى الطفل في أثناء الشهور الأولى من حياته .
فإذا استمر الطفل في ممارسة عملية المصِّ حتى السنة الثانية أو الثالثة تقريباً ، فليس ذلك في معظم الأحوال على الأقل سوى عرض من أعراض اضطراب عاطفي ، والطفل يلجأ إلى هذه الحركات ليسلِّي نفسه بها فبعضها يمتعه ، وبعضها الآخر يذكره بطفولته الأولى .
ويمارس الطفل عادة مصِّ الإبهام عندما يشعر بالاكتئاب والتعب والتضايق ، أو عندما يتوجَّس خيفة من الوسط الذي يعيش فيه ، أو من الغرباء ، وهو يحتاج إلى مناخ عاطفي معيَّن لا يصح تجاهله أو إهماله ، فإذا لم يحظَ بالاهتمام والرعاية وبقي لمدة ساعات طويلة مع دمية يلعب بها ، تعذَّر على الأبوين منعه من مصِّ إبهامه ، ولكن إذا لقي تجاوباً وعطفاً ومزيداً من المؤانسة تضاءل تعلُّقه بطفولته الأولى ، وزادت اهتماماته ورغباته .
ومن الضروري ألا يتدخل الأبوان بطريقة آمرة لقمع هذه النقيصة غير المهمة لدى الطفل ، والتي تزول مع الزمن ، فتدخلهما يؤثِّر فيه تأثيراً سلبياً ، ويزيد من قلقه ، وربَّما كان من المستحسن اللجوء إلى وضع شيء بين يديه بغية حمله على الإقلاع عن عادة مصِّ إبهامه ، ومهما يكن من أمر فإن من الضروري معرفة سبب هذه العادة وإيجاد حلٍّ صحيح لها ، ومن المفيد في الوقت نفسه إطراء الطفل عند امتناعه عن مصِّ إبهامه ، فذلك يشجعه على الإقلاع عن هذه العادة .
وفي السنة الثالثة تقريباً ينزع الطفل غير الآمن إلى قضم أظافر يديه ، وهذا رد فعل طفولي على القلق والتوتر اللذين يصيبان الكبار كذلك ، وعن طريق هذه العادة الذميمة ينفِّس الطفل عن عدوانيته ، ويخفف من وطأة القلق الذي يعانيه ، ويشعر بالسرور في الوقت نفسه ، وعند محاولة حمل الطفل على الإقلاع عن هذه العادة ، ينبغي للأبوين تقصي الأسباب الداعية إليها ، وهي ترجع عادة إلى التربية التي ينشأ الطفل عليها .

من الواضح أن براغماتية أمريكا تشاطر براغماتية تركيا في التعاطي مع الكرد، وبين البراغماتيتين تبقى الأخيرة في موقع لا تحسد عليه، وكأنها "مغضوب عليها" من هذا العالم، قد يكون ذلك صحيحاً، وقد يكون أسلوب تعاطيها مع المحيط وفشلها في انتقاء شريك جيد يدعمها ويحمي لها مصالحها سبب آخر؛ ابحث عن واشنطن وستجد مصير حلفائها مجتمعين وكمية الخذلان الذي يحلّ بهم في أحلك الظروف، الأكراد نموذج حيّ عمّا نتحدث.

ماذا يجري الآن في الشمال السوري

تتجه الأمور في الشمال السوري وبالتحديد في منطقة "منبج" نحو بزوغ اتفاقية جديدة يكون فيها الأكراد "كبش الفدا" كما يحدث عادة، والهدف إعادة بعض المياه إلى مجاريها فيما يخصّ العلاقات الأمريكية - التركية، ففي يوم أمس الثلاثاء أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية، أن الاتفاق مع أنقرة بشأن مدينة منبج السورية ينصّ على سحب وحدات حماية الشعب من المدينة إلى شرق الفرات.

وذكرت قناة "الحرة" الأمريكية أن الاتفاق مع أنقرة بشأن مدينة منبج السورية ينصّ على سحب وحدات حماية الشعب من المدينة إلى شرق الفرات، وكانت وحدات حماية الشعب أعلنت في وقت سابق اليوم سحب مستشاريها العسكريين من مدينة منبج، مشيرة إلى أن ذلك بعد "إتمام مهامها في تقديم العون والتدريب لمجلس منبج العسكري"، وعقد التحالف الدولي ضد تنظيم "داعش" يوم أمس الثلاثاء، اجتماعاً "سريّاً" مع مجلس منبج العسكري، حول التطورات الأخيرة التي تجري في المنطقة، وعملية سحب المستشارين العسكريين لوحدات حماية الشعب من المدينة.

الغاية الأولى من هذا الاتفاق هي تحقيق المصالح الأمريكية قبل تحقيق مصالح أي طرف آخر، ولكي يتحقق ذلك لا بدّ من تحريك ورقة الأكراد وتقديم بعض التنازلات للتركي من خلال الأكراد أنفسهم، والذين يشكّلون اليوم بالنسبة لها حصان طروادتها الأخير في سوريا، والذي يمكن تحريكه في أي وقت ضد الحكومة السورية أو ضد الأتراك، ولذلك لن تتخلى واشنطن عن الأكراد تحت أي ظرف، لأن خروج الأكراد من تحت عباءتها يعني خروجها من دائرة السيطرة في الشمال السوري، وبذلك تصبح خارج أي معادلة سياسية قادمة.

الاتفاق الجديد

عقد وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو يوم الاثنين الفائت مباحثات مع نظيره الأمريكي بومبيو بمقرّ وزارة الخارجية الأمريكية في العاصمة واشنطن، استغرقت حوالي ساعة، وتركزت بشكل كبير على وضع خارطة طريق حول منبج، وفق مصادر دبلوماسية تركية.

وكشف وزير الخارجية التركي، مولود تشاووش أوغلو عن تفاصيل الاتفاق التركي الأمريكي فيما يخصّ مستقبل مدينة منبج شمال سوريا، وقال أوغلو إنه "سيتم نزع سلاح تنظيم "ي ب ك/بي كا كا" أثناء انسحابه من مدينة منبج، شمال سوريا"، في تعليقه على خارطة الطريق التي جرى التفاهم فيها مع واشنطن.

وفي تصريحات صحفية أدلى به من ولاية "أنطاليا" (غربا)، الثلاثاء، ونقلتها وكالة الأناضول التركية الرسمية أوضح أوغلو: "سيتم نزع السلاح من التنظيم (ي ب ك/بي كا كا) أثناء انسحابه من منبج، وستنتهي العملية بالتزامن مع انتهاء انسحاب عناصره"، وأكد أنه لن يكون هناك دور لأي دولة ثالثة في "منبج" بما في ذلك فرنسا وبريطانيا وبلجيكا.

وتابع: "خطواتنا التي سنتخذها (في منبج) مهمة من أجل مستقبل سوريا وفرصة لإعادة علاقاتنا المتدهورة مع أمريكا إلى مسارها؛ لذا يجب تنفيذ الخارطة بالكامل"، وأردف قائلاً: "سنقوم بتطبيق خارطة الطريق في منبج وعقب ذلك سنباشر بتطبيقها في مدن أخرى، وعندها سيتضح الموقف الأمريكي"، وبخصوص لقائه نظيره الأمريكي، مايك بومبيو، أضاف: "يتضمن اتفاقنا تطبيق نموذج منبج بعد إتمامه في المناطق الأخرى التي يسيطر عليها التنظيم (ي ب ك/بي كا كا)".

وبهذا يكون أوغلو قطع الطريق على فرنسا الطامحة لإعادة أيامها الذهبية في زمن السيطرة على سوريا وعدة دول أخرى، وفي نفس الوقت تكون تركيا بددت مخاوفها مبدئياً من وجود الأكراد على حدودها وأبعدت خطر تشكيل فيدرالية كردية عن كاهليها، والأمريكي يعرف جيداً كيف يدير هذه اللعبة ومتى يحركها عند اللزوم.

الخطة الأمريكية

الأمريكي له غايات تقسيمية في المنطقة، كما يبحث للوصول إليها عبر دعم الإرهاب من جهة والتظاهر بمكافحته من جهة، ودعم الأكراد من جهة أخرى، لكي يتمكن من تقسيم المنطقة وبذلك يمكنه السيطرة عليها بسهولة، وكان هدفه منذ اليوم الأول إسقاط النظام في سوريا، وهذا سبب التقاطع مع التركي منذ بدء الأزمة، وبعد فشل هذا السيناريو الأمريكي-التركي-الخليجي تسعى أمريكا للانتقال إلى مسألة تقسيم البلاد، وهذا ما ترفضه كل من تركيا وسوريا على حد سواء بسبب الأكراد.

بعد مسألة الأكراد في العراق وفشل سيناريو التقسيم لم تتراجع أمريكا رغم أنها أظهرت وقوفها إعلامياً إلى جانب العراق، ولكن التقارير الأمريكية الصادرة عن معهد واشنطن والعديد من مراكز الدراسات توصي بضرورة أن يكون الجانب الأمريكي هو الوسيط في المفاوضات بين بغداد وأربيل للإمساك بزمام الأمور وانتهاز أي فرصة مواتية لتقسيم البلاد، هذا ما تريده اليوم أمريكا أيضاً في سوريا.

تدرك واشنطن أن مسألة الفيدرالية حالياً معقدة جداً، وتدرك عدم قدرة الأكراد على الوقوف في وجه الأتراك تماماً كما حصل في عفرين، وبالتالي تسعى لأن تكون في الوسط ظاهرياً رغم أنها في الواقع تسعى لتحقيق الأهداف الكردية نظراً لتقاطعها مع أهدافها.

في المقابل تركيا ليست بالدولة الساذجة سياسياً، وبالتالي تستخدم الأسلوب الأمريكي نفسه اليوم في التقدم ببطء، إلا أن تجربة أردوغان خلال السنوات السبع الماضية تؤكد عدم اقتناعه بأنصاف الحلول خاصة فيما يتعلّق بالجانب التركي، وبالتالي فإن كلا الطرفين ينتهزان الفرصة للانقضاض على الشمال السوري.

السبت, 09 حزيران/يونيو 2018 07:01

القرآن نظام حياة

القرآن كتاب الدنيا والآخرة (1)
إذا كان الناس يطلبون العدالة و ينفرون من الظلم، فعليهم تعلم سبيل النضال ضد الظلم من القرآن. و إذا كان الناس يطلبون العلم و يرومون عن طريق المعرفة والاطلاع والعلم تطوير حياتهم و تحقيق الراحة و الرفاه لأنفسهم فإن القرآن يدل علی السبيل إلی ذلك. و إذا كان الناس ينشدون الاتصال بالله تعالی و الصفاء المعنوي والروحي والتعرف علی مقام القرب الإلهي فالسبيل إلی ذلك هو القرآن الكريم.

القرآن نظام متكامل للحياة (2)
القرآن مصدر عزّة المسلمين . القرآن نابض بالحياة على الدوام، وهو يهتمّ بمتطلّبات الإنسان، هو نظام متكامل للحياة الاجتماعيّة. وبإمكانه أن يكون أفضل وصفة لسعادة الإنسانيّة.

حياة الأمم باتباع منهج القرآن(3)
حياة الأمم والشعوب بالاطلاع علی معارف القرآن والعمل بمقتضی هذه المعارف و العمل بالأحكام القرآنية. كل النواقص في العالم الإسلامي نتيجة‌ الابتعاد عن المعارف الإلهية والقرآنية

إذا خشع القلب أمام آيات القرآن سَرَت هدايته إليه
إذا حصل الخشوع أمام الآيات؛ عندئذ يتأثر القلب بالهداية القرآنية. ترون بعض القلوب لا تتأثر مهما قُرئ عليها من آيات القرآن وهداياته. والبعض الآخر على العكس: (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يُرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصّعّد في السماء) .

نحن جميعًا نقرأ الآيات باستمرار ونكررها، ونذكرها لبعضنا، أنتم تذكرونها لي، وأنا أذكرها لكم. إذن يجب والحال هذه أن تتأثر قلوبنا بهذه المفاهيم. لنفترض مثلًا قوله تعالى: (و اعتصموا بحبل الله جميعًا) ، هذه الآية تعليم قرآني ، وقد كررناها دائمًا ونقرؤها باستمرار. حينما تنزل هذه الآية الكريمة على قلوبنا كإلهام إلهي - إذا اجتذبها القلب وهضمها وانصبت الروح في قالبها - عندئذ ستكون قضية الوحدة قضية أساسية بالنسبة لنا، فلا نُفسد الوحدات الوطنية العظيمة لأغراض ومقاصد شخصية. لاحظوا أن الآية تترك أثرها هنا.

هذا هو أمر القرآن على كل حال، فلماذا لا نعمل به؟ أين هي المشكلة؟ المشكلة تكمن هنا.

إذا جعلنا قلوبنا أوعية تستضيف شآبيب [أمطار] رحمة القرآن وأمطار هدايته؛ إذا سلّمنا القلوب للقرآن، كانت تلك الأمور سهلة علينا. عندئذ لن تؤدي المقاصد الشخصية، والأغراض الشخصية، والمصالح المادية، وطلب السلطة، وحب المال، والصداقات الخاصة إلى أن ينسى الإنسان هذه التوصية القرآنية والهداية القرآنية، ويفقدها، ويتركها وراء ظهره.

لنقرأ القرآن دوما
إنّ فتح المصحف أمامنا، والاستماع لآيات القرآن، وقراءتها، يجب أن تأخذ بأيدينا إلى هذه المستويات درجةً درجةً. هذه هي الحال الصحيحة التي يجب أن نحققها. وهذه هي خصوصية القرآن الكريم. ليس القرآن كباقي الكتب العادية يقرؤها الإنسان مرةً واحدةً ثم يغلقها ويتركها. لا، إنه كماء الشرب؛ يحتاجه الإنسان دائمًا. تأثيره تدريجي ويستغرق زمنًا ولا نهاية له. لا نهاية لهداية القرآن. كلما تعلمتم من القرآن أكثر كلما انفتحت أمامكم أبواب، واتضحت مجهولات. هكذا هو القرآن. لذلك ينبغي قراءة القرآن دومًا. والوسيلة لذلك هو أن يكون لنا أُنسنا بالقرآن. ليقرأ شبابنا القرآن بأصوات حسنة وألحان جيدة ويراعوا فيه الجوانب المختلفة. وكما ألمحت، ليجعلوا الخشوع من العناصر البناءة في التلاوة.

(1) كلمته في حملة القرآن الكريم بمناسبة حلول شهر رمضان المبارك ـ 02/08/2011
(2) ألإمام الخامنئي ـ الكلمات القصار
(3) كلمته في لقائه المشاركين في المسابقات الدولية للقرآن الكريم 22-5-2015

تؤكد الدراسات الحديثة أن الإرهاق وقلة النوم يؤثران سلباً في صحة الرجال خاصة الرجال الذين يعانون من مشاكل في القلب.

وتبين الدراسات أن الرجال المصابين بأمراض القلب ولديهم عمل مرهق أكثر عرضة للموت المبكر من النساء حتى وإن تناولوا وجبات صحية.

ويقول العلماء إن خفض مدة العمل والسيطرة بطرق مختلفة على الإجهاد الوظيفي للرجال الذين يعانون من أمراض القلب والسكتة الدماغية والسكري من النمط الثاني يمكن أن يقلل من المخاطر الصحية التي يجابهها هؤلاء الرجال.

يصنف الباحثون الإجهاد في العمل إلى نوعين: "الإجهاد الوظيفي" المرتبط بمتطلبات العمل المرتفعة و"إختلال الجهد والمكافأة" الذي يعني بذل الكثير من الجهد مقابل الحصول على مكافأة قليلة.

ويحذر العلماء أن الرجال الذين تزيد أعمارهم عن ستين عاماً ويعانون من مشاكل في القلب والإجهاد الوظيفي وفترات نومهم قصيرة جداً، أكثر عرضة للخرف والوفاة المبكرة ويمكن أن يواجهوا ضغط الدم وتخثره أيضاً.

يقول العلماء إن الرجال الذين تقلّ مدة نومهم عن 5 ساعات أو تزيد عن 10 ساعات هم الأكثر عرضة للوفاة والخرف، و الأرق ليلتين إثنتين يستطيع أن يعطل عمل أكثر من مئة بروتين مختلف في جسم الإنسان ويسبب الخلل في التمثيل الغذائي.

السبت, 09 حزيران/يونيو 2018 06:59

الجهد والمشقّة في الحجّ.. موعظة وعِبرة

لا نزال مع سيّدنا ومولانا أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب(ع)، في معالجته للفكرة الّتي أشرنا إليها في ما تقدَّم من حديث، وهي أنَّ اللّه سبحانه وتعالى ابتلى عباده في مسألة الإيمان والطّاعة، بأن جعلهما في دائرة الجهد لا الرّاحة، فأراد للأنبياء(ع) أن يبرزوا للنّاس دونما مظهر من مظاهر القوّة، إلا قوَّة العقل والرّوح والاستقامة في خطّ الإيمان.

لذّة العمل

وفي الفقرات التّالية، يتطرّق الإمام علي(ع) إلى الحديث عن البيت الحرام، وكيف أنّ اللّه سبحانه وتعالى جعله في أكثر الأماكن صعوبةً، على حدِّ تعبير سيّدنا إبراهيم(ع)، عندما دعا ربّه ـ كما ورد في القرآن الكريم ـ : {إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ}، بمعنى أنّه لم تتوافر في ذلك الوادي أيّ شروط للحياة. ولذا، دعا إبراهيم(ع) ربّه: {فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ}، لكي يكملوا مسيرة الحياة، ويبنوا مجتمعاً، فكأنّ اللّه سبحانه وتعالى أراد أن يختبر عباده بطاعته، من موقع الجهد والمشقَّة.

ولعلَّ الجانب الإيجابي في ذلك، هو أنَّ الإنسان عندما ينطلق نحو القيام بالمسؤوليّة من موقع الجهد الذي يتحمّله، فإنه يرتبط بهذه المسؤوليّة، ويخرج بنتائج روحيّة إيمانيّة أكثر مما لو كانت المسؤوليّة تتمثّل في مواقع الاسترخاء والراحة. ولعلَّ الإنسان يعرف ذلك من نفسه، فعندما يقوم بعمل يفرض عليه الكثير من الجهد، فإنّ النّتائج الّتي يحصل عليها من خلال كلّ مفاعيل هذا العمل في نفسه، أكثر مما لو اختصر العمل بوسائل تتّصف بالسّهولة، وهذا ما يوحي بأنّ على الإنسان أن يواجه التزاماته الفكريّة والعقائديّة من موقع الإنسان الَّذي يؤكّد مسؤوليّته في ذلك بكلّ جهده وطاقته، لتتعمّق المسؤوليَّة بمفرداتها في عقله وقلبه ووجدانه، وكأنَّ المسؤوليّة تتحوّل إلى تجسيد في وجوده، وبذلك يمثِّل الجهد الّذي يبذله الإنسان عمليّة تدريبيَّة يواجه من خلالها المصاعب، ليكون في مستوى المسؤوليَّة، وليحقِّق من خلالها كلَّ عناصر القوّة في إنسانيّته.

يقول أمير المؤمنين عليّ(ع) وهو يصوّر هذه اللّفتة الإسلاميّة:

"ألا ترون أنّ اللّه سبحانه اختبر الأوَّلين من لدن آدم صلوات اللّه عليه، إلى الآخرين من هذا العالم، بأحجار لا تضرّ ولا تنفع، ولا تُبصر ولا تسمع"، وليس فيها أيّ نبضة من الحياة، "فجعلها بيته الحرام، الّذي جعله للناس قياماً"، أي عماداً للنّاس. يُقال مثلاً: (فلان قيام أهله)، أي أنه عماد أهله، لاعتمادهم عليه. فاللّه سبحانه وتعالى قدَّم بيته على أساس أنه مؤلّف من أحجار صماء، لا تختلف عن بقيّة الأحجار الأخرى من قريب أو بعيد، ولكنّها اعتبرت رمزاً للإيمان، ودليلاً عليه، وموضع اختبار الناس على ذلك، فجعله عماداً للنّاس، يستوحون إيمانهم منه، كما في حالة الطّواف حوله، وينفتحون على كلّ مسؤوليّاتهم الّتي يفرضها عليهم هذا الإيمان.

ثم يتابع الإمام عليّ(ع) فيقول:

"ثم وضعه بأوعر بقاع الأرض حجراً"، يعني أصعب بقاع الأرض في المسلك والمقام. والذّاهب إلى الحجّ يعرف مدلول هذه المعاني، "وأقلّ نتائق الدّنيا مدراً". وكلمة (نتائق) ربما تعدُّ غريبة على السّمع الآن، ولم نعد نستعملها، وهي مأخوذة من قولهم (امرأة منتاق)، وهي المرأة كثيرة الحمل والولادة، يعني كثيرة الإنتاج، ويُقال ضيعة منتاق، يعني كثيرة الرّيع.

وقد أراد الإمام عليّ(ع) أن يبيِّن أنّ مكان البيت، وهو مكّة، أقلّ بقاع الأرض صلاحاً للزّراعة والإنتاج، فأرضها حجريّة، ولا يمكن أن تعطي للحياة شيئاً من الزرّع وما إلى ذلك، "وأضيق بطون الأودية قُطراً"، أي ضيّقة الجوانب، "بين جبالٍ خشنة، ورمال دمثة"، يعني بين خشونة الجبال والرّمال السّهلة. والرّمال قد تكون على قسمين، فمنها اللّيّنة، بحيث إذا وضعت القدم فيها، فإنها تغرس في الأرض، ورمال فيها شيء من الخشونة والصّلابة. أمّا الرّمال السهلة، فهي التي لا يستقرُّ فيها الزرّع، "وعيون وشلة"، والوشل هو الماء القليل، فالعيون الموجودة في مكّة ليس فيها الماء الكثير، "وقرى منقطعة"، يعني لا رابط بينها، "لا يزكو بها خفّ"، بمعنى لا ينمو ويكثر، والخفّ كناية عن الإبل، "ولا حافر"، يعني الخيل والحمير، "ولا ظلف"، والظّلف هو الشاة؛ لأنّ الثروة الحيوانيّة تعتمد على العشب، وتنمو من خلال المراعي، فإذا لم يكن في الأرض مرعى، فكيف يتسنّى لها النموّ؟!

"ثمّ أمر آدم وولده أن يثنوا أعطافهم نحوه"، يعني أن يقصدوه. وهذا الكلام من أمير المؤمنين(ع)، فيه إشارة إلى أنَّ النّاس منذ آدم(ع) حتى يومنا هذا، عرفوا البيت الحرام، وقد ذُكرت أحاديث لدى السُنَّة والشيعة، تدلُّ على أنّ اللّه عرَّف آدم من خلال جبرائيل بالبيت الحرام، وقيل إنه كان يحجّ إليه. نعم، أخذ البيتُ صورته وموقعه وبنيانه منذ زمن إبراهيم الخليل(ع)، وربما نستفيد من بعض الآيات القرآنيّة، أنَّ إبراهيم(ع) لم يؤسّس هذا البيت من فراغ، كما في الآية السابقة: {رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ}. وعلى كلّ حال، فهو بيت اللّه الحرام، الذي أراد لإبراهيم(ع) أن يؤذّن في الناس بالحجّ إليه: {وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ}، "فصار"، البيت الحرام، "مثابةً لمنتجع أسفارهم"، والنّجع هو طلب الكلأ، وصار كنايةً عن كلّ من قصد أمراً يروم النّفع منه، فيقال المنتجع لكلّ أمر يقصد منه تحصيل المنفعة.

"وغاية لملقى رحالهم"، هو الغاية والهدف الّذي يُلقون عنده رحالهم، "تهوي إليه ثمار الأفئدة"، وثمرة الفؤاد تعني السّويداء، وهي متشوّقة إليه، "من مفاوز قفار سحيقة"، والمقصود بالمفاوز الفلوات السحيقة التي لا ماء فيها، والبعيدة، حيث إنّ الناس عندما تأتي إلى مكّة، تقطع الصّحارى والقفار، "ومهاوي فجاجٍ عميقة"، والفجّ هو الطّريق بين جبلين، وفي طريق النّاس إلى مكّة، تحجزهم الجبال، فيسيرون على الطّريق بين جبلين، "وجزائر بحارٍ منقطعة"، وربما يأتي بعض النّاس مكّة من طريق البحر، "حتى يهزّوا مناكبهم ذُلُلاً"، بمعنى أنّ الشوق يحركهم للوصول إلى الهدف، فيكونون ذللاً، أي في حالة خضوع، "يهلّلون للّه حوله"، أي يرفعون أصواتهم بالتّهليل، وهو قول (لا إله إلا اللّه)، "ويرملون على أقدامهم شعثاً غبراً له"، أيْ يمشون مسرعين قليلاً، حيث إنَّ الرَّمَل هو ضربٌ من السير، فوق المشي ودون الجري، وباعتبار أنهم لم ينظّموا شعورهم أو يغتسلوا، فيبدون مغبّرين بسبب غبار الصحراء والمشقّة، "قد نبذوا السرابيل وراء ظهورهم"، وهو كناية عن نزع الثياب والاقتصار على ملابس الإحرام، "وشوّهوا بإعفاء الشعور محاسن خلقهم"، حيث يظهر الإنسان في صورة غير جميلة، حينما يترك شعره دون تسريح، "ابتلاءً عظيماً، وامتحاناً شديداً، واختباراً مبيناً"، حيث يشير الإمام إلى الأخطار والمشقّة التي يسبّبها المسير إلى بيت الله الحرام، وذلك من أجل النّتيجة التي أشار إليها(ع) بقوله: "وتمحيصاً بليغاً جعله اللّه سبباً لرحمته، ووصلةً إلى جنّته"، إذ قال الله للنّاس، إنكم إذا أردتم الحصول على الرحمة والوصول إلى الجنة، فإنَّ عليكم تحمّل كلّ هذه المشاقّ التي يفرضها المسير إلى بيت اللّه الحرام.

المثوبة والعمل

ثم أراد الإمام عليّ(ع) أن يُبيِّن الجانب الثاني لتلك المشاقّ في الحجّ، فقال:

"ولو أراد سبحانه أن يضع بيته الحرام ومشاعره العظام"، والمشاعر هي المناسك، "بين جنّات وأنهار، وسهل وقرار، جمّ الأشجار، داني الثّمار..."، حيث يستطيع الإنسان أن يقطف الثّمار دون جهدٍ من الأشجار، "وأرياف محدقة"، والرّيف هو ما يشتمل على مجال واسع من الأرض الخصبة، والمحدقة يعني المحيطة، "وعراصٍ مغدقة"، أيْ ساحات غزيرة الينابيع وفيض الماء، "ورياض ناضرة، وطرق عامرة، لكان قد صغر قدر الجزاء على حسب ضعف البلاء"، فالتجربة الّتي يمارسها الإنسان بغير مشقّة، لا يستحقّ عليها ثواباً كبيراً، لأنّ بإمكان أيّ إنسان أن يمارسها، ولا شكّ ـ عند العقلاء ـ في أنّ الإنسان الذي يقوم بتضحية وجهد أكبر، يكون ثوابه أكبر.

وربما يقول بعض المعلّقين على (نهج البلاغة)، إنّ ذلك كان قديماً، حيث الذّهاب إلى الحجّ على الإبل، وحيث صعوبة التنقّل، أمّا الآن، فتوجد الطائرات والسيّارات، فلا صعوبة، ولكن القضيّة أنه إذا كان الطريق للوصول إلى مكّة سهلاً الآن، فإنَّ ظروف الحجّ لا تخلو من صعوبة كبيرة، من حيث الطواف والسعي، وفي عرفات ومنى، فهناك المشقّة البالغة من نواحٍ عديدة، فقد تخفّ المشقّة في جانب، ولكنّها تبقى في جوانب أخرى.

"ولو كان الأساس المحمول عليها، والأحجار المرفوع بها"، إشارةً إلى أسس الكعبة، "بين زمرّدة خضراء، وياقوتة حمراء، ونور وضياء، لخفَّف ذلك مُصارعة الشكّ في الصّدور"، فيندفع الإنسان في تلك الحالة دونما عناء، ولا يعيش وساوس الشّيطان التي تأتيه، فلا يكون لديه حالة صراع مع النّفس، "ولوضع مجاهدة إبليس عن القلوب"، لأنّه لا يوجد هناك أيّ جهد يستغلّه الشّيطان في إبعاد الإنسان عن القيام بمسؤوليّته، "ولنفى معتلج الرّيب من الناس"، فلا يجد إبليس أيّ فرصة هناك لإدخال الشكّ في نفس الإنسان، "ولكنّ اللّه يختبر عباده بأنواع الشّدائد، ويتعبّدهم بأنواع المجاهد، ويبتليهم بضروب المكاره، إخراجاً للتكبّر من قلوبهم"، وهذا هو الموضع الأساس، فإنّ اللّه سبحانه وتعالى يريد للإنسان أن يعيش المشقَّة والجهد وحالات التعب، حتى تضعف عنده حالات العنفوان والتكبر؛ لأنّ الإنسان يعيش حالة التكبر على الآخرين عندما يشعر بالاسترخاء والرّاحة والغنى، ولكن عندما يكون هو والفقير على حالة سواء في الحجّ، فقد تختلف المسألة، "وإسكاناً للتذلّل في نفوسهم"، فإنّ الإنسان كلّما تعب أكثر، عاش التذلّل في نفسه أكثر، "وليجعل ذلك أبواباً فُتُحاً إلى فضله"، من خلال ما يقوم به من جهد قربةً إلى اللّه وامتثالاً لأمره، "وأسباباً ذللاً لعفوه"، يعني بالأسلوب الّذي يعيش فيه الإنسان تذلّلاً للّه سبحانه وتعالى.

هذا أحد الجوانب الّتي أثارها الإمام عليّ(ع)، وهناك تتمّة لهذا الموضوع في الأسبوع القادم، إن شاء اللّه.